الفصل الثامن

العلاقي وسيالة والمالكي

في التاسعة والربع صباحًا تحرك القارب من نجع البوستة، بعد أن ودعنا على الشاطئ الأستاذ محمود صالحين ومساعديه وعددًا من سكان النجع، وقد لاحظنا أن العشب الأخضر قد بدأ في الاصفرار تحت أشعة الشمس القوية، وفي أثناء مرورنا شاهدنا ساقية الشيخ أحمد عباس، ووجدناه في الحقل بتفقده وأشار لنا بالسلامة، وبعد قليل من مرورنا أمام نجع العرب قابلَنا صندل محمل بالأبقار متجه إلى أسوان، سأل الريس محمد ريس الصندل عما إذا كان بإمكانهم أن يأخذوا معهم الأستاذ أسعد نديم إلى الشلال، وفعلًا درنا بالقارب حول الصندل وقفز أسعد داخله محييًا ومتمنيًا لنا رحلة طيبة موفقة.

وفي العاشرة والنصف انتهت نجوع قرشة ونجوع جرف حسين المقابلة لها على البر الغربي، والمنظر على البر الغربي أكثر جفافًا وأكثر رمالًا عن البر الشرقي الجبلي المعالم، ولكثرة الرمال اشتهرت جرف حسين وكشتمنة التي تليها إلى الجنوب بكثرة الثعابين والعقارب، وبعد قليل ظهرت بدايات الدكة على البر الغربي في شكل مجموعة من التلال الرمادية، ثم مجموعات من البيوت والأشجار ذات الخضرة الداكنة، وفي أقصى اليمين — أي إلى الغرب البعيد — ظهرت الرمال العالية ذات اللون الأصفر المشوب بالحمرة، وكان رَشاشُ الأمواج التي يزيحها القارب في سيره تتساقط على وجوهنا وترطبنا بين الفترة والأخرى، وهو شعور جميل في هذا الجو الجاف.

والحقيقة أننا أخذنا نستمتع بهذه الرحلة الممتعة: فهنا قارب «محندق» صغير تحت رغبتنا نتنقل به على النيل العظيم حسبما نُريد، ومناظر بانورامية متوافقة الألوان والتضاريس لا مثيل لها شمال أسوان، وناس تسودهم السكينة والسلام في معظم الأماكن، بعيدًا عن أحقاد المصالح وتناقضات الغنى والفقر في الصعيد والدلتا.

وعلى البر الغربي لاحظنا قطيعًا كبيرًا من الماعز الأسود يتفرق على مسافة نحو نصف الكيلومتر، ولون الماعز في النوبة غالبًا يميل إلى السواد والألوان الداكنة، وبذلك يسهل تمييزه وهو يرعى العشب الأخضر أو وهو سائر على الرمل الأصفر، ونجوع الدكة تمتد مسافة طويلة جنوب مشروع زراعة الطلمبات الكبير، الذي أقامته الدولة وجذب سكانًا دائمين من الكنوز وأهل الصعيد، وأمام الدكة على البر الشرقي منطقة صخرية ذات ارتفاع متوسط معروفة باسم جبل حياتي، وهي معلم من معالم الطرق عند العبابدة، ويليها إلى الجنوب أراضٍ سهلية تمهيدًا للدخول في منطقة مصب وادي العلاقي، الذي أقامت فيه الدولة ثاني مشروعات الزراعة بالطلمبات في منطقة الكنوز، وهو أقل نجاحًا من مشروع الدكة، وعلى وجه العموم فإن منطقة الدكة-العلاقي تتميز بالخضرة الكثيرة نتيجة وجود المشروعين وكثرة الأشجار.

العلاقي

وصلنا العلاقي حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا، وأرسينا على البر في استراحة قصيرة للغداء ومَلء خزانات الوقود، وعاودنا المسير في نحو الثانية في اتجاه سيالة، وكنا قد زرنا العلاقي في يناير ١٩٦٢ لمدة ثلاثة أيام — أي قبل تسعة أشهر — وخلال فترة بحيرة خزان أسوان.

وللعلاقي أهمية خاصة في النوبة؛ فهي تقع على مصب وادي العلاقي الذي يُشكل طريقًا طبيعيًّا عبر الصحراء الشرقية إلى منحدرات جبال منطقة حلايب، ومن ثم إلى البحر الأحمر والحجاز؛ ولهذا فإن طريق العلاقي كان معروفًا منذ العصور القديمة يقود إلى مواني البحر الأحمر وبلاد «بُونت» — الصومال وعمان وحضرموت حاليًّا — ويقود إلى مناجم الذهب في العصرين الروماني والعربي، وإلى ميناء عيذاب — قرب حلايب — ميناء الحجيج الأشهر خلال العصور الوسطى، وفي العصر الحديث فإن طريق العلاقي هو أحد الطرق الهامة لتجارة إبل البشارية المشهورة وغيرها من إبل شرق السودان إلى سوق الجمال الكبير في دراو — جنوب مدينة كوم أمبو بقليل — ولهذا فإن علاقة عمدية العلاقي في النوبة بأهل الصحراء الشرقية من عبابدة وبشارية هي علاقة وثيقة وتاريخية، ويقيم في المنطقة نحو ٢٠٠ من العبابدة في النجوع الشمالية من عمدية العلاقي.

وهناك وادٍ آخر يرفد وادي العلاقي يسير في اتجاه عام من الجنوب نحو الشمال ويسمى وادي جبجبة «قبقبة»، وهو يُشكل طريقًا مهمًّا بين النوبة وثنية النيل عند بربر وأبو حمد وجزيرة مجرات «مقرات» في شمال السودان، وهناك أيضًا طريق مماثل بين شمال السودان والنوبة؛ هو طريق وادي كورسكو الذي يوازي طريق جبجبة وإن كان إلى الغرب منه، وعبر طريق العلاقي-جبجبة انتظمت تجارة القوافل منذ عدة مئات من السنين بواسطة العبابدة بين أسوان ودراو وبين شمال السودان، كمركز تجميع للسلع المدارية من السودان الأوسط والجنوبي، ولا يزال طريق السودان مطروقًا حتى الآن برغم انتهاء تجارة القوافل القديمة، والسلع التي تُنقل على طريق العلاقي وجبجبة هي نوع من التهريب السلعي لبضائع موجودة بسعر أرخص في مصر أو السودان، أو سلع محرمة كنبات البانجو المخدر الذي يأتي من السودان — أو ربما تجارة أسلحة مهربة غالبًا من السودان إلى مصر.

ويصب وادي العلاقي في النيل في صورة خور واسع، تدخل فيه مياه النيل طول العام لمسافة عدد قليل من الكيلومترات، تزيد أثناء موسم التخزين بحيث يكاد عرض الخور يُساوي عرض النهر، ويمكن لغير الخبير أن يبحر فيه خطأً على أنه مسار النهر، وفي منطقة مصب الوادي، وعلى الضفة الشمالية، أقامت الدولة ١٩٣٤ مشروعًا للري الشتوي بالطلمبات، وفي ١٩٥٢ أضافت الدولة طلمبات للري النيلي، تمتد أرض المشروع إلى نحو ثمانية كيلومترات بحذاء ضفة الوادي مع عرض يسير، ولهذا تبلغ المساحة الإجمالية نحو ٩٥٠ فدانًا، ليست كلها مزروعة لوجود أحواض عالية لم تصلها مياه الطلمبات، أو لعدم زراعتها بواسطة ملاكها الغائبين، وكانت أرض المشروع قد قسمت أحواضًا للراغبين في الشراء من كنوز العلاقي وما جاورها مثل المحرقة وسيالة وقورتة وكشتمنة، بسعر عشرة جنيهات للفدان عند بداية المشروع — ارتفعت قيمة الفدان إلى نحو خمسة أضعاف ثمنه الأصلي فيما بعد — مثلًا كانت مساحة حوض سيالة ١٤٨ فدانًا، المزروع منها نحو ٥٪ فقط، وحوض المحرقة ١٣١ فدانًا نصفها مزروع، أما حوض العلاقي فكان غالب مساحته مزروعًا — نحو ٥٠٠ فدان — ومعظم المحاصيل فول سوداني وقمح وبرسيم وترمس، ولكن إنتاجية الفدان ضعيفة؛ تتراوح حول ثلاثة أرادب من القمح.

الذين يقومون بالزراعة الفعلية في مشروع العلاقي هم عائلات من الكلح وحجازة وقوص «محافظة قنا»، ويقيمون في أكواخ وعشش داخل المزارع، ونظام المؤاجرة العام هو ربع قيمة الإنتاج للمالك، والأرباع الثلاثة الأخرى للمزارع الذي يتكفل بكل العمليات الزراعية ومتطلباتها.

سكان عمدية العلاقي — ١٠٦٦ شخصًا — خليط من مجموعات مختلفة مؤسسة على أنشطة اقتصادية مختلفة، لكنها متكاملة ومتداخلة بحيث يصعب فصلها عن بعضها، فهناك أولًا الكنوز أصحاب المنطقة من القِدم، وهم أصحاب الأراضي الزراعية والعقارات السكنية وبعض التجارة، فضلًا عن العمالة التقليدية خارج النوبة، وهم في الغالب يسكنون النجوع حول مصب وادي العلاقي وجنوبه؛ ابتداءً من نجع حسين كوليك، حتى نجع جامع كوليك آخر نجوع العلاقي جنوبًا، والمجموعة الثانية هم أبناء الصعيد الذين يقومون أساسًا بالعمل الزراعي في صورة مؤاجرين من الملاك، وهم أحدث المجموعات السكانية، لكنهم غالبًا أكثر سكان العلاقي عددًا، ويسكنون أرض المشروع ونجع خور العلاقي الذي توجد به المحطة النهرية، وأخيرًا هناك مجموعتا العبابدة والبشارية، وعبابدة العلاقي هم من العشاباب — شافعاب وسيداناب وعبديناب … إلخ — ويبلغ عددهم نحو مائتي شخص، أما البشارية فهم من عشيرة «مَلَك» وهم ١٢ بيتًا فقط، وكانوا يسكنون منطقة الدكة على البر الغربي للنيل، لكنهم انتقلوا إلى العلاقي بعد نزاع مع أهل الدكة، وأغلب العبابدة والبشارية يسكنون النجوع الشمالية من عمدية العلاقي، مثل نجع جبل حياتي ونجع كوبان، وهم يمتلكون أعدادًا كبيرة من الجمال — نحو ١٢٠ رأسًا — ويرتحلون في أشهر الشتاء إلى المراعي الداخلية في أودية وآبار القليب وأحيمر والمرة وأنجات وتلعت عابد والطويل … إلخ، وبعضهم يتوجه إلى السودان في تلك الفترة.

وتتميز العلاقي بظاهرة تجمع عدد من المزارات لأولياء لهم شهرة في النوبة الوسطى، على رأسهم قبة الشيخ عبد الله أبو يوسف، ومزار الست قباب — هم كانوا خمسًا عند زيارتنا — ومزار سيدي شرف، ولهؤلاء موالد سنوية تتجمع وتتوالى من منتصف شهر شعبان حتى نهايته، ويأتي الناس في مراكب شراعية أو صنادل من قرى متعددة في دائرة نصف قطرها نحو ٣٠–٤٠ كيلومترًا، ويبيت المحتفون ليلة على الأقل، وترتبط بعض المزارات بقصص عن منشأ إقامة القبر أو القبة، والكثير من هذه القصص — مثل قصة الشيخ يوسف في العلاقي أو الشيخة أم رايد في سيالة — تبدأ مع انتقال المساكن في ١٩٣٣ بعد التعلية الثانية لسد أسوان، مثلًا كانت هناك سنطة قديمة في أرض نجوع العلاقي القديمة قطعت ونقل جزء منها على مركب، وأخذ بعض الناس أجزاء أخرى، لكن المركب غرق والحرائق شبت في بيوت من أخذ جزءًا من خشب السنطة، ونظر الناس إلى هذه الحوادث على أنها إشارات خفية لولي من الأولياء، فأخذوا في حفر الأرض حول مكان السنطة، فوجدوا جثمان رجل وجواره جثمان سيدة وطفل، وأخذ الناس جثمان الرجل وبنوا عليه قبرًا وقبة، هي قبة الشيخ يوسف التي أصبحت مزارًا مهمًّا، وفي قصة أخرى أن هذا كان جثمان الشيخ شرف، وأن جثة الطفل والسيدة تفككت إلى مجموعة عظام بعد أن كُشف عنها وتعرضت للهواء، بينما لم يحدث ذلك لجثة الشيخ، وهنا إذا خلط بين الشيخ يوسف والشيخ شرف، والأغلب أن الاسم أطلقه الناس كيفما اتفق، فلم تكن هناك معرفة سابقة به كولي له كرامات، لكنه أصبح كذلك وخاصة عند النساء اللاتي يطلبن الحمل.

وهناك نشاط اقتصادي كبير في موسم الموالد هذه؛ فالكثير يقدمون ذبائح متعددة نذورًا أو تبركًا، والأكل كثير يُوزع على جميع الموجودين، وهناك عطايا مالية تُعطى لأمين صندوق النذور تُنفق في مصاريف الأكل والذبائح، وهناك تجار متنقلون يحملون معهم سلعًا مختلفة من أقمشة وأوانٍ ومصابيح وصحون وألعاب الأطفال وحلوى، وتَلقَى الخضروات الطازجة من إنتاج أرض المشروع رواجًا كبيرًا، يشتريه الناس قبل ركوب المركب عائدين إلى قراهم، كذلك يعرض البشارية والعبابدة منتجات الخوص من الأبراش التي تُصنع خلال تجوال الشتاء في الجبال من جدائل نباتات صحراوية.

وهكذا تتجمع عدة عوامل معًا تأسست عليها أهمية العلاقي: فهناك العوامل الجغرافية الطبيعية المتمثلة في التقاء الوادي بالنيل، وهناك العلاقات المكانية التي تربط العلاقي بالسودان والبحر الأحمر وسكان البادية، وهناك المشروع الزراعي الذي أتى بأبناء الصعيد، وهناك أخيرًا دور الأولياء في تجميع مكاني موسمي لسكان النوبة الوسطى مع نشاط اقتصادي مكثف خلال فترة المولد السنوية.

تركنا العلاقي في اتجاه سيالة في الثانية بعد الظهر، وفي خلال هذه المسيرة بدأت فكرة كتابة هذه الرحلة باسم «٣٠ يوم على النيل في النوبة المصرية»، وأخذنا نعدد ما يمكن تدوينه في هذا الكتاب من انطباعات ومشاعر ونوادر؛ مثل قيادة القارب ومباهجها ومتاعبها وأخطارها خلال وقت الفيضان، التحية التقليدية المتبادلة بيننا وبين ما نقابله من صنادل ومراكب على النيل، بيوت النوبة التقليدية واتساعها ومعمارها وكأنها الماضي الحي لتقاليدَ سوف تندثر تحت مياه بحيرة السد العالي، وتغرق معها هذه البلاد ذات الجمال الطبيعي النادر في وادي النيل، حيث تنسجم ألوان شتى من إطارات الخضرة تفصل أو تصل بين النيل العسجدي والرمال الذهبية والصخور الداكنة البنية، والكل ترصعه نجوع النوبيين البيضاء كالعقد في جِيد الحسان، والناس يختلفون بين السكان الأصليين في جلابيبهم وعمائمهم البيض فوق الوجوه السمر، وبين البشاري والعبادي الراعي في سرواله الطويل، يقف على ساق ويستند إلى عصاه التقليدية، ينظر إلى الإبل ترعى ويحدق في لا شيء، بين النظرة الوادعة لكبار السن من النوبة وقد عركتهم الحياة ومنحتهم الحكمة والسكينة، وبين نظرة الراعي الشاب المتوجس المترقب لأي طارئ يُداهمه كأنه ما زال في البرية، بين النيل وقت الخزان في اتساع البحيرة ومياهه الساكنة الرائقة شديدة الزرقة، والنيل وقت الفيضان يجري ضيقًا في عنف وضراوة في ألوان متعددة بين البياض والحمرة، والمياه وقت الظهيرة تكاد تغلي وتفور، تعكس ومضات من الضوء كأنها آلاف من قطع الزجاج المتكسر! أشياء كثيرة متناقضة في انسجام ووئام هي النوبة التي سنفقدها …

وانتبهنا من أفكارنا على صوت «سارينة» حادة لصندل قوي مر جوارنا دون أن نأخذ حذرنا، وكان علينا إما أن نتجه إلى البر القريب — وربما نغرس في طين القاع — وإما أن نتقبل الأمواج الشديدة التي أثارها الصندل، وفي الحقيقة لم يكن أمامنا سوى الخيار الثاني لضيق الوقت وشلل المفاجأة، وأخذت «لندا» تصعد وتهبط مع الموج وصوت ارتطامها له في القلب صدى … لكنها صمدت وتمايلت مع الموج المتباعد إلى أن حفظت توازنها بعد دقائق قليلة خلناها لا تنتهي، وكان ذلك أمام جبل المِحَرَّقَة في منتصف المسافة بين العلاقي وسيالة، وفي فترات الضعف المصري، وخاصة إبان العصرين البطلمي والروماني، كانت المحرقة هي منطقة الحدود المصرية، بينما كانت المنطقة إلى جنوبها نهبًا لصراعات وغزوات قبائل البليمي — أجداد العبابدة والبشارية — ومجموعة النوباتي من قبائل الصحراء الغربية، ودولة مروى المتمصرة في شمال السودان الحالي.

منظر جبل المحرقة جميل، فوق الجبل سماء زرقاء صافية، وعند أقدامه أشجار السنط ذات الرأس مظلية الشكل، ثم شريط رملي أحمر، ثم شريط من الخضرة؛ الحشائش وعيدان الذرة، ثم النيل «نجاشي» اللون — كما وصفه أحمد بك شوقي وغناه محمد عبد الوهاب — كل ذلك في مسافات ذات سمك قليل، وعلى البر الغربي كانت «بربا» المحرقة — المنطقة الأثرية — ومناطق صغيرة متناثرة من الزراعات، ومنطقة المحرقة كانت من أفقر مناطق النوبة، وربما كانت كذلك لمئات السنين.

وثمة ملاحظات؛ منها أولًا: أن الأشجار بأنواعها تأخذ في الظهور بكثرة ابتداءً من المحرقة، وثانيًا: أن الأعمدة تبدأ في الظهور في بناء المضايف جنوب المحرقة بحيث تميزها عن بقية أبنية السكن، فهل لهذا معنى أو تفسير معين؟

سيالة

كنا قبل ثمانية أشهر — يناير-فبراير ١٩٦٢ — قد أقمنا في سيالة في دراسة سابقة، فقد كنا نعرف المنطقة جيدًّا، ولكننا في رحلتنا الصيفية لم نتعرف على سيالة من قاربنا الصغير إلا بالسؤال، وقد وصلنا محطة سيالة النهرية حوالي الخامسة إلا ربعًا، وهالنا التغير الذي طرأ على المنظر العام بين الشتاء والصيف، فهناك مساحات كبيرة من السهل خضراء شجرية كما لو كنا في متنزه طبيعي «بارك لاند»؛ لكثرة الشجر الذي كان غارقًا تحت مياه بحيرة الخزان في الشتاء إلا من أطرافه العليا فقط، كانت هناك حركة كثيرة من الإنسان والحيوان: ماعز وخراف كثيرة ترعى، وسيدة تجر وراءها بقرة ممتلئة نوعًا، وبعض رجال يركبون الحمير كان منهم ناظر مدرسة المحرقة عبد المنعم الشنتوري، نزلنا في بيت أحد العساكر — نظيرَ مقابلٍ بسيطٍ — في تلك الليلة، فقد كنا نزمع عدم المكوث في سيالة طويلًا لسابق معرفتنا بها هي والعلاقى، ولن نطيل الكلام عن سيالة وكورسكو، فقد نشرنا دراسات خاصة بكل منهما في حوليات علمية، واستفدنا منها في كتابة بعض المعلومات في كتابنا هذا (انظر قائمة المصادر العربية والأجنبية في آخر هذا الكتاب).

وخلاصة القول أن سيالة تتشابه مع بعض عمديات الكنوز في وجود مجموعة مستقرة من العبابدة، لكن عبابدة سيالة والمحرقة هم من قبيلة العبودين والشناطير، وعبابدة سيالة هم أكبر مجموعة مستقرة من العبابدة في النوبة، ويشكلون نحو ٢٠٪ من سكان سيالة، ويسكنون النجوع الشمالية منها، وهم مستقرون تمامًا ولم يعد لديهم إبل يحتفظون بها؛ أي إنهم أصبحوا قلبًا وقالبًا من سكان النوبة الدائمين ويمارسون الزراعة في سواقي حسن سنجر والغرفة والحسنابية وكلدون. أما بقية سكان سيالة فهم من الكنوز من عشيرة الموسياب؛ نسبة إلى الحاج موسى، ومجموعتين صغيرتين هم البديراب — ربما لهم صلة بقبيلة البديرية في إقليم دنقلة — وأم ملوكة الذين هم هجرة من كنوز عمدية دابود — في أقصى شمال النوبة — منذ زمن بعيد، وكل هؤلاء يُمارسون أنشطة النوبيين من زراعة وأعمال مهاجرة خارج النوبة.

وجلس رياض يتحدث مع بعض المعارف الذين التقى بهم في الرحلة السابقة، بينما ذهبت كوثر عند بعض المعارف من النساء؛ لكي تسجل بعض الأغاني، ويبدو أن أهل سيالة يكنون مشاعر قوية لبلدتهم بحيث تظهر في أغنيتهم «سيالة جنة الدنيا»، لماذا؟!

وفي صباح اليوم التالي، وبعد أن ملأنا خزانات القارب بالبنزين، تحركنا في اتجاه المالكي في نحو الحادية عشرة إلا ربعًا، وبعد ساعة من الإبحار انتهت منطقة سيالة وبدأت حافة الجبال الشرقية والغربية في الاقتراب من النهر؛ استعدادًا للدخول في منطقة عمدية المضيق؛ آخر بلاد الكنوز وأول بلاد عرب العليقات. وفي الواحدة والنصف رسونا أمام ظل شجرة وارفة في أحد نجوع المضيق، واستمتعنا بالغداء في هذا الظل الظليل مع بعض النسمات الخفيفة والنيل أمامنا ضيق فعلًا، لكنه لا يبلغ ضيق بوابة كلابشة بأي حال، لم يحضر إلينا أحد من سكان المضيق، فتحركنا في نحو الثالثة صوب المالكي، كل ما لاحظناه في المضيق أن الذرة أطول وأكثف عما شاهدناها من قبل، كما أن الزراعة الصيفية في كل النوبة تتشابه في تنظيم المحاصيل مكانيًّا؛ الذرة تحتل الواجهة النهرية دائمًا؛ ربما لاحتياج النبات للمياه أكثر، ثم غالبًا أرض فضاء تنمو فيها الأعشاب، ثم محصول الكشرنجيج واللوبيا، وفي نهاية السهل الفيضي تبدأ البيوت القديمة المهجورة منذ ١٩٣٣، ثم المرتفعات التي تقع فوق منسوب ١٢١ مترًا وعليها بنى الناس مساكنهم.

في نحو الرابعة وصلنا منطقة آثار السبوع حيث كانت مخيمات رجال الآثار والعمال تملأ المكان، وفي هذه المنطقة المرتفعة يوجد معبد السبوع — نسبة إلى تماثيل السباع وأبي الهول على طول ممر طويل يؤدي للمعبد — الذي يرجع إلى رمسيس الثاني، وكان مشيدًّا لعبادة الإله آمون والإله رع حراختي، وقد نقلت إلى السبوع عدة معابد من النوبة السفلى، أهمها معبدَا الدكة والمحرقة اللذان يعودان إلى العصر الروماني.

وبعد نحو نصف ساعة وصلنا عمدية وادي العرب وصخورها داكنة اللون، وقد ظهرت أسوار مساكنها مزخرفة بوحدة بناء متكررة في الجزء الأعلى من السور، كأنها شريط بطول السور من الفتحات المربعة الصغيرة، أعلاها فوق البوابة بناء صغير أشبه بثلاثة مثلثات متشابكة، وهذا النمط المعماري هو غير ما شاهدناه في بلاد الكنوز، حيث يغلب رسم وحدات نباتية وأزهار بألوان عدة على الجدران البيضاء، وقرب الشاطئ كانت بعض النساء تسير وهن يلبسن جلابيب سوداء بدون الشقة التي تلتف بها النوبيات، والمنطقة الغربية كلها تكثر بها الرمال الحمراء متداخلة مع الصخور، سرنا فترة أخرى وسألنا مَن على الشاطئ أين نحن، فقالوا ما زلنا في وادي العرب، ولا زالت المنطقة موحشة فقيرة مناظرها تكاد لا تتغير، وأمامنا على البر الشرقي ظهرت نجوع كثيرة، بيوتها في لون الصخر غير مطلية بالجير وسقوفها مسطحة.

وأثناء السير غيَّر رياض خزان البنزين الخاص بأحد المحركين، وكان الريس محمد عند عجلة القيادة، ويبدو أنه أخطأ طريقة تشغيل المحرك — أو شيء من هذا القبيل — فاشتعل المحرك بعنف مع دخان كثيف، فأسرع رياض بإغلاق مسار البنزين من الخزان إلى المحرك، وتوقف الاشتعال وهدأت الأدخنة، أسرع محمد بالقارب إلى البر، وجلسنا على البر نهدئ التوتر الذي أصابنا بعض الوقت.

المالكي

تابعنا السير بمحرك واحد حتى وصلنا نجع كَرونجو — كرنكو أو كرَّانجو حسب اختلاف النطق — أحد نجوع المالكي الشمالية، حوالي الثامنة إلا ربعًا، الضفة الغربية كلها مزروعة بكثافة كما لو كنا في منطقة ريفية بالصعيد، بينما انعكست أشعة الشمس الغاربة على سلسلة جبلية عالية على البر الشرقي فكستها حمرة ذهبية اللون، وأمام كرونجو كانت جزيرة كرونجو الغنية بالخضرة، وبعد نحو عشر دقائق رسونا عند نجع الحمداب، وهو النجع الأوسط في سلسلة نجوع عمدية المالكي.

نزلنا من القارب وأخذنا نخوض في أرض طينية مبللة وسط حقل من الذرة، والضفادع نقيقها عال تفقز هنا وهناك حول أقدامنا، وبعد أن عبرنا حقل الذرة إلى أرض معشوشبة مكشوفة، رأينا بعض أنوار باهتة على البعد في مساكن النجع، وأخذنا ننادي يا «أستاذ هلالي» حين اقتربنا من أسفل النجع، والأستاذ محمد هلالي هو ناظر مدرسة السنجاري لكنه يقطن المالكي، وكنا على مراسلة معه بحضورنا إلى المالكي، وفي السكون الشامل كان صوتنا يدوي عاليًا إلى أن رد علينا مجيبٌ كان هو والد هلالي الذي خرج لنا ومعه فانوس يضيء مساحة محدودة، وقال لنا إن ابنه سوف يحضر بعد قليل من السنجاري، وقادنا الوالد تحت السفح الذي تعلوه البيوت حتى نجع البركة، ووصلنا إلى مجموعة طويلة من السلالم الصاعدة إلى مضيفة واسعة ذات أعمدة بيضاء طويلة، حيث قابلنا الأستاذ عوض أفندي صاحب المضيفة مُرحبًا، وبدا لنا عوض أفندي في ضوء الفوانيس المحدود كراهب من رهبان الديانة البوذية في سرواله الأبيض وصلعته اللامعة، وفي الفراندة الكبيرة للمضيفة أنعشتنا نسمات حلوة ونحن نتلقي كلمات الحفاوة الكريمة من والد هلالي وعوض أفندي، ونرد التحية بما قُدر لنا، ولكنا كنا مبهورين بالمنظر البانورامي الشامل أسفلنا، ففي الظلمة العامة كانت هناك درجات عالية من الدكنة تمثلها ظلال الجبل الشرقي، ودكنة أقل حول دوائر النور الباهتة التي تنبعث من بعض البيوت على طول خط الهضبة، كما لو كانت حافة الكون التي يمثلها نجوم درب التبانة أو الطريق اللبني.

وفي الصباح ذهبنا إلى القارب نقوم ببعض الترتيبات ونعطي للريس محمد إفطارًا، ودخلت كوثر بعض البيوت للتعرف والمحادثة ورسم مخططات البيوت، وكان بيت عوض أفندي خلف المضيفة محاطًا بسور ضخم من الحجر الأصم، كما لو كان سور قلعة حصينة، ويمتد السور في شكل مربع طول الضلع نحو ٣٠ مترًا، وحوش واسع في وسطه بناء للمزيرة، وإلى جانب الأسوار امتدت غرف عديدة للنوم ذات شبابيك طُليت باللون الأخضر، ومخازن للعلف الحيواني، والمطبخ، ومكان مظلل يُستخدم مضيفة للنساء، وأماكن لربط البقر والماعز والغنم والحمير، وإلى جوار البيت كان هناك دكان التجارة التي يمارسها عوض أفندي بعد أن تقاعد من عمله في حكومة السودان.

وبعد الغداء توجه رياض بالقارب مع الأستاذ محمد هلالي إلى السنجاري عبر النهر وزار دخلانية السنجاري، وكما يدل اسمها فإنها تقع في الداخل عبر خور مائي ضيق يشق الحافة الجبلية لا يكاد يبين إلا لمن يعرف المنطقة، ويلتوي الخور وسط حافات صخرية عالية جرداء من الحجر الرملي النوبي الذي يضرب لونه إلى الاحمرار، تنحدر بزوايا حادة إلى الماء، ثم تنفرج الصخور عن مكان متسع مليء بالنخيل وزراعات الأهالي وأشجار السنط، كما لو كانت واحة مجهولة وسط اللامعمور، وتمتد بيوت النجع على المنحدرات الهينة، وهي أكثر نجوع السنجاري سكانًا؛ ٢٤٢ شخصًا من مجموع ٤٧٥، هم كل سكان السنجاري.

وكان علينا أن نرسل عشاء للريس محمد، فنزلنا من المضيفة في الظلام ومعنا بطاريتان، وتحسسنا طريقنا وسط الحجارة والرمال والأرض الطينية ذات الشقوق الكثيرة، إلى أن بلغنا حقل الذرة إلى ضفة النهر، وننادي على محمد فلا من مجيب، ونعرف أننا أخطأنا فنعود أدراجنا وسط الذرة والضفادع تقفز بين أرجلنا، إلى أن نصل إلى مكان مكشوف فنعاود السير شمالًا، ثم نخترق غابة الذرة إلى الضفة وننادي فيرد محمد ونمشي في الطين السميك ونعطيه عشاءه، وفي العودة ضللنا الطريق صعودًا ودرنا حول حديقة مسورة وصعدنا هضبة بمشقة إلى أن وجدنا مجموعة السلالم المؤدية للمضيفة، وحين نظرنا إلى المضيفة من أسفل كانت مضيئة كالمعبد الإغريقي بأعمدتها البيضاء.

والمالكي هي أكبر عمديات عرب العليقات، وتشتمل على ١٧ نجعًا كان سكانها ١٢٨١ شخصًا حسب تعداد ١٩٦٠، وهي أغنى قرى العليقات؛ لأنها تحتل الضفة الغربية للنيل بعد ثنية كورسكو؛ ومن ثم فهي منطقة إرساب للطمي، بينما النهر ينحت على الجانب الشرقي عند عمديتي السنجاري وشاتورمة؛ لهذا فالسهل الفيضي كبير في المالكي، بل كان يزداد بنمو بعض الجزر الشاطئية كجزيرة كرونجو، أما بقية عمديات العليقات فتقع في مناطق جبلية ذات ضيق في سهولها الفيضية، باستثناء وادي العرب الذي قال عنه الرحالة بوركهارت ١٨١٢م إنه «زكى الزرع»، والغالب أن بلاد العليقات هي من أفقر أجزاء النوبة؛ ولهذا سهل على العليقات كبدوٍ رُحَّلٍ الاستقرارُ الكامل فيها، ويعوض الفقر البيئي للمنطقة أنها كانت تقع على الدروب الصحراوية المتجهة إلى شمال السودان؛ ومن ثم كانت مهنة دلالة القوافل التجارية بين مصر والسودان مصدرًا أساسيًّا لحياة العليقات فترة طويلة من الزمن، مثلهم في ذلك مثل بعض عشائر العبابدة التي سبق ذكرها، ويؤكد العليقات انتسابهم إلى عقيل بن أبي طالب، ولهذا طلبوا من الحكومة تغيير اسمهم إلى العقيلات، وسنعود إلى هذا الموضوع في القسم الثاني من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤