الفداء

وسار زارا يومًا على الجسر فأحاط به رهط من أهل العاهات والمتسولين، وتقدم إليه أحدب يقول له: التفت إلى الشعب يا زارا، فهو أيضًا يستفيد من تعاليمك وقد بدأ يؤمن بسنَّتك، ولكن الشعب بحاجة إلى أمر واحد ليتوطد إيمانه بك: عليك يا زارا أن تتوصل إلى إقناعنا نحن أهل العاهات، وأمامك الآن نخبة منهم وما لك بعدُ مثل هذه الفرصة تنتهزها لتقوم باختبارك على مثل هذا العدد من الرءوس، بوسعك الآن أن تشفي العميان والمقعدين فتخفف الأثقال، وتريح المتعبين، تلك هي الطريقة المثلى لهداية هؤلاء القوم إلى الإيمان بزارا.

فأجاب زارا: مَنْ يرفع عن ظهر الأحدب حدبته فقد نزع منه ذكاءه. هذه هي تعاليم الشعب، وإذا أُعيد النور إلى عيني الأعمى فإنه ليرى على الأرض كثيرًا من قبيح الأشياء فيلعن من سبَّب شفاءه، ومن يُطلق رِجلَ الأعرج من قيدها فإنه يورثه أَذيَّة كبرى؛ إذ لا يكاد يسير ركضًا حتى تتحكم فيه رذائله فتدفعه إلى غايتها. هذه هي التعاليم التي ينشرها الشعب، وهل على زارا إلا أن يأخذ عن الشعب ما أخذه الشعب عنه؟

غير أنني منذ نزلت بين الناس سهل عليَّ أن أرى منهم مَن تنقصه عين، ومن تنقصه إذن، وآخر فقد رجليه، وهنالك من فقدوا لسانهم أو أنفهم أو رأسهم.

وهكذا رأيت أقبح الأمور، وهنالك أشياء أشد قبحًا إن أعرضتُ عن ذكرها فلا يسعني السكوت عن أكثرها.

رأيت رجالًا فقدوا كل شيء، غير أنهم يملكون شيئًا يسوده الإفراط، فهم رجال كأنهم عين عظيمة أو فم واسع أو بطن كبير أو عضو آخر كبير لا غير، وما هؤلاء الناس إلا أهل العاهات المعكوسة.

وعندما عدت من عزلتي لأجتاز هذا الجسر للمرة الأولى وقفت مندهشًا لا أصدق ما أرى فقلت: هذه أذن، أذن وسيعة كأنها قامة رجل، وتقدمت إليها فلَاحَ لي وراءها شيء صغير لم يزل يتحرك، وهو ناحل ضعيف يستدعي الإشفاق فإن الأذن الكبرى كانت قائمة على ساق دقيق، وما كانت هذه الساق إلا إنسانًا، ولو أنك تفرست في هذا الشيء بنظَّارة لرأيت فوقه وجهًا يتقطب بالحسد، وينمُّ عن روح صغيرة تريد الانتفاخ وترتجف على قاعدتها.

وقال لي الشعب: إن هذه الأذن ليست رجلًا فحسب، بل هي أيضًا رجل عظيم بل عبقري من عباقرة الزمان، غير أنني ما صدقت الشعب يومًا إذا هو تكلم عن عظماء الرجال، فاحتفظت بعقيدتي وهي أن هذا الرجل ذو عاهة معكوسة؛ إذ ليس له إلا القليل من كل شيء والكثير من شيء واحد.

وبعد أن وجه زارا هذا الخطاب إلى الأحدب ومن تكلم بالوكالة عنهم اتجه نحو أتباعه، وقد تحكم الكدر فيه فقال: والحق أنني أسير بين الناس كأنني أمشي بين أنقاض وأعضاء منثورة عن أجسادها، وذلك أفظع ما تقع عليه عيناي فإنني أرى أشلاء مقطعة كأنها بقايا مجزرة هائلة، وإذا ما لجأتْ عيني إلى الماضي هاربة من الحاضر فإنها لتُصدم بالمشهد نفسه، فهنالك أيضًا أنقاض وأعضاء أشلاء وحادثات مروعة، ولكنني لا أرى رجالًا …

إن أشد ما يقع عليَّ أيها الصحاب، إنما هو الحاضر والماضي وما كنت لأطيق الحياة لو لم أكن مستكشفًا ما لا بد من وقوعه في آتي الزمان، وما زارا إلا باصرة تخترق الغيب فهو رجل العزم وهو المبدع، هو المستقبل والمَعْبَر المؤدي إلى المستقبل، هو وا أسفاه ذو عاهة ينتصب على هذا المعبر.

وأنتم أيضًا تتساءلون مرارًا: من هو زارا؟ وبماذا نسميه؟ فلا تتلقون غير السؤال جوابًا كما أتلقاه أنا.

أهو من يَعِدُ أم من ينفِّذ الوعد؟ أهو فاتح أم وريث أهو الطبيب أم هو الناقه؟

أشاعر هو أم رجل حقيقة؟ أمحرر أم متسلط؟ أصالح أم شرير؟

ما أنا إلا سائر بين الناس شطرةً من المستقبل الذي يتراءى لبصيرتي وجميع أفكاري تتجه إلى جمع وتوحيد كل ما تفرَّق على أسرار وتبدَّد على الصدف العمياء.

وما كنت لأحتمل أن أكون إنسانًا لو أن الإنسان لم يكن شاعرًا محلِّلًا للأسرار ومفتديًا لإخوانه من ظلم ما تسمونه صدفة ودهرًا، وما الفداء إلا في إنقاذ من ذهبوا، وتحويل كل ما كان إلى ما أريد لو أنه كان …

ما المخلِّص والمبشِّر بالغبطة إلا الإرادة نفسها، وهذا ما أُعلِّمكم إياه يا أصحابي، ولكن اعلموا أيضًا أن هذه الإرادة لم تزل سجينة مقيدة.

إن الإرادة تنقذ، ولكن ما هي القوة التي تقيد المُنقِذ نفسه؟

إن داء الإرادة الوحيد إنما هو كلمة «قد كان» تقف الإرادة أمامها تحرق الإرم عاجزة عن النيل من كل ما كان، فالإرادة تنظر بعين الشر إلى كل ما فات، وليس لها أن تدفع بقوتها إلى الوراء، فهي أضعف من أن تحطم الزمان وما يريده الزمان، وهذا داء الإرادة الدفين.

إن الإرادة تُنقذ، ولكن ما هو تصور الإرادة في عملها للتخلص من دائها وهدم جدران سجنها؟

وا أسفاه! إن كل سجين يصبح مجنونًا، وما تنقذ الإرادة السجينة نفسها إلا بالجنون.

إن الزمان لا يعود أدراجه، ذلك ما يثير غضب الإرادة وكيدها، فهنالك صخر لا طاقة للإرادة برفعه، وهذا الصخر إنما هو الأمر الواقع.

لذلك تهبُّ الإرادة وقد تملكها الغيظ مقتلعة الأحجار منتقمة من كل مَنْ لا يجاريها في كيدها وثورتها، وهكذا تصبح الإرادة المنقذة قوة شريرة تصب جام غضبها على كل قانع بعجزها عن الرجوع إلى ما فات، وهل انتقام الإرادة إلا عبارة عن كرهها للزمان؛ لأنه أوقع ما لا قِبَل لها بردِّه؟

والحق أن إرادتنا مصابة بالجنون، وقد نزلت لعنة على البشرية منذ تعلَّم الجنون أن يتفكر. إن خير ما طرأ على الإنسان حتى اليوم إنما هو فكرة الانتقام، وهكذا سيبقى العقاب ملازمًا للألم في كل زمان وفي كل مكان، وهل فكرة الانتقام إلا العقاب بذاته، فما كلمة الانتقام إلا كلمة مكذوبة يقصد بها التعبير عن الضمير.

إن كل مُريدٍ يتألم لأنه لا قبل له بالرجوع إلى الماضي لردِّ ما فات، ولهذا لزم أن تكون الإرادة بل كل حياة على الإطلاق كفارة وعقابًا.

بمثل هذه الاعتقادات تلفَّع العقل بالغيوم فانبثق منه الجنون هاتفًا: كل شيء يزول، فكل شيء يستحق الزوال.

إن العدل نفسه يقضي بأن يفترس الزمان أبناءه، هذا ما أعلنه الجنون.

لقد وُضع الناموس الأدبي وفقًا للحقوق وللعقاب، فأين المفر من نهر الحياة الجارف؟ وما الحياة إلا عبارة عن عقاب، وهذا أيضًا ما أعلنه الجنون.

ليس من حادث واحد يمكننا أن نزيله من الوجود، فهل للعقاب أن يمحو الحادثات؟ وهل من خلود لغير الأعمال في وجود لا ينفك يحول العمل عقابًا والعقاب عملًا؟ ولا مناص من هذه الحلقة المفرغة ما لم تتوصل الإرادة إلى الفرار من ذاتها فتصبح حينذاك إرادة منفية.

إنكم تعرفون، أيها الإخوة، هذه الأغاني التي يتشدَّق بها الجنون، وقد أقصيتكم من سماعها عندما علَّمتكم أن الإرادة مبدعة، كل ما فات يبقى مبدَّدًا منثورًا كأنه أسرار ومصادفات رائعة إلى أن تقول الإرادة: إنني أنا أردت هذا، ثم تقول: وهذا ما أريده الآن وسأريده غدًا.

هل نطقت الإرادة بمثل هذا حتى اليوم؟ وأي متى ستنطق به؟ هل هي تملصت من قيود جنونها فأصبحت تفتدي الحادثات بعزمها وتبشر بالحبور؟ هل هي اطَّرحت فكرة الانتقام وتوقفت عن حرق الأرم من كيدها؟ مَنْ ترى تمكن من تعليمها مسالمة الزمان بل ما يفوق هذه المسالمة؟

يجب على الإرادة ولا أعني سوى إرادة الاقتدار أن توجِّه مشيئتها إلى ما هو أعظم من المسالمة، ولكن أنَّى لها ذلك ومن سيعلِّمها أن توجه هذه المشيئة إلى ما فات؟

وتوقف زارا عن الكلام فجأة كأن رعبًا شديدًا حل به؛ فاتسعت حدقاته وشخص بأتباعه سابرًا أفكارهم غير أنه ما لبث أن عاد إلى الضحك، فقال بكل هدوء: ما تهون الحياة بين الناس لأن الصمت صعب على المرء وخاصةً إذا كان ثرثارًا.

هكذا تكلم زارا …

ولكن الأحدب الذي كان يصغي إلى هذا الحديث، وهو يستر وجهه بيديه سمع قهقهة زارا ففتح عينيه مستغربًا وقال: لماذا يخاطبنا زارا بغير ما يخاطب به أتباعه.

فقال زارا: وهل من عجب في هذا؟ أفما يصح أن يُخاطب الأحدب بأقوال لها حدبتان.

فقال الأحدب: ولا عجب أيضًا في أن يخاطب زارا تلاميذه كمعلم أولاد، ولكن لماذا يخاطب أتباعه بغير ما يخاطب به نفسه؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤