الفضيلة المصغرة

١

ولما وطئ زارا اليابسة، لم يتجه توًّا إلى جبله وغاره، بل ذهب يضرب في الآفاق مستفسرا عن كل ما يرى فكان يقول عن نفسه: ما أنا إلا الجدول يتلوَّى على منعطفاته متجهًا إلى مصدره لا إلى مصبِّه، وما قصد زارا من تجواله إلا معرفة ما آلت إليه حالة الناس أثناء غيابه، وهو لا يدري أتعاظم الإنسان أم تصاغر، وسار زارا حتى أدَّى به المطاف إلى مسلسل من الأبنية الحديثة فوقف أمامها، وهو يعلن دهشته بقوله: إلامَ ترمز هذه المساكن؟ والحق أنها ليست من صنع روح جبارة تعلن ذاتها بما تصنع، ولعلها أُخرجت من حقيبة طفل، فيرجعها طفل آخر إلى مستودع الألاعيب.

أبوسع الرجال أن يدخلوا هذه الحُجَر ويخرجوا منها وهي كأنها مُعدَّة لصغيرات الدُّمى الرافلات بالحرير أو لصغار الهررة النهمة التي تحشر ذاتها لتفترس فتصبح فريسة.

وشخص زارا مليًّا، ثم قال والحزن يهدج صوته: لقد أصبح كل شيء صغيرًا، فإنني حيثما أوجه أنظاري لا أرى غير أبواب خُفضت أرتاجها فإذا شاء أمثالي أن يجتازوها تحتَّم عليهم أن ينحنوا.

أيطول بي الزمان حتى أعود إلى وطني حيث لا أرغم على الانحناء أمام كل صغير. قال هذا وأرسل نظراته تخترق الآفاق البعيدة وهو يدفع بزفرة الشوق العميق.

وتمالك زارا نفسه فوقف يلقي خطابه عن الفضيلة المصغرة.

٢

أمرُّ بهذا الشعب مفتحًا عينيَّ منتبهًا إلى نفسي، فإن رجاله لا يغتفرون لي إغضائي عن فضائلهم، وترفُّعي عن حسدهم عليها.

إنهم يلحقون بي نابحين؛ إذ أقول لهم لا يليق بصغار الناس إلا صغيراتُ الفضائل. إنهم ينبحون إذ يقصر بي فهمي عن إدراك الفائدة من وجودهم في الحياة، وما أشبهني بدِيك غريب تثور الدجاجات عليه بمناقيرها، فلا أحقد عليها؛ لأنني تعودت على احتمال التافه من المزعجات، وما فوَّقت قطُّ سهامي نحو أي صغير حقير فما ينتفش بريشه لأية حركة إلا القنافذ.

إن صغار الناس يتحدثون عني في سَمَرهم دون أن يفتكر أحدهم بي، فتذهب ضجتهم تحوك دثارًا لتفكيري فأتمتع بنوع من السكون ما كنت أعرفه من قبل.

إن واحدهم يقول لرفيقه: ما له ولنا، إنه الغمامة الربداء وقد تحمل بأهدابها وباءً كاسحًا فلْنحذرها.

وقد رأيت أمس امرأة تجتذب طفلها إليها لترده عن الاقتراب مني، شدَّت به وهي تصيح: أبعدوا الأولاد فإن هاتين العينين تحرقان روحهم الغضَّة.

إنهم يتكلَّفون السعال إذا ما تكلمتُ حاسبين أن سعالهم يقف بوجه العاصفات فيردها، وقد خشنت آذانهم فامتنع عليها أن تحس بنبرات السعادة في صوتي.

يقولون لا وقت نَقِفُه على زارا، ولكن ما أهمية جيل لا يتسع وقته لزارا؟

وهبْ أن هؤلاء الناس جاءوا إليَّ لتمجيدي، فهل يسعني أن أستنيم إلى أمجادهم، وليس ثناؤهم عليَّ إلا منطقة أشواك لو لمست حَقْويَّ لما تخلصت من آثارها حتى بعد طرحها عني.

لقد تعلمت بين هؤلاء الناس حقيقة أخرى، وهي أن من يسدي الثناء يتظاهر بإعادة ما بُذل له، وهو لا يرمي في الواقع إلَّا إلى الاستزادة لنفسه من المديح والإطراء.

سلوا قدميَّ؛ هل غرَّهما مثل هذا التزلف؟ إن قدميَّ تمتنعان عن الأخذ بأي وزن مقيد حين يحلو لهما الرقص كما تشتهيان، إنهم يصورون فضائلهم الصغيرة بأروع بيان لاجتذابي إليها، كما ينقرون على دفِّ سعادتهم الحقيرة استفزازًا لرجليَّ إلى الرقص. وأنا أمر بهؤلاء الناس مفتحًا عينيَّ منتبهًا إلى نفسي؛ لأنهم صغروا ولا يزالون يتصاغرون وما أوْرَدهم هذا الصغار إلا ما اتخذوه قاعدة لسعادتهم وفضيلتهم؛ لأنهم طلبوا الراحة في الفضيلة فحشدوها تواضعًا، وهكذا تمرنوا على الإقدام كما يحلو لهم فمشوا متعارجين متماهلين، وأقاموا من زرافاتهم عقبة في سبيل من يقدمون على الإسراع في سيرهم.

إن من هؤلاء من يتجه إلى الأمام، ولكنه لا يفتأ يتطلَّع إلى الوراء مُتلعًا عنقه معرقلًا سير التابعين.

على الأعين وعلى الأرجل ألَّا تكذِّب ذاتها، وما أكثر الكذابين بين الوضعاء!

ولقد يكون بين هؤلاء الناس من يريد ولكن أكثرهم منقاد تعمل إرادة غيره فيه، ولقد ترى بينهم مخلصًا غير أن أكثرهم من حُثالة الممثلين، فمنهم من يمثِّل دون أن يدري، ومنهم من يمثل دون أن يريد، وما أقلَّ المخلصين من هؤلاء القوم بخاصة بين فئة الممثلين منهم!

هنا تسترجل النساء لقلة ما يتصف بالرجولة الرجال، وما يحرر المرأةَ من خلالها ليخلق فيها المرأة الحقيقية إلا مَنْ تكاملت الرجولةُ فيه.

وأخبث ما رأيت بين هؤلاء الناس تظاهر حاكمهم بفضيلة محكومهم، فلا يزال أولو الأمر فيهم يترنَّمون بتصريف مصدر الخدمة: «خدم، خدما، خدموا؛ نحن نخدم.» وويلٌ للسيد الأول بينهم إذا لم يقل إنه أول الخادمين.

لقد ذهب نظري المتجسس، وا أسفاه! يرود مكامن خبثهم فما خفيت عني سعادتهم؛ فإذا هي سعادة ذباب يترامى بطنينه إلى زجاج النوافذ تتكسر عليه أشعة الشمس، وما رأيت بين هؤلاء القوم إشفاقًا إلا وتبينت إزاءه ما يوازيه ضعفًا، فتراهم يتعاملون بالإنصاف والعطف كحبوب الرمال تعطف واحدتها على الأخرى.

وما رأيت رجلًا فيهم إلا وهو يدَّعي القناعة فيما أصاب من نذر السعادة، غير أنه لا يني في قناعته يحدج بعين الشهوة قليلًا من السعادة يضيفها إلى ما يملك، وما يطمع هؤلاء الناس إلا بأن يتقي بعضهم شرَّ البعض الآخر، فهم لذلك يلجئون إلى التعامل بالحسنى، أما أنا فلا أرى إلا الخَوَر والجبن في هذه الطريقة، وإن كانوا يعرِّفونها بالفضيلة فيما بينهم.

وإذا صدف وتخاطب هؤلاء الناس بشيء من الخشونة، فإنني لا أتميز في نبرات صوتهم إلا أثر التهاب الحلق، فإن أقل لفحة تصيب هذه الأعناق تبح أصواتها، وما أشد هؤلاء القوم حين يحتالون ويمكرون! ففي أناملهم كل الرشاقة، ولكن في قبضة يدهم شللًا وليس لأصابعهم أن تنطوي على راحتها.

وما الفضيلة في عرفهم إلا ما يولد الضعة والتآلف، وبهذا المبدأ توصلوا إلى جعل الذئب كلبًا، بل حتى إلى جعل الإنسان خير الدواجن الخاضعة لتسلُّط الإنسان.

إنهم لمغتبطون، إنهم يضحكون قائلين: لقد اتخذنا مقامنا على الحالة الوسطى بين مصارعي الثيران يَرِدون المهالك وبين الخنازير سارحةً لا تبالي.

وما هذه الحالة التي يدعونها اعتدالًا إلا حالة انحطاط وخمول.

٣

لقد ألقيت إلى هذا الشعب بكلمات كثيرة، فما وسعه إدراك كنهها ولا حفظها، وكل ما بدا منه هو استغرابه ألَّا أكون أتيت إليه بالمواعظ لمكافحة الفحشاء والرزائل، والحق إنني ما جئت نذيرًا يدعو القوم إلى الاحتراس ممن ينشلون الأموال من الجيوب.

لقد استغربوا ألَّا أكون مستعدًّا لتنبيه الغافلين عن الحكمة وتسديد التفكير في الحكماء، فكأنهم لا يزالون بحاجة إلى مهرة المعلِّمين تخدش أصواتهم الآذان كأنها صريف أقلام الحجر على اللوحات السوداء.

فإذا صرخت بهم قائلًا: أنزلوا لعناتكم على ما فيكم من جبناء الأبالسة الذين لا يحلو لهم غير الأنين وضم السواعد إلى الصدور للعبادة. هبُّوا منادين بكفر زارا وإلحاده، وارتفعت فوق أصواتهم أصوات من يعلِّمونهم الاستكانة والصبر، فلا أملك نفسي من أن أهمس في آذان هؤلاء المعلمين لأقول لهم: أنا هو زارا الكافر الملحد، ولولا شعوري بالاشمئزاز منهم لكنت أسحقهم سحقًّا؛ لأنهم أشبه بالقمل لا يدبُّون إلا حيث تبدو الحقارة وينتشر الجَرَب.

أجل لقد همست في آذان هؤلاء المعلِّمين قولي إنني أنا زارا الكافر القائل: أرشدوني إلى من هو أشد كفرًا مني لأتمتع بتعاليمه وأُسرَّ بها.

أنا هو زارا الكافر، فأين أشباهي؟ وما أشباهي إلا من يهبون من ذاتهم لذاتهم إرادة مطَّرحين الصبر كارهين الاستسلام.

أنا هو زارا الكافر، أنا الصاهر في مرجلي كل ما يُدعى صدفة، فلا أزال به حتى ينضج ليصلح لي غذاء، ولكَم رأيت الصدف تتقدم إليَّ كأنها السيد المطاع فترغمها إرادتي على الركوع أمامي خاشعة مسترحمة طالبة إليَّ أن أجد لها مأوى عندي قائلة: ما يلجأ الصديق إلا إلى صديق.

ولكن لمن أوجه الخطاب إذا كانت كلماتي لا تطرق أسماعًا تشبه أسماعي؟ غير أنني سأرسل صوتي في الفضاء لتهب به الرياح قائلًا: أيها القوم الوضيع، إنك لتزيد حقارة من يوم إلى يوم، إنك سائر إلى الذوبان فالاضمحلال، وما يوردك الفناءَ إلا صغيراتُ فضائلك وتساهلك وصبرك.

إنكم تدارون كثيرًا أيها الناس، وتتخلَّون عن الكثير، وما الأرض التي تنمون عليها إلا من تراب المداراة والضعف وهل يشتد جزع الدوحة فتتعالى إذا هي لم تنشب أصولها في الأرض القاسية ملتفة حول صلب الصخور؟

إنكم تنسجون بإهمالكم كفنًا لمستقبل الإنسانية، فأنتم العناكب العاملة فيما لا يجدي وهي تتغذى من دم الأنسال المقبلة، فيا لكم من لصوص بما تأخذون، أيها المباهون بحقيرات الفضائل، إنكم تسلبون وتهدمون في حين أن للسارقين أنفسهم بقية من الشرف تقف بهم عند حد السلب إذا لم يكن من موجب للهدم والتحطيم.

إنكم تأخذون بمبادئ صبركم فتقولون إن ما تستولون عليه هو مما يُعطى، وأنا أقول لكم إنه مما يؤخذ ويُسلب، وما أنتم إلا سالبو أنفسكم لو تعلمون.

فعلامَ لا تقلعون عن هذا التذبذب في إرادتكم؟ ولماذا لا تختارون الذهاب إلى صميم الكسل أو إلى صميم العمل؟

ليتكم تفهمون ما أقوله لكم: افعلوا ما تريدون، ولكن تعلَّموا أولًا أن تريدوا.

حبوا قريبكم كأنفسكم، ولكن حبوا أنفسكم أولًا.

وهل بينكم من يحب نفسه بالحب الأعظم والاحتقار الأعظم؟

وهل يجدي القول وليس لكم الأذن التي أسمع بها أنا؟ إن ساعتي لم تحن بعد، وقد جئت بينكم بشيرًا لذاتي فأنا الصبح وأنا الديك الصائح ولما يزل الظلام منتشرًا على السبل.

إن ساعتكم تقترب باقتراب ساعتي، فإنكم تتصاغرون مع مرور الزمان فيزداد فقركم وتزدادون عقمًا، فما أنتم إلَّا أعشاب مسكينة على أرض أشد مسكنة من أعشابها.

لسوف لا يطول الزمان حتى تتعب هذه الأعشاب من نفسها، فتحترق وهي عطشى إلى النار لا إلى الماء.

إنها لأسعد ساعة تلك الساعة التي تنقضُّ الصاعقة فيها، ويا لها من سرٍّ يستبق الظهيرة، فإنني سأرسل من هذا السر ومن تلك الصاعقة جداول من نار سأرسل أنبياء يتكلمون بألسنة اللهيب منذرين بالظهيرة العظمى.

هكذا تكلم زارا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤