الكهنة

وتمثَّل زارا مرور رهط من الكهنة أمامه، فقال لأتباعه: هؤلاء هم الكهنة، فعليكم — وإن كانوا أعدائي — أن تمروا أمامهم صامتين، وسيوفكم ساكنة في أغمادها فإن بينهم أبطالًا ومن تحمَّلوا شديد العذاب فهم لذلك يريدون أن يعذبوا الآخرين.

إنهم لأعداء خطرون، وما من حقد يوازي ما في اتضاعهم من ضغينة، وقد يتعرض من يهاجم إلى تلطيخ نفسه، ولكن بيني وبينهم صلة الدم وأنا أريد أن يبقى دمي مشرفًا حتى في دمائهم.

وعاد زارا يتمثل أنهم مروا وانصرفوا، فشعر بألم شديد قاومه لحظة حتى سكن روعه، فقال: إنني أشفق على هؤلاء الكهنة، وأنا لا أزال أنفر منهم، ولكنني تعودت الإشفاق مرغمًا نفوري منذ صحبت بني الإنسان، ومع ذلك فأنا أتألم مع الكهنة؛ لأنهم في نظري سجناء يحملون وسم المنبوذين في العالم، وما كبَّلهم بالأصفاد إلا من دعوه مخلصًا لهم، وما أصفادهم إلا الوصايا الكاذبة والكلمات الوهمية، فليت لهؤلاء مَن يُخلِّصهم من مخلِّصهم.

لقد لاحت لهؤلاء الناس جزيرة في البحر على حين ثارت عليهم زوبعة؛ فنزلوا إليها فإذا هم على ظهر تنين نائم على العباب.

وهل من تنين أشد خطرًا على أبناء الحياة من تنين الوصايا والكلمات الوهمية، وقد كمن فيها المقدور طويلًا حتى حان وقت انتباه التنين؟ وها هو يهب مفترسًا جميع من بنوا مساكنهم على ظهره.

انظروا إلى المساكن التي بناها هؤلاء الكهنة، وقد أسموها كنائس وما هي إلا كهوف تنبعث روائح التعفن منها، وهل للروح أن ترتفع إلى مستواها تحت لألاء هذه الأنوار الكاذبة وفي هذا الجو الكثيف، حيث لا يسود إلا عقيدة تَصِم الناس بالخطيئة وتأمرهم بصعود درجات الهيكل زحفًا على الركب.

إنني لأفضل أن أنظر إلى اللحظات الفاحشة من أن أرى هذه العيون أطبقت أجفانها معلنة خشوعها واستغراقها.

من ذا الذي اخترع هذه الكهوف وهذه الدرجات يرقاها النادمون زاحفين، أهي من إيجاد من استحيوا من صفاء السماء فلجئوا إلى الاستتار؟

لن أعود بقلبي لألج مساكن هذا الإله إلا إذا انثملت قبابها، واخترقها نور السماء الصافية لتتكشف عن الشقائق الحمراء النابتة على جدرانها المتهدمة.

لقد أراد هؤلاء الكهنة أن يعيشوا كأشلاء أموات؛ فسربلوا جثثهم بالسواد فإذا هم ألقوا مواعظهم انتشرت منها رائحة اللحود.

إن من يجاور هؤلاء الناس فكأنما هو ساكن على ضفة الأنهار السوداء حيث لا يسمع إلا نقيق الضفادع الحزين.

ليسمعني هؤلاء الناس نشيدًا غير هذا النشيد لأمرِّن نفسي على الاعتقاد بمخلِّصهم؛ إذ لا يلوح لي أنَّ أتْباع هذا المخلص قد ظفروا بالخلاص.

لكم أتمنى أن أراهم عراة، وهل لغير الجمال أن يدعو الناس إلى التوبة، ولكنهم عبارة عن فجائع مستترة لا يسعها أن تجتذب إلى الإيمان أحدًا.

والحق أن مخلصي هؤلاء الكهنة نفسهم لم ينحدروا من سماء الحرية، وما وطئوا مسالك المعرفة قط، فما كانت حكمتهم إلا نسيجًا ملأته الخروق رقَّعوه بما أوجد جنونهم من آلهة، لقد أغرقتهم حكمتهم في بحيرة الإشفاق، فهم كلما زفروا فيها أرسلوا بجثة عظمى تطفو على سطحها.

لقد زعق هؤلاء الرعاة بقطعانهم فمضت متدافعة في فجوة واحدة، وقد علا صراخها كأن التوصل إلى مخارج المستقبل ممتنع من غير هذه الفجوة الضيقة. أما والحق ما هؤلاء الرعاة إلا فريق من هذه السائمة، وقد ضاقت عقولهم ورحبت نفوسهم وسرعان ما تصغر العقول إذا كبرت النفوس.

لقد تركوا على كل معبر اجتازته أرجلُهم آثار الدماء؛ إذ كانوا يستلهمون جنونهم ليعلموا الناس أن الدماء تقوم شاهدة للحق، وقد جهلوا أن أفسد شهادة تقوم للحق إنما هي شهادة الدم؛ لأن الدم يقطر سمًّا على أنقى التعاليم فيحولها إلى جنون وإلى أحقاد.

أفتقيمون للحق دليلًا من اقتحام أحد الناس للهب في سبيل تعاليمه، وهل لمثل هذا التعليم ما للعقيدة التي تتولد متقدة من لهبها نفسه؟ إذا ما تلاقى رأسٌ بارد بقلب مضطرم نشأت من التقائهما تلك العاصفة التي يدعوها الناس مخلِّصًا، ولكَمْ وجد على الأرض من رجل أعرق منشأ وأرفع مقامًا ممن يدعوهم الشعب مخلصين، وما كان هؤلاء المخلصون إلا عاصفات كاسحات تهب متوالية على الأرض.

إذا ما كنتم تنشدون سبل الحرية، أيها الإخوة، فعليكم أن تنقذوا أنفسكم حتى ممن يفوقون هؤلاء المخلصين عظمة ومجدًا، فإن الإنسان المتفوق لم يظهر على الأرض بعد. لقد حدَّقت بأعظم رجل وبأحقر رجلٍ عن كثب وهما عاريان فظهرا لعياني متشابهين، بل رأيت أعظمهما أشد توغلًا في المعائب البشرية من الآخرين.

هكذا تكلم زارا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤