الحبيبات والمصائب …

«وكتبت هي إليه١»:

كنت أقرأ الساعة في كتاب … لذلك النابغة الفرنسي الذي أخرجه الحب للشعر فأخرجه الشعر للإنسانية.

هو (فلان)، هذا الرجل الذي ولد مرارًا في الحياة، فإن الشاعر العظيم لا تلد منه أمه إلا الجزء الأرضي الآتي من المادة؛ ليفنى في المادة، أما الأجزاء الروحية السماوية التي هي زيادة فيه على الناس؛ ليكون أكبر من الناس، فهذه — كما قلت لي أنت مرة — تلده الحبيبات و … ومصائب الدنيا!

أترى يا عزيزي مصائب الدنيا نوعًا من الحبيبات في بعض وجوه الشبه واتحاد الغاية ومطابقة الحكمة؟ … لك فلسفتك، ولكني أرجو أن لا يكون أنا الموحية إليك بهذا المعنى …

الألم في الحب والألم في المصائب: كلاهما أسلوب إلهي رحيم على قدر ما هو عنيف، يؤتي من القوة بمقدار ما يبتلي من الضعف، وينتهي إلى السعة في الروح كما يبتدئ بالضيق في الحاسة، وينشئ فينا مع النظرة المتألمة أو المتحزنة أو المتكسرة نظرات أخرى، منها النظرة المفكرة والشاعرة والمتحدثة في صمتها واسترسالها بأسرارٍ عالية كانت معانيها من السمو الروحي؛ لأن لغتها من الأوجاع والأحزان!

ذلك الأسلوب القاهر لا يزال يتقصى بالوجيعة، ويتتبع بالشدة حتى يخرج من الإنسان الموهوب ما تخرج حبة الرمل من حيوان الصدف حين تندس بخشونتها في لينه، وتنغرز في لحمه إبرة حياة فإذا تاريخ ألم طويل حي لا يزال يستخرج ما يكونه حتى يلتف ويتغشى ويستكمل، ثم تكنز منه الطبيعة كنزها، فإذا أنت من حبة الرمل بحبة لؤلؤ …

•••

شاعرنا الفرنسي هذا يشبهك يا صديقي شبهًا تامًّا، حتى كأن التاريخ يعيده فيك، مملوء من كبرياء العقل وكبرياء الغضب على الحياة، فليس يراه أحد في وقت يكون فيه مع الأشياء … إلا حسبه — لاهتياج نفسه وعنفوانه — كأنه خارج لتوه من عراك أو خصام …!

لقد قلت لي يومًا: إذا كلمتك عن خصومك والمفترين عليك من حاسديك، إن عداوة الأعداء مهما كثروا ينسيها حب حبيب واحد، ولكن عداوة حبيب واحد لا تنسيها صداقة الأصدقاء مهما كثروا.

فشاعرنا هذا … دائمًا يرى كأنه به عداوة حبيب، ومذهبه هو مذهبك بعينه، هو أن الحب الذي هو في جملته أعلى الصداقة، هو في أشياء كثيرة إلف العداوة أيضًا٢

•••

ولنرجع إلى الكتاب.

أتذكر إذ التقينا وليست بيننا شابكة، فجلسنا مع الجالسين لم نقل شيئًا في أساليب الحديث، غير أننا قلنا ما شئنا بالأسلوب الخاص باثنين فيما بين قلبيهما؟

وشعرنا أول اللقاء بما لا يكون مثله إلا في التلاقي بعد فراق طويل، كأن في كلينا قلبًا ينتظر قلبًا من زمن بعيد؟

ولم تكد العين تكتحل بالعين٣ حتى أخذت كلتاهما أسلحتهما … وأثبت اللقاء بشذوذه أنه لقاء الحب!

وقلت لي بعينيك: أنا … وقلت لك بعيني: وأنا … وتكاشفنا أن تكاتمنا!

وتعارفنا بأحزاننا كأن كلينا شكوى تهم أن تفيض ببثها؟

وجذبتني سحنتك الفكرية النبيلة التي تضع الحزن في نفس من يراها، فإذا هو إعجاب، فإذا هو إكبار، فإذا هو حب؟

وعودت عينيَّ من تلك الساعة كيف تنظران إليك؟

وجعلت أراك تشعر بما حولك شعورًا مضاعفًا كأن فيه زيادة ولم يزد!

وكان الجو جو قلبينا.

وتكاشفنا مرة ثانية بأن تكاتمنا مرة ثانية …!

•••

آه! قلت: ولنرجع إلى الكتاب، ففي الكتاب قصة محب تبدأ هذه البدأة، وتجري في هذا المنزع، ثم تطرد وتنساق فلا يقرأها من عرف الحب إلا أحس كأن خيال ذلك المحب قد خرج من الكتاب ولزمه، لشدة ما تؤثر القصة في النفس، حتى لكأنها حادثة وقعت لمن يقرؤها، أو كأنه يرى القصة رأي عين.

رجل وقع من الحب بين لا، وليت، وهيهات ولات٤ بين التمني بأسلوبين، والبعد عما يتمنى بأسلوبين أيضًا، فأحب ليتعذب، وتعذب ليتصل بمعنى نفسه، واتصل بنفسه؛ لينفذ منها إلى طرف من معنى الألوهية، وإن أردت الاختصار قلت لك: إنه أحب ليتأله!
هل تفعل بسمات الحبيبة كل هذا؟ ألا قل لي من أنت، فإن الكتاب لا يقول لي شيئًا؛ وما كنت أقرؤه بل أقرؤك.٥

ماذا ترى في الابتسامات؟ أمر تسقط عليه بندى السماء في نشر الروض وعطره، أم تلذع قلبك بالخمر الضاحك الذي لا يُقال فيه حين يشتعل إنه اشتعل، بل إنه، بل إنه تندى … ذلك الجمر الذي يحرق من غير أن يتضرم، فلا يفني ما يحرقه ولا يأخذ منه، بل يصبح كلهيب الياقوت في الياقوت وديعة إلهية جميلة في شكل النار؟

•••

في كل صفحة من الكتاب كنت أراك فأرى المعاني شعاعًا فكريًّا منبعثًا من جبهتك السامية لا من الأسطر وأوراقها.

كأس الكتاب مملوءة بماء الشعر العذب؛ ولكن مؤلفه لم يناولني كأسًا بل نقلني إلى الينبوع المتفجر؛ إذ نقلني إليك. أعطاني هو مادة القراءة، وهيأت لي أنت مادة الفكر فيما أقرأ فوضعني هو في الكتاب ووضعتني أنت في نفسي!

روحية الكلام المكتوب يا صديقي هي وحدها التي تجعل الكتاب عالمًا من العوالم يحمل دنيا مستقلة وإن كان هو يحمل في اليد، ولن يستطيع مؤلف أن يخلق في كتابه هذه الروحية، بل يبثها القارئ فيها يقرأ من ذات صدره أو ذات نفسه: فلا بد للمؤلف الناجح من ثلاث: نوع الكتابة، ونوع الأسلوب، ونوع القراءة؛ ومتى أصاب هذه الثلاث التأم قليله بالكثير، واجتمعت فصوله بالحوادث؛ وتلبست كلماته بالأعمال، ووجد من قرائه تفسيرًا لكل ما يقول؛ فإذا هو قد ارتفعت به الحال فلم يعد كاتبًا ينتظر قراءه بل نبيًا ينتظر المؤمنين به؛ لأنه خارج من إحدى نواحي القلوب، وراجعًا إلى القلوب من ناحية أخرى.

•••

وقصص الحب متشابهة، ولكن لكل منها طعمًا ومذاقًا وأثرًا، كأن كل حب هو نفس جديدة، فهو بذلك قصة جديدة، وعلى هذا القياس يمكن أن نقول: إن الحب هو تجديد النفس.

هذه النفس تسأم الحياة فتريد أن تخرج منها وهي فيها، فلا يصنع لها هذه المعجزات إلا الحب.

والنفس قديمة، فتحاول أن تتوهم إنسانية جديدة خاصة بها فلا يأتيها بهذه المعجزة إلا الحب.

والنفس بين سماء وأرض لا بد لها منهما؛ فتنزع أحيانًا إلى أن تكن بين سماوين رجاء أن يكمل إشراقها، فلا يخلق لها هذا الخلق المعجز غير الحب!

•••

أنا الآن حزينة وقد حضرني بثي٦ فأطرقت إطراقة طويلة عند هذه الكلمة؛ إذ الجديد لا يبقى جديدًا إلا مدة ما، فهل ترى يستمر الحب حبًّا؟

آه من سيل الزمن الطاغي العنيف المندفع دون رد على وجودنا بهذه القوة الماحقة المستأصلة، قوة ما لا ينتهي، تندفع لتكتسح في طريقها ما ينتهي!

أيها السيل الأزلي الذي لا يرحم ولا يبقي! من هذا الذي يستطيع أن يضع لك سواحل وشطآنًا، ويقول لك: استقر هنا يا بحر الزمن؟

وأنت أيها الحب! من الذي يقيم عليك سواحلك وشطآنك، ويقول لك: استقر ولا تذهب في السيل …؟

أيها الصديق! وأنت …

١  ليعلم القارئ أن الصديق (صاحب الرسائل) تلقى من صاحبته رسائل كثيرة، ولكنها كالصحافيين: لها من دلالها «قانون مطبوعات» تراقبه … وقلمها قلم فنانة، فيه مع الجمال خبث جميل … وهي إلى الآن لم تأذن بنشر رسائلها، وإنما استرقنا هذه وبعض فصول من غيرها. أما لغة الرسالة فليست لها؛ بل هي من تهذيب صديقها، وفي يقيننا أنها لو كاتبته لإتمام رسائله، وأفرغت له قلبها وفنها كما فعل هو؛ لظفر منها الأدب العربي بأثمن كنز في معاني الحب، وأهل ذلك كانت وكان صاحبها، فقلما وجد مثلهما.
٢  أكثر دلال الحبيب هو عداوة لطيفة لعواطف محبه، فالمنع مثلًا عداوة للطلب، والبعد عداوة اللقاء، وهكذا.
٣  هذا تعبير عربي بديع، يقولون: لما اكتحلت العين بالعين … كأنهم يقولون: لما التقيا ووجدت كل عين من الأخرى جمالها وقوتها وزينتها … فتأمل!
٤  أي: وقع من الحب المتنع المطمع في مثل معاني هذه الكلمات نفيًا وتمنيًا وبعيدًا.
٥  ستأتي فلسفته في رسالة الابتسامة بعد هذه، وكيف يرى الابتسامة.
٦  أي: اشتد حزني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤