رواية القلم

أشعر أحيانًا أيتها الحبيبة أن لقلمي علي خلافًا، وكأن فيه عاطفة ترميه بنوازعها، فهو يجاذبني نفسه، لا يريد أن يكون في بناني ولا أن يقر معي، وهو الساعة مرتبك متبلد تمشي به يدي وكأنها الشيخ المتهدم الفاني يدعم على عصًا١ يراه الناظر إليه متزحزحًا مترجرجًا فيحسبه يرتعش ولا يمشي.
وإن يكن بهذا القلم شيء مني فما به إلا الضجر مما يمليه قلبي الذي يهابك في رسائله كما يهابك في حبه، فيقذف لقلمي بالكلمة من الكلام يكتبها عنه وإن القلب في ذات نفسه ليزمزم٢ بمعنى ليس في هذه الكلمة، بل في كلمة غيرها قد أخفاها وضمر عليها.
أحسب قلمي يا حبيبتي لا يتمنى إلا أن يكتب بغير يدي على أن لا تكون الرسالة يا ذات قلبي إلا من قلبي أنا، وهذا معنى لو كشفته لكان هكذا. يود قلمي أن يكون في يدك أنت ليكتب بيدك إليّ … كأنه يعقل ويتلو معي رسائلك، ويعرف أنك دائمًا هاربة فيها … ويتلهف مثلي على كلمة مقبلة.٣

•••

وهبيه الآن في يدك الرخصة الناعمة التي أودع الله فيها سر ثمرة من أحلى وأنضر ثمار الجنة فتذاق منها حلاوة الجنة بالتقبيل، إنه يلمسك … إنه تحت أنفاسك يرتقب كلام شفتيك … وربما فكرت قليلًا فأطرقت إطراقة فلمست به خديك، وربما أغمضت عينيك ليسعدك فكرك العميق بأسلوب مقلوب … فإذا أنت في ذلك قد ألصقت القلم بشفتيك، ولبثت ساكنة ولبثت ساكنًا …!

ويك يا قلمي الخبيث! أتريد أن تدعني … لكأنك والله نفس معلقة في أصابعي تحب وتشتاق!

•••

وماذا عسى أن يكتب إليّ قلمي وهو ذاهل في راحتك سكران من أنفاسك، مضعضع من لمسة خديك، مترفع على الوجود كله بموضعه من شفتيك، وهو كالميت من إفراط هذه الحياة كلها عليه؟

أحسبه يكتب إليّ من يدك هذه الرسالة:

سيدي الأستاذ الفيلسوف …

لم يخالجني الريب قط في أنك من نزعاتك الروحانية ومن ذهولك الرباني كأنك في جو كوكب … لا في جسم إنسان، وكأن عناصرك المطهرة قد أنضجها اللهب القلبي الذي يحرق الإنسان ورغائبه وأهواءه في شعلة متقدة تفني منه شكله الأدنى؛ لتوجد منه شكله الأسمى، وتدعه ذؤابة نور ترتعش.

وإن الساعة التي قرأت كتابك فيها لتكاد تشعرني بأنها من غير هذا الزمن، فكأنها خلقت لي تأتيني مع بريد من الملائكة حين يوافي البريد بكتابك.

وتالله إن كتابك يا سيدي لزهرة من روحك تحيتها عندي في تأملها والإعجاب بها، أما بلاغته فبالله أحلف صادقة ما رأيت أكمل منك لسان قلم … ولا أذكى مع هذا القلم … قوة طبع، ولا أبلغ طبيعة نفس، ولكأن قلمك … مهبط إشعاع تلتقي إليه سبحات روح الجمال المنبثة المالئة هذا الوجود مما بين أزهار الأرض، إلى كواكب الفلك إلى حدود الحور في مقاصير الخلد.

وسألتني اللقاء، ولكن قلمك … ساحر قدير فهو يستطيع أن يحملك إليَّ دائمًا في رسائلك البليغة، ولو شاء هذا القلم الساحر … لجعل من الصحيفة روضًا يفرشه تحت أقدامنا نثار الورد٤ وقد جلسنا فيه تحت خيمة من الندى مطرزة بشقق عريضة من حرير الشمس، ونلتقي وإن كنا لم نلتق!

واهًا لقلمك … يا سيدي واهًا … وسلمت للمعجبة بآيات هذا القلم المعجز …

•••

على أن هذا القلم الخبيث لو استملى من نشوته وسكره هذا الكلام المعربد في قلبي، وركب ذلك الفن من الغيرة، وأخذته هذه الرجفة، وكتب إليَّ بيدك تلك الرسالة لقرأتها أنا هكذا:

يا من أنا سيدته!

لم يخالجني الريب قط في أنك — من حبك — نفس تحترق بذاتها كالكواكب، فعناصرك الملتهبة تلفنا معًا في شعلة غرام تفني منا شكلين؛ لتوجدهما في الحب شكلًا واحدًا، وتدعه كذؤابتي نور معتنقتين.

وإن الساعة التي قرأت كتابك فيها لتكاد تشعرني أنها منك أنت لا من الزمن؛ لأحيا فيك وأنا أقرؤك.

وإن كتابك لمن روح أيها الحبيب لا من كلام؛ فإني لما نشرته في يدي أحسست كأنه غمز يدي.

أما بلاغته فبالله أحلف صادقة لقد نقل إليّ الكلمة التي لم تكتبها، وسألتني اللقاء …

آه ما بالك جمدت الآن أيها القلم الخبيث وقطع بك؟ فكأنك تغار حتى من موعد مزور …!

•••

هذه يا حبيبتي رواية قلمي فما رواية قلمك؟

إنك لتنظرين إليَّ نظرات ناعمة من ذلك النظر الرطب فأجد لها مسًّا كمس يد الحبيبة الفاتنة؛ فلماذا لا تكتبينها؟

وتبسمين أحيانًا ابتسامات معنوية تهرب إليَّ فيها بعض قبلاتك، فلماذا لا تكتبينها؟

وأرى على نور قلبي أحرفًا مختبئة في قلبك هي: ألف، حاء، باء، كاف فهل تكتبينها …؟

١  أي يقوم بها كأنها دعامة.
٢  الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم.
٣  الكلمة المقبلة: المخصبة من المعنى الذي يحبه: والمدبرة: المجدبة.
٤  نثار الورد: ما تناثر منه في المجلس. وحين ينتثر في المجلس يسمى الجُلْسان (بضم الجيم وسكون اللام).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤