الهجر

«ولما تهاجرا كتب هذه الرسالة١ فيما كتب لنفسه»:

رسم الماضي من الحب صورته في نفسي، وأتى الهجر يمحوها، ويرسم غيرها، ففيما يثبته، ألم الأيام المكروهة تأتي؛ وفيما يمحوه، ألم الأيام المحبوبة تذهب، ومضى الزمن الذي يومه ساعة، وجاء العهد الذي ساعته يوم وأيام، وانقضى عمر الحقيقة، وبقيت من الحادثات كأنها قبر من اللغة قد أنزل فيه تاريخ حب مات!

وكما ينزع المرض عافية لبسها الدم، نزع الهجر أيام قلبي، وتركني في أيام كأنها من غير زمني، ووضعني منها في حياة كأنني لا أحياها، وانتهى بي إلى حالة كأنما وقفت الحياة عندها، وقالت لي: سر وحدك وعش في آلامك لا فيّ!

هي حالة النار التي كانت مشبوبة، وتهم أن تخمد فتقول للأثر الذي تخلفه: عش وحدك يا رمادي …!

أما إني مثلك يا رماد الجمر: قطعت حياة اللهب والشعاع إلى آخرها المنطفئ …

•••

أية عاصفة احتملتني من أيام الشمس وليالي القمر، وألقت بي في هجر منقطع كليالي القطب المضيئة بجبال قائمة من الثلج كأنها شموع تنير في ذلك الهول المحيط بها؛ إذ لا تظهر فيه النجوم على سمائها إلا كحصى من الجليد، ولا تمر الشمس هناك في أفقها إلا وهي ترتعد من البرد؟

كان الجو العاصف كلمة غضب صغيرة، ولكن أرادها قلبي بمعنى، وأرادها قلبها بمعنى غيره، فلم يبق للكلمة على ما أردت وأرادت لا معنى في نفسها ولا معنى في نفسينا، وبطل منها عمل اللغة فإذا هي قدرٌ عاتٍ لا زمام لنا من الفهم على جمحاته.

كلمة كانت من المادة النفسية المشتعلة بالعناد، المنفجرة بالغضب، المصوبة بعد ذلك كالرصاصة المنطلقة! لا تراها بدأت إلا قلت انتهت، وربما قالوا: رميت، والمعنى قتلت، وإذا قيل في الرصاصة المنطلقة قد ذهبت، فاعلم أنه قد مات من اللغة إلى الأبد لفظ رجعت أو ترجع …!

وعلى ظهر كلمة الغضب وضع الماضي رحاله المملوءة جمالًا وفكرًا وعاطفة ولذات، وانحدر على طريق النسيان فذهب حديث لا يلحق، ورمى إلى حيث لا يعود!

ألا ما أشأم الساعة التي تعارض فيها كلمة قلب كلمة قلب آخر يحبه، وتقف لها كبرياء معشوقة بإزاء كبرياء تعشقها، وتضيق نفس على نفسٍ تحاول كلتاهما أن تحبس الأخرى في سجن كلمتها!

تلك ساعة تكون والله بين العدوين أخف وأرحم مما هي بين الحبيبين، ولعمري وعمرك ما التقاء العدو بعدوه في مناجزة إلا صورة هم وروع مصغرة من صورة ابتعاد حبيب عن حبيبه في هجر … إن معركة الدم لأصغر من معركة الدمع!

•••

كبرياؤها الآتية من أنها هي المعشوقة، وكبريائي التي أستشعرها من أني أنا محبها، كلتاهما كانت العزيمة الهائجة المحتدمة التي أدت شدة المبالاة فيها إلى عدم المبالاة، وجمعت منا جهلتين غير مبصرتين، واستكبر لها الواقع المحدود، فانتهى من غضبه إلى سورة معركة، واندفع بها التيار الذي جعل يزحزحنا واحدًا عن واحد حتى فصلنا انفصال شاطئين، وفقدنا ما يسمى في اللغة السياسية: «إدراك حقيقة الحالة» فانثترت بيننا ما تسميه تلك اللغة: «بالمسائل الشائكة» وأصبحنا من حيرة وعجز وسوء بصيرة في مثل الحالة التي يطرح فيها اللغز لحله فإذا منه لغز آخر، وكان عقدة ناعمة كملمس الحية فانتهى إلى مس السم الناقع، ثم ضلت في ضلالنا الكلمة التي كانت تصلح للصلح، وضاق عنا الحب بأخلاقه فلم يبق مني ومنها غير «لا» قائمة في وجه «لا».

•••

إنه الموقف العقلي المصبوب على قالب فلسفتها حين تقول إنك لن تحكمني، ولو أنك في الواقع تحكمني … وعلى قالب فلسفتي حين أقول: إنني لن أغلب في شيء، ولو أنني في كل شيء مغلوب! …

كلمة بيننا ليس لها ناهية ولا آمرة من العقل، فلا تنزل في خاص معناها، ولا تقر في معنى يمسكها على وجه مفهوم، وكأنها في موضع مسحور لا يستقيم فيه برهان، ولا يحق حق ولا يبطل باطل، وفيها ملء القفر من الإصرار الجافي الموحش، فإذا تقدمت لها شفاعة الحب لم تقع من كلينا إلا بأبعد البعد: كالذي يضل في صحراء فيظمأ ويلتاح، ثم يذهب يحفر عن بلة أو جرعة، حتى إذا أوشك أن يذبحه الظمأ بنصل من خيال الماء عثر على إناء مختوم فيفضه فإذا فيه جرعة تاريخ قديم … تنبئ عن مدن وأطلال، ودولة وشعب كانت هنا … هنا في موضع قبره هو …!

وليس التعب أشد شدة ولا أثقل ثقلًا من موقف عقلي تقفه مغالب نفسك على حقيقتها، فتبغض أنت وهي عاشقة، أو تماري وهي مقتنعة، أو تجحد وهي تقرّ، أو تعزم العزمة وهي تنقض عليك، فأنت في تزوير فكرك على نفسك، وفي رد نفسك على الفكر، ثم في التواء حقيقتك التي جعلتها محركًا واحدًا يعمل في حركتين متناقضتين، ثم تهلك بعناد باطل تزعمه ضروريًّا لنفسك على أن يكون كفكرة فقط وأما كعمل فلا، على حين هو واقع عملًا فقط وأما كفكرة فلا …

ويحك يا من يزعم لأحد الشاطئين رجلًا يمشي عليها؛ ليتخلص من مقابلته الشاطئ الآخر، ومن تقييده بمضادته وممادته على مداه! أرأيت ذلك يكون قبل أن يكون للبحر الذي بينهما جناحان فيطير من بين شاطئيه …؟

ويحك! فما معنى الهجر والمراغمة عليه، ولم يطر من بينكما الحب؟

•••

أتجنبها وهي في وجودي، وأحطم بعقلي هذا الفؤاد الشعري الرقيق الذي بين جنبي، وأتخذ لها في نفسي من الهجر اسمًا جافًّا يابسًا كاسم الحطب، وهي باقية زهرة هذه النفس!

إن هنا وهناك وهنالك ثلاثة مواضع للغيظ وللكمد، ولكنها أيضًا ثلاثة مواضع؛ لعظمتي وسموي. إنه لا صلح لقلبين لم يصطلح فكراهما …!

فآه من ألم السمو الذي يجعلني أفرق حياتي على الأشياء والمعاني؛ لتتغير في نفسي، وأعيش أنا في مثل هذا الهجر على المعنى الذي لا يتغير كمعنى البلى، ولا يتسامح كمعنى الضغينة، ولا يترخص كمعنى العقيدة!

وآهٍ من كبر النفس على صغائر الحياة، ومن صغائر الحياة على كبر النفس! ولقد يكون الملك العظيم في حشده وجنده وحوله وطوله، ثم لا تعبأ ذبابة من الذباب أن تقع على وجهه، ولو نطقت لقالت صادقة: وإن كان ملكًا فإني ذبابة …

وآه من عين الحكمة التي تبصر كرة الأرض هباءة طائرة في اللانهاية، وترى الكون العظيم ذرة مكبرة، وتضاعف الأشياء على النفس مرة، والنفس على الأشياء مرة أخرى، ولا تبرح تخلق خلقها على ما تحب وتكره؛ لأن فيها ألوهية الفكر!

آه من هجر هو سمو ولكنه من الصغائر، هو حكمة ولكنه من الألم … هو هجرها لكنه هو حبها!

١  انظر «رسائل الأحزان» لتستتم معاني رسالة الهجر هذه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤