مقدمة

هذه رسائل حقيقية كُتِبت بالفرنسية في ذلك العهد الذي يُسمُّونه «زهرة العمر»، وهي موجَّهة إلى مسيو «أندريه …» الذي جاء وصفه في كتابي «عصفور من الشرق». وقد بدأنا نتراسل بعد مغادرته «باريس» للعمل في مصانع «ليل» بشمال فرنسا. ولبِثنا على ذلك إلى ما بعد عودتي إلى مصر، والتحاقي بالسلك القضائي. ثم انقطعت بيننا الرسائل والأخبار، وانتهى كل شيء، وجرفنا تيار الحياة، كلٌّ في واديه، فلم نلتقِ بعد ذلك إلا في عام ١٩٣٦م، إذ سافرتُ لتمضية الصيف في فرنسا، وكنت قد تركت القضاء وصرت مديرًا لإدارة التحقيقات بوزارة المعارف، ونشرتُ في الأدب عدة كتب … فوجدت «أندريه» قد أصبح رجلًا مهمًّا، ذا مركز مستقر في الصناعة الفرنسية. ووجدت زوجته «جرمين» على عهدي بها، لم ينل الزمن كثيرًا من سالف جمالها … ولم أرَ للأسف طفلهما الصغير «جانو»؛ فقد غدا بالطبع شابًّا يسعى مع الطلاب في الحي اللاتيني، ويشاركهم تلك الحياة الصاخبة النشيطة الهوجاء.

وتحدثنا مليًّا فيما فعلته الحياة بنا … وعند ذاك قادني الصديقان من يدي إلى مكتبة الدار، برياشها التي لمست فيها حسن ذوق «جرمين» المعروف، وأشارا بزهوٍ من خلف الزجاج إلى نسخة فاخرة التجليد من كتاب لي تُرجِم وقتئذٍ إلى الفرنسية، ونُشِر في «باريس»، مقرظًا بقلم كاتبٍ شهيرٍ، من أعضاء الأكاديمية. وقالا لي فخورين: «هذه ثمرة جهادك الذي كنَّا من شهوده!»

ثم جعلنا نتذاكر الماضي، ونحن نتناول الشاي، فنهض «أندريه» بهدوءٍ وصمتٍ؛ واختفى لحظة، ثم عاد إلينا يحمل صندوقًا صغيرًا وهو يقول باسمًا: «لم يكن من السهل أن ننساك أو ننسى تلك الأيام؛ وهذه رسائلك عندنا نلمح فيها طيْفك ماثلًا أمامنا … أليس كذلك یا «جرمين»؟ فمددت يدي إلى الصندوق على الرغم مني، واختطفتُ بحركة غريزية إحدى الرسائل، وطفقت أقرأ وأقرأ … حتى نسيتُ نفسي ومَن حولي والشاي الذي أمامي، ولم أفْطِن إلى تنبيه الصديق وزوجه … ولم أرَ سوى شيء واحد، هذا شبابي حقًّا … قد انتفض ماثلًا لعيني … كيف أتركه لكما؟ وتنازعنا الرسائل. فحسمت «جرمين» النزاع آخر الأمر بقولها: إنا نثق بوعدك وكلمتك … خذ رسائلك اقرأها كما شئت في شهر أو شهرين على أن تردَّها إلينا بعد ذلك، فوعدت، وحملت رسائلي برفقٍ وحرصٍ وحنانٍ كأني أحمل الرماد المتخلف عن «زهرة العمر» الذابلة.

•••

وأنستني شئون ذلك الصيف كل شيء؛ فلقد شغلت بمن قابلت من الأصدقاء في جبال الألب، وبما شاهدت من مظاهر الفن في سالزبورج، عن التفكير في هذه الرسائل، فلم أفتحها إلا بعد عودتي إلى مصر فكنت كلما خلَوْت إلى نفسي أطالع رسالة أو رسالتين وأنا أبتسم؛ ثم أطوي ما قرأت وأنا أفكِّر فيما كان وما هو كائن … لقد أصبحت هذه الرسائل لازمة لي في وحدتي، ومرَّت الشهور في إثر الشهور، ولم أنسَ وعدي وكلمتي … ولكن ماذا أصنع؟ عندئذٍ خطر لي أن أنقل هذه الرسائل إلى العربية، وأحفظها لنفسي. ولم أرَ بأسًا بعد ذلك من ردِّ الأصل الفرنسي. فأخذت في نقلها ببطء كلما وجدت من الوقت فراغًا، ولم أردها إلى صاحبها إلا عندما سافرت إلى فرنسا لتمضية الصيف عام ١٩٣٨م.

وهكذا بقيت عندي الصورة العربية لهذه الرسائل أُجيل فيها النظر من حين إلى حين … وأنا أحرص عليها وأضن بها ولا أرضى أن تقع عليها عين غير عيني … فهذا شيء لي … وهي جزء مني … وقطعة من حياتي … هي زهرة عمري.

•••

واندلعت نيران الحرب الأخيرة … وانهارت فرنسا، فتذكَّرتُ الصغير «جانو» … لا شك عندي في أنه اشترك في هذه الحرب … ومن يدري أهو في القتلى أم في الأسرى أم في الجرحى؟ إني لم أزل أتخيله طفلًا في الرابعة، يلعب أمامي في المطبخ بمنزل جدته في «كوريفوا» من ضواحي «باريس» … وأنا جالس إلى المائدة أتناول فطوري؛ وأقرأ كتاب «الجمهورية» ﻟ «أفلاطون» … وهو يصيح بصوته الملائكي الصغير، رافعًا سيفه الزائف، ومصوِّبًا مدفعه الصفيح، نحو أعداء وهميين من «البوش» الألمان … آه … لقد دار الزمان، وأصبح «جانو» شابًّا قويًّا، وقد حارب الألمان بالفعل … ويا لها من حرب!

أما صديقي «أندريه» وزوجته «جرمين» فأين هما الآن؟ أهما بخيرٍ أم هما على ولدهما «جانو» متفجعان؟! اللهم لا تفجعهما في ولدهما وهو في زهرة عمره؛ فقد كانا رفيقيْ شبابي، والإناء الذي أحاط بزهرة عمري؟!

•••

واليوم وقد كادت تذبل زهرة العمر بعد أن جاوزنا الأربعين … اليوم بعد أن اعتزلت وظائف الحكومة، ونزلت عن زخارف المجتمع، وانقطعتُ لأهيم كما أشاءُ في هيكل «أبولون» … مكرسًا بقية حياتي للأدب والفن … فإني أرجع بصري القهقرى لأرى أيام الكد في سبيل التكوين الفني … ولقد أدهشني حقًّا ما رأيت في رسائلي هذه: لطالما قاومت وكافحت في سبيل التجرُّد والتحرُّر من كل ما يشغلني عن الفن … وها أنا ذا اليوم قد انتصرت … نعم، انتصرت؛ فأنا الآن للفن وحده … ولا أرجو إلا أن يكون هو أيضًا لي قليلًا، قبل أن ألفظ النفَس الأخير.

وبعد … فلقد رضيت اليوم أن أنشر هذه الرسائل، تذكارًا للصديقين «أندريه» و«جرمين»، وتقديرًا لولدهما الشاب الباسل «جانو»، وإيثارًا لقُرائي على نفسي. قرائي الخلصاء الذين قد يعنيهم أن يطَّلعوا على صفحة من حياتي … على أنَّ من واجبي أن أشير إلى أني وجدت، مع الأسف، أكثر هذه الرسائل غير مؤرَّخ، ولم يكن في مقدوري ترتيبها على حسب التواريخ، ولا حتى على حسب الحوادث، ترتيبًا دقيقًا. ولعلَّ ترتيبي هذا هو أقربها إلى الحقيقة والمنطق، فإذا بدا شيء من الاضطراب في تسلسل الوقائع، أو شيء من التكرار في بعض التفاصيل فإن ذلك راجع ولا ريب إلى طبيعة الرسائل في ذاتها، وقد كانت رسائل خاصة لم يخطر قطُّ على بال أحد أنها قد تُقدَّم للنشر يومًا. والرسائل الحقيقية ليست عملًا مؤلَّفًا تأليفًا حتى يُستباح فيها التنقيح والحذف والتهذيب؛ فإن مزِيَّتها الوحيدة هي التشجع على نشرها بخيرها وشرها، وإني — توخيًا للصدق — لم أحذف حتى ما كان يُحسَن حذفه من عبارات أو فقرات أو حوادث، قد يُعتبَر نشرها ماسًّا بشخص المرسل أو المرسل إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤