زهرة العُمر

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

صدقتْ فراستك … الخيال قد أضاعني يا «أندريه» … أنا شخص شقي، وليس الشقاء هو البكاء … وليست السعادة هي الضحك … فأنا أضحك طول النهار؛ لأني لا أريد أن أموت غارقًا في دموعي … أنا شخص ضائع مهزوم في كل شيء … وقد كان الحب آخر میدان دُحِرت فيه … وإذا كنت تسمع من فمي أحيانًا أناشيد القوة والبطولة فاعلم أني أصنع ذلك تشجيعًا لنفسي؛ كمن يغني في الظلام طردًا للفزع.

ها أنت ذا اليوم تراني أكتب إليك عن القوة والشخص القوي، وأنا بهذا أحاول أن أوهم نفسي أني قوي … إني أشعر براحة وعزاء؛ إذ أتحدث في وحدتي عن القوة … ويُخيَّل إليَّ لحظة أني ذلك الشخص الذي عناه «إبسن» بقوله: «الرجل القوي هو الرجل الوحيد»! كفى كلامًا عن نفسي … إنها لا تستحق أن نتحدث عنها أكثر من ذلك … أحدِّثك الآن عن أحوالك أنت، وعن خطابك الذي صببت عليَّ فيه كل لعناتك … قبل ذلك أقول لك: إني مغتبط لرضاك عن عملك الجديد بمصنع «ليل»، أمَّا اكفهرار الجو المستمر في هذه المدينة الشمالية فهو خير على كل حالٍ من اكفهرار وجه الحياة … أخبرك أن آخر مرة رأيت فيها «جرمين» كان مساء الأربعاء الماضي حيث تناولنا معًا العشاء بصحبة «جانو» الصغير … وسأراها يوم الأحد القادم؛ فهي لا تستطيع مقابلتي قبل ذلك اليوم الذي تعطل فيه من مصنع «كوربفوا»، وليس بي حاجة إلى أن أؤكد لك شوقها الشديد إليكَ! هنيئًا لك حب زوجك وولدك … النقود وصلت … ثلاثمائة من الفرنكات بالتمام … أشكرك وأرجو ألا تستدين من غيري، ولا مني إلا للضرورة؛ فإني أعرف فيك الإسراف والتهور أحيانًا، وحب مغازلة النساء الجميلات … يجب أن ترعوي، وإلا أخبرت «جرمين» بكل شيء.

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

أشكر لك خطابك، وآسف لما سبَّبه لك خطابي من حزن لأجلي، ما كان لي الحق في أن أضيف ما بي إلى ما بك؛ فهذا حمل ثقيل لا أرضاه لك … إني أُؤنب نفسي الآن؛ لقد ألجأها الضعف إليك للتوكُّؤ عليك، وفاتها أن في ذلك إزعاجًا لك … قاتل الله الضعف. ومع ذلك … لولا هذا الضعف الإنساني ما وُجِدَت العواطف الإنسانية الجميلة، التي تنتج أحيانًا الأعمال الإنسانية العظيمة. إن الضعف هو أيضًا مظهر جمال في بعض الأحيان، لا يجب أن ننسى ذلك … إنه جمال الإنسان الذي يمتاز به عن إله قوي لا رقة فيه ولا شعور! لماذا نَعُدُّ دائمًا الضعف البشري نقيصة؟ ما دمنا قد وُصِمنا به إلى الأبد فلنحترمه أحيانًا، ولنستثمره، ولنحوِّله إلى فضيلة من فضائل البشر … بغير هذا فإن الحياة لن تُحتمَل. أتراني أعزي نفسي يا أندريه بهذا الهراء من الكلام! أتراني أقلب «الحقائق» كي أرى الدنيا ملأى بالحسنات والفضائل، خليقة باحترامنا، جديرة بتحمُّلنا الآلام في سبيل المكث فيها؟ لا تضحك ولا تسخر، ولا تتهمني بالحمق: فإنك قد تحترمني قليلًا وتدهش لقوة احتمالي إذا عرفت مبلغ ما تجمَّع على رأسي من شقاء … ومع ذلك ما زلت أحاول انتزاع ابتسامة من شفتي الحياة. لا أريد أن أحدِّثك عن نفسي أكثر من ذلك … لكن … فلأحدثك قليلًا لتعلم أنك بالقياس إليَّ أسعد المخلوقات طرًّا؛ فأنت الآن رجل ناجح في حياتك، تجد من يقدِّر عملك وجهدك وينقدك عليه أجرًا معقولًا، والمستقبل أمامك جليٌّ كالنجم اللامع في السماء الصافية! وقد قلت لي إن مصانع «ليل» تتخاطفك، وإنك ترقى درجات العمل الأولى سريعًا، ثم أنت فوق ذلك رجل محاط بالحب والعطف من زوجك وولدك … أنت محبٌّ محبوب، ومن تحب تحرص عليك وترى فيك المثل الأعلى، لا للرجولة وحدها والبطولة ومكارم الأخلاق؛ بل للجمال أيضًا. لكَم أدهشتني «جرمين»، ذات يوم وأنا أريها صورة «رودلف فالنتينو» في إحدى الصحف قائلًا لها: «إليكِ صورة أجمل رجل في العالم» فقد قالت للفور: «أندريه» أجمل منه! ألا توافقني على أن «أندريه» أجمل منه؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟ وماذا يريد إنسان أكثر من ذلك؟ إنك لا تعرف الشقاء، أما أنا فأعرفه، إنه فجيعة الإنسان في آماله؛ نحن … إنما نعيش داخل آمالنا، فإذا اندكت فنحن كالنمل الشارد في الشتاء العاصف، لا تنظر إليَّ بعين سخريتك، يا «أندريه»، ولا تظن أني أعني الحب، فلو أنه هو الذي انهدم وحده عندي لما حزنت كثيرًا، ولكن كل شيء انهدم يا «أندريه»، لم يعد لأيامي مذاق؛ فهي كالماء القراح أجرعه على غير ظمأ، والمستقبل أمامي محاط بالضباب، يُخيَّل إليَّ أني هويت قبل الأوان، كالثمرة التي تسقط من الفرع قبل النضوج … أمامي برقية من أبي المسكين يقول: «أبرق لنا في حالة نجاحك»، كلمة النجاح غريبة على أذني، الآن أأنا أستطيع أن أنجح في شيء؟ إن اسمي كما تعلم مقيَّد منذ زمن بجدول المحامين في بلادي … إني في عُرف القانون محامٍ، ولكن أي محام؟! لقد كانت فجيعة لأبي المسكين أيام أن كان يسمع ويرى أني أنسى صفتي كمحامٍ، وأنحشر في زمرة الممثِّلين، أو أولئك الذين يسمونهم عندنا «المشخصاتية»، والحق أنهم في مصر ليسوا بعدُ من الطوائف المحترمة، لقد كان ملحن رواياتي «كامل الخلعي» يجلس معي على قارعة الطريق «يدندن» ويلحن وهو عاري القدمين إلا من «قبقاب» خشبي، تلك كانت بدايتي الفنية والأدبية … في عين الوقت الذي كان غيري يبدأ حياته الأدبية بالكتابة السياسية، فيظفر سريعًا بالشهرة والاحترام، ولو أني فعلت ذلك لرضي عني أهلي بعض الرضا، فالفرق شاسع في مصر بين خدمة رجال السياسة وخدمة رجال «التشخيص»! وها أنا ذا لم أظفر بشهرة ولا ذكر، بينما لمعت أسماء أولئك الذين اختاروا الطريق الآخر المحترم … فسهل عليهم أيضًا بعدئذٍ — كما رأيت — أن ينتقلوا منه إلى الأدب، محتفظين بأثواب التجِلَّة ومظاهر التقدير. أما أنا — الذي اخترت الفن من البداية صرفًا صريحًا — فلا أستطيع أن أنتقل إلى شيء … غير الانحطاط الاجتماعي، ولقد خشي والدي المتوجِّع أن يجرفني التيار عن حياة القضاء التي عاشها بشرفٍ، فأشار عليه المخلصون أن يقصيني عن مصر فترة من الزمان … فأرسلني كما ترى إلى هنا لعلِّي أسلو الفن، وأنصرف إلى ما يتمنَّاه لي من حياة قانونية محترمة؛ فماذا أنا قائل له الآن؟ وبماذا أرد على برقيته؟ ثم أمامي خطاب ممن أحببت، وأوهمتني بنعيمٍ دام أسبوعين، تكشف لي فيه عن المهزلة، ولم تترفَّق فتترك لي حتى ذكرى تلك الأيام القليلة سليمة جميلة؛ لقد شاءت أن تسترد كل شيء حتى الأوهام والأحلام، فجرَّدتني منها بعبارة واحدة: «أتمنى أني ما عشت قط هذين الأسبوعين»، يا إلهي إلى هذا الحد؟! وها هي ذي تغني اليوم لرجوع كل ودٍّ بينها وبين حبيبها الحقيقي، أسمع غناءها من نافذة حجرتي فأضحك … لكن أي نوع من الضحك؟! ثم أمامي قصاصات من نقد صحف مصر لرواياتي التي تمثَّل في القاهرة … فإذا أنا موضع السخرية، ودراساتي التي لا تؤدي إلى نتائج، وشراهتي في المعرفة التي تسبق قدرتي الذهنية وقوتي الجثمانية ووقتي المادي؛ كل شيء حولي يهدمني هدمًا!

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

معذرة لإبطائي عليك في الرد؛ فقد أُصبت ببردٍ وسعالٍ أقعدني في الفراش أيامًا، وأنتهز هذه الفرصة لأبلغك شكري الخالص ﻟ «جرمين» على قلقها وعنايتها … كما أخبرك أيضًا أنها دعتني بعد ذلك إلى وليمة عشاء بمسكنها، حيث نصبت المائدة إلى جوار المدفأة. لن أنسى مطلقًا ذلك الحساء اللذيذ «كريم فرميسيل»! أهنئك باستكشافي في «جرمين» — فضلًا عن ذكائها وأدبها وخلقها — ذلك الفن الجميل المفيد: فن الطهي … ثق أنها طاهية من الطبقة الأولى … إنها تستحق «الكوردون بلو» … هل ذقت فطير الأرز من صنعها؟ وا أسفاه! … كان بي ما يزال أثر المرض، فلم أهجم على هذا اللون إلا هجومًا رفيقًا على الرغم مني. أكرر شكري ﻟ «جرمين» على هذه الوليمة، وعلى تلك الغلالة الحريرية التي أعارتني إياها لأجعلها حول عنقي خوف البرد … «جانو» يقبِّلك وقد قبَّلته عنك.

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

لم أكتب إليك ولا أدري لماذا لم تكتب إليَّ أنت، لعلك كنت تنتظر ردِّي، وردِّي لم أجد له قيمة ولا فائدة لأن كتابك الأخير لم يكن فيه ما يوجِب الرد. أما «جرمين» فهي على ما تروم، وكذلك «جانو»، وقد قابلت «جرمين» منذ ثلاثة أيام، وليس عندي ما أقوله … أما أنت فقد أثبت لي أن مقامك في «ليل»، بعيدًا عمن تحب، قد كشف عن رِقة في مشاعرك لا أعهدك بها خليقًا … أخشى أن أقول إن قدمك كادت تنزلق إلى شاطئ الخيال الذي كنت تسخر منه … لا تهزأ قطُّ بالحب والخيال؛ ها أنت ذا تستطيع أن تحدِّثني اليوم عنهما أكثر مما أستطيع أنا. نعم، لقد كان يخطر لي أحيانًا أن الحب هو العمود الفقري للكون، وأن الله كي يقيم القيامة وينهي الحياة لن يأمر «إسرافيل» بنفخ الصُّور — كما يقولون عندنا — بل سيأمر «الموت» ليهوي بفأسه على «الحب»، وبموت الحب في الأرض ينتهي العالم. تصورت ذلك ليلة، وأنا في فراشي أطالع تاريخ المذاهب الاقتصادية، ولقد تركت أوراقها تسقط من يدي؛ لأغرق في تفكير عميق حول مسألة بعيدة كل البعد عن تاريخ المذاهب الاقتصادية … على أني الآن أنقض هذا الخاطر، ويُخيَّل إليَّ أن الحب في هذا العالم عضو سوف يتمكَّن العلم الحديث من بتره واستئصاله، دون أن تخسر الإنسانية شيئًا كبيرًا … ما رأيك يا أندريه؟ أريد رأيك في هذا، لأن رأيك ذو قيمة كبرى؛ فهو صادر عن منطق طالما أنكر سلطان الخيال! أما أنا فقد أنكرته، أو على الأقل سائر في طريق إنكاره والإيمان بالواقع … الدليل: أني أرغم نفسي الآن على الاستعداد للتقدُّم لامتحان الدكتوراه في القانون؛ إرضاء لأهلي … لا شيء يعوقني عن النجاح غير طبيعتي التي خُلِقت للضياع في الفضاء لا للوقوع في قيود الدكتوراه وحدود المعارف الجامعية. نفسي قد خُلِقت لتقرأ ما تريد وقتما تريد؛ لتحيط علمًا بكل شيء، وتسعى إلى تأمل كل شيء، وتستبقي في الذاكرة ما تشاء وتنسى ما تشاء. أما تتبُّع دراسة منتظمة لجزء معين بالذات من العلوم يستذكر استذكارًا ليستفرغ بعد ذلك استفراغًا بين يدي ممتحنين ومحلفين؟! هنا كل المشكل يا صديقي «أندريه».

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

وصلتني رسالتك، وأعجبت جدًّا بتلك الطريقة المدهشة التي جعلتني أعتقد، ولمدة خمس ثوان فقط، أني أمتلك ثلاثمائة فرنك … ولما يمض الوقت الكافي لشكر الله وشكرك … بل لما يمض الوقت الكافي للتفكير في مصدر هذه النقود … لقد أعطيتني الوقت الكافي؛ لأفرح قليلًا، ثم لم تمهلني، وصدمتني بالواقع وهو أن تلك الثلاثمائة من الفرنكات ليست فقط «غير ملكي» إنما هي «طُعم» لاستجرار مائتين من جيبي! واهًا لك أيها الشيطان! على أني غير حاقد عليك ولا ناقِم، فحظُّك حسن؛ إذ قبل ورود خطابك كانت نفسي مستعدة لتقبُّل مثل هذا الخطاب!

وتفصيل الأمر أني البارحة قابلت «جرمين»، وتحدَّثنا في أمور شتى، فهمت من خلالها أن قسط إيجار مسكنها سيحلُّ في منتصف هذا الشهر، ومع أن هذا الأمر لم يكن موضع اهتمام لديها ولا لديَّ أثناء الحديث، إلا أنه جعلني أفكر بعد مغادرتها في مصدر النقود وفي حالتك، وما يجب فعله إذا أعلنت إفلاسك. ولما كنت أعرف من علم الاقتصاد السياسي أن الضرائب غير المباشرة — عند أصحاب المذهب الزراعي — تقع غالبًا وأخيرًا على رأس المالك العقاري، فقد خطر لي أني أنا في هذه المسألة بمثابة المالك العقاري، بمعنى أن كل إفلاس أو كارثة لا بد أن تقع، ويجب أن تقع على رأسي غالبًا وأخيرًا.

هذا هو سر تقبُّلي رسالتك بصدرٍ رحبٍ، على غير العادة، وقد نفذتها أو سأقوم بتنفيذها بلا تضجر ولا تبرم … فأنا أحب أن تعرف أني لا أثور، ولا أعنف إلا عند عدم اقتناعي بصواب أبواب الإنفاق؛ إسرافًا منك، أو جنونًا، أو اعتمادًا على سهولة الاقتراض! وبعد فإني سأرى «جرمين» مساء الجمعة القادم؛ كي نذهب معًا لمشاهدة رواية جديدة في مسرح الحي، وأرجو منك أن تدع «جرمين» تفهم أن صلتي بها لا تستمد قوتها من صداقتي لك، وإنما هي صداقة أخرى مستقلة، تقوم على احترامي لشخصها وتقديري لذكائها؛ فأنا لا أحب ﻟ «جرمين» أن تفهم أني موفد من قِبَلك لأخرجها للنزهة بين آنٍ وآن، ولا أني أتكلَّف هذا، قضاءً لواجبٍ من الواجبات، على أني قد ضحكت كثيرًا وأنت تخبرني في خطابك أنها لن تنسى ذلك التفاني مني في خدمتها، وأنها لا تشكو إلا أمرًا واحدًا: هو أني لم أحاول قط مغازلتها!

يا لظرف الباريسيات! أو كانت تظن أني — وأنا الشرقي — أجرؤ على ذلك في غيبتك؟ أفهِمها أني سأحاول ذلك مرة في حضرتك؛ لتعلم أني لست ممن يستهين بجمالها، ومع ذلك فهي لا تجهل أي سرور أجنيه، وفائدة لا تقدَّر، أن يتاح لي لقاؤها من حين إلى حين، فإنك لن تتصوَّر مقدار ما يحدثه جلوسي إليها من نتائج فكرية!

إنك تعرف مقدار فائدة المرحوم «إيفان» لي، وفائدة الشاعر البارناسي الهرم! ها أنت ذا ترى كل شيء يُدفَع ثمنه في هذا الوجود، وأن ما تحسبه خدمات أقدمها إليها لا يعدل ما تؤديه هي إليَّ، وما تؤديه أنت أيضًا، من فوائد إلى شخصيتي وهي في سبيل تكوينها. لا تسخر ولا تتهمني بالإسراف في الخيال! كلَّا يا «أندريه»، غدًا تزول الحسابات المادية، ولن يبْقَى لنا غير ذلك الربح المعنوي، الذي اكتسبه أحدنا بمعرفة الآخر!

وختامًا أقول لك: إن أحوالي — التي تريد أن تصغي إلى أنبائها — سوف أحدِّثك عنها فيما بعد … وأما روايتي التي كتبت منها قليلًا، فقد أهملتُ شأنها منذ شهور، وقد انتهى رأيي إلى استحالة المضي فيها وأنا في هذه البيئة الأوروبية العاصفة. هذه البيئة الحديثة — وما يسود فيها من جو «المودرْنزم» — يفسد حُسن فهمي للأشياء، ويحول دون تعرُّفي حقيقة شخصيتي في الفن والأدب!

أنا أحب «المودرْنزم»، وأخشى أن أقول لك: إني أقلِّد أساليبه على الرغم مني … وهذا بالذات ما يخيفني، ويدعوني إلى التريُّث حتى تهدأ عاصفة هذا الفن الحديث، ونعرف إلى أي حد يستطيع أن يثبت إلى جانب الأساليب التي اعترف بها التاريخ. لقد شاهدت في المسارح أخيرًا قصصًا تمثيلية، على طراز النزعة الحديثة؛ مثل قصة au grand large كما شاهدت قصص ما قبل الحرب مثل «الماضي» ﻟ «بورتوريش» و«الجدول» ﻟ «بيير فولف»، واطَّلعت على رأي النقاد في ذلك، أتدري ماذا فضَّل النقاد؟ إنهم فضَّلوا قصص «ما قبل موجة المودِرْنِزم» ورأوها هي الخليقة بالبقاء!

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

لست أدري أمِن سوء حظي أو من حُسنه، أني أعيش الآن في أوروبا، وسط هذا الاضطراب الفكري، الذي لم يسبق له مثيل؛ فهذه الحرب الكبرى قد جاءت في الفنون والآداب بهذه الثورة، التي يسمونها «المودرنزم»؛ فكان لزامًا عليَّ أن أتأثر بها، ولكنني — في الوقت ذاته — شرقي جاء ليرى ثقافة الغرب من أصولها، فأنا موزع الآن، كما ترى، بين «الكلاسيك» و«المودرن». لا أستطيع أن أقول مع الثائرين: فليسقط «القديم»؛ لأن هذا القديم أيضًا جديد عليَّ … فأنا مع أولئك وهؤلاء.

إني أخرج مثلًا من «متحف اللوفر» متحمسًا لأعمال «تسيان» و«دافنشي» و«فلاسكز» و«جويا» و«مملنج» و«فان ديك»؛ لأدخل بعد ذلك توًّا معرض الخريف، أشاهد أحدث لوحات الفن الحديث، بألوانها الصارخة «الفاقعة»، وخطوطها البسيطة العارية.

إن الفكرة المسيطرة على الفن الحديث هي: الفطرة والبساطة، يطلبون في الفطرة النضارة، ويذهبون في البساطة إلى حدِّ التركيز … لقد غالوا في التركيز لدرجة المناداة بفصل عناصر كل فنٍّ عن الآخر فصلًا تامًّا؛ فالتصوير — وهو فن الألوان — يجب أن يستغني عن الموضوع؛ لأن الموضوع من عناصر القصة، والشعر — وهو فن الشعور — يجب أن يستغني عن العقل الواعي «مذهب الدادايزم»، والموسيقى — وهى فن الأصوات — يجب أن تستغني عن الشعور، والنحت — وهو فن الأحجام — يجب أن يستغني عن الأفكار … إلخ.

وهذا قليل جدًّا مما جاءت به نظریات «المودرنزم»، ولا أحب الإسهاب فيها، لأني أكره النظريات في الفن؛ فالفن عندي خُلق إنساني جميل لا أكثر ولا أقل، وقد يكون في «المودرنزم» نفسه — على الرغم من نظرياته — بعض جمال، ولكن ذلك لن يدعوني مطلقًا إلى النداء بسقوط «رفاييل» و«لافونتين» و«بيتهوفن»؛ من أجل ثورة تنادي بها طائفة تحاول — بأي ثمن — الإتيان بجديدٍ! لقد قرأت أخيرًا لكاتبة فرنسية «مودرن»، تقول عن حركة «المودرنزم» ما معناه: إن بعد عشرين قرنًا من حضارة مفعمة بألوان البراعة الذهنية، والحذلقة الفكرية، وحياة الصالونات، والأكاديميات؛ غدت الدنيا مثل غانية عجوز، مفرطة في الزينة والبهرج والأصباغ، بمقدارٍ بعث في الناس عطشًا إلى عصور الفطرة الأولى، بناسها العُراة وإحساسها المجرد، وإن قيمة الفن الحديث، هي في أنه يحاول أن يعيدنا إلى النضارة الفطرية البدائية، وإلى مصادر الإلهام الأولى!

قول هذه الكاتبة صحيح؛ فإن مصادر الفن الحديث — سواء في الروح أو في الأسلوب — مستمدة حقًّا من الفنون الأولى مباشرة!

إن أثر مصر القديمة ظاهر في العمارات الحديثة والنحت الحديث، بل إن الإمعان في طلب الفن الفطري وصل إلى حدِّ استلهام فن الزنوج! إن أثر الفن الزنجي واضح في التصوير الحديث، والموسيقى الحديثة، والرقص الحديث!

سأحدِّثك — في رسالة أخرى — عما سمعت أخيرًا من موسيقى! إني لا أترك الآن أسبوعًا واحدًا، دون أن أذهب إلى قاعة كونسير «بلييل» أو إلى كونسير «كولون» أو «بادلو»، بل إني أحضر حفلتين أحيانًا في يومٍ واحدٍ … لقد حضرت الأسبوع الماضي ثلاث حفلات موسيقية في يومي السبت والأحد. فقد أدَّوا في الأولى: «ذهب الرين» ﻟ «فاجنر»، وفي الثانية: «السانفوني فانتاستيك» ﻟ «برليوز»، وفي الثالثة: «السانفوني» السابعة ﻟ «بيتهوفن». سوف أحدثك أيضًا عن الموسيقى الإسبانية، وقد حضرت فيها حفلتين: إحداهما للموسيقى «هافتلر»؛ كما أني محدثك عن الموسيقى الروسية، بعد أن سمعت المرة الثانية «سادكو» ﻟ «مسكي كرساكوف»

وعلى ذكر «فاجنر» وصداقته المعروفة للفيلسوف «نيتشه» كدت ألمس بنفسي أثر تلك الصلة الفكرية بينهما، وأنا أصغي إلى نغمة «سجفريد» المتكررة! تلك التي يسمونها اﻟ Leitmotiv.

إن استخدام «فاجنر» لنغمة واحدة بالذات، يطلقها رمزًا لكل بطل من أبطال «أوبراته»، ويجعلها تعود كلما عاد البطل إلى الظهور؛ لتذكِّرني بكلمة «نيتشه»: «هناك حادثة متكررة تعود من آنٍ إلى آنٍ في حياة كل إنسان.»

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

أرسل إليك ما كتبته من الرواية منذ شهور، وهو كما ترى فصل وشيء من فصل، اقرأهما وأخبرني برأيك، وثِق كما أخبرتك أنه ليس في عزمي مطلقًا أن أتمَّ هذا العمل رواية كاملة؛ للأسباب التي ذكرتها لك، وأزيد عليها سببًا آخر: إني لا أدري بأي أسلوب بُدئت، وبأي أسلوب تُختَم!

فأسلوبي الآن خاضع لتطورات سريعة مستمرة، ولقد سبق لك أن اطلعت على قطعة «الحلم»، التي أرسلتها إليك، وهي تختلف في أسلوبها عما ستقرأ من هذه الرواية، على أن الذي أرجوه منك هو أن تعيد إليَّ المخطوطة، بعد قراءتها، لأني لا أملك نسخة أخرى.

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

نفذت طلباتك بالتمام، وعلمت أن «جرمين» لم تبطئ عليك في رسائلها عن قصدٍ سيئ! لا تجعل الخيال يضلُّك أنت أيضًا، أيها المتشدِّق بكلمة «الواقع»! آهٍ، الآن فهمت أنك كنت ظالمي بسخريتك من حبي المنحوس وعواطفي وخيالي! لقد انتقم لي القدر!

والآن دعك من تفاصيل الحياة التافهة! حدِّثني بخطرات بعيدة عن التفاصيل … خطرات منبعها تفاصيل، وليس فيها تفاصيل … ما قيمة التفاصيل في هذه الحياة، إن لم تكن لاستخراج قوانين عامة، أو أفكار جميلة؟ يسرُّني كثيرًا أن أراك قد هدأت؛ لنسترجع فيك «أندريه» الواقعي الرزين المازح!

أما نواحي ضعفي التي أشرت إليها فإني أحب أن أعرفها واضحة جلية، وإلا فلست لي بصديقٍ، وأما الموسيقى فقد سمعت في السبت الماضي «السانفوني دومستيك» ﻟ «ريتشارد دستراوس»، و«أغاني الأناضول» لموسيقي تركي هو «جمال راشد» … وقد سررت كثيرًا بهذه الأغاني؛ لأني استطعت أن أتنبَّأ بحالة موسيقانا القومية في مصر والشرق، لو وُضِعت داخل هذا الإطار الفني L’orchestration، ويظهر لي أن «جمال راشد» قصد إلى ذلك، غير أنه — فيما يخيَّل إليَّ — قد أسرف في تقليد الموسيقى الروسية؛ فلم أتمكَّن من تعرُّف ملامح الموسيقى التركية في صميمها، إلا في قطعة واحدة.

ولقد ذهبت أمس «الأحد» إلى «اللوفر» كعادتي، وإنك تعلم لماذا أواظب على الذهاب إلى «اللوفر» كل أحد؛ فهذا هو اليوم المخصص للدخول بالمجان، وإني لأنفق طول يومي هناك، دون أن أحسَّ مرَّ الوقت … بل إني أدركت — منذ أسابيع — خطأ التوزع بين قاعات المتحف في يوم واحد! ذلك شأن المشاهد السريع، أتدري ماذا أصنع الآن يا «أندريه»؟ إني أخصِّص يومًا كاملًا للقاعة الواحدة … فأنا لست سائحًا متعجلًا … إني أبحث أمام كل لوحة عن سر اختيار هذه الألوان دون تلك، وعن مواطن برودتها وحرارتها، وعن رسم أشخاصها وبروز أخلاقهم، واتساق جموعهم وحركتهم وسكونهم. كل لوحة في الحقيقة ليست إلا قصة تمثيلية داخل إطار، لا داخل مسرح، تقوم فيها الألوان مقام الحوار … إني لأكاد أصغي إلى أحاديث الأبطال وهم على الموائد في أفراح «قانا» لوحة «فيرونيز»، وأكاد أسمع ضجيج الحاضرين، وصياح الشاربين ورنين الكئوس، وخرير النبيذ، يفرغونه من دنٍّ إلى دنٍّ!

إن طريقة إبراز كل هذه الحياة بالريشة لقريب من طريقة إبرازها بالقلم! إن أساس العمل واحد فيهما: الملاحظة والإحساس، ثم التعبير بالرسم والتلوين، بل إن الروح أحيانًا ليتشابه. لطالما وقفت عيناي طويلًا على صفحات ناثرٍ أو شاعرٍ، وأنا كالمأخوذ أفحص السطور بيدي؛ لأتبيَّن إن كانت من مِداد أو من أثير!

إن روح الكاتب أو الشاعر لتشفَّ أحيانًا وتخف وتتحرك في الأجواء بلطفٍ كأنها نسيم راقص! هذا الشعور ملأ نفسي وبصري أمام لوحة، مثل «الربيع» ﻟ «بوتيتشيللي» التي يصور فيها رقص «الحسان الثلاث» في غابة البرتقال، و«فينوس» قربهن تتبع بيدها وقع الخطى، و«النسيم» من حولهن يعانق الأزهار … أو مثل لوحة «موريللو» عن «صعود العذراء»، وهي في جمالها الطاهر تخترق السماء، وفي ذيلها القمر، ومن حولها الملائكة!

إن الشعر والرقص والموسيقى ليتناثر أريجها مجتمعة، في جو مثل هذا الفن العظيم!

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

سررتُ لخطابك الضخم، الذي انهلت عليَّ فيه طعنًا وتقطيعًا وتجريحًا! ولا أستطيع كيف أشكر لك عنايتك بتحليل شخصيتي المنكودة. ومع أنك تزعم أن قسوتك كان الدافع إليها الانتقام فهذا عندي لا يغيِّر شيئًا من جوهر الموضوع، ما دامت النتائج التي وصلت إليها صحيحة. نعم إن خيالاتي الكثيرة التي أحيا بينها، تسبِّب لي تارة الآلام — كما تقول — وتارة الأحلام التي لن تتحقق يومًا … هذا صحيح! وأكثر منه يا «أندريه» أن خيالي مع الأسف ليس من نوع الخيال المثمر، الذي خدم الشعراء والكُتَّاب، بل هو من نوع الخيال المهلِك، الذي أضاع في وديانه السحيقة كثيرًا من عاثري الحظ، الذين حسبوا أنفسهم شعراء زمنًا طويلًا، وهم ليسوا بشعراء!

ثم هنالك شيء آخر أخالك لم تلتفت إليه، وهو طبيعتي التي تميل إلى عدم الأخذ بما يأخذ به الناس جميعًا من أوضاع؛ هربًا من الوقوع في الابتذال، وشغفًا جنونيًّا بالتميُّز والأغراب؛ ففي لبسي لا أرتدي كما يرتدي الآخرون، ولا أدخن لأن التدخين عادة عامة، وربما دخنت لو انقطع الناس عن التدخين؛ لا أهدي إلى حبيبتي الأزهار الجميلة، ولا العطور اللطيفة، بل أهدي إليها ببغاء في قفص، ولا أكتب إليها مباشرة عن الحب، بل أتبع طرقًا لن يتبعها عقلاء الناس!

وتسألني بعد ذلك لماذا أحب «المودرنزم»؟ أليس لأنه أقرب الفنون إلى الخروج على المتبع المألوف؟

لقد قالها أحد النقاد الحاقدين على هذا الفن الحديث: «إن أهل هذا الفن يأتون كلَّ سخيف مهجور، بحجة حرية الابتداع والتفنن في الابتكار.»

الواقع أني وجدت في هؤلاء ليس فقط مأواي ومعقلي؛ بل وجدت كل طبيعتي وما تنطوي عليه من حمق وجنون. لقد وجدت على الأقل سندًا وأساسًا لرغبتي المحرِقة في الخروج على ما أسميته «المنطق العام»، وأقصد المنطق المبني على فروضٍ عامة مصطلح عليها غير متنازع في صوابها. كالفرض بأن الغيرة مثلًا دليل الحب، أو أن الخيانة رذيلة؛ فالنتائج المترتبة على هذه الفروض العامة تكون في الغالب هي الأخرى نتائج عامة، ويصح عندئذٍ تسمية كل ذلك بالمنطق العام. أريد أن يكون هنالك منطق خاص يحوي فروضًا خاصة، لا تخضع للمألوف من الآراء والمشاعر، كالفرض بأن الحب لا يحوي غيرة مطلقًا ولا بغضًا مطلقًا!

ومن مثل هذه الفروض تتولَّد نتائج خاصة، ومن خلاصة كل ذلك يقوم ذلك الذي أسميه «المنطق الخاص»! لذلك تجدني أفهم حركة «المودرنزم» على الوجه الآتي:

هي اتجاه إلى عدم التقيُّد بالمنطق العام، والنزوع إلى المنطق الخاص؛ كما كان «الرومانتزم» بالنسبة إلى «الكلاسيسيزم» في بعض مظاهره؛ نزوعًا في التفكير والعواطف من العام إلى الخاص، مع هذا الفارق في نظري بين «الرومانتزم» و«المودرنزم»:

إن الأول لم يحاول هدم الفروض الأساسية المألوفة، أي المنطق العام، في حين أن الثاني ينحو إلى هدم هذه الفروض العامة وإحلال فروض خاصة في مكانها، أي إنشاء منطق خاص، سواء كان هذا التفسير صحيحًا أو غير صحيح؛ فهو كلامي الذي يعكس طبيعتي الآن ورغباتي الحاضرة! إنه عقيدتي الخاصة في هذه الأيام، لا بالنسبة إلى «المودرنزم» بل النسبة إلى نفسي! صدقت يا «أندريه» في قولك! إني أصلح أن أكون رياضيًّا، وإن أفكاري وتصرفاتي تكاد تسير على طريقة هندسية أو حسابية أو جبرية، هذا صحيح! ولا أدري كيف اهتديت إلى ذلك؟ أنا مع الأسف كذلك … وهذا ما سوف يهدم كل عمل مسرحي أو فني أحاول إنشاءه! إن إسقاطي الحياة والعواطف كما هي، وكما يراها ويحسها دهماء الناس، وركوني إلى الطريقة الرياضية في تصريف أفكاري وتأملاتي؛ لمصيبة كبرى … وإليك دليلًا آخر في قطعة «الحلم» التي أرسلتها إليك! إنك ولا شك لم تجد فيها أي صورة تنطبق على الحياة وعواطف الحياة، ولكنك قد وجدتها متمشية مع العقل والمنطق الذي تقتضيه فروض خاصة، أنشأتها أنا في البداية، تلك هي الرياضة: فرض، وعقل، ومنطق.

التصوير الحديث أخرج من حسابه العواطف البشرية، وجعل أساسه الهندسة والمنطق العقلي الواعي وغير الواعي والموسيقى الحديثة أيضًا …

يا للبلاء! إني أحب الفن الحديث وأقلده أحيانًا، وأخشاه وأخشى منه على نفسي!

•••

(حاشية) أكثِر من رسائلك يا «أندريه»؛ فهي متعتي الوحيدة الآن؛ فأنا محبوس في حجرتي أستعد لامتحان الدكتوراه في أول مارس القادم!

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

يجب أن تعلم أني لم أكن حرًّا طليقًا في اختيار الموقف الذي وقفته منك الشهر الماضي. فهنالك عوامل جعلتني أتلقَّى كلامك بكل تحفظٍ، وأضع نصحي على أساس العقل والحزم لا على أساس الخيال، وما هو العقل والحزم عندي في ذلك الوقت؟

تلك نقطة الخلاف بيننا، وربما كان سبب الخطأ اعتقادي أن كل ما بك لا يزيد على مجرد «مرض الغربة» دهمك على أثر وحدتك الفجائية. فخُيِّل إليَّ أن الدواء هو في تشجيعك على الاستمرار في تحمُّل هذه الوحدة، وكان أن ذكرت لك كلمة «إبسن»: «الرجل القوي هو الرجل الوحيد» وتحاشيت أن أثير فيك الذكريات الجميلة، والتحرُّق على السعادة التي خلَّفتها في «باريس» … أجل يا «أندريه»، لقد كنت قاسيًا عليك قسوة الطبيب الذي يمنع الماء عن مريضه الظمآن، بحجة الطب والتطبيب.

مهما يكن المنطق الذي يبرر هذا الجرم فإن ضميري غير مقتنع، وقد لعنت نفسي لما سبَّبته لك من ألمٍ. إنك تعرف أني بطبعي لست ممن يقفون عادة مثل هذه المواقف نحو العواطف! إني أحب الحب، وإنك لتعرف أن للحب مقامًا كبيرًا عندي في الحياة! في كل حياة، وربما كان الحب هو الشيء الوحيد الجميل الذي نعيش به ومن أجله نحن البشر!

آهٍ لو كان القدر أعطاني هذه المنحة لحظة واحدة! وجعلني أجد أحدًا يحبني حقيقة مرة واحدة! أنا الذي اعتقَد طويلًا أن عظماء الرجال هم عظماء العواطف، وأقوياء الرجال هم أقوياء العواطف. إن الذي لا يعرف ولا يستطيع أن يحب إنسانًا لن يعرف ولن يستطيع أن يحب الإنسانية. لقد كان آلهة اليونان يحبُّون ويتألمون، وهم آلهة وهم رمز القوة؛ إن الحب والقوة لا يتعارضان! ولماذا لا نقول إنهما في عين الطريق يسيران؟ ليس عبثًا أن تقوم المسيحية على فكرة حب الله «مريم» وإيجاد «عيسى» ثمرة هذا الحب! إن المعاني التي يمكن استخراجها من هذا الرمز لا حدَّ لها.

لست أنا إذن يا «أندريه» الذي يعيب عليك الإسراف في حب زوجك وولدك!

وبعد … فقد مضت أيام لم أرَ خلالها «جرمين» و«جانو»؛ لأني — كما تعلم — سجين حجرتي أطالع وأدرس، ثم لسببٍ أشد وأمَرَّ: الإفلاس! نعم غطاني بردائه الأسود؛ فلم يبقَ معي غير ثمن شريحة اللحم — على حد قولك — من أردأ نوع!

•••

(حاشية) بعد أن ختمت هذا الخطاب، وصلني الآن بالبريد السريع رسالة من «جرمين»، داخلها ورقتان مالیتان، بمبلغ عشرين فرنكًا (على سبيل الإعانة) كما تقول، وهو كل ما استطاعت أن تنقذني به، وإني أشكرها، وأسأل الله ألا يوقعها فيما أنا فيه.

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

وصلني خطابك ومعه مبلغ الفرنكات الأربعمائة، وإني أشكرك، الآن تستطيع أن تطمئن على هدوئي مدة شهر، على شرط ألا تُسمعني أنت ذكر النقود، حبذا لو نسيت استعمال هذه الكلمة الملعونة بعد الآن في رسائلك إليَّ! أملي كبير في أن تحقِّق رجائي ولا تطلب إليَّ بعد اليوم سنتيمًا، تلك يا «أندريه» هي الطريقة الوحيدة لتصحيح مركزك المالي، ومركزي أنا أيضًا!

أنا كذلك لن أطلب عندئذٍ «سنتيمًا» من دائني، سأعطيه ما أعطيتني اليوم، وأقسِّط الباقي، كما تصنع معي، وبذلك أضمن لك وأضمن لنفسي تصفية نهائية لهذه الكارثة. على أنك قد أدهشتني كل الدهش؛ إذ لا تزال تذكر على سبيل الجِدِّ تلك الحكاية القديمة التي أخبرتك بها.

رصيدي في البنك لذلك المبلغ الصغير الذي ربحته ثمنًا لرواية تمثَّل لي في القاهرة، ألأني واضع همي في أعماق نفسي، لا أجاهر بالشكوى، ولا أتفجع، ولا أتوجع تظن أني نائم على رصيد في بنك؟! أغاب عنك أيها المحترم أني أحببت، وأن حبي كان مما يتغذى بالنقود؛ كما تتغذى النار بالوقود! إنك تذكر جيدًا أن الرصيد قد ذهب في هدايا «النويل» والمطاعم الغالية من «بوكاردي» إلى حان «الأب لويس» والملاهي الفاخرة والمسارح العامرة! أنا أيضًا عليَّ ديون مثلك، وما تسدده لي يدخل في جيوب غيري … حالي مثل حالك … على أنك أنت قد خربت وبقي الحب، أما أنا فقد خربت وضاع الحب!

وبعد؛ فإني الآن جاد في الاستعداد للامتحان في أول مارس، وهي آخر فرصة لي؛ فإذا ضاعت فإني أقطع الأمل نهائيًّا في نوال الدكتوراه؛ ذلك أن البرنامج بعد ذلك يتغير، وبهذا يذهب هباء كلُّ ما قرأت فيما مضى … ثم إني لن أستطيع التقدم مرة أخرى إلا بعد مرور عام على الأقل، بالبرنامج الجديد. فأول مارس كما ترى هو التاريخ الفاصل في أمر مستقبلي الدراسي للقانون، وفشلي فيه سوف يكون صدمة كافية أن تقصيني إلى الأبد عن طريق الحقوق! فهذا الامتحان هو حدث هام في حياتي، ولا أريد أن أتهاون فيه حتى لا تلقي التبعة عليَّ وعلى إرادتي. فأنا أجهد نفسي فوق الطاقة لأضع التبعة على رأس القدر، فإذا أراد هو أن يصدمني ليخرجني من سجن القانون إلى فضاء — إلى أي فضاء — فتلك إذن إرادته هو لا إرادتي!

أرجو أن تعيد إليَّ الرواية بالتالي، فأنا لست أدري ماذا قام برأسي فجعلني أرسل إليك شيئًا مثل هذا لم يتم، وحبذا لو أعدتها قبل أن تقرأها، أما إذا كنت قد قرأتها وقُضِي الأمر، فاكتب إليَّ برأيك فيما قرأت!

•••

(حاشية) فاتني أن أخبرك أني ذهبت منذ يومين لمشاهدة «أندروماك» ﻟ «راسين» في الكوميدي فرانسيز! وقد خطر لي أن أصطحب «جرمين» ولكنني بحثت في جيبي فلم أجد معي غير ثمن مقعد بالمسرح «في أعلى عليين» … وحتى لو كان معي أجر مقعد آخر بجانبي لخجلت أن أدعو إليه «جرمين»؛ إن الارتفاع والعلو موضع فخر في كل شيء إلا في المسارح! آهٍ يا «أندريه» … إن تمثيل التراجيديا عمل ليس بالهيِّن … ذلك أن المطلوب من الممثلين ليس مجرد تفسير النصوص؛ طبقًا للروح الفلسفية والأسطورية التي تنطوي عليها هذه الآثار … ولكن كذلك طبقًا لأوضاع الفن «البلاستيك» كما عرفه الإغريق. إن كل وقفة فوق المسرح من وقفات ممثل «التراجيديا» يجب أن يكون لها جمالها المثالي في فن النحت! كل ممثل أو ممثلة للتراجيديا يجب أن يُنتقى من بين أصحاب الأجسام التي تصلح في ذاتها نماذج فنية للمثَّالين. إن الصلة لوثيقة جدًّا بين فن النحت وفن تمثيل «التراجيديا» كما هي وثيقة بينه وبين فن الموسيقى! إن أصوات ممثِّلي «التراجيديا» لا تُنتقى عفوًا ولا تلقى عفوًا، فليس الإلقاء الطبيعي هو المطلوب في «التراجيديا» كما هو الحال في «الدراما» أو «الكوميديا»، وإنما يجب أن يكون الصوت والحركة في «التراجيديا» — كما هو الحال في «الأوبرا» — خاضعين قبل كل شيء للأوضاع المعروفة في فنون النحت والموسيقى والعمارة والتصوير؛ لذلك كنت مخطئًا في حكمي یوم شاهدت أول مرة في «الكوميدي فرانسيز» ممثلة التراجيديا «سيجون فيبير» والممثل التراجيدي «ألبير لامبير» يلقيان الشعر على نحوٍ اعتبرته أنا خارجًا على الطبيعة … وهل الشعر — بنظمه وقوافيه وأوزانه الموسيقية — إلا من الفنون الخارجة على الطبيعة؟ وما دام هو كذلك فيجب أن يؤدَّى متسقًا، لا مع الطبيعة، ولكن مع غيره من الفنون التي تتصل بها «التراجيديا»!

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

لا شكَّ أني لست كريم الخلق بالفطرة والسليقة … أمس هبط عليَّ الشاعر البارناسي في حالٍ يُرثى لها؛ فلم أمد له يد المعونة كما ينبغي! يجب قبل كل شيء أن تعرف من هو هذا الرجل عندي؟ إنك لم تره غير مرة واحدة معي في قهوة «الدوم»، وقد غاظك منَّا اشتغالنا عنك بمناقشات فنية طويلة عن الفروق الدقيقة بين المدرسة الإيطالية والمدرسة الفلمنكية في التصوير، فتركتنا ساخرًا وأنت تهمس في أذني:

«أين هذا الشيخ المتهدم الذي جاوز الثمانين، من تلك الصبية الحسناء التي تنتظرني في «الروتوند»؟! ولكنك تذكر أن إغراءك في تلك المرة لم يصادف عندي نجاحًا! إن الجلوس إلى ذلك الشيخ المتهدم كان ينسيني مفاتن الدنيا؛ لأنه كان يريني مفاتن الفن. هو الذي فتح بصري على جمال الفن «البلاستيك»: من نحتٍ وعمارة وتصوير؛ كما أزاح لي مسيو «هاب» الستار قبل ذلك عن جمال الآداب القديمة، فقرأ «الإلياذة» وبعض مآسي «سوفوكليس» و«إيروبيد» و«إشيل» و«كوميديات أرستوفان» … ثم ترك حبلي على غاربي، وقد تمكَّن مني داء المعرفة، فتركته وانطلقتُ وحدي ألتهم كل شيء من قديم وحديث، وكما حدث مع والدتك يوم كنت أقطن عندها في «كوربفوا»، وتذوقت أول مرة غناءها للأوبرات، فكنت أنتزعها من المطبخ انتزاعًا؛ لتذهب إلى البيانو «بفوطتها» تغني لي المقطوعات الجميلة في «كارمن» و«فاوست» وأجراس «كورنفيل» إلى أن عرفت طريق دار «الأوبرا» و«الأوبرا كوميك» ثم قاعات الكونسير «كولون» و«جافو» و«بادلو» فلم أعُد إليها بعد ذلك قطُّ.

على أن والدتك وكذلك مسيو «هاب» ليسا في حاجة إلى حسن المعاملة، أما ذلك الشاعر المسكين فله شأن آخر … إنه لا يكاد يجد الآن ما يسد به رمقه. إنه كان شاعرًا معروفًا يوم أخرج مجموعة شعره الكبرى، ولقد أراني نسخة من الطبعة الأولى صدرت منذ نصف قرن، وقصاصات من نقد ذلك العهد تنعته بأنه من أركان «مذهب البارناس»، ولكن الشعر لا يستطيع أن يقيم أوَدَ إنسان إلى ما بعد الثمانين؛ فهو اليوم بائس حقًّا، يعيش في حجرة قذرة «منسارد»، ويأكل مما تجود به معونة أصدقائه، ولعلَّ أكثرهم قد مات الآن … وهو قد فرح بي یوم عرضت عليه أن يقودني إلى المتاحف وآثار الفن، وأن يلازم أحدنا الآخر كلما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، على أن أتكفَّل أثناء ذلك بنفقات غدائه وعشائه وتبغه وشرابه، وهو يستحق أكثر من هذا، ولكن ماليتي كما تعلم محدودة. ومع ذلك فما كنت أتركه بعد كل لقاء، دون أن أدس في يده ورقة مالية صغيرة، وأنا أقول في نفسي: اجعل أنك اشتريت بهذا المبلغ «كتابًا» وما أكثر الكتب التي أبتاعها في كل يوم — كما تعلم — بالمال المخصص لكسوة الشتاء!

على أن هذا الرجل كان لي خيرًا من ألف كتاب؛ إنه كتاب حي متنقل، ما ترك قاعة في متحف اللوفر، أو حديقة فيها تماثيل، أو كاتدرائية أثرية؛ دون أن يذهب بي إليها ويقف بي عليها شارحًا مفسرًا! إني لم أزل أذكر لقاءنا الأول، وقد أحضر معه إلى القهوة «صرة» صغيرة، سألته عنها دهشًا، ففتحها بحرصٍ واعتذارٍ دون أن ينبس … فإذا هي مجموعة أثرية صغيرة، عن العصور الحجرية الأولى، أو ما يسمونه «المجاليت»، وأخذ يوضح لي المظاهر الأولى لفن العمارة في «المنهير» و«الدولمن» … ذلك أنه أراد أن أبدأ في معرفة الفن مع البداية … فأراني تطوُّر النزعة الفنية منذ الإنسان الأول … وقادني إلى متحف التاريخ الطبيعي … ثم إلى دار الكتب … وهناك رأيت لأول مرة تمثال «أفروديت» بغير رأس ولا ذراعين ولا ساقين، ولكن أي جمال؟!

«لا شيء أجمل من جسد المرأة» تلك هي الصيحة التي لفظناها أمام هذا التمثال. لقد قلت لصاحبي الشاعر يومئذٍ: إني قد فهمت المعنى الحقيقي لكتاب «بيير لويس» عن «أفروديت»، إنه ولا شكَّ قد رأى من تمثالها هذا ما رأينا! كيف استطاع ذلك النحَّات الإغريقي أن يستخرج من ثديين وردفين — لأن التمثال ليس أكثر من ذلك — جمالًا ارتفع إلى القدسية؟!

«بيير لويس» أراد ذلك أيضًا بلا جدالٍ، فأشاد بجسد المرأة إشادة لم تُفهَم أحيانًا على الوجه الذي أراد … وهكذا كنَّا نتحادث ونتناقش أمام كل تمثال أو صورة أو أثرٍ فني … ويجرُّنا الحديث من فنٍّ إلى فنٍّ، ومن مقارنة إلى مقارنة؛ فالآداب والفنون والعلوم، وكل مظاهر النشاط الذهني؛ متصل بعضها ببعض إلى حدٍّ قد لا يُصدَّق أول وهلة؛ فالمعرفة سائل في إناء، عناصره كل هذه الأشياء. وأخيرًا جاءت الساعة المحتومة … لقد تفتَّحت عيناي وانتهى الأمر … وعرفت كيف أبصر دون حاجة إلى دليل، وعرفت كيف أقرأ في ذلك الباب؛ فهذا «هيبوليت تين» و«جان ماري جویو» و«جرانت ألن» و«جون رسكن» و«سالمون ریناخ» … إلخ، وعشرات الكتب الفنية المصوَّرة عن أعمال المصورين والنحاتين … وهذا هو «اللوفر» و«اللوكسمبورج» ومتحف «رودان» والمعارض السنوية الدورية، ثم بعد ذلك كله وهو الأهم … هذا هو تفكيري الشخصي قد تكوَّن بعض الشيء، ونظرتي الخاصة بدأت تطالبني بأن أستقل في التأمُّل والتقدير والاستنتاج … جاءت اللحظة التي شعرت فيها بوجوب السَّير بمفردي … وكانت بوادرها ذلك اليوم الذي أدركت فيه أن محادثات ذلك الشاعر لم يعُد فيها جديد يثير اهتمامي أو التفاتي … ولقد شعر المسكين بذلك فكفَّ عن الحديث في الفن، وندرت مقابلاتنا، واقتصر الكلام أثناءها على التافه من أمور الدنيا، إلى أن انقطعت، وانصرف كلٌّ إلى شأنه، فأصبحت لا أراه إلا إذا اشتدت به ضائقة أرغمته على اقتراض بعض النقود مني، ولقد جاءني أمس — كما قلت لك في الصباح المبكر — فاستيقظت ساخطًا متبرمًا، فأبصرته يرتعد من البرد، ويقول لي:

«إذا لم أجد دثارًا ثقيلًا في هذا الشتاء فإني لن أظل حيًّا حتى مطلع الربيع» فلم أرد عليه بكلمة، ولكني أخرجت له ورقة مالية صغيرة وضعتها في كفِّه؛ كأنه شحاذ، فرفع الشيخ قبعته شكرًا وانصرف صامتًا. وعدت إلى فراشي، لأستأنف رقادي، فقد سهرت ليلتي أطالع كالمعتاد، ولكن النوم هرب مني! لقد تنبَّهت لما حدث، وتمثَّل لي سوء فعلي: كيف أصنع معه ذلك! وكيف أتركه يذهب هكذا بقليلٍ من نقود لن تغنيه شيئًا؟ وتذكرت هيئته الذليلة ساعة انصرافه صاغرًا مذعنًا لحكم القدر، أو حكمي أنا على الأصح، وكانت آخر لفظة قالها برغم ذلك هي merci beaucoup خرجت من فمه خافتة مخلصة، لا أثر للمرارة فيها ولا للعتاب … هنا أدركت أني لو كنت حقًّا كريم النفس لألقيت على منكبيه الهزيلين معطفي بغیر تفكيرٍ ولا تدبير ولا تردد!

«باريس»، شارع «بلبور» في …

عزيزي «أندريه»

لقد لفظ القدر كلمته، إنه لا يريد لي طريق القانون، لقد رسبت في ثلاث درجات، ولم تُرِد لجنة المحلفين جبر النقص، بينما وافقت لجنة أخرى على جبر أربع درجات لأحد أعضاء البعثة … من هذا ترى أن القدر لم يُرِد أن يمُدَّ يده كما مدَّها إلى غيري، لماذا؟ إياك أن تفهم أني تهاونت في الدرس! لقد كانت إجابتي مرضية جدًّا في علم تاريخ المبادئ والمذاهب الاقتصادية (آراء «أرسطو» حتى آراء «كارل ماركس»)، وكذلك في علم الاقتصاد السياسي، وكذلك في علم التشريع الصناعي. ولم أهبط إلى حدِّ الرسوب إلا في علم واحد: هو علم «المالية»؛ (ولعل هذا يفسر لك ارتباك ماليتي)؛ إنه علم إجراءات وأرقام لا تستقر في ذاكرتي … آه للذاكرة يا «أندريه»! ما دامت الذاكرة هي المُعوَّل عليها إلى حدٍّ كبيرٍ في الامتحان فلا أمل لي. أما المطالعة في ذاتها فما أيسرها وما ألذها عندي … إني أطالع في اليوم ما لا يقل عادة عن مائة صفحة في مختلف ألوان المعرفة (من أدب وفنون وفلسفة وتاريخ إلى علوم رياضية وروحانية)، مائة صفحة في اليوم أي ثلاثة آلاف صفحة في الشهر! بينما المقرَّر كله لامتحان الدكتوراه لا يتجاوز ثلاثة آلاف صفحة في العام كله. لو تعلم أني قرأت مقرَّر الدكتوراه للقانون وهو عن: «سلطة الكنيسة والدولة» و«نظام العبادات منذ القرن الرابع عشر» و«عصبة الأمم» و«المبادئ البارزة للقانون الدولي» و«أهم اتجاهات قضاء مجلس الدولة» و«الدساتير المكتوبة»، قرأت ذلك كله دون أن أتقدم فيه إلى أي امتحان … قرأته لمجرد القراءة، وما قراءة مقرَّر عندي إلى جانب قراءاتي الأخرى؟!

ألم أخبرك أني تتبَّعت كثيرًا من دروس «السربون» لغير غاية إلا تتبُّع آثار الثقافة التي تعنيني. لقد حضرت كثيرًا من محاضرات الأستاذ «برنشفيج» عن «صلات العلم بالدين في القرن السابع»، ومحاضرات «دلاكروا» عن «الأحوال النفسية للفن»، ودروس «روبين» عن «المذاهب الأخلاقية والسياسية لأفلاطون وأرسطو»، ودروس «فوجير» عن «مصادر فن العمارة الإغريقية»، و«آثار أكربول أثينا»، ومحاضرات «شنيدر» عن «ميكل أنجلو وعصره»، ومحاضرات «برونو» عن «الثورة واللغة»، ومحاضرات «لجويس» عن «تاريخ الشعر الإنجليزي»، إلخ.

لم يمنعني الانقطاع عن الحي اللاتيني من متابعة هذه الدراسات، فقد استحضرت كتبها وانغمست في مطالعتها لنفسي، وسرت على دربها وأنا في حجرتي! إن التحصيل في ذاته للثقافة والتكوين هو لذَّتي الكبرى الآن. إنما الذي يخيفني هو الامتحان. لقد تحقَّق لديَّ اليوم أني لا أصلح بطبعي للتقدم إلى أي امتحان؛ ذلك أن الامتحان يريد مني عكس ما أريد أنا من القراءة. إني أقرأ لأنسى، والامتحان يريد مني أن أقرأ لأتذكر، إني أقرأ لأهضم ما قرأت أي أحلِّل مواد قراءاتي إلى عناصر تنساب في كياني الواعي وغير الواعي. أما الامتحان فيريد مني أن أحتفظ له بهذه المواد صلبة مفروزة! إني أشعر وأنا أقرأ — حتى مقرَّر الدكتوراه في القوانين — أن مواده قد تفكَّكت واختلطت بمواد أخرى لقراءات أخرى، لا علاقة لها بالقانون، كما تختلط في المعدة المواد الغذائية بعضها ببعض. وإذا الناتج من هذه المواد المختلطة هو عصير ثقافي يسري في دمي المعنوي، فأحس كأن وزني الفكري قد ازداد؛ وكأن قدرتي على احتمال التأمُّل المثمِر قد نمت، أما المواد الغذائية في ذاتها فقد هُضِمَت أي نُسيت! الامتحان يريد مني أن أوقف عملية الهضم، حتى يتحقق الممتحِن من وجود المواد صلبة مفروزة داخل المعدة الذهنية!

لا أريد بذلك أن أعيب نظام الامتحان في ذاته، إنما أنا أعيب نظام بنيتي الفكرية … إني سريع الهضم إلى حدِّ قد يُعَد مرضًا في نظر الممتحِن، ومع ذلك لماذا أتقدم لممتحن، ما دمت قد تناولت الغذاء، وأحس حرارة الدم القوي تفور في رأسي، فلماذا أدع الناس يفحصون ما في معدتي؟!

أتراني أدافع عن نفسي، وألتمس الأعذار يا «أندريه»؟! لست أدري … ها أنا ذا تراني غير يائسٍ ولا ساخطٍ، وإني أتقبَّل الصدمة باسمًا؛ لأنها لا تدل على شيء إلا على قرب وقوع الكارثة العظمى: تركي أوروبا والعودة إلى بلادي!

لقد لفظ القدر كلمته، ولا جدوى من الإصرار على معارضة القدر، لكن … أتراها يا «أندريه» إرادة القدر حقًّا أم إرادتي أنا؟ من الإنصاف أن أخبرك بشيء عجيب:

لقد قرأت منذ أسبوعين كتابًا جديدًا لأحد معاوني «فرويد» عن «القدر»، ذكر فيه أننا نحن الذين نصنع أقدارنا بأنفسنا، وأن ما نسميه القدر ليس إلا إرادتنا غير الواعية، ورُبَّ حادث صغير، أو حلم من الأحلام، أو نبوءة من النبوءات، نصدقها فتستقر في أعماقنا، وتعمل سرًّا على دفعنا في سبيل تحقيقها، فلقد حدث لي مثل هذا الحادث: كان ذلك آخر ليلة أستعد فيها للامتحان. لقد سهرت إلى الرابعة صباحًا، تحت مصباح المكتب الصغير، حتى أتممت مراجعتي الأخيرة، فطويت الأوراق والكتب، ونهضت للنوم، كي أستيقظ نشيطًا للامتحان، وكنت منشرحًا متفائلًا مفعمًا بالأمل لامتلاكي ناصية المقرر، وإذا فجأة تصطدم يدي بالمصباح فيقع مكسورًا على أرض الحجرة، تاركًا كل شيء في الظلام … عند ذلك دبَّ التشاؤم في نفسي، وحدَّثتني نفسي بسوء الختام … في هذه اللحظة فقط كان فشلي قد تقرر، كما تقرر مصير «مكبث» ملكًا مجرمًا، في اللحظة التي آمن فيها بنبوءة الساحرات!

سواء كانت تلك إرادة القدر أو إرادتي؛ فقد فشلت يا «أندريه»، فأرْث لي!

•••

(حاشية) لماذا لم تعد إلى الرواية بالتالي؟ إني دهش لإغفالك خبرها! أتراها لم تصل إليك؟

«باريس»، في ٢٤ مايو

«أندريه»

بعد بضع ساعات أكون قد فارقت «باريس» المحبوبة … أسافر هذا المساء بقطار الساعة التاسعة، وغدًا ٢٥ مايو تكون الباخرة «راولبندي» قد أقلعت حاملة جثماني، وإن يسألونك عن الروح قل روحه في قاعة كونسير «بلييل»!

«أندريه»، لست أملك الآن من أمري شيئًا، إلا الابتسام في وجه القدر الظافر … ولعلَّ هدوئي راجع إلى توقُّعي هذه الكارثة، التي تعرف أني طالما ترقَّبت ساعتها بذعرٍ وفزعٍ … لقد وقع الأمر المحتوم؛ فما تريد أو أريد؟ … أملي الباقي معلق عليك … رسائلك يا «أندريه» على الأقل! … رسائلك تحمل إليَّ في صحرائي نسيم أوروبا العظيمة!

أودِّعك يا «أندريه» وداعًا حارًّا، وأودِّع «جرمين» و«جانو»، وقد رأيتهما أمس للمرة الأخيرة … أودعكم وأودع فيكم «باريس» الفن والفكر!

•••

(حاشية) كنت أريد أن أحدِّثك عن موسيقى اليوم «ميلهو – روسل – هونجر – سترافنسكي» بمناسبة حفلات هامة قامت بها فرقٌ أجنبية في باريس في الشهرين الأخيرين: فرقة ألمانية بقيادة «مانجلبرج»، وأخرى نمساوية بقيادة «برونو فالتر»! إن طرْقَ هذه الموضوعات الآن لممَّا يزيدني ألمًا. على أني أحب أن أقول لك: إن سخطي على «سترافنسكي»، یوم نشر نقده المقذع ﻟ «فاجنر» و«بيتهوفن»؛ قد زال بعضه عند سماعي قطعته «تقدیس الربيع» مرة أخرى! إنه على كل حالٍ تعبير قوي لاتجاه جديد في الموسيقى وأغراضها؛ كما يفهمها هذا الروسي الثائر.

نسيت أن أخبرك في رسالتي السابقة أني شاهدت رواية «هاملت» في الشهر الماضي يمثِّلها خير ممثل في إيطاليا حذق هذا الدور، وهو «روجيرو روجيري»، وكنت قد شاهدتها قبل ذلك من تمثيل «مو ييسي» وهو خير من قام بهذا الدور عينه في ألمانيا … إن مجال المقارنة بين الفنيين لممَّا يحتاج إلى رسالة طويلة … ويكفيني أن أقول لك إنه لا يوجد مكان في العالم، ترى فيه الفنون كلها مجتمعة، سوى «باريس»! «باريس» هي «فترينة» العالم! نعم … هي الواجهة البلورية التي تعرض خلفها عبقرية الدنيا … أكرر وداعي لك ولباريس، وأحذِّرك يا «أندريه» من أن تحرمني، وأنا بمصر، هذا الاتصال بألوان الفن!

«الإسكندرية»، في ١٣ يونيو …

عزيزي «أندريه»

أحفظ لك في نفسي جميلًا يضاف إلى سوابقه: رسالتك الطويلة التي بادرت بإطلاقها في إثري، فأدركتني ولما أتم الأسبوع في بلادي! إذا أردت أن تعرف مقدار اغتباطي بهذه الرسالة فاذكر أني ضَمَّختها بعطر فرنسا المأسوف عليها!

أود لو أكتب إليك بأخباري ومشاعري، ولكني أراها لا تساوي شيئًا كلها، أهي شيء غير إطراق طويل وابتسامة حزينة، كلها رأفة ورثاء لكل ما يقع أمامي ها هنا، ويأس قاتل، وتحرُّق دائم، وأيام تجري كالدموع الباردة، وحياة أتمنى ردها لخالقها إن لم يعطني حق استعمالها كما أريد! هل تراني مستطيعًا أن أكون شيئًا غير ذلك الآن؟!

أختم خطابي سريعًا خشية أن يفوت موعد البريد المسافر إلى أوروبا هذا الأسبوع، وإني أترقَّب رسالة منك؛ فأنت الذي يقدر على إمتاعي بالطريف القيِّم، أما أنا فما عندي شيء مفيد أقوله لك!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

ها أنا ذا أسرع في الرد على رسالتك راجيًا أن تصلك خلال شهر الراحة كما تقول، وكل أملي أن يجيئني منك رسالة عاجلة شافية، تربو صفحاتها على العشر! فإن أول ما يعنيني معرفته حين استلام رسائلك هو وزنها وحجمها، غير حافل بما تحويه من كلام، فأنا في حاجة — كما ترى — إلى مجرد ثرثرتك. أما أنت فما أظن بك حاجة إلى أخباري؛ لأنها راكدة كالماء الراكد، ولو بدا تغيُّر قليل في مجراها لبادرت بإخطارك. كل ما عندي هو أني أعيش في جو فكري إن كان في مصر ما يجوز أن يُسمَّى بالجو الفكري؛ لا يستطيع أن يعيش فيه مثلي. وأصدقاء الماضي أصبحوا لا يصلحون اليوم لي، فحديثهم ونكاتهم وطريقة قتلهم للوقت لممَّا يزهِّدني في الجلوس إليهم، وإن شئت وصفًا دقيقًا لحالي فهو يتلخص في كلمة واحدة: الوحدة! الوحدة في أكمل وأقسى معانيها. أمضي اليوم في القراءة، فإذا جاء الغروب خرجت إلى «كازينو سان استفانو»؛ لأسمع القليل من الموسيقى التي يعزفونها هناك، وحتى في هذا المكان الصاخب باللَّاهين أحرص على وحدتي، فأنزوي خلف عمود قرب «الأوركستر»، متحاشيًا نظرات من أعرف؛ حتى لا أكلف نفسي عبء التحية، وهل تتصور أن يكون حالي غير ذلك؟

لا أكتمك يا «أندريه» إن صرخة خرجت من أعماق قلبي، عندما قرأت في رسالتك خبر حريق قاعة كونسير «بلييل»! إن ألمي لهذا الخبر سيتضاعف كلما ذكرت أن هذا الهيكل العظيم هو عندي رمز من رموز الفن في «باريس»! اكتب إليَّ كتابًا مطولًا، إذا كنتَ تعتقد أن أسمى واجباتك نحوي هو التفضُّل على ساكن الصحراء ببعض نفحات أوروبا العاطرة!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

تعبت من كل شيء، ومن كل إنسان، ويئست من أن بلدًا كمصر يصبح في يوم قريب ذا حياة فكرية. لا حياة في مصر لمن يعيش للفكر! لا يشغل عقلي الساعة غير شيء واحد، ولا يلذُّ لي إلا أمر واحد: تحطيم كل شيء هام. وأبدأ بمستقبلي، الذي يلوح لي أنه بدأ يتفتح عن وظيفة في القضاء … حبذا لو استطعت تحطيمه؛ لأهيم على وجهي في بلاد الأرض، لا تحدُّني غاية، ولا يوقفني غرض!

وصلتني اليوم بطاقة البريد المصورة من «ليل»، فغبطتك، إنك الآن في شمال أوروبا … يا للحظ الجميل!

أشعر أني لا أستطيع أن أكتب إليك أكثر من ذلك، وحرصي على ميعاد قيام البريد يدفعني إلى ختم هذه الرسالة عاجلًا … وبذلك تصلك مني كلمة على أي حالٍ … أريد أن أكتب إلى «جرمين»، فأنا شديد الشوق إليها وإلى الصغير الجميل «جانو»!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

الحق أني راضٍ عنك كل الرضا، شاكر لك كل هذه العناية، ولا أكتمك أني ما كنت أصدق — وأنا مغادر باريس — أن اتصالك بي سوف يكون بهذا المقدار! لقد كنت أحسبك ستنصرف عني إلى حالك، فلا تكتب إليَّ إلا بقدر ما يقطع شكِّي في وجودك، أما الآن فقد ثبت لديَّ — أمام رسائلك المتتالية — أنك لا تكتب إليَّ أداءً لواجبٍ … أتراك تحس أن أخبارك وأحوالك لها شأن عندي؟ هي الحقيقة يا «أندريه»! ما من إنسان يتتبَّع الآن أحوالك مثلي! حدِّثني عن نفسك كثيرًا وعما حولك، أريد أن أحدِّثك عن آلامي، ولكني لا أنسى سخريتك ولذعك وهزأك بكل جِدٍّ. هذا القلم في يدك، أتبيَّن دماء «فولتير» تجري فيه أحيانًا؛ فينبِّئني قلبي بأنك لن تكتب إليَّ ردًّا يجعلني أطمئن إليك فلأوثر الصمت، ولا أطلب إليك أنت الكلام. حدِّثني أنت عما عندك في الشاطئ الآخر، آه … الشاطئ الآخر … المائج بأضواء الحياة الفكرية!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

مضى شهران وأنا أنتظر خطابًا منك لا يأتي، وبدأت أعتقد أنه لن يأتي أبدًا … ومع ذلك، ثِق أني لم أصُبَّ عليك اللعنات أو أني فعلت، ولكني أقسمت إني على استعدادٍ لشراء خطاب منك بالنقود! نعم إنه لتمُر بي لحظات أخرج من جيبي ورقة مالية أعلم أنك في أشد الحاجة إليها، وأضعها أمامي ثمنًا لرسالة منك ذات أربع صفحات.

أما بعد، فإن مسألة «أكل العيش» ما زالت عقدة العقد، وأمرها أصعب مما تتصور … ماذا تريدني أن أكون: وكيل نيابة؟ تاجرًا؟ مزارعًا؟ ثِق أني في أي مهنة خلقها الله لن أكون سوى شيء واحد: أنا بطبيعتي ونقصي! ومعنى ذلك أني سوف أكون وكيل نيابة أو تاجرًا أو مزارعًا على طريقتي، وهنا المصيبة والفضيحة! إنك تعلم من غير شكٍّ أن لي منطقًا خاصًّا يشط بي أحيانًا عما اعتاده الناس؛ فإذا أنا في وادٍ والناس في واد ينظرون إليَّ ويقولون: إما أنه أبله وإما أنه فطِن. لا أذكر في حياتي أن الناس حكمت عليَّ غير هذين الحكمين المتناقضين: ففريق — ومنه والدي — يقول إني أبله، وفريق — ومنه والدتي — يقول: إني فطِن، ولم أسمع طول عمري حكمًا وسطًا بين هذا وذاك. على أن هذا كله لا يهمني ولا ينبغي أن يهمك، مستقبلي حتى الآن شيء غامض، بل لعله لم يُكتَب بعد في «اللوح المحفوظ»! أذكر قولك لي مرة في حديقة «اللوكسمبورج»: إن الله لم يخلقني، وإنما هو الشيطان أراد أن يخلق طرازًا جديدًا من الآدميين، أو «موديل» من الإنسان، يضارب به الطراز الشائع المعروف، فجاء خلقه عجيب البناء غريب التركيب، به أثر من عبقرية الشيطان، ولكن به نقصًا ينمُّ عن تخبُّط في شئون الخلق والإبداع. ومع ذلك — حتى على فرض أن الله هو الذي خلقني لا الشيطان — فإنه كان لسوء حظي يضجر ويتبرم كلما جاءه «جبريل» بلوحي المحفوظ؛ ليعين خطوات حیاتي؛ فقد كان يصرخ في وجه الملاك الأمين قائلًا: «اذهب عني الآن!» فيقول جبريل خاشعًا: «ولكن … يا إله السموات والأرض، المدعو «توفيق الحكيم» وُلِد وشبَّ ونما وكاد يدنو من الثلاثين، وهو لم يزل يدب على الأرض ويعيش فيها بالمصادفة … وكلما جئت إليك بلوحه لأجل التعيين …» فيسمع كأن الصوت العلوي يصيح به … «قلت لك: اذهب عني الآن، ولا تشغلني بهذا المخلوق!» هكذا أعيش بغير مصيرٍ، حياتي فيما يُخيَّل إليَّ هي في يد المصادفة، والمصادفة غير قديرة على صنع حياة محبوكة الأطراف … آهٍ … إن حياتي مفكَّكة كالقصة المفكَّكة، أو الهيكل المزعزع الأركان! أنا الذي لا يحب في الفن غير قوة البناء، وما يتبعه من قوة التركيز، وهذا هو سر عنايتي بالحوار التمثيلي في الأدب! نعم ذلك ما أسميه عاطفة اﻟ architecture هذا الإحساس الهندسي الذي من نتائجه: الحساب ووضع الكلام بمقدار، والاعتماد على الخطوط الكبرى التي تحدث التأثير. إني مهندس architecte أدبي، هذا كل شيء، من ذلك الطراز الذي يشيد معبدًا عاريًا: أعمدة ضخمة متناسقة، ولا شيء غير ذلك! ما أشد حاجتي إلى حياة قائمة على أعمدة راسخة؛ كالمعبد الضخم الجميل! إني معبد يتصاعد من جوفه لا بخار الإيمان، بل بخار الشك والقلق! إني أتألم ألمًا لا يراه أحد، إذ لا يظهر على وجهي شيء غير هدوء الرضا … هنالك دودة دائمة الوخز، دائبة النخر في قلب هادئ المظهر رائع المنظر كالكمثرى الذهبية. هنالك قلوب يسكنها الألم كأنه عبادة … حياتي كلها ليست سوى قارب ثمل … لهذا يُخيَّل إليَّ أني صديق «رامبو» الإنسان قبل الشاعر، ولهذا أيضًا كنت صديق «إيفان» الروسي الثائر! أما أنت يا «أندريه»، إن لك قلبًا من غير شك ولكن … ينقصك الألم، إذا انصهر قلبك يومًا انصهارًا كافيًا، وانتشر حوله الدخان؛ فإن هنالك بين ذلك الدخان تستطيع أن ترى الشبح الحقيقي لصديقك الشرقي!

إني الآن أنتظر الشتاء، ولعلَّه يأتي بجديدٍ، ولعلَّ الله في هذه المرة يلتفت إلى وجودي، غير ضجِر ولا متبرِّم، فيعيِّن طريقًا لحياتي … إن الإنتاج الفكري يا «أندريه» ليرتبط إلى حدٍّ ما بطريقة عيش الكاتب، ويتلون أحيانًا بلون حياته اليومية … لذلك تراني أنتظر، على أني في هذه الفترة أتعزى عن نفسي بك وبنشاطك، وأتوجه ببصري إليك في أمل؛ وأتبعك في مطالعاتك الليلة في رغبة ورجاء!

•••

(حاشية) بعد أن ختمت هذا الخطاب تأملت قليلًا في أمر ذلك «اللوح المحفوظ» الذي تسطر فيه مصائرنا، ومما لا شك فيه أن لكل نفس خلقت قصة يجب أن تعيشها على هذه الأرض، ومما لا شك فيه أيضًا أن كل قصة يجب أن تكون جديدة بعض الجدة، وأن تختلف عن غيرها بعض الاختلاف! تصور إذن كم من القصص قد أُلِّف ويجب أن يُؤلَّف لملايين ملايين الملايين من البشر، يُخيَّل إليَّ أن هنالك في السماء ملاكًا فنانًا منقطعًا لتأليف قصص المواليد قبل خروجهم إلى الحياة … هذا الملاك الروائي المخصَّص لهذا العمل العسير، يجب أن يكون واسع الخيال إلى حدٍّ مخيفٍ! والويل له إذا نضب خياله مرة … أخشى مع ذلك أن يكون خياله قد نضب وهو يمسك بالقلم ليسطر قصة حياتي!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

إني آخذ عليك تقصيرك في الكتابة إليَّ، وأوجِّه نظرك — مرة أخرى — إلى أن رسالة تكتبها إليَّ لا تشغلك كثيرًا، ما دمت تجد وقتًا يتسع لمغازلة الحسان، ولو أني — بيني وبين نفسي — أعلم أن هذه المغازلات قديمة التاريخ، ولا أحسبك قد نسيت قهوة «الدوم» والأمريكية ذات العيون التي تشبه في زرقتها ماء بحيرات الجنة! على أني أغتفر لك عن طيب خاطر كلَّ إهمال، إذا كنت مشغول الوقت حقيقة — بعد عمل المصنع المرهق — بالقراءة والمعرفة بما فيها الموسيقى وألوان الفنون جميعًا … ذلك الداء الذي تقول إني رميتك به! … لم يخِب ظني … أنك قد سمعت في هذين الشهرين من الموسيقى خير ما يمكن سماعه؛ فإني أعلم، وقد مكثت في «باريس» شهري مايو ويونيو، من بعض الأعوام … أن ذروة الموسم الموسيقي هي في هذين الشهرين؛ فإن خير الفِرَق تتلاقى في «باريس» في ذلك الوقت قبل تفرُّقها في المصايف … لقد سمعت أنا أيضًا سانفونية «ماهلر» التي تحدثني عنها، و«نشيد الأرض» وهو إحدى روائع صحائفها؛ كما سمعت قطعة «الأفراح» العجيبة ﻟ «سترافنسكي»، وكذلك قصيدته السانفونية «تقديس الربيع»، وفيها هي أيضًا «نشيد للأرض»، ولكنها الأرض الوثنية، لا أرض «ماهلر» التي تتصاعد منها الروح الدينية العميقة، غير أنك أحسن حظًّا مني بسماعك Lotte Schoene المغنية العظيمة وفرق «الكورس» الشهيرة التي وفدت إلى باريس هذا العام … فأنا لا أمل لي هنا في سماع هذا الضرب من الموسيقى، أعني الصوت الآدمي المنفرد أو المجتمِع … فأنا أستطيع على كل حالٍ أن أجد في الموسم الموسيقي ﻟ «كازينو سان ستفانو» — تحت قيادة إيطالي متواضع يُدعى «بوفومي» — كل برامج الموسيقى الآلية تقريبًا، حتى «اندانت» ﻟ «ماهلر» سمعته ببرنامج الأمس، ولكن من المحال أن آمل في سماع requiem أو messe أو على الأقل السانفونية التاسعة ﻟ «بيتهوفن»؛ فمشاهير المغنين والعازفين لا يأتون هنا بالسهولة التي يذهبون بها إلى باريس، لذلك أرسلت إلى ألمانيا في طلب «أسطوانات» لهذا النوع الذي لن أطمع في سماعه هنا، وقد كلَّفني ذلك نقودًا وأي نقود!

وبعد، فأشكر لك حديثك المسهب عن الموسيقى؛ فأنت ولا شك تعلم أن الحديث عنها هو خير ما تطرب له أذناي!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

نعم، إنك ارتفعت حتى قمة الجبل، وقمت بتلك الرحلة الصاعدة الجريئة، وكان من حسن حظي أن أرافقك. وكان من سوء حظي أن ألقي نظري قبلك إلى مهبط السفح، وأن ألفت نظرك الطامح الجنوني إلى هول بُعدنا عن سطح الأرض. وها أنت ذا تعترف أنك بعد تلاوة رسائلي اضطررت إلى النظر فيما أقول، فوجدت نفسك محلقًا حقيقة على ارتفاعٍ مخيفٍ، وأحسست لحظة الدوار. إلى هنا أوافقك، وأوافقك أيضًا على قولك إني أخشى ما تخشاه على رأسك من هذا الدوار، هو عندما تهبط إلى مستوى زملائك في المصنع!

نعم، إني أتوقع لك دوارًا قاسيًا ساعة النزول يتناسب مع ذلك الارتفاع … أما قولك آسفًا إنك بدأت تشعر بالوحدة الروحية تنسج أبرادها حولك، فهو ما لا أوافقك عليه، أوَلست متصلًا بك دائمًا؟ بماذا تفسر كتابتي المستمرة إليك؟ تقول إنه كان ينبغي — في لوح قدرك — أن يأتي فتًى من الشرق ليسبغ بخياله رداء الأحلام على عالم الواقع الذي كنت تعيش فيه!

أنا أيضًا كان ينبغي لي أن أرى جمال الواقع الناصع في جوار عقلك الأوروبي المستقيم! إن هزة التصادم بين الشرق والغرب، هي وحدها التي تفتح الأعين المغلَقة في الشرق والغرب … إن في تلاقينا لمعنى أوسع من كل معنى شخصي أو فردي، إن فيه قوة الرمز، ما من مرة احْتكَّ فيها الشرق بالغرب إلا خرج من احتكاكهما ضوء أنار العالم، وما من مرة تلاقى فيها وجه الشرق بوجه الغرب، ونظر أحدهما في عين الآخر، إلا وأبصر جمال نفسه، كأنه ينظر في مرآة، أليس من العجب يا «أندريه» أنك لم تعجب بكل ما عندكم من آثار الفن والموسيقى إلا بعد أن توطدت بيننا الصلة؟ لن أنسى سخريتك بي وبخيالي وميولي، في أول عهود تلاقينا … لقد جعلت تهدم كل الأسس التي بنيت عليها حياتي … لقد جعلت تجرِّد صديقك الشرقي من كل صفة طيبة، حتى صفة الفنان التي كان المسكين يعتز بها وقتذاك على نحوٍ مضحك، لابسًا لها لبوسها من معطف أسود وقبعة عريضة سوداء! لم تترك له أملًا واحدًا يعيش به، وبعد أن هدمته بلا رحمة، قلت له ذات مرة: «والآن اذهب، وألقِ بنفسك في نهر السين، إذ لا قيمة لمثلك، ولا فائدة تُرجى منه في الحياة!» ألا تذكر؟ ومع ذلك شيء عجيب: لم يؤثر في نفسي كثيرًا هذا الكلام، وابتسمت له ورددت عليه ردًّا لطيفًا أقرُّك به بعض الشيء، ألا تذكر؟ ذلك أني في ذلك الوقت كنت أدرك أنك لم تفهم بعد روح الشرق! ثم شيء آخر: هو أني في ذلك الوقت كنت أقابل المأسوف عليه «إيفان»، ذلك الروسي الذي كان يدعم إيماني بنفسي وبالشرق كلما نالت مني بعض كلماتك!

ولكني عدت بعد ذلك إلى الشرق، عدت إلى مصر يا «أندريه» فأصابني بادئ الأمر ذهول، ذهول عنك وعن كل شيء، كمن وقع من السحاب حقيقة، ثم أخذت أتصفَّح الوجوه والأشياء حولي! يا لها من حقيقة مؤلمة! رأيت نفسي في شبه عالم نائم، لقد شعرت بما قد يشعر به من يهبط سطح القمر الأجرد المعتم … أنت أيضًا نقلت إليَّ داءك يا «أندريه»، فجعلتني أبصر الواقع المؤلم بعين الواقع!

لقد عشت بضعة شهور بغير نفس ولا إدراك، أحاول فهم السخفاء والجهلاء، وأتمنى لو أستطيع أن أسر بعشرتهم، وأن أصغي إلى أحاديثهم! لقد قطعت عهدًا على نفسي عند ذاك ألا أتحدث في غير التافه من الأمور، إلى أن وصلني منك خطاب ذات يوم، تؤنِّبني فيه على هذا الخمول، وهذا الجمود، فكان أثره في نفسي عميقًا … لقد أعاد إليَّ الذكاء والإدراك، وإذا عقلي الذي كاد يخبو بأفيون الشرق يضيء من جديدٍ!

وصحوت لحظة أفكر وأتأمل، وانتهى بي الأمر إلى أن النور يأتيني من الشاطئ الآخر، وأن الأمل معلَّق على شخص مثلك يهزُّ لي المصباح من الجهة الأخرى!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

إني في حاجة إلى حديثك … تكلم في أي شيء أو في لا شيء، أسمعني صوتك، وأشبعني ثرثرة، واملأ لي صفحات … يكفي أن تلقي على الورق خطوطًا فتكون لها قيمة … قيمة نقدية، على الأقل عندي! ولو أني أعلم أنك اليوم لست محتاجًا إلى نقودي، فقد صلح حالك، وصرت ممن يسيرون في الحياة بنظام واطمئنان … نعم إن لمجرد الثرثرة قيمة نقدية أحيانًا، فإني أذكر يوم قرأت de profundis ﻟ «أوسكار وايلد» أني صحت «هذا كاتب له قلم يبول ذهبًا!» أجل، حسب مثله أن يقول للقلم اكتب، دون قِياد من العقل والتفكير؛ كما يرخي الفارس للجواد العنان! إن من الكتَّاب يا «أندريه» من تجد فيه هذه المزِيَّة العجيبة أو الموهبة الفريدة: إنه معفي من انتقاء موضوع أو تخير قضية؛ لأن عنده القدرة أن يجعل من مجرد كلامه المرسل إرسالًا أشياء عالية القيمة؛ ذلك أن روحه وحدها هي كل الفن والأدب، وأن سرَّ قوته في تلك السجية الغنية والفطرة الخصبة … مثل هؤلاء لا ينبغي أن نقول لهم: اكتبوا فيما هو منتِج أو مفيد … إنما ينبغي أن ننتظر فقط كل ما يخرج من مداد أقلامهم، كما ننتظر العسل من النحل دون أن نخبره أن في عمله شفاء للناس. ما زلت تغمز أحيانًا غمزات خفيفة لما أحمله لك من تقدير، فتقول لي في كل لحظة: «ما بالك تحشرني في الأدب وتفسد حياة رجل المصنع؟!»

كلا يا «أندريه» … إن الأدب لا ينافي حياة المصنع؛ لأن الأدب هو الحياة، أو التعبير عن الحياة … إنه الحياة كلها التي تحوي في جوفها المصنع وغير المصنع، ولقد كان «إيفان» — رحمه الله — عاملًا وفيلسوفًا … أنت أيضًا صاحب ذوق وفهم … إياك أن تشك في ذلك! مرة أخرى أقول لك: «استمع إلى قلبك، فالقلب هو أدق آلة في جسدنا تسجل الصدق!»

وبعد … هل قرأت كتاب «جوزيف ديلتي» عن «نابليون» ما رأيك فيه؟

لقد جاء في البرقيات العامة خبرٌ وقع على رأسي كالصاعقة: هو موت «بول سوديه» كبير نقاد عصرنا الحاضر في فرنسا، يا للأسف! لقد كنا ننتظر مقالاته في «الطان»، كما يُنتظَر الحكم النهائي الفاصل فيما يختلف فيه النقد والنقاد!

أختم هذه الرسالة سريعًا؛ لأن موعد البريد قد أزف، وسأحدثك في رسالتي التالية عن «كونسرتو» سمعته في «الكازينو» هو مضحك للغاية، إذ كان فيه عازف «فرتيوز» … سأجتهد في أن أصف لك ما وقع!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

وأخيرًا أعلنوا في البرامج وعلى الحيطان عن عازف «فرتيوز» يوقع أحد كونسيرتات «باجانیني»، فذهبت كالمعتاد، بل بنفسٍ أكثر إنعاشًا وأشد فرحًا، فلقد ظفرنا آخر الأمر ﺑ «كونسرتو» وﺑ «فرتيوز» ووقف المايسترو «بونومي» ونفش شعره بيده قبل أن يومئ إلى فرقته بعصاه، ثم التفت إلى يمين ثم إلى يسار؛ منتظرًا قدوم العازف العظيم. وذكَّرتني هذه الحركة بمثيلاتها، حين كان رئيس «الأوركستر» ينتظر دخول عازف شهیر؛ مثل «تيبو» أو «هوبرمان» أو عازفة مجيدة مثل «إيريكا موريني». لقد دخل على نفسي الوهم والابتهاج، بهذا التباطؤ المقصود، وحسبت أن العازف الداخل قد أبطأت به سيارة «الرولز» لحدوث خلل في الطريق، ولكن التفاتة مني إلى باب «التواليت» هدمت كل هذا الخيال، فقد أبصرت رجلًا ينحشر في «ردنجوت» — من المؤكد أنها ليست له — وعلى صدره رباط رقبة «فاقع» اللون، لا يتفق مع سواد الرداء، وعلى عينيه منظار غليط لا يضعه غير سماسرة القضايا وكلاء المحامين، وهو واقف يمشط شعره على عجلٍ بمشطٍ (من الخشب الخشرنفش) فلما رضي عن «قيافته» التي تكبد فيها ما تكبد ظهر مسرعًا إلى المنصة، وانحنى للجمهور كما ينحني مشاهير العازفين. ثم التفت إلى «بونومي» ونظر إليه من خلف منظاره السميك نظرة من يقول له: «الأمر سائر على ما يرام؟» فردَّ عليه الرئيس بابتسامة، لكن في شيء من التعالي، وحوَّل نظره بالعصا المرفوعة إلى الجوقة، فارتبت في هذه النظرات، واستدرت نحو المنصة، فإذا بي أرى مكان «السوليست» خاليًا، فأدركت الحقيقة؛ هذا العازف الذي أعلنوا عنه ليس سوى العازف الأول للفرقة هيَّئوه وموَّهوه وأدخلوه علينا كأنه عازف «فرتيوز»! على أني مع كل هذا أقول: لا بأس! إن «بونومي» رئيس أوركستر ضرورة، ولكنه على كل حالٍ رئيس أوركستر! حقيقة أنه يؤدي عمله كما يستطيع وتستطيع له مواهبه الخالية من الشعر والرقة والدقة؛ فهو لو أدى قطعة مثل قطعة «السحب» ﻟ «كلود ديبوسي» لأسقط على رءوسنا أحجارًا من السماء … إنه لا يدرك معنى لذلك الذي تسمونه معشر الفرنسيين nuance وكثير من «بيتهوفن» العميق مغلق عليه … ولعل «المارش» واﻟ allegro forte هو كل ما يمكن لمثله أن يؤديه. وحتى هذه ما دامت فيها عواطف — على الأقل عند «بيتهوفن» — فهو يسقط منها العاطفة على الرغم منه، فلا نسمع منها غير الدوي المادي، ولا نلمس إلا الهيكل الخارجي! أين هذا ممن أسمعونا «الغبار الموسيقي» la poussière musicale على حد تعبير «هونجر». وأين هذا ممن فسَّروا «موزار» و«فاجنر» تفسیرات تُعتبَر في ذاتها خلْقًا جديدًا. لقد عرفت طريقة «برونو فالتر» مجدِّد «موزارت»، وكان بودي لو أعرف طريقة «فان هوسلن» مجدِّد «فاجنر»، وهو من يقولون عنه إنه حوَّل اﻟ Grondements souterrains التي تملأ أعمال «فاجنر» إلى موسيقى صافية نقية؛ كأنها موسيقى «موزار» وسواء كان «فاجنر» حقًّا بهذا الصفاء النفسي الذي كان عليه الطفل الإلهي، وهو ما أشك فيه، وسواء كان يريد «فاجنر» ذلك ويوافق عليه لو كان حيًّا، أو لا يريد؛ فإن المحاولة في ذاتها تستحق المشاهدة. لنقول بعدئذٍ: هل نفضِّل «فاجنر» الحقيقي، أو «فاجنر» المدخول عليه؟ إنها على كل حالٍ «بدعة العصر» فيما أرى … ذلك الذي يسمونه «تجديد الشباب» للآثار القديمة، أهو تأثير العلم الحديث وحلمه الدائم بإعادة الشباب إلى الغدد المنهوكة والجسم الهرِم؟ إن آثار الذهن قد بدأت تتأثر بهذه النظريات، وإن كلمة «تجديد الشباب» للمؤلفات القديمة تجدها على لسان الكثيرين اليوم. تذكر عمل الشاعر الفرنسي «كوكتو» في تجديد أعمال شاعر الإغريق «سوفوكليس»! أي خطر على تراث الأقدمين لو تمكَّنت من الناس مثل هذه الأفكار، إلا أن يكون في ذلك العمل حياة للقديم من خلال الإطار الجديد. فهو إذن عملية إنقاذ وبعث وتجميل، وعلى ذكر العلم الحديث وأثره في مسائل الفن والفكر، أخبرك بأمر كتاب عجيب هو كتاب ulysses لجيمس جويس، لقد كان لهذا الكتاب صيت ردَّدت صداه جدران صالونات الأدب بباريس، حتى قبل أن يُترجَم إلى الفرنسية، وقد عُدَّ من قرأه من أدباء الفرنسيين — ونادر من قرأه إذ ذاك — أديبًا ذوَّاقة لا تخفى عليه خافية، شأن كل عمل يتعهد بترويجه وإذاعته من يسمونهم les snobs وهم لا يذيعون إلا كل عمل معجز. والمعجز في هذا الكتاب أنه يبلغ نحو ٩٠٠ صفحة من الورق الكبير والحروف الصغيرة، وكله إملال وإضجار؛ فهم واثقون من أن الكثرة الغالبة سوف تعجز عن مطالعة هذا الكتاب … غير أن هذا ليس معناه خلوَّ الكتاب من القيمة الأدبية … إن التطويل إلى حد الإضجار والإملال قد سبق أن قاسيناه في كتب مثل «الحرب والسلام» ﻟ «تولستوي» وخرجنا مع ذلك فائزين. على أن فكرة «جيمس جويس» في هذه القصة الطويلة التي ترتكز على «المنولوج الداخلي» هي أن يترك بطله يتكلم بكل ما يرد على خاطره، ويخرج كل ما يخالج نفسه. كل فكرة فاضلة أو سافلة، خيرِّة أو شريرة، تافهة أو قيِّمة؛ لا بد أن تسجَّل. فهو يريد أن يقول لنا: إن «السيكولوجية» الصحيحة هي ألا نتخيَّر أشياء، وننبذ أشياء مما يدور في نفوس الأشخاص … إنما يجب أن نثبت كل ما في نفوسهم، حتى مجرد الخواطر الفجائية الطارئة … وهو عمل لا يستقيم معه بالضرورة بناء القصة، ولا يسمح به مجال الصفحات المعقول … لذلك ضرب المؤلف الإنجليزي بالبناء الروائي عرض الحائط، ثم لم يبالِ أن يبلغ عدد صفحاته ما شاء وشاءت له الحماقات التي تمرُّ بخاطر بطله، في ساعة من الساعات، وهي لیست حماقة واحدة وليست حماقتين … ولكنه عدد لا ينتهي، ولا يمكن أن ينتهي … وهل تنتهي السخافات التي تمر في لحظة برأس إنسان؟
قد كنت أظن أن مثل هذا الكتاب يظهر ثم يمرُّ في سلامٍ، ولكن المروع في الأمر هو أن يصبح فيما أرى «بدعة للعصر»؛ فها هو ذا كتاب ﻟ «ألدس هكسلي» Point Counter Point ترى فيه أحد الأشخاص يبدو متبرمًا بمعشوقته، وقد خبت جذوة حبِّه، ويريد لتلك الصلة بينهما حُسن الختام! هذا حسَن، ولكنه يحادث نفسه، فإذا هذه النفس لا تحدثه في الحب وحده، ولا في تبكيت الضمير، ولا في التريث والشفقة، بل ولا حتى في الشعر والفن، بل تحدثه في الفلسفة، وفي الاقتصاد، وفي الاشتراكية، ثم بعد ذلك ترتل أشعارًا ﻟ «شكسبير»!
وإذا استمرت هذه النفس في حديثها على هذا النحو، فإن المؤلف لن يستطيع قطع هذا الحديث قبل ملء جزأين أو ثلاثة أجزاء … إني لست ساخطًا على هذا النوع من التأليف كل السخط، فإني مُدرك لقيمة مثل هؤلاء الروائيين، مستطيع أن أقارنهم بالروس من بعض الوجوه، فإن دقة التحليل والنزول إلى أعماق النفس والإفاضة في تلوين الأشخاص، والإحاطة بكل ما ينبض في قلوبهم من خوالج تكوَّنت أو ما زالت في دور التكوين؛ كل ذلك مشترك بين هؤلاء الإنجليز، وبين الروس العظام مع هذا الفارق: أن ما عند الروس من نزعة صوفية mystique يقابله ما عند الإنجليز من نزعة انتقادية satirique غير أني لا أظن مطلقًا أن نظرة الروس للسيكولوجية الروائية بلغت هذا الحد الذي بلغه الإنجليز اليوم.
إنما هي بدعة تولَّدت بتأثير علم النفس الحديث … إنك قد تجد عند الروس شيئًا من هذا «المنولوج الداخلي»، ولكنهم لم يضعوا فيه إلا كلامًا مختارًا متسقًا مع بناء القصة وجوهر الفكرة. أما أن يُلقى فيه كل شاردة وواردة — كأنه طبق خضراوات منوعة — فهو ما لم يصنعوه … إن «السلطة» الروسية la salade russe من ابتداع الروس حقًّا، ولكنهم لم يدخلوها على مائدة الفن الروائي الروسي!

أرجو منك يا «أندريه» أن ترتاب قليلًا في أحكامي الأدبية والفنية؛ فأنا كما تعلم أحب بطبعي البناء السليم في كل خلق، ولا شيء يرضي غريزتي الفنية مثل الصحة في البناء، سواء كان هذا البناء لهيكل آدمي أو فني … وقوة البناء لا تتمثَّل فنيًّا أبرز تمثيلٍ إلا في فن العمارة، وفي السانفونية الموسيقية، وفي القصة التمثيلية. ولعلَّك مستطيع تعليل إيثاري للقصة التمثيلية، فهي — كما ترى — ألزم وأقرب إلى دقة البناء من القصة المروِيَّة … وقد تستطيع أخيرًا أن تعلِّل حبي لصحة بناء الجسد؛ فنحن لا نحب أحيانًا إلا ما ليس في يدنا.

نعم، إن الفن عندي بنيان جميل … لذلك لا تنتظر مني أن أحب هذه الطريقة الحديثة في «المنولوج الداخلي» … قد أحبها على شريطة أن تخرج قصة كهذه من دائرة الفن لندخلها في دائرة العلم، وأن نطلق على مثل هذه القصة اسم «سجل أو ملف نفسية فلان». إن الفن هو كما قال «هكسلي» نفسه في ذات الرواية: ليس هو الحقيقة وليس هو الواقع؛ بل شيء آخر: إنه الحقيقة مقطرة ومصفاة كيميائيًّا … هذا صحيح! وإذا كان الماء يُصفَّى ويقطر للناس في معمل كيميائي، فإن الحقيقة أيضًا تُصفَّى وتقطر للناس في معمل المؤلف الروائي … وهذا المعمل هو: الفن! نعم؛ إن الفن ليس الطبيعة ولا الحقيقة، إنما هو تقطير الطبيعة والحقيقة من خلال «إمبيق» الفنان!

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تتجه الرواية الحديثة إلى إيراد الحقيقة بواسطة سجل، يرصد فيه ما حدث في الدقيقة والثانية، داخل نفس فلان، كما تسجل الأرصاد الجوية؟ إني على كل حالٍ لست نادمًا على قراءتي هذه القصة!

فلقد جعلتني أستكشف في نفسي القدرة على المطالعة في الإنجليزية مباشرة … نعم إن تركي هذه اللغة أعوامًا طوالًا، لم يؤثر إلا في قدرتي على المحادثة بها. لماذا إذن أنتظر ترجمة مؤلفات «برنارد شو» إلى الفرنسية، وأنا مستطيع فهمه في لغته الأصلية، إنه الكسل، ولا شيء غير ذلك … إني كسلان بالطبع … ولكني الآن أقرأ بالفعل «برنارد شو» في الإنجليزية، وأتذوق سخريته ولذعه وفكاهته، وأستعذب أسلوبه السهل السلس ذا الروح والرائحة.

على ذكر الأدب الإنجليزي أحب أن أقول لك أمرًا لفت نظري منذ غرقت في دراسة هذا الأدب … إنه أدب مغامرات، ولا يجب أن يُطلَق عليه غير هذا الوصف: مغامرات بأوسع معانيها وأجملها وأشرفها، فأعمال «ولتر رالي» و«سكوت» و«دانیال دفو» «روبنسون كروسو» و«روبرت لويس ستيفنسون» «جزيرة الكنز» هي مغامرات بحرية … وأعمال «ديكنز» و«جالسورثي» هي مغامرات اجتماعية … وأعمال «شكسبير» و«بیرون» مغامرات نفسية إنسانية، وأعمال «ماكولي» و«كارليل» مغامرات تاريخية، وأعمال «ويلز» في قصصه العلمي و«برنارد شو» خصوصًا في Back to Methuselah ليست سوى مغامرات ذهنية. إن الأدب الإنجليزي مهما تشرحه تجد روحه وجوهره في كلمة «المغامرة». لعلَّ هذه الجزيرة المنعزلة قد طبعت نفوس أهلها بهذا الطابع الغريب: حب السفر عبر البحار بحثًا عن المجهول: بحار الأرض أو بحار المجتمع، أو بحار الماضي، أو بحار النفس، أو بحار العقل.
هذا لا تجده في الأدب الفرنسي مثلًا، إنه أدب الشكل La forme في جماله الساحر، أدب المحادثات اللبقة النبيلة، أدب التفكير الرائق الهادئ، أدب التعبير الرائع، والمنطق البارع، هو أدب الوطن الفرنسي، والصالون الفرنسي، والنصيحة الفرنسية، القائلة: إن باريس هي عاصمة الكون ولا شيء وراء باريس … بالاختصار هو أدب الاستقرار، لا أدب الضرب في البحار!

وبعد … تقول لي إنك سرت في جنازة المأسوف عليه «بول سوديه»؛ وإنك مررت مع الجمع حول التابوت، وتناولت قمقمًا فضيًّا حرَّكته في الهواء بعلامة الصليب، ونضحت به الجثمان، ثم سلَّمته لمن خلفك في الصفِّ … ثم تقول إنك كدت تضحك … فتسخط عليك الناس؛ لأنك تذكَّرتني فجأة وأنا في مثل هذا الموقف يوم تشييعي جنازة زوج بنت مدام شارل، وما وقع لي بالتمام من أشياء، تثير الابتسام.

آه … لا تذكِّرني يا «أندريه» … لقد كان حقًّا يومًا محرجًا … لكنه انتهى بسلامٍ!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

اليوم الخميس، ولم تصلنا رسالة الخميس، وقد عوَّدتنا ذلك ووعدتنا به، هلا رأيت «بول سوديه» ومواظبته على إرسال مقالات الأربعاء، لجريدة «الوقت» عشرات الأعوام بانتظامٍ، لم ينقطع في خلالها إلا لموتَيْن: موت زوجته، وموته هو! وهل تظن أنك أقل من «بول سوديه» في «وقتي» أنا؟ على أني أسأل لك عمرًا أطول من عمره، وأعطيك أجرًا أكثر من الأجر الذي كانت تعطيه إياه جريدة «الطان» لو كنت تقدِّر قيمة الود! تستطيع أن تقول: إني أعيش طول الأسبوع على رسالتك، فإذا كنت تريد أن تحرمني غذائي الأسبوعي فأنت وشأنك.

وبعد … فلنتحدث في أي شيء: قرأت مقال «فرنان فندریم» في «بول سوديه» وهو خصمه المعروف في المناضلات الأدبية، أي جبن وأي نذالة؟ مقال لو أنه كتبه وتجرَّأ على نشره في حياة الناقد العظيم لما استطاع الإقامة بعدها في فرنسا يومًا واحدًا … ولكنه الآن يقول ما يريد؛ لأن الميت لا يستطيع جوابًا … لقد جرَّد «سوديه» من كل حسنة، وألصق به من النقص ما يخرجه عن وظيفة ناقد. ولكن أعجب ما جاء في مقاله «بول سوديه» قوله: إن الجانب الفني la technique في الأعمال الأدبية كان يفلت منه دائمًا؛ لأنه لم يمارس بنفسه التأليف من حيث هو خلْق فني! فما قول «فاندريم» هذا في فلاسفة الألمان؛ ممن نقدوا الفن من «عمانويل كانت» إلى «فردريك نيتشه»، وما قوله فيles esthéticiens الذين شرحوا لنا ونقدوا فن «فیدیاس» و«بوليكليت» و«براكسيتيل» وهم لم يصنعوا قط تمثالًا من الطين أو العجين؟ وما قوله في «جول لمتر» و«سارسي» و«تین» وقد قضوا حياتهم ينقدون فنونًا لم يمارسوها قط بأنفسهم، حتى العرب ونقاد الشعر العربي في آدابنا؛ مثل «الأصمعي» و«حمَّاد عجْرَد» لم يمارسوا هذا الفن مع روايتهم لكل ما قيل فيه. وإني لأذكر قول أحد نقاد العرب هؤلاء، وقد سألوه (كما سأل فاندريم بول سوديه): لماذا لا يقرض الشعر؟ فأجاب: أنا كالمسن يشحذ ولا يقطع، ولكن «فاندريم» يريد أن يقطع أوصال جثة خصمه وكفى!

إني لم أزل أطالع رسالتك الماضية في إعجاب؛ إن فيها أشياء أقرؤها ببطء، فتؤثر في نفسي تأثيرًا شديدًا؛ ذلك أنها تجعلني أتصور أني ما زلت أقيم في حجرتي بشارع «بلبور» وا أسفاه! يُخيَّل إليَّ أني نسيت رقم الحجرة في الطابق الخامس، أظنها كانت رقم ٤٨، لأنها «هي» كانت تقطن الحجرة رقم ٣٨ … إني إن نسيت رقم حجرتي فلن أنسى مطلقًا رقم حجرتها … أما الببغاء … آه يا «أندريه»! تُرى أين هو الآن؟ أوَ لم يزل يحمل اسمي كما كان؟ فيظل بذلك اسمي يُردَّد صداه في «باريس»، على الأقل حتى يموت الببغاء! إني أعرف أن هذا الطائر طويل العمر! نحن — معشر المصريين — نفكر دائمًا في تخليد أسمائنا، ولقد اتخذ جدي الأهرام لهذا الغرض، ولكني أنا اكتفيت باتخاذ ببغاء … على قدر مالي واستطاعتي، ألا ترى أني مصري بالدم والوراثة؟

أندريه … اُكتُب إليَّ كثيرًا … ذكِّرني بحجرتي في شارع «بلبور»، تُرى من يقطنها الآن؟ أحد العمال ولا شك أو إحدى العاملات؛ فهذا حي عمال وعاملات … ومن يدري؟ … فقد يكون من سكانها اليوم محبَّان عاشقان … أو زوجان سعيدان، أما أنا مع الأسف فلم أعرف في هذه الحجرة غير حياة شبه زوجية فاترة مع «ساشا شوارتز»، وحياة حبٍّ مع «إيما دوران»، لم يدم هناؤه طويلًا!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

تسألني من هي «ساشا شوارتز»؟ عجبًا! ألا تذكرها؟ أوَلم أقص عليك قصتها من قبل؟ أهان أمرها عليَّ بهذا القدر؟ أم أني لا أحب أن أذكر دائمًا غير القصص الذي لم يتم ولا يمكن أن يتم؟!

حدث ذلك يا سيدي في مساء يوم جميل جلست فيه مع «مسیو هاب» إلى مائدة مشرب صغير bistrot في «مونمارتر»، وكنا نتحدث في أمر حوار صغير كنت قد كتبته، ودفعت به إليه ليرى رأيه فيه، فرآه خفيف الروح قوي التركيب سلسًا سائغًا، يستلب لُبَّ القارئ استلابًا … وقال لي: «إني أراك قد اعتصرت «مولییر» و«بومارشيه» و«ماريفو» اعتصارًا!» ففرحت بقوله هذا كثيرًا، وطلبت كأسًا أخرى من «البرنو» … وما كدت أتناول منها جرعة حتى دخلت المشرب غادة ذات جسم، ذكَّرني بتمثال «أفروديت»، وكان في صحبتها شاب برنزي اللون جميل الطلعة كأنه «أبولُّون» … ولست أدري أسكرت من «البرنو»، أم من إطراء صاحبي، أم من روعة هذه الغادة؟ كل ما أذكر أني تمايلت على «مسيو هاب» صائحًا «نادِ الجرسون واطلب سكينًا!» فقال دهشًا «سكينًا؟! تصنع به ماذا!» فقلت: «أقتل نفسي عند أقدام هذه المرأة حبًّا وجنونًا وغرامًا!» فالتفت «هاب» إلى المرأة ثم إلى صاحبها، وقال لي: «صدقت، ولكنها كما ترى ذات رفيق وأي رفيق … لا أمل لك أيها الصديق … إذا أصررت على السكين فإني أنادي لك الجرسون!» ولبثنا ساعة ننظر إليها ونتحسَّر! ثم نهضنا وانصرفنا كلٌّ إلى شأنه، ومضت أيام قلائل وإذا مسیو «هاب» في إثري يبحث عني في مظانِّي، حتى عثر بي فبادرني صائحًا: أين أنت؟ أين أنت؟ أيها الرجل السعيد! افرح بسرعة فإن عندي لك خبرًا سارًّا … إنها لك منذ اليوم خالصة مخلصة! فلم أفهم مراده بادئ الأمر، وقلت له: عمن تتكلم؟ فقال: عنها هي … عن تلك المرأة، فقلت: أي امرأة؟ فضاق صدره بي: عجبًا لك! أي امرأة؟! المرأة التي رأيتَها في المشرب منذ أيام! فتذكرت كل شيء وصحت: حقًّا! حقًّا … أخبرني ما خبرها! فقال: «يا للحظ عندما يواتي الإنسان! لقد كنت بهذا المشرب البارحة، وإذا بي ألمح امرأة جالسة إلى مائدة بجواري أمامها «بوك» من البيرة لم تمسه شفتاها، وقد أخفت وجهها في منديلها، وطفقت تبكي بكاء مرًّا … فعجبت لأمرها، ولبثت أرْقُبها حتى تبيَّنت آخر الأمر أنها صاحبتنا «أفروديت» فتحينت منها الفرصة وحادثتها، ولم أزل بها حتى اطمأنت إليَّ، وكشفت لي عن بلائها: صاحبها البرنزي اللون وهو إسباني يُدعى «جارسيا»؛ قد هرب إلى بلاده، وهجرها بلا مأوى ولا نقود ولا معين … وهي أجنبية هي الأخرى — ألمانية أو روسية، لست أدري على التحقيق — اسمها «ساشا شوارتز» وهي تجيد الفرنسية، وقد كانت تعمل «سكرتيرة» في إحدى وكالات السفر، فالتقت بهذا الشاب الإسباني فاستلب لُبَّها وأخرجها من عملها، وختم قصته معها على هذا النحو. وليس من اليسير أن تجد سريعًا عملًا يقيها شر الجوع، فهي لا ترى في رأسها غير أفق حالك، تبدو منه فكرة الانتحار؛ كأنها شمس سوداء! فبادرتها صائحًا مرتاعًا: «تموتين؟ أنت؟ مهلًا یا سيدتي مهلًا؟ تموتين وعندي شخص يموت فيك حبًّا وهيامًا وغرامًا!» فنظرت إليَّ بعينين كلهما دهش واستفهام، فأخبرتها بخبرك وضربت لها موعدًا مساء اليوم بذلك المشرب لأقدمك إليها، كل أمل هذه المرأة الآن هو أن تجد لها مأوى ومُعينًا، ولا شك عندي في أنك مستطيع أن تحقق لها هذا الأمل.» تصور ذهولي يا «أندريه» وأنا أسمع من مسيو «هاب» كل هذا … لقد حسبته يمزح، ولكن الموعد حانت ساعته، فلم أرَ فائدة في اللجاج، فجلست معه أنتظر، وإذا بالفعل … أبصر لدهشتي «أفروديت» تدخل علينا في حالٍ كسيرة، وقد أفسدت الدموع أهدابها، وأنساها الحزن الالتفات إلى هندامها، فنهض «هاب» لاستقبالها؛ ونهضت أنا أيضًا كالخجِل المأخوذ، وحيَّاها صاحبي ألطف تحية، وقال لها باسمًا وهو يقدمني إليها: «كنت تریدین الانتحار یا آنستي، فها هو ذا شيء أهون قليلًا من الانتحار» فنظرت إليَّ الفتاة بابتسامة وديعة، فيها أثر الحزن وفيها أيضًا الاستسلام؛ وكأن كل شيء فيها ينطق: «ليس الآن أوان الفحص والفرز والاختيار»، وتركنا «هاب»، وقد رأى أن مهمَّته قد انتهت، فلبثنا وحدنا لحظة صامتين، لا أدري ماذا أقول … إلى أن سألتها آخر الأمر عن أمتعتها، فقالت لي إنها مودعة عند صديقة لها متزوجة، أضافتها الليالي السابقة … ولم يعد من اللائق أن تفرض ضيافتها على أسرة أكثر من ذلك، وكانت تلك الأسرة تقطن ضواحي «باريس» والوقت ليلًا، فرأينا أن نرجئ طلب الأمتعة إلى الصباح، وذهبتُ بالغادة الحزينة إلى أحد المطاعم فتعشينا، وأنا أحاول إضحاكها والتسرية عنها، ثم قُدْتها إلى مسرح تُعرَض فيه رواية «فودفيل» مفرحة، فانتعشت قليلًا، وضحكت مع الضاحكين، وخرجنا وقد أنست إليَّ بعض الشيء، وبدأت تتوطد بيننا الألفة … وذهبت بها إلى حجرتي بشارع «بلبور» فسُرَّت كثيرًا بالمطبخ الصغير الملحق بالحجرة، وما فيه من أدوات لشي اللحم وجهاز لموقد يُشعَل بالغاز، وسألتني أن أعيرها تلك الليلة «بيجاما» مما أرتديها للنوم، ففعلت، وتشاغلت بالنظر في كتبي المكدسة فوق المكتب، ولك أن تصدق أيها الخبيث «أندريه» أو لا تصدق، فوالله لم أحاول اختلاس النظر إليها وهي تخلع ثيابها، ولا أذكر أين فعلت ذلك … هل خلف خزانة الثياب أو في المطبخ، وكل ما أذكر أنها طلعت عليَّ فجأة وهي مرتدية «البيجاما» ويكاد نهداها البارزان يفتقان الرداء، فوقع الكتاب من يدي، فابتسمت. ابتسمت «أفروديت»، وكانت ليلة لا تُنسى … وبزغ الصبح، وفتحت عيني وقد راحت السكرة، وجاءت الفكرة … ونظرتُ إلى تلك المرأة النائمة في فراشي، وقلت لنفسي: ماذا أنا صانع بها … اليوم الأحد، وهو يوم زيارتي المعتادة لمتحف اللوفر … هل أصحبها؟ إنها لن تطيق المكث في هذا المتحف ست أو سبع ساعات كما أفعل، وإذا احتملت فإنها لن تستطيع الوقوف ساعة أمام الصورة الواحدة كما أصنع، وإذا فعلت فإنها لن تسكت عن بعض التعليقات السخيفة التي تبدِّد جو تأملاتي، وتفسد عليَّ نظام تفكيري … ثم إنها ستغيِّر برنامج حياتي! إني الآن آكل وأعمل وقتما أريد وحيثما أريد، إن حياتي غير المقيَّدة بمكان ولا بزمان ولا بإنسان ستصبح منذ اليوم داخل إطار محدود من صنع هذه المرأة، إنها عبء وتبعة، إني لم أُخلَق لأسير في الحياة وامرأة معلَّقة بذراعي! ونهضت من فراشي على عجَلٍ وارتديت ثیابي، وكتبت كلمة تركتها لها فوق المكتب خلاصتها: «إني رجل بوهيمي، لا يصلح لرعايتك، والسهر على راحتك؛ فأرجو أن تحليني من تبعة إسعادك! فإني لست لهذه النعمة بأهل» … وألقيت عليها نظرة أخيرة، وهي في نومها العميق المطمئن … وانصرفت … ذهبت توًّا إلى مسيو «هاب»، وأخبرته بما حدث فكاد يُصعق، فهدَّأت من روعه وضاحكته قائلًا: «لا تنس أني رجل شرقي متوحش! المرأة عندي يجب أن تُحبس في «الحريم» أو على الأقل لا يكون لها دخل كبير في حياتي. إذا أرادت «ساشا» أن تتخذ من مسكني مأوى لها، فلا مانع لديَّ … على شرط أن تتركني حرًّا … فلا تخرج معي، ولا تشعرني بأن لها في حياتي وجودًا!»
ففهم «هاب» مرادي وقال: لا بأس! أظنها ترضى بهذا الشرط … ولكن نفقات طعامها؟ فقلت له: في مقدوري أن أعطيها كل يوم ثمانية فرنكات أو تسعة١ فقال «هاب»: لغدائها وعشائها معًا! قلت: نعم. فقال: اجعلها عشرة فرنكات … فقبلت وتعهَّد هو بأن يلقاها في ذلك اليوم؛ ليعرض عليها هذا الوضع الجديد، وانصرفت أنا إلى «متحف اللوفر» فغرقت طول يومي في قاعة الفن الإغريقي متنقلًا بين تماثيل «بالاس» و«أبولون» و«فينوس» في أوضاعها المختلفة … آه يا «أندريه» … إن فن الإغريق هو تجميل الطبيعة إلى حدِّ إشعارها بنقصها … لكأنهم يريدون أن يقولوا للطبيعة: انظري … كان ينبغي أن تُصنَعي هكذا!

ومضى أكثر النهار، فدلفت إلى قاعة الفن المصري القديم، ولا يفصل بينها وبين قاعة الإغريق — كما تعلم — غير باب صغير، وما كدت أتخطى العتبة حتى شعرت بفرق عجيب … إنه عالم آخر … إن فن مصر القديمة هو تحدٍّ صارخ للطبيعة؛ لكأنهم يقولون للطبيعة: «انظري … لا شأن لنا بك … ولا بمخلوقاتك … إننا نستطيع من مخيلتنا ومن تفكيرنا أن نخرج مخلوقات أخرى غريبة عجيبة لم تخطر لك على بالٍ» على أن الذي استلفت نظري في هذا الفن، هو أن أسلوبه قد أوحى إلى أسلوب الفن الحديث في العصر الحاضر إلى حدٍّ كبير … وخرجت من «اللوفر» وأنا أقلب في رأسي الملاحظات والمقارنات … وذهبت إلى مطعم صغير أتناول عشائي … ثم عدت إلى مسكني فوجدت المسكينة «ساشا» قد غادرته تاركة لي هذه الكلمة فوق المكتب:

«سيدي! إنك لا تريدني، وهذا هو كل ما في الأمر، لربما خيَّبتُ ظنك، ولكني أبحث عبثًا، وأستعرض في ذاكرتي كل ما حدث أمس … في المساء والليل علَّني أجد اللحظة التي أكون فيها قد خيَّبتُ ظنك فيها، وليس في مقدوري سؤالك أو الاستفسار منك؛ فلقد ذهبتَ تاركًا لي تلك الكلمة التي تدعوني فيها — على نحوٍ ظاهرٍ — إلى الرحيل! إذن … فلم يبق لي إلا أن أسير في طريقي … أود على كل حالٍ لو حدَّثتك مرة أخرى! فإذا لم ترَ بأسًا في ذلك فإني أرجو منك أن تبعث إليَّ كلمة بعنوان صديقتي المسطور في أعلى خطابي.»

في الحق يا «أندريه» أني تألمت وندمت؛ لقد كان تصرفي خاليًا من الرفق والرحمة، ولبثت أفكر وأنا أُجيل النظر في حجرتي الخالية … إن وجود هذه المرأة ها هنا ليس عبئًا بالقدر الذي تصورته … إنها كانت تملأ المكان على كل حالٍ بعطرها النسائي، فتُغيِّر قليلًا من هذا الجو المغبَّر بتراب الكتب … ما أجملها عندما كانت مرتدية ثوب النوم الذي أعرْتها إياه البارحة! ليتها تعود، ما أوحش الليل بدون امرأة! وقضيت ليلة مضطربة، وفي اليوم التالي ذهبت إليها في مسكن صديقتها … وحملتها هي وأمتعتها في سيارة، وعدت بها إلى حجرتي بشارع «بلبور»، وأخبرتني في الطريق أنها التقت بمسيو «هاب» في اليوم السابق، وأنه أخبرها بالشرط والنظام الجديد، فعاهدته على القيام بتنفيذه على أدق وجه. وهكذا استقر بنا الحال أيامًا: وكان لحجرتي مفتاحان استبقيتُ واحدًا وأعطيتها الآخر؛ فإذا كان الصباح تركت لها فوق مكتبي الفرنكات العشرة، ثم انطلقت حرًّا طول يومي، فلا أرى لها وجهًا إلا ليلًا … هنالك أحيان يحلو لي أن ألزم حجرتي؛ لأكتب الساعات الطوال … فما كانت تنبس بحرفٍ، بل كانت تقرأ، تقرأ كلَّ ما يقع تحت يدها من كتبي المكدسة. لقد عجبت أول الأمر لكثرة مطالعتها ولإجادتها لغات عدة … إلى أن قصَّت عليَّ نشأتها … وعلمت أنها ابنة مدير إحدى شركات السكك الحديدية في ألمانيا … فلما انهارت الشركة بعد الحرب بانهيار «المارك» والنظام الاقتصادي الألماني؛ انهارت أسرتها أيضًا: فمات أبوها، وتشرد إخوتها وأخواتها في أرجاء أوروبا! ونزحت هي إلى «فرنسا» حيث وجدت ذلك العمل الذي شغلته في وكالة السفر، حتى فقدته هو الآخر جريًا وراء قلبها! إنها بوهيمية هي الأخرى من الطراز الأول! على أنها لم تفهمني أيضًا؛ كما كان ينبغي، فإنه لم يمض على نظامنا هذا عشرة أيام، حتى نسيت مراميه وأغراضه، وإذا هي تترك لي فوق مكتبي هذه الكلمة:

«عزيزي! إنك تتغيَّب طويلًا، لكأنك تتعمَّد الهرب من حجرتك ومن وجودي، على الرغم من الجهد الذي أبذله حتى لا أضايقك أو أُثقل عليك! وحدتك هذه تكاد تشعرني بأنها مظهر استياء مني … وإني لأبحث عبثًا عن السبب. يا صديقي العزيز … إني لأرجوك من كل قلبي أن تخبرني عما لا يعجبك مني … قلها بصراحة … فربما كان في الإمكان رتق رباط الثقة والاطمئنان الذي يصل أحدنا بالآخر … هذه الثقة، وهذا الاطمئنان الذي تخلو منه نفسي في هذه اللحظة؛ ربما كنت مخطئة في هذه التقديرات! ربما كنت مسرفة في الوهم، فأخذت شغلك بعملك على أنه شغل عني! مهما يكن من أمر فطمئني بكلمة! إني حزينة جدًّا … إني خارجة أستنشق بعض الهواء، وأرفِّه عن نفسي قليلًا … ولكني أرجو أن تكون على ثقة من أن إخلاصي هو لك وباقٍ لديك!»

الواقع يا «أندريه» أني عجبت لهذا الخطاب … إن الإخلاص أو الحب، أو أي عاطفة من هذا النوع لم تكن داخلة ضمن الشرط بأي حالٍ! وإني لأعلم أن «ساشا» لم تحبني على الإطلاق! حقيقة هي لم تذكر لي شيئًا عن صاحبها الإسباني منذ مجيئها، ولكن ليس معنى ذلك أنها نسيته! لقد كانت تقرأ ذات ليلة في الفراش كعادتها قبل النوم، وكنت أنا أكتب على مكتبي أو أطالع؛ وإذا بي أسمع صوت عبرات مكتومة، فرفعت عيني فوجدتها تحاول إخفاء بكائها، فسألتها عما بها، فكانت صريحة وقالت: إن يدها وقعت تلك الليلة على «دون كيشوت» وأقاصيص نموذجية من أعمال «سرفانتز» فغمرها في ذكريات … ثم قالت وهي تمسح دموعها بيدها:

«لم أكن أعلم أني أجد هنا كُتبًا إسبانية»، فقلت لها: «عجبًا! أوَ كنت تريدين أن أتجاهل الأدب الإسباني، وأستبعد مؤلفات «سرفانتز»، ومسرحيات «كالدرون»، وكوميديات «لوب دي فيجا»؛ لأن لك خليلًا إسبانيًّا؟» أجل يا «أندريه» … لم يكن بيننا حبٌّ قطُّ … ولا أذكر أننا تبادلنا كلمة واحدة فيها حرارة العاطفة الملتهبة! هذا شيء لا يمكن أن يحدث مع امرأة موجودة … موجودة أمامي في كل وقت! إن اللحظة الوحيدة التي أحببتها فيها حقًّا هي ساعة دخولها المشرب أول مرة مع صاحبها الإسباني! إنها كانت رائعة؛ لأنها كانت شيئًا في السماء، مثل كوكب يتلألأ، لا يمكن أن تمتد إليه يدي. ولكن هذا الكوكب ما لبث أن وقع في كفِّي، فإذا هو مصباح ضئيل، يحتاج إلى يدي القاصرة لتملأه بالزيت، وتحميه من التحطم والسقوط! إني لم أزل أحب «إيما» لأنها شيء بعيد … غير موجودة في كل وقتٍ، يصل إليَّ غناؤها من نافذتها؛ كأنه شعاع يأتيني من بعيدٍ! إنها أعطتني بعض أسرار نفسها وجسمها … ولكنها مع ذلك ليست في يدي؛ شأنها شأن الطبيعة التي تعطينا وتستعصي علينا … إن الحب قصة لا يجب أن تنتهي … قصة «إيما» مستمرة لا تريد أن تنتهي … إن الحب مسألة رياضية لم تُحلَّ … إن جوهر الحب مثل جوهر الوجود، لا بد أن يكون فيه ذلك الذي يسمونه «المجهول» أو «المطلق». إن حمى «الحب» عندي هي نوع من حمى «المعرفة» واستكشاف المجهول والجري وراء المطلق. ماذا يكون حال الوجود لو أن الله قذف في وجوهنا — نحن الآدميين — بتلك المعرفة أو ذلك المطلق الذي نقضي حياتنا نجري وراءه؟! ألا أستطيع تصور الحياة يومئذٍ؛ إنها ولا شك لو بقيت بعد ذلك لصارت شيئًا خاليًا من كل جمال وفِكر وعاطفة؛ فكل ما نسميه جمالًا وفكرًا وشعورًا، ليس إلا قبسات النور التي تخرج أثناء جهادنا وكدِّنا وجرينا خلف المطلق والمجهول!

لو أن «إيما» قبلت أن تترك حجرتها كما عرضت عليها وتأتي لتقطن معي في حجرتي لكان حظها حظ «ساشا»، هنا الفرق بين «الغرام» و«الزوجية»!

إني أدرك الآن لماذا يفتر الحب الملتهب بين الخليلين إذا تزوجا، وقد يعود إلى سابق اشتعاله إذا عادا خليلين، لكل منهما حياته المنفصلة … إن الانفصال هو الذي يغري بالاتصال … لهذا كله كانت حياة «ساشا» معي أقرب إلى الحياة الزوجية الخالية من أي عاطفة قوية، فما معنى خطابها هذا الذي كتبته اليوم؟ أتراها أنوثة المرأة، تنسى كل شرط وكل اتفاق، ولا تذكر إلا الرغبة في أن تشغل قلب الرجل؟ وماذا أنا قائل لها؟ ما دمت أوقن بأنها لا تحبني؟!

وطويت رسالتها وطرحتها جانبًا، ومضيت في عملي ومطالعاتي … إلى أن عادت ومعها نسخة من صحيفة يومية، وأخبرتني مبتهجة بأنها وجدت لنفسها عملًا، فلقد قرأت إعلانًا في الجريدة لأحد المسارح الراقصة، يطلب فتيات لهن أجسام جميلة تصلح لرقص المجموعة … فتقدمت في الحال، وكان نصيبها الفوز، فما من شك أن جسمها يُعَد خير نموذج لجسم المرأة الجميل! على أن المسرح لن يعطيها بادئ الأمر أكثر من خمسمائة من الفرنكات في الشهر، وقالت لي وهي تخلع قبعتها، وتنثر في الهواء شعرها الأشقر:

«لا أستطيع كيف أشكرك على معونتك لي، ولكني أرجو منذ الغد أن تكف عن منحي الفرنكات العشرة، على أني لم أزل بعد في حاجة إلى مشاركتك حجرتك، لأن ربحي — كما ترى — لا يسمح لي حتى الآن باقتناء مسكن خاص.»

فقلت لها:

يا عزيزتي! الآن فهمت سر خطابك! أحسبت أني أهرب منك، استياء وتبرمًا وضيقًا بعبء العشرة الفرنكات؟! فخرجت تبحثين عن عمل؟ على كل حالٍ، أنت حرة في شئون حياتك، وإني دائمًا عند تعهدي بأن أكون في معونتك وخدمتك على الوجه الذي تريدين!

واستمرت حياتنا المشتركة تجري في مجرى هادئ، فكلانا له شغل منفصل عن الآخر، وحياة مخالفة لحياة الآخر … لا يجمعنا إلا الليل في فراش واحد، ولم يخطر على بالي حتى مجرد التفكير في نوع عملينا أو المقارنة بين حياتي وحياتها منذ ذلك اليوم … فأنا طالب قانون وفلسفة وعلم وفن وأدب، وهي راقصة في مسرح راقص من طراز «الفولي برجير» أو «المولان روج» … لست أذكر اسمه، ولعلِّي لم أسألها عنه، ولا بد أنها أخبرتني باسمه وبخبره فلم أحفل بذلك ولم أعِ ما قالت، ولم أنصرف بذهني عما كنت أقرؤه وقتئذٍ أو أفكر فيه … ولم أشعر أنا بتغييرٍ في نظامنا، سوى انقطاعي عن منحها أي نقود! لقد حدث تغيير في نظام حياتها هي؛ فهي تعود إلى الحجرة كل ليلة بعد التمثيل في آخر قطار من قطارات «المترو». تعود «بالماكياج» مطلية من رأسها إلى قدميها بالأحمر والأبيض؟ فليس في مسرحها ولا في بيتنا حمام، فتدس جسمها المطلي في الفراش على هذه الصورة … لقد انزعجت حقًّا أول الأمر، يوم نهضت في الصباح، فأبصرت جسمي أنا الآخر قد نضح بتلك الألوان … ولكن انزعاجي لم يقف عند هذا الحد؛ إنها تعلمت التدخين بالطبع، وأنا أكره رائحة الدخان … فالويل لي عندما كنت آوي إلى فراشي ذات ليلة مبكرًا … إنها كانت تعود آخر الليل والسيجارة في فمها وتسير في الحجرة على أطراف قدميها حتى لا توقظني، وتطرح معطفها الثقيل عن جسمها العاري — إلا من «مايوه» الرقص — وتذهب إلى المطبخ فتأتي بشطيرة خبز داخلها سردينة؛ فهي جائعة، وتجذب من بين كتبي قصة ﻟ «فلوبير» أو «بلزاك» أو تمثيلية ﻟ «بورتوريش» أو ﻟ «ينورمان» … فهي مقيمة على عادة القراءة قبل النوم … وتضيء المصباح الكهربائي على رأس السرير، ثم ترفع عني الغطاء برفقٍ وحذرٍ … وتدخل الفراش إلى جانبي، بسردينها ودخانها وكتابها وأحمرها وأبيضها، وتحسب بعد ذلك كله أنها حرصت على عدم إيقاظي وإزعاجي! لطالما نهضت لأنهرها وأطلب إليها أن تبطل هذا كله وتنام … فكانت تستعطفني وتستمهلني حتى تتم قراءة القصة!

«تتمِّين قراءة القصة؟! الليلة؟!»

الواقع أنها كانت سريعة القراءة إلى حدٍّ كان يدهشني، إنها تتم قراءة القصة التمثيلية في ساعة واحدة، وأنا الذي أقرؤها في يومين أو ثلاثة، ولكن هنالك فرقًا هائلًا بين قراءتي وقراءتها! إنها تقرأ للحكاية في ذاتها … أما أنا فلا تعنيني حكاية الكاتب، بل يعنيني فنه، وسر صناعته، وطريقة أسلوبه في البناء، وخلق الأشخاص، ونسج الجو، وإحداث التأثير! إني أعيد أحيانًا قراءة الفصل الواحد، بل الصفحة الواحدة مرات … لَكَمْ أعدت قراءة «موليير»، لا لشيء غير دراسة طريقته في تقديم الأشخاص، ورسم أخلاقهم! تلك الطريقة التي تختلف أحيانًا، وتتغير في كل رواية من رواياته … لذلك لم تكن قراءة «ساشا» تصلح أساسًا حتى للمناقشة ومبادلة الرأي … وما كنت أجني منها إلا ذلك المصباح المسلط على رأسي، والدخان الذي يضيق به صدري في ذلك الهزيع الأخير من الليل. إنها كانت أحيانًا تخشى غضبي فتقفز في مطالعتها فصلًا أو فصلين وتصل إلى خاتمة الكتاب سريعًا، ثم تطفئ النور، وتجذب الغطاء فوقها جذبة تتركني أنا في العراء، فلا أتمالك نفسي، وأقرصها قرصة تصرخ منها في جوف الليل! ويأتي النهار، فتستيقظ في الضحى، وأبقى أنا في السرير كسلًا … وتسرع هي إلى ثياب الخروج، فترتديها لتذهب إلى المسرح في ميعاد التجارب «البروفات».

لبثنا معًا في هذه الحياة ثلاثة أشهر، لم يختل نظامها أو قُل «فوضاها» قيد شعرة. حتى تعوَّدت احتمالها، فندر غضبي أو ضجري، وبدأت هي تهتم بما أعمل بعض الاهتمام؛ فكانت تسألني أن أطلعها على ما أكتب من حوار أو قصص … فما كنت أقبل ذلك … لست أدري لماذا؟ … أما هي فكانت تسألني رأيي في بعض الحركات الجديدة لرقصها، فكنت أتبرم بذلك أيضًا، فهذا ليس في عرفي رقصًا فنيًّا، فالرقص الفني عندي هو «بافلوفا» و«فوللر» و«إيزادورا دونكان» ورقص الجوقات والمجاميع في «الأوبرات» الرفيعة، أو «الباليه الروسي»، أو حتى في الرقصات الدينية التي نراها منقوشة في الفن المصري والهندي، ولكنها كانت تحرك سيقانها ورأسها وذراعيها في الحجرة، فلا أجد مفرًّا من النظر! كنت أقول لها: إن رقصها هذا في المجموعة جماله ليس في ذاته، بل في التناسق العددي لكميات الأذرع والسيقان التي تتحرك في وقتٍ واحدٍ، وليته مع ذلك كان بالروح الفني المعروف في راقصات المعابد الهندية؟! ولقد ألحَّت عليَّ إلحاحًا شديدًا في أن أذهب مرة لمشاهدتها على المسرح … وأحضرت لي تذاكر مجانية، فلم أجد من نفسي يومئذٍ حافزًا على الذهاب … وليتني ذهبت!

وكاد ينتهي الشتاء، فجاءتني ذات يومٍ تقول: إن المسرح سيُوفِد الفرقة الراقصة لتقوم برحلة في «نيم» و«أورانج» و«أفنيون» في جنوب فرنسا، وقد تستغرق الرحلة شهرًا أو شهرين، وجعلت تتجهز للرحيل، وهي ترجوني وتزين لي أن أذهب معهم في هذه الرحلة، فضحكت للفكرة:

«أذهب في رحلة الراقصات بأي صفة؟! وعلى أي وضع؟ أبصفتي صديق الراقصة؟ هذا جميل جدًّا! ومن يدري ربما عدت من الرحلة، وقد عُيِّنتُ نهائيًّا راقصًا بالفرقة، أو شيئًا من هذا القبيل؟! كلا يا عزيزتي «ساشا» … إني لا أستطيع أن أترك باريس واللوفر والكتب والحي اللاتيني ومونمارتر وبلبور … اذهبي أنتِ وسيري بمفردك، في طريق حياتك، وإني أتمنى لك التوفيق!»

وودَّع أحدنا الآخر وداعًا حارًّا، وشعرت في تلك اللحظة بشيء من السعادة، لعودة حريتي الكاملة إليَّ … ووحدتي المطلقة!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

لو خطر لك أن تسألني عن عملي طول هذا الزمن «من حيث الأدب والفن» لأجبتك على الفور هذا الجواب:

هو العمل المتواصل على محو كل ما علق بي من الأدب والفن، وقد نجحت؛ فلم يبق واحد من القلائل الذين كانوا يعرفون ميولي الأدبية يذكر هذه الميول، لقد نسوا الآن ذلك، وأصبحوا يعرفون عني كل شيء إلا الصلة بالأدب والفن … على أن هنالك شيئًا واحدًا لم أقوَ على محوه. إني يا «أندريه» ما زلت أردد كل يوم في أعماق نفسي، كلما خلوت إليها السانفونيات رقم «٥» و«٦» و«٤» و«٩» بكل تفاصيلها! إني أصبحت آلف «بيتهوفن» إلى درجة يُخيَّل إليَّ معها أني فهمت سرَّ كتابته وتأليفه، مع جهلي المطبق بالموسيقى! إن أُذني لا تستطيع الآن أن تُخدَع في أسلوب «بيتهوفن» بين مئات الأساليب لمئات الموسيقيين … إن قدرة «بيتهوفن» في البناء الصوتي تكاد تفتح أمام ذهني أسرار كل بناء فني آخر، بل أسرار البناء في الطبيعة نفسها!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

قلت لك إني استطعت الاستغناء عن كل شيء إلا الموسيقى، هذا صحيح … وإني بعد أن ختمت رسالتي السابقة إليك طفقت أفكر وأتساءل: لماذا آثرت الموسيقى دون التصوير مثلًا؟ إني أحب التصوير كما تعلم. الواقع أن الآثار الموسيقية القيِّمة في متناول يدي بمختلف الوسائل … أقربها وأيسرها الجراموفون، ولكن كيف وأين أتأمل هنا في «مصر» لوحات «جيوتو» و«إنجليكو» و«مملنج» و«رمبرانت؟ إن لديَّ بالطبع أغلب آثار عظماء المصورين، منقولة ومطبوعة طبعًا متقنًا … وإني لأتأملها من حين إلى حين، ولكن ليس الحال في الصور كالحال في الموسيقى. إن الموسيقى المنقولة في أسطوانات تعطيك على قدر الإمكان فكرة شاملة عن الأثر الفني كله، ولكن الصورة المنقولة تحرمك أهم ركن من أركان العمل الفني: وهو التلوين! ماذا يبقى لي مثلًا من لوحة «باخوس» ﻟ «دافنشي» إذا جرَّدتها من لونها العجيب؟ إنها صورة فتى، لا أكثر ولا أقل … فتى يمثِّل إله الخمر، ولكن اللون والتلوين؛ كأنهما السحر قلب الصورة، فإذا هي عنقود من العنب … من عنب فلورنسا الأحمر الداكن! ما نظرت مرة إلى هذه الصورة إلا صحتُ في نفسي: يا لمعجزة الفنان الذي استطاع بريشته أن يجعل الآدمي عنقودًا! ولكنه التلوين. إن الرسم ليهبط أحيانًا إلى المحل الثاني في بعض آثار المصورين، فكيف تريد مني أن أعيش مع صور فنية بغير ألوان؟ … وبغير ألوانها الأصلية التي كدَّ الفنان في تأليفها؟ لقد قيل: إن «ليوناردو» كان يصنع أو يطبخ ألوانه بنفسه في معمله المغلق، لقد كان أكثر مصوري عصر النهضة يفعلون ذلك فيما يظهر. وكان تركيب ألوانهم سرًّا يحفظونه كأنه تركيب «إكسير الحياة» وفيم العجب؟! إن أسرار اللون في الصورة الفنية هو سر خلودها! إنه إكسير حياتها!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

أتراني أغالط نفسي؟ أخشى أن يكون حبي للموسيقى الأوروبية مصدره أنها قبل كل شيء بناء ذهني. ذلك أن موسيقانا الشرقية — وهي قائمة على الطرب والتأثير المادي — لا تسترعي مني اليوم أي التفات … الواقع أن الموسيقى الأوروبية بناء فني ذهني، شأنها في ذلك شأن القصة التمثيلية! والهندسة المعمارية، بل شأن المذهب الفلسفي والتفكير الرياضي!

إني ما زلت أذكر قولك لي يومًا: إن «عقليتي رياضية» … ربما كان هذا صحيحًا! … لقد كذبت عليك وعلى نفسي إذ أخبرتك أني أحل الألوان المحل الأول في آثار المصورين، الواقع أن الذي يثير اهتمامي في الصورة قبل كل شيء هو ما يسمونه la composition بنيانها وتركيبها … وما يسمونه le rythme رويها وتنغيمها؛ فمثلًا لوحة كلوحة «المسيح يحمل صليبه» ﻟ «روفاييل»، أذكر منها كل تفاصيل تركيبها المحكم؛ بمواضع أشخاصها، وحركات أجسامهم، وإيماءات رءوسهم وإشارات أيديهم، وطيات ثيابهم … كل هذه الأشياء أبصرها، وقد اتَّسقت خطوطها، واتزنت، وكوَّنت في عالم الضوء والرؤية تركيبًا جميلًا منغمًا؛ كأنه قصيد لا ينبو فيه لفظ عن الروي … أما الألوان فلا أذكرها كثيرًا لأن عيني لم تمتلئ بها، امتلاء العين بالألوان في الطبيعة والحياة، والفن شرط لازم في التصوير.

إن العقل في فن التصوير ليس في الرأس بقدر ما هو في العين! العين النهِمة التي تبصر وكأنها تغترف وتلتهم … تلك عين المصور المبدع! التصوير فنٌّ حسي أكثر مما هو فن ذهني!

الآن أدركت السر الذي طالما حيَّرني أمام لوحات «روبانس»، فلطالما تساءلت: ما هذه النساء الممتلئات لحمًا وشحمًا، ذوات الأرداف المترجرجة والخدود المتوردة، ممن نبضت بهنَّ ريشة ذلك الفنان؟ ولطالما تساءلت عن الغرض الذي دفع مثلًا «بول سيزان» إلى تصوير طبق من التفاح … ولطالما عجبت لمغامرات «بنفنوتو تشيللني»، المسطورة في مذكراته المشهورة، وما فيها من نهَم حسي وحشي لمتع الحياة!

الحقيقة أن الفنان المصور يجب أن تكون حواسه المادية — وعلى الأخص حاسة البصر — متيقظة لألوان الطبيعة، إلى حد النهم الوحشي! الفنان النابض بالحياة إما أن يكون متيقظ الحاسة إلى حد الوحشية، أو متيقظ الروح إلى حد الصوفية! في المصورين كذلك طائفة من المتصوفة، لعلَّ خير مثَلٍ لهم هم السابقون لعصر النهضة قبيل القرن الرابع عشر les primitifs … على أن اليقظة الروحية أو الحسية في الفن، ليست في رأيي وقفًا على عصر من العصور، فهي ترجع أحيانًا إلى طبيعة الفنان وحده وحالات نفسه المتغيرة أحيانًا. فريشة «روبانس» التي صورت «إمفتريت» زوجة إله البحر «نبتون»، كأنها امرأة تزن ثمانين كيلوجرامًا … بضَّة … غضَّة … كتمثالٍ من الزبد … لا ينبعث منها أي معنى غير معنى المادة الحية والشهوة الحسية.

هذه الريشة نفسها هي التي صورت «إنزال المسيح عن الصليب» على نحوٍ رائعٍ … كله جمال روحي يبعث في نفس المُشاهِد خشوعًا ورحمة، وشعورًا دينيًّا عميقًا … إن الفنان هو الكائن العجيب الذي يجب أن يُلخص الطبيعة كلها بمادتها وروحها في ذاته الضئيلة المحدودة … هو ذلك الكائن الذي يعيش في داخله الحيوان والإله جنبًا إلى جنب!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

لماذا لا تصرح بالحقيقة، وتقول لي في غير مدارة رُح! أنت لا تحب الأدب؟! يمنعك من ذلك شيء واحد: أنك منذ عرفتني لم ترني أُعنَى في حياتي بشيء آخر، غير المطالعة والتأمل … ومع ذلك فها أنا ذا اليوم لا أحب أن أطالع، ولا أن أتأمل.

آهٍ «أندريه»! لماذا لم أتعلم في صغري الموسيقى؟ إني خُلقت لأعيش كل حياتي في عالم الأصوات وحده! «أندريه»… يقوم في نفسي الآن شكٌّ كبير يوخزني! شك في علاقتي بالأدب والفكر! أعترف لك يا «أندريه»؛ كأنه اعتراف أمام قسيس! إني لا أقرأ اليوم — خلا رسائلك — شيئًا، فقدت لذة القراءة! لعلِّي أبالغ في الجملة … لكنها الحقيقة في قسطٍ كبيٍر … كاشِفني بحقيقة أمري، ولا تحاول مجاملتي أو مداراتي وقد كشفت لك عن شكوكي! إني أصغي إلى الموسيقى لا للفائدة، ولا للاطلاع، ولا حتى للحاجة الفكرية أو السمو الروحي؛ إنما للحياة نفسها. إني أعيش بين أنغامها كما تعيش النحلة بين ألوان الأزهار … إن الجمال الذي ينبعث من تناسقها الفني تدركه في نفسي أداة أدق من الفكر الواعي، لماذا لا أقرأ كذلك؟ إن القراءة عندي جهد ومشقة ووعي ويقظة، ولا شيء غير ذلك … إني أوجِّه إليك هذا السؤال ولن أنفك أسألك الجواب: هل حقيقة — بينك وبين ضميرك — تعتقد أني سأنتج شيئًا في شئون الفكر والأدب؟

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

ماذا تريد مني؟ نعم إني أطلب إليك، وأريد منك، لأنك تستطيع أن تعطيني. يدهشني في كل رسائلك شيء واحد: أنك تريد أن أكتب إليك، ولعلَّه كرم خلق منك؛ أما أنا فلست أكتم عنك! لو أني في مكانك وأنت في مكاني لما ترددت في قطع الصلة بهذا الرفيق الغاضب المفلس! ما الذي تستبقيني من أجله؟ هذا دائمًا ما لست أعرفه: تذكِّرني هذه المناسبة بفكرة خطرت لي منذ زمن، وهي أن أكرس لك خطابًا طويلًا أحدِّثك فيه عن الصداقة؛ فلقد هالني أن أصحو في فترة من هذا السبات الذهني، فلا أجد حولي ها هنا صديقًا ولا رفيقًا! ولعل الذنب ذنبي؛ فقد لحظت من حالتي العصبية، ومن ضيق صدري تعذُّر جلوسي إلى الرفاق. كما أني لحظت هدوء نفسي وانتظام تنفسي، واتساع صدري، كلما عدت إلى حظيرة الوحدة المطلقة! في أحضان الوحدة وحدها؛ أتنفس الصعداء في لذة وراحة … أهو مرض؟ أهو توحش؟ أهو حال عارض طارئ؟ لست أدري حتى الآن! إن مجرد الاختلاط العادي والاجتماع في ذاته — حتى مع من يروقني مجلسه — أمر يشق على نفسي، ويُعَد في نظري من الأهوال!

تستطيع أن تقول إني اليوم في فترة من حياتي، وقفتْ فيها حركة القلب والعقل معنويًّا! إني أحس نفسي الآن تهبط إلى مجرد الآلة! إني غير جدير بأي عمل يحتاج فيه إلى العقل أو إلى القلب! الحب! يُخيَّل إليَّ أنه التفاحة التي لم أذق حُلوها قط، ولا أود قط أن أعصي الله من أجلها … وماذا تريد من شخص لا يعرف حتى الصداقة؟! العقل والتفكير! آه! ذهب ذلك الفتى الذي كان يقرأ الكتاب ساعة، ويسبح في التأمل والاستنباط ساعات! وماذا تريد من شخص لا يقوى على فتح جريدة؟! كل ما في الإنسان من آلة وآليٍّ هو أنا الآن … أنا اليوم شيء أقل بكثيرٍ من إنسان، ومع ذلك يا عزيزي «أندريه» تشاء بي سخرية الله أو الشيطان أن أسمع وصفًا عجيبًا لي جری به لسان رجل عجیب!

كان ذلك في إحدى الزيارات العائلية، ساقوني إليها مرغمًا، فجلست لحظة، ثم هممت بالانصراف، وإذا رجل يدخل فيجلس، وإذا الحاضرون يقبلون عليه طالبين إليه أن يقرأ أكُفَّهم، وقيل لي إنه رجل من ذوي اليسار، ومن معارف أصحاب الدار، ولكنه ولع بعلم الكف منذ صغره، وأنفق عمره في الإحاطة به، التعمق فيه حتى حذقه، فلم يخطئ مرة في تنجيمه … وفرغ الرجل من النظر في أكف الحاضرين، ودعاني أحدهم أن أمد كفي إليه ففعلت، فنظر الرجل فيها ساعة، ثم رفع عينيه إلى وجهي، ولعله ما رأى فيه غير ابتسامة المتشكِّك في علم رجل غير ذي منظر ولا هيئة، ينمَّان عن ذكاء! لقد كان رجلًا بدينًا أصلع ضعيف البصر، ترسم على وجهه السذاجة، إن لم أقل الغباء … لقد مثَّل في رأسي صورة للعمدة الفلاح الجاهل البسيط، ولكنه — عندما تكلم قارئًا كفي — فاه بألفاظ أدهشتني: ألفاظ لا تجري إلا على ألسنة أهل العلم والفطنة والثقافة، وإليك نص ما قال: «أنت روحاني … طبيعتك روحانية»! (وهنا طلبت إليه تفسير هذه الكلمات؛ فقد عجبت لنطق مثله بمثلها ثم نعتي بمدلولها وهو لا يعرف من أمري شيئًا، ولم أتكلم طول الوقت إلا بالتافه من كلمات المجاملة … وكنت دائمًا أصغي إلى الآخرين. ولعلِّي كنت أصغر الحاضرين شأنًا وأقربهم إلى هيئة الحمق والبَلَه) فأجاب: لا تسألني تفسيرًا … لا تسألني في غير ما أرى: أمامك الشمس … الشمس لا ترى في كل كف ولا في كل طالع، الشمس أراها في نجم حضرتك!»، ولكن حضرتي ما كان يعنيه بالضَّرورة غير مسألة «أكل عيشه» وكسب قوته … فأسرعت قائلًا: «وماذا غير ذلك»؟ … فمضى يقول: ثم إنك من حيث الثروة والسعادة قنوع! سعادتك في القناعة، والغنى عندك قناعة … يعني أن يكون غناك في المال»! … ثم قال: «أنت تحب العزلة … أنت مثل رجل منقطع».

هنا شعرت برجفة! … تلك يا «أندريه» هي الحقيقة الوحيدة التي اعتقدت أن الرجل قد فاه بها … ولا تستطيع أن تتصور مقدار دهشتي عندما قال ذلك، خصوصًا في وقت كنت أكثِر فيه من تأمُّل حالتي المزعجة. ونظر الرجل أيضًا ثم قال شيئًا غمَّني وغمَّ أهلي على الخصوص؛ فقد قال أفاده الله: «فقط … فقط … لست أرى طريقك في مناصب رسمية!» … فلم أُرِد فهم مراده بادئ الأمر، وخالجني قلق وكدر؛ فأنا لم أزل مستبشرًا بوظيفتي القضائية التي كادت تتم إجراءات تعييني فيها … فقلت له: «وما معنى طالعي إذن إذا كنت لا ترى لي طريقًا في وظائف اﻟ … ؟» فقاطعني بعنفٍ: «أنا أرى فقط ولا أفسِّر»! … لقد أوردت لك يا «أندريه» نصَّ ألفاظ الرجل على وجه التقريب، فما رأيك؟ إذا أردت رأيي أنا فاعلم أني ضحكت في نفسي كثيرًا لقوله إني «روحاني»! من العجيب أن يجيء قوله هذا في وقتٍ أوقن فيه بأني «مادي» المادية كلها؛ بل «آلي» الآلية كلها، لقد كدت أصيح في وجه الرجل قائلًا: أيها المنجم! إني أوثر أن أُمسَخ قردًا على أن تصدق فيَّ «روحانيتك» هذه! ما أضاعني إلا هذه الروحانية! أما «الشمس» أيها المنجم فإني أبيعها لمن يشتريها من الحاضرين بمبلغ مائة وعشرين قرشًا، ثمن تذاكر دخول «كازينو سان استفانو» لحضور «كونسيرات» «الخواجة بونومي»! «القناعة»! سأعيش بالقناعة طول حياتي؟ يا للبؤس! لماذا؟ لأن القناعة تاج دائم؟! لا يا سيدي المنجِّم! إني مستعد أيضًا لعرض هذا التاج للبيع بالمزاد! سأبيعه بالبخس كما بيعت تيجان «آل رومانوف» والخليفة العثماني … نحن نعيش الآن عصرًا تُحوَّل فيه التيجان إلى ورق من «البنكنوت»! إن هذا العالِم بالكف الذي لم يخطئ مرة، قد أخطأ هذه المرة، حتى يحق له أن يقول إنه أخطأ مرة؛ فالاستثناء يسبغ أحيانًا على الأخبار رداء الصدق والحقيقة.

آهٍ يا «أندريه»! إني في حاجة إلى أن يدق القلب دقتين أو ثلاثًا، ثم يقف … لدينا ساعة كبيرة في ردهة الطابق الأسفل، جئتُ من أوروبا فوجدتها، وقيل لي: إنها مشتراة في مزاد عام، منذ ثلاثة أعوام! ساعة سليمة دقيقة، تسير على خير ما تكون الدقة والضبط! ولم تعرف قط يومًا الوقوف ولا التأخير، وإذا بها ذات يوم قد وقفت فجأة، فدهش لذلك أهل البيت، وهاجوا وماجوا، وجعل كل يقترح أمرًا لإصلاحها، فحاولت أنا إصلاحها فلم تصلح، وسمع والدي بأمرها فنزل من حجرته إليها يعالجها باللين فلم تصلح، فطلب مطرقة وجعل يدق بعض ما في هيكلها من مسامير، ويفك بعض ما في جوفها من «تروس»؛ فلم يظفر بطائل، فتركها آخر الأمر وتركناها يائسين، وإذا بها ذات ليلة تدق في جوف الليل، من تلقاء نفسها، والكل نيام دقتين أو ثلاثًا … في ذلك السكون التام … ومنذ تلك اللحظة سارت، ولا يدري غير الله ما أوقفها وما سيَّرها!

ترى بعد موت طويل يستطيع القلب أن يدق دقتين أو ثلاثًا، يعقبها البعث والحياة؟!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

مات «بونومي»! مات «إدجار بونومي»! الأحد الماضي فقط … منذ ثلاثة أيام رأيته في «كازينو سان استفانو» يقود «أندانت» السانفونية الثانية و«ألليجرو» السانفونية الأولى ﻟ «جوستاف ماهلر» واﻟ Antiche danze ﻟ «رسيبجي» وكونسرتو البيانو والأوركستر ﻟ «إدوار جريج» … فقط أمس الأول سمعت صوته، في طرقات «الكازينو» يعِد «بروفات» الأحد القادم!
وفقط أمس ظهرت على جدران رمل «الإسكندرية» الإعلانات المعتادة، لأسماء القطع التي ستُعزَف في الحفلة المقبلة، وعلى رأسها La Rédemption ﻟ «سيزار فرانك». إدارة الكازينو جاهلة ما يخبئه «عزرائيل» ﻟ «لمايسترو» المسكين! فهي ما زالت كعادتها جادة في إصدار الإعلانات وتوزيعها متوَّجة بالعبارة المألوفة «الكونسير سانفونيك»: رقم ١٤ تحت قيادة «المايسترو إدجار بونومي»!

إلى رحمة الله «بونومي»!

حتى أنت؟! الوحيد الذي لنا في مصر!

إن موت هذا الرجل نكبة عندي، ومهما يكن من أمره وأمر فنِّه، فقد كان لي فيه العزاء والسلوى في هذا البلد الفقير إلى الفن. قل إن الله يريد حرماني كل مصدر سعادة روحية، حتى أنقلب في النهاية بهيمًا يرعَى أرض مصر الخصيبة!

لا بأس! فلنرجع إلى «الجراموفون» الآلي! ولكن رحمة الله عليك يا «بونومي» بمقدار ما أسعدتني في لحظات.

•••

«أندريه»! هذا ثالث خطاب إليك من سلسلة خطابات مكتوبة، ولا شك تحت تأثير حالة شبه واحدة، وأخشى أن تفسر هذه الحالة بما اعتدت أن تفسرها به، قائلًا: «أوه! إني أفهم حالته جيدًا من خلال سطوره!» … الواقع أنك قدير على استشفاف ما بين سطوري، غير أني لا أريد أن تفهم أكثر من أني الآن في حالة كآبة عارضة، وهل لا تعطيني حتى حق الوقوع في الكآبة من حين إلى حين؟ لكن ثِق أنها حالة نفسية داخلية، لا أثر لها في تصرفاتي الخارجية، ولا صدى لها في أعمالي، ولا تظهر حتى لأعين غيرك من الناس. ومع ذلك فإني قد محوتها أو سأمحوها من أمام عينيك أنت أيضًا؛ لأني أعلم أنك لا تحبني مكتئبًا. نعم، يجب عليَّ أن أخاطبك ضاحكًا دائمًا، وإلا حقَّ لك أن تصيح بي: «اضحك أيها البلياتشو!» كما حق للجمهور أن يصيح ببلياتشو «ليون كافللو» في الأوبرا المشهورة!

نعم، لماذا أطلعك على الأركان السوداء من حياتي؟ أنت الذي لا يأخذ حياتي على سبيل الجد؛ فلألبسنَّ لك «الطرطور»، لأدهنن لك الوجه بالدقيق، ولتدق الطبول، ولينفخ في البوق، وليرفع الستار عن الفصل المضحك:

اسمع يا سيدي … أيام أن كان صديقك الشرقي يتناول الغداء في المطعم الإلزاسي … لقد زعم أن «الساقية» الرشيقة — خادم المحل — كانت تخالسه النظر! الواقع أنها منذ وقع بصرها عليه أول مرة، وهي لا تفتأ ترمقه كلما مرَّت به، حاملة طبق الكرنب المعمر بسجق «فرانكفور» أو «نصف بیرة» أو «واحد» جبن «كمامبير» … لقد عجبت حقًّا لأمر هذه الجميلة التي سخت عليَّ بكل هذا العطف، إذ خصَّتني بالتفاتها، دون أولئك العديدين الذين لا يأتون إلى هذا المكان إلا من أجلها. أجل يا سيد «أندريه»، لم تكن أنت وحدك الذي كان يصنع ذلك! لقد كانت هنالك عصبة شبان يظهر أنهم من «النرويج»، كانوا يختلفون إلى ذلك المطعم لرؤية «القمر» في نصف النهار! أما عن فرح «توفيق الحكيم» بهذا العطف الخاص فحدِّث ولا حرج! لقد شمخ وانتفخ وقال لنفسه: «لعل ميزة خفية أو ظاهرة فيَّ هي التي استلفتت نظر الفتاة!» وأراد يومًا أن يبتسم لها، ولكنه نظر قبل ذلك إلى وجهه في المرآة، وإذا هو فجأة يدرك سر نظرات الجميلة إليه … يا لخيبة الأمل! وتذكر في تلك اللحظة أن نظراتها كانت موجهة في حقيقة الأمر إلى رأسه، إلى ذلك الشعر المنفوش «أرتستيك»، ومن تحته ذلك الوجه الغريب، بعينيه اللتين تشبهان أعين أهل الأساطير الدينية المصورة في الفسيفساء البيزنطية، وشفتيه الغليظتين الإفريقيتين كأنهما شفتا ساحر زنجي … عند ذاك تذكر أيضًا ما قالته فيه خادم الأسرة التي نزل عندها بحي «فوجيرار» أول عهده بباريس … لقد دخلت عليه الخادم في الصباح تحمل صينية الفطور، فوقع بصرها عليه في السرير، لا يبدو منه إلا رأس يطل من اللحاف الناصع؛ كأنه رأس «يوحنا المعمدان» على صينية الفضة، ولكن حاشا لله أن يكون هذا معمدانًا … صاحب مثل هذا الرأس لا يمكن أن يكون من الآدميين! ذلك ولا ريب ما جال بخاطر الخادم، وهي تنظر إلى شعري الذي هبَّ قائمًا إلى ما فوق مسند السرير في شكل دائرة؛ كأنه هالة من الهباب الأسود، على حافة الوسادة البيضاء. أما الوجه فوق الوسادة وتحت الهالة فلم تره لحسن الحظ … ومضت الأيام، وإذا صاحبة البيت تقول لي ذات يوم باسمة، وقد زالت بيننا الكلفة: أتدري ما حدث في صباحك الأول لدينا؟ لقد جاءتني الخادم تقول مرتاعة: أتدرين يا سيدتي من حلَّ بدارنا؟ فسألتها: من؟ فأجابت: C’est Le Diable إنه الشيطان!

ولعلَّها صدقت، ولست أدري ما ذكَّرني الساعة بهذه الحادثة التي كدت أنساها، ولم يذكِّرني بها حتى خطابك الممتع الذي حدَّثتني فيه عن ذلك القسيس الذي ظن «توفيق الحكيم بملابسه السوداء» الشيطان أو المسيخ الدجال … إذن ما جاء بخطابك لم يكن محض خرافة ولا تأليف! من یدري؟ لعلِّي أخذت عن إبليس صورته وهيئته … لكن … هل تظن أن لي أيضًا قلبه؟ لا أظن. وبعد … فلتسكت الطبول، وليغسل «البلياتشو» وجهه، فقد انتهى الفصل المضحك!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

هل حقًّا أنت تفهمني؟ وهل تُقدِّر ما أنا فيه؟ إنها دائمًا حالة القلق والبحث والتنقيب عن الأسلوب. لكن انتظر … ماذا أريد أن أقول؟ هل لي الحق أن أتكلم في الأدب؟ مع ذلك أتقطع شكًّا وقلقًا وبحثًا يا صديقي «أندريه» لا عن أسلوب الأدب وحده، بل عن أسلوب حياتي!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

ولنعُد إلى ما جاء في رسالتيك الأخيرتين عن غرقك في بحر الكتب والمطالعات وخروجك مصابًا بحمى الشك والقلق … ينبغي أن أبادر فأقول لك إن هذا القلق مرض دوري لكل رجل فكر! أين كنت أنت أيام إصابتي هذا المرض الإصابة الأولى؟ لقد حدث لي بالضبط كل ما وصفت … في ذلك الوقت كنت أنت في مصنعك بعيدًا عن المنطقة الجدية العميقة من نفسي، وكنت أنا في حجرتي قريبًا من مسكن المأسوف عليه «إيفان». لقد كان العامان الأخيران من عهد «باريس» رازحين تحت أثقال هذا المرض الموهن، لقد فتحت أمامي المطالعات دُنياوات لا قبل لي بها، وعوالم لا حدود لها، وقد حدث ذلك فجأة أو على الأقل في سرعة لم يتحمَّلها ذهني، فصار مثلي مثل ذبابة أطلقت في أجواز الفضاء الهائل، وهي التي ما هامت إلا في جو الحجرة الضيقة، وما عرفت النور إلا من خلال النافذة الزجاجية المغلقة. على أن هنالك فرقًا بيني وبينك، لا يجوز أن تنساه … فرق جعل مرضي أثقل وطأة وأشد فتكًا، ذلك أني كنت أعتبر شئون الأدب والفكر حرفة وغاية!

وكنت أدع المتصلين بي يفهمون عني ذلك، وكنت أعلن، لا فقط حبي لشئون الفكر والأدب والفن، بل اشتغالي الكلي بها. أما أنت فقد كنت تعمل عملًا حقيقيًّا ترتزق منه، وتأخذه على سبيل الجد، وما كانت المطالعات عندك إلا هواية، وما كان الإغراق في التأمل والتفكير والخيال إلا موضوع سخريتك، على الأقل في أول عهدك، إلى أن رضيت آخر الأمر أن تتفضَّل على هذه الأمور بنظرة تسامح. ذلك حالك، وهو كما ترى ليس خطيرًا إلى حدٍّ كبير … أما أنا فقد تفاقم خَطبي … لقد أضعت وقتي كله في باريس منحنيًا على مكتب الحجرة رقم ٤٨ بشارع بلبور، أقرأ وأقرأ حتى قرأت كل شيء! لم أترك شيئًا في تاريخ النشاط الذهني لم أطلع عليه.

لقد غرقت في آداب الأمم كلها وفلسفاتها وفنونها، لم أكن أسمح لنفسي بأن أجهل فرعًا من فروع المعرفة؛ لأني كنت أعتقد أن الأديب في عصرنا الحاضر يجب أن يكون «موسوعيًّا». لذلك بذلت جهدي في أن أحيط بأبرز ما أنتجت العبقرية الإنسانية … حتى العلوم، أردت أن ألمَّ إلمامًا بأهم نتائجها، ففي الهندسة: حاولت فهم هندسة «نيومان» المعارضة لهندسة إقلديوس» التقليدية، والرياضة: أردت فهم مراميها العليا في مؤلفات الرياضي «هنري بوانكاريه»، والطبيعة والفلك، بدأتهما «بإسحاق نيوتن» حتى بلغت نظرية «أينشتاين» التي قرأت فيها وحدها نحو خمسة كتب، وفي علم الحياة قرأت بعض كتب «داروين» و«لامارك» … وفي علوم النفس: بدأت بكتب «جورج توماس» و«أرمان ريبو»؛ وانتهيت إلى أكثر ما كتب عن نظريات «فرويد»، ولفتت نظري العلوم «التيوزوفية» فقرأت كتب «آن بيزانت»، و«إدوار شوريه» و«رودولف شتينر» وخرجت منها إلى العلوم الروحية، فقرأت أبحاث (أوليفر لودج) و(وليام باريت) و(فلاماریون)؛ حتى علوم الكهرباء، حاولت فهم ما أستطيع فهمه من نظریات (فاراداي) و(تومسون) و(بيران) … إلخ.

أما قراءتي في القصص التمثيلي فهي أعجب شيء فعلته، لقد قرأت كما أخبرتك ذات مرة (المكتبة المسرحية) La Librairie Théâtrale برمتها، فأنا كنت أراسلها من مصر قبل نزوحي إلى فرنسا، وأعرف عنوانها في «الجران بولفار»، وكانت هي أول حانوت دخلته إذ دخلت «باريس» … فجعلت أختلف إليها أيامًا طويلة، أطالع صفوف كتبها صفًّا صفًّا، وأنطلق آخر النهار بما أستطيع شراءه مداراة لصاحب الحانوت. واعتاد الكتبي رؤيتي كل يوم على هذا الحال …

إلى أن نظر ذات يوم حوله فلم يجدني، فسأل في ذلك أحد عمَّاله مستغربًا … ثم حانت منه التفاتة إلى أعلى المحل، فأبصرني في قمة السلم لاصقًا بالسقف ألتهم الكتب التي في الصف العلوي الأخير … أجل يا «أندريه» فعلت هذا، وبعد ذلك كله انكببت أكتب وأكتب مخطوطات … كانت مصيرها كلها التمزيق، إن ما جعلتك تقرؤه منها يا «أندريه» لا يوازي جزءًا من عشرة أجزاء مما أخفيته عنك، وانتهيت إلى تمزيقه قبل أن تطلع عليه عين. ولعل ما قرأته أنت هو أنكب وأقبح ما سودت به وجه ورق.

إنها سهول من الصحاري والرمال تصور لنا سرابًا بعيدًا لن نبلغه أبدًا، سهول من الأساليب المختلفة كلها «السهل الممتنع».

يحسب القارئ أنه محيط بأسرارها، واضع اليد على مفاتيحها، مستطيع أن يبلغ مبلغها لو أمعن في السير والبحث والكتابة، فيسير ويسير متوهمًا في كل خطوة أنه يبصر «أسلوبه الخاص» المنشود يلمع فوق تلك السهول، لكنه ما يبصر غير سراب. ولشد ما توهمنا أن الأسلوب الخاص معناه التجديد، وأن التجديد معناه الإغراب، وبهذا الوهم كتبتُ حماقات كنت أحسبها شعرًا، ونزعت إلى الإغراب خشية التقليد؛ فإذا بي أقع دون أن أشعر في محاكاة «الدادايزم» و«السوريالزم» و«الكونزم» الأدبي، وإذا ما كنت أظنه استيحاء مبتكرًا في وضع الشعر على طريقة «بيكاسو» و«ماتيس» في التصوير الحديث؛ ليس إلا صدى باهتًا لطريقة «جان کوکتو» ونزعات «مارسيل شووب» واتجاهات «ماكس جاکوب». وضعت في هذا الأسلوب قطعًا كثيرة أهمها: «النفس» و«القبلة» و«أبو الهول» … إلخ، مزقتها طبعًا قبل أن أفكر في إطلاعك عليها … وغير ذلك كم من الفصول التمثيلية كتبت ومزقت!

لقد كنت أظل أكتب أحيانًا تسع أو عشر ساعات في اليوم بلا انقطاعٍ دون أن أذكر الجوع، أو أفطن إلى أوقات الطعام. ولقد أنفقت شهورًا في وضع قصة تمثيلية، قرأتها لصديقي «مسيو هاب»، وقد كان قبل الحرب ممثِّلًا مهمًّا، كما تعلم، في أشهر مسارح «باريس»! قرأناها معًا في يوم بأكمله بحديقة «اللوكسمبورج»، وكان مصيرها «الإلقاء» في أول مرحاض عام بشارع مدسيس.

ذلك أني لم أستطع صبرًا على الانتظار حتى أعود إلى مسكني فألقيها في سلة المطبخ، ولكني لم أقنط مع كل ذلك … لقد استمرَّت الحمى بعدئذٍ سنتين كاملتين، قاسيت فيهما كثيرًا. لقد كان القلق مستحوذًا عليَّ إلى درجة مروعة، لأني كنت أظن في الأدب مستقبلي … لقد كنت أضنُّ على نفسي المتعَبة بشيء من الراحة والاستجمام … لَكَم دعاني زملائي المفلحون من دكاترة الحقوق إلى السفر معهم في الصيف إلى شاطئ «أوستند»، أو إلى جبال «الفوج» أو إلى قرية على بحيرات «سويسرا» استكشفوها، وكانوا يذهبون لنزهة الصيف زرافات، يضحكون ويلهون وكلهم فرِح بالحياة، مدرك لقيمة الشباب. أما أنا ففي باريس دائمًا، قد انحنى ظهري على مكتبي بشارع «بلبور» أبحث وأبحث عن ذلك السراب الذي يُدعى «الأسلوب» … حتى الحب، حتى «فينوس» ضحيتها من أجل «أبولون» … لقد كنت أصالح «إيما» يومًا لأخاصمها شهرًا، ولقد كانت تشاء الظروف أن أقابلها في المصعد وجهًا لوجه، وتسنح فرصة الصفاء واللقاء … ولكني أقول في نفسي: علام الصلح وأنا لم أزل مع الفن في خصام؟

وأعود إلى أوراقي أنكبُّ عليها انكبابًا غير حافل بغضب «إلهة الحب» معفرًا جبيني عند أقدام «إله الشعر والفن»! وإذا بهذا الإله القاسي يهزأ في النهاية بتعبي وكدِّي ويبسم لي قائلًا بلسان مسیو هاب:

«نعم! نعم! … لديك موهبة الحوار … لكن …»

فيلقي بهذه الكلمة الصغيرة جرثومة الشك في أعماق نفسي، فأنهال على عملي تمزيقًا لأبدأ عملًا آخر في كدٍّ ونشاط قاتلين، ويأتي الشتاء دون أن أشعر، ويسافر أصدقائي إلى التمتع بالشمس في «نيس» و«جراس»، وأنا أنا، على عهدي أرفض الذهاب معهم؛ لألقي بنفسي من جديدٍ في أتون تلك الحمى المستعرة! ولا أكاد أفيق إلا على صوت غناء «إيما» يصعد إليَّ من نافذتها بالطابق السفلي، ولكن … أين لي راحة الضمير؟ أين لي ذلك الاطمئنان إلى آخرة طريقي الوعر المغلَّف بالضباب؟ أين لي ثقتي بنفسي وعملي؟ أين لي الأمل ببعض النجاح؟ أين لي القليل من الرجاء يلطف من ذلك القلق الذي يحرمني التمتع بالحياة والشباب، وباريس؟ ما كان شيء يؤلمني ويطعن قلبي مثل سماع تلك الأغنية الباريسية الشعبية التي مطلعها: Si vous voulez l’amour n’attendez pas huit jours إذا كنت تريد الغرام فلا تنتظر ثمانية أيام!»

وأنا لا أنتظر ثمانية أيام فقط … إنما أنتظر الأبد … أنتظر السراب الذي لن يأتي … أنتظر الوصول إلى مفتاح حياتي وسر غدي، بل أنتظر على الأقل علامة واحدة، تدلُّني على أن ما أنفق من وقتٍ وجهدٍ وألمٍ في البحث لم يضِع عبثًا!

لقد كان مسيو هاب يعيب عليَّ شيئًا واحدًا: كتابتي الفرنسية مباشرة، ولكن ذلك لم يَفُت في عضُدي، ووضعني هذا القول وأمثاله في جحيم المعركة من جديد! فاندفعت أعمل سنة كاملة أخرى، كتبت في نهايتها صفحات تقرب من الخمسمائة لم أطلعك عليها، ولكن بعض الأصدقاء حملوها إلى ناقد فرنسي معروف، لم يرني ولم يعرفني، يستطيع أن يصدقني الرأي … فأبدى رأيه في خطاب طويل، فيه تحلیل دقیق، ختمه بالعبارة المعهودة: أفكار كثيرة، وموهبة في الحوار … ولكن … beaucoup d’ićèes le don du dialogue, mais آه لهذه اﻟ mais! … آه لهذه اﻟ «لكن»! قتلتني هذه اﻟ mais لطالما مزقت وقتي وجهدي … وقلبي … وشعرت أني سجين هذه اﻟ mais أفظع مما سجن بها ملك روما في قصة «إدمون روستان»! ومزقت تلك الصفحات أيضًا.

إن اعتراضات الجميع لا تتغير: «لماذا تحاول أن تتكلَّف الأسلوب تكلفًا؟! إنه لا يفوح من أسلوبك الفرنسي أي عطر شخصي أخَّاذ … إنما هي عبارات محفوظة في كتب البلاغة تحسب أنها أسلوب رائع!»

حقًّا … إن احتفالي بأمر الأسلوب قد أوقعني في التقليد … آه لكلمة أسلوب، ولكلمة formule! لقد بدأت أبصر وقتئذٍ … لقد تبيَّن لي بعد طول الجري والجهد أن الأسلوب — أحيانًا — حجة الكاتب الذي لا يجد ما يقول! إن الذي عنده ما يقول للناس يخرج بكل بساطة ما لديه من كنوز … فلا يحفل بأسلوب التقديم ويتكلَّف الوضع المسرحي في الإعطاء إلا ذلك الذي يعطي شيئًا تافهًا. ما الأسلوب إلا تلك الآلة الصناعية التي نتوسَّل بها للوصول إلى الحقيقة، ولكن ما أروع الحقيقة لو تفجرت وحدها من أعماق القلب الصادق، في كلمات بسيطة! لهذا كان الأسلوب أحيانًا كل أدب أولئك الذين لا يحملون في جعبتهم ما ينفع الناس!

ولقد لحظت أنت يا «أندريه» بحق أن كتابًا مثل كتاب «السحر الأسود» ﻟ «بول موران» هو مجرد أسلوب، وأن كتابًا مثل كتاب «قافلة بغير إبل» ﻟ «ولان دور جليس» ليس سوى أسلوب!

هذا العصر الآلي يلجأ أحيانًا إلى آلة الأسلوب كلما أعوزته روح الحقائق الإنسانية التي أبرزها الأدب القديم … الأسلوب هو المظهر الخادع الذي يخفي به كُتَّاب اليوم جهلهم المطبق بروح الشعوب التي يزعمون النفوذ إلى صميمها، في مدى رحلة شهرين بالقطار والباخرة! إنهم يستعيضون بفن «الديكور الكلامي» و«الريبورتاج» السريع، واللون المحلي السطحي، عن الحقائق التي لا يحسُّها إلا أهلها. إن ما يطلبه الغرب، وما يطلبه الشرق، أشياء غير ذلك … أقرأ مقالات «لويس برتران» عن إسبانيا … إنه قد أدرك كل هذا، فهو يتهم كُتَّاب فرنسا المعاصرين بأنهم — لاهتمامهم باللون السطحي وحده — قضوا على «إسبانيا» أن تظل مجهولة إلى الأبد لعين «فرنسا» … وأنا أزيد عليه أن كُتَّاب إسبانيا أيضًا من أمثال «بلاسكو إيبانيز» ساهموا في هذا التضليل … لقد قيل إن هذا الكاتب الإسباني المشهور كان ذا وجهين: وجه يتجه إلى وطنه، ينشئ له أعمالًا هي وحدها ذات القيمة الحقيقية، ووجه يتجه إلى أوروبا، فينشئ لها أعمالًا دولية.

وأوروبا للأسف لا تعرف إلا هذا الجانب المصنوع لها صنعًا!

إذا كان هذا قيل على «إسبانيا» فماذا يُقال عن مصر والشرق؟ إن مهمة كاتب مصري أو شرقي لأشق وأعسر وأكبر من ذلك كله … ولكن لا بد من جهادنا حتى في بلادنا أيضًا؛ فإن الأسلوب السليم لم يزل في عرفنا مرادف اللغة المتصنعة المنمقة، وقليل من فطن إلى أن الأسلوب هو روح وشخصية!

لقد كان مسيو «هاب» يدعوني إلى ترك الكتابة الفرنسية لا لأني لا أحسنها … على النقيض؛ لأنه رآني أتكلَّفها، وأنمقها، وأستخدم تراکیب موضوعة، وبلاغة محفوظة؛ مما حبس روحي وسجن شخصیتي في أغلال من الكذب والتصنُّع … لقد أصاب الحقيقة … لا يخلق الأسلوب الحق إلا الكاتب الصادق في شعوره وتفكيره إلى حد ينسيه أنه يُنشئ أسلوبًا.

البلاغة الحقيقية هي الفكرة النبيلة في الثوب البسيط … هي التواضع في الزي والتسامي في الفكر … كذلك كان أسلوب الأنبياء في حياتهم: انظر إلى «محمد» و«عيسى» على الخصوص: بساطة في الملبس، وتواضع في المظهر، وسمو في الشعور والتفكير!

إني يا «أندريه» مهتم كل الاهتمام بالتفاتِك الحاضر إلى الأدب … وإن بحثك وشكك وقلقك لممَّا يدنيك إلى نفسي، فمرحبًا بك … امض فيما أنت فيه، ولا تخش هذا المرض الضروري، بل يجب ألا تُشفَى منه سريعًا … حبذا لو اتصلت بك، وبما تقرأ أكثر من ذلك! … ولو أني أتبع اليوم نظامًا صحيًّا règime sec أي عدم المطالعة في الأدب إطلاقًا … قراءتي الآن قليلة، وفي أشياء أخرى غير الأدب، مثل تقارير عصبة الأمم، وسياسة أوروبا الاقتصادية بعد الحرب … إلخ.

•••

(حاشية) أصبح الأمل ضئيلًا في أمر تعييني النهائي بالقضاء المختلط؛ فإني بعد أن أُلحِقت بنيابة الإسكندرية تحت التمرين توطئة للتعيين، ولبثت أعمل تلك الشهور الطوال، عيَّنوا في كل وظيفة تخلو أشخاصًا غيري، وتركوني في القاع كثمالة الكأس!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

أحقيقة أن امرأة تستطيع أن تميل إليَّ؟ … آه أيها الماكر! … لقد كشفت حيلتك، تريد أن توهمني أن «الجميلة» ساقية المطعم الإلزاسي تحمل لي أجمل الذكرى؟! كلَّا … إنك تعاملني دائمًا؛ كما يعامِل طبيب مريضًا … وهذه الفكرة وحدها كفيلة أن تجعلني لا أصدق ما تقول. تذكر لي أنك دعوتها إلى العشاء، وتخشى غضبي … لا يا سيدي! إني لم أغضب … على النقيض، لقد سرَّني ذلك!

إنها كانت عندي شيئًا جميلًا حقًّا … هي شيء جميل لم أجرؤ على مسِّه بأناملي، حتى لا ينهار أملي فيه … ليت الأمر اقتصر على الحب يا «أندريه»! كل شيء ينهار بلمسة من يدي … كأنما أبني الآمال من الرمال … لقد مضى أكثر من عام وأنا في «الإسكندرية»، لقد تغيرت كثيرًا، وتنازلت عن أغلب أفكاري وآمالي.

لقد أرغمتني الحياة على المصانعة في أمور كثيرة: لقد نبذت فكرة القضاء المختلط، واتجهت شطر القضاء الأهلي … إني الآن في انتظار أي قضاء؟! إن الحياة لتقهرني قهرًا على قبول ما لا أريد … إني منذ التحاقي بالنيابة المختلطة تلك الشهور، وأنا أختلط بطوائف من الموظفين، وبألوان من الناس؛ ما كنت أحسب أنى أستطيع الحياة بينهم يومًا. وحتى مطالعاتي الآن أكثرها — عدا ما يتعلق منها بعملي الرسمي — يجنح إلى الدراسات الجافة والمسائل الاقتصادية، ومع ذلك فإني أشعر دائمًا أن في نفسي منطقة رفيعة منيعة، لا يصل إليها أحد؛ فإني ما أكاد أختم أعمال النهار … حتى آوي إلى حجرتي أصغي إلى أسطوانة «عصفور النار» ﻟ «سترافنسكي» … لقد أخطأت يا «أندريه» كما أخطأت أنا من قبل؛ إذ نظن حياة العمل والواقع قديرة على انتزاع حب الجمال من أنفسنا، وا أسفاه! إن كل ما كسبته نفسي من اتصالها بالفن الحق، كان حقيقيًّا خالصًا، لا زيف فيه.

إني أعيش في الظاهر؛ كما يعيش الناس في هذه البلاد … أما في الباطن فما زالت لي آلهتي وعقائدي ومُثلي العليا … كل آلامي مرجعها هذا التناقض بين حياتي الظاهرة وحياتي الباطنة!

إني أصر على مراسلتك هذا الإصرار؛ لأنك الوحيد الذي يغمر هذه الحياة الثانية … إنها صحراء أصيح في أرجائها، وأنت وحدك الذي يسمع رجع الصدى! آهٍ! إنك لن تقدر آلام من يعيش في غير عصره؛ فأنت أوروبي يعيش في أوروبا، إنك لم ترزأ بعد بالحياة بين ناس لا يتصل إحساسهم الفني بإحساسك … لقد كان مجرد حضوري في قاعة كونسير «بلييل» أو «كولون»، يجعل بيني وبين كل فرد حاضر — فرنسي أو روسي أو ألماني — صلة تكاد تكون صلة المواطن بالمواطن!

لقد كانت أيدينا تنطلق بالتصفيق لدى دخول موسیقي مثل «فورتفانجلر» في شبه حركة واحدة، كأن مراكز الإحساس فينا جميعًا متصلة بسلكٍ واحدٍ!

لقد كنا في وطن ثقافي واحد … لقد كانت تظلُّنا أنا والفرنسي والروسي والألماني والمجري والإنجليزي سماء واحدة … هي سماء الحضارة في هذا القرن!

من أجل ذلك كنت أطالع كلَّ ما كُتِب عن عصبة الأمم وكلي أمل، وما قيل عن «الدولية» واتجاهاتها الإنسانية وكلي رجاء، ثم إني فوق ذلك وبعد ذلك كنت أعيش … أعيش الحياتين، بل حياة واحدة؛ إذا لم تكن بي حاجة إلى حياة ظاهرة وحياة باطنة!

قد تسألني: ليس في «مصر» طبقة من المستنيرين؟ نعم في مصر طبقة مستنيرة فيها كثيرون عاشوا في أوروبا، وعرفوا الثقافة الأوروبية، وفيهم من يعرف الفن الأوروبي ويتكلم عن المصورين والتصوير، ومن يتكلم حتى عن «برامس» و«باخ» و«هاندل» … ولكن النادر أن تجد بين هؤلاء من عرف أن الثقافة الحقيقية شيء، والكلام فيها شيء آخر! وقليل من بين هؤلاء من أدرك أن الثقافة العقلية وحدها ليست كل الثقافة، وأن الثقافة الكاملة شيء أوسع من ذلك بكثيرٍ، إن أكثر هؤلاء المتكلمين في الموسيقى والتصوير والفنون يعرفونها برءوسهم، ولا يدركونها بحواسهم!

إن المطلوب للثقافة ليس مجرد المعرفة، بل الإحساس والتذوق، والتغذي بمختلف الفنون. ما قيمة الكلام عن «بيتهوفن» إذا كانت أعماله لا تهز نفسك هزًّا؟ وما معنى الحديث في «رافاييل» أو «مملنج» أو «روبانس» أو «بوتيتشيللي» إذا كانت صورهم لا تعمر رءوسنا ليل نهار، وتحدث ألوانهم وأصباغهم في نفوسنا الأحداث؟! الثقافة ليست كلامًا نملأ به الرءوس، ولكنها يقظة الملكات كلها والحواس! إذا سلمت بقولي هذا، فلا أبالغ إذا قلت لك: إنه ليس في مصر عدد أصابع اليدين من المثقفين!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

إني الآن غارق في الأدب العربي … أريد أن أدرس قضيته من أساسها … أريد أن أعيد النظر في أمر اللغة العربية — لغتي — وأكشف أسرارها، وأضع إصبعي على مواطن ضعفها وقوتها. هذا الوقت هو خير وقت أستطيع فيه أن أرى وأميز وأحسن «الحكم»؛ فلي عينان قد طافتا — منذ أمد ليس بالبعيد — بمختلف الآداب العالمية، ولقد نجحت فكرتي حقًّا! إني أقرأ نصوص هذا الأدب في عصوره المتعاقبة بعين جديدة، عين عامرة بالصور، حافلة بالمقارنات، وبنفسٍ رحيمة عادلة صابرة، تلتمس العلل والأسباب، وتطيل التريث والبحث، قبل أن تصدر الأحكام!

قبل كل شيء أحب أن أقول لك: إن أولئك الذين علَّمونا اللغة العربية، في المدارس الابتدائية والثانوية، كانوا يجهلون، لا معنى اللغة العربية وحدها، بل معنى اللغة على الإطلاق. إنك لن تجد مستنيرًا في مصر لا يقول لك إن اللغة العربية — للأسف — قاصرة عن التعبير في شتى ضروب العلوم والفلسفة والتفكير العالي، بل منهم من يقول إنها ليست لغة تفكير، إنما هي لغة بهرج وتنميق، لماذا؟ السبب بسيط: هو أن النماذج التي وُضِعت في أيدينا — ونحن صغار — للبلاغة في اللغة العربية كانت كتبًا غثة المعنى متكلِّفة المبنى، لو كتب بها شخص اليوم لأثار سخرية الناس! نعم … إنهم يعلِّموننا في المدرسة لغة إذا استعملناها في الحياة ضحك منا الناس! من ذا يستطيع بعد انتهاء دراسته أن يكتب رسالة على نمط «عبد الحميد الكاتب»، أو مقالًا أو بحثًا أو تقريرًا على طريقة «الحريري» دون أن يتعرض لسخرية الساخرين؟!

ليس من اليسير أن أطلعك أو أترجم لك مثل هذا الأسلوب «النموذجي»! ولكني أقول لك: إنه أسلوب يستخدم اللغة استخدام الجواري للعود في مجالس الأنس والسُّكر بقصور «هارون الرشيد»!

أسلوب غايته قبل كل شيء أن يبهر السمع النائم ويطرب الأذن المسترخية! لست أدري أيجوز أن تجعل لغة من اللغات وسيلة لهو وأداة براعة؛ كفنون المغنين، وألعاب الحواة، أم أن اللغة أداة يسيرة لنقل الأفكار النبيلة؟ إني أفهم أن يُضرَب مثل هذا الأسلوب مثلًا للضعف، والسقم، لا للسلامة والبلاغة؛ فإن التكلُّف أبرز عيوب الفن. كان «جويو» يقول: إن الرشاقة في فن الرقص هي أداء الحركة الجثمانية العسيرة، دون تكلُّفٍ يشعرك بما بُذِل فيها من مجهود … تلك أولى خصائص الأسلوب السليم في كل فن … حتى الحاوي الماهر هو ذلك الذي يخفي عن الأعين مهارته، ويحدث الأعاجيب في جوٍّ من البساطة والبراءة … لعلَّ الكاتب الوحيد الذي ضربوه للطلاب مثلًا فصدقوا هو «ابن المقفع» في ترجمته ﻟ «كليلة ودمنة». هذا كاتب تصنَّع في أسلوبه هو الآخر ولكن بخفة ومهارة، وطلاه وجمَّله ولكن بذوقٍ وكياسة؛ فلم يبد عليه سماجة التكلُّف ولا ثقل الصناعة!

إنه ذلك الحاوي البارع! أو تلك الحسناء الذكية التي تطلي وجهها بالأصباغ، ثم تمسح أثرها الصارخ، فتظهر وكأن نضارتها نضارة الأصل والفطرة.

إن «ابن المقفع» يجهد في أسلوبه ليخفي أثر الجهد! إنه تلك الراقصة الرائعة التي تخفي حركاتها العسيرة فلا تبدو لنا منها إلا تموجات رشيقة يسيرة! هذا الكاتب هو — على كل حالٍ — مَثَلٌ طيب للصناعة في الكتابة! على أنك إذا أردت أن تعرف حقًّا جلال اللغة العربية؛ في بساطتها وسيرها قدمًا نحو الغرض: فاقرأها عند الفلاسفة والمؤرخين العرب! أولئك عندهم حقيقة ما يقولون؛ فهم لا يضيعون أوقاتهم وأوقاتنا في العبث اللفظي والطلاء السطحي؛ إنما هم يحدثوننا في شئون فكرية واجتماعية وأخلاقية ودينية في لغة سهلة مستقيمة، لا لعب فيها ولا لهو ولا ادعاء.

إني لأدهش كيف أن مؤلفين مثل «ابن خلدون» و«الطبري» و«ابن رشد» «والغزالي» لم يعرضوا علينا قط في دراساتنا للأدب العربي بالمدارس؟! كيف نعرف لغة بدون أن نطالع فلاسفتها ومؤرخيها؟ أتستطيع معرفة الفكر اللاتيني دون أن تقرأ «سنيكا» و«مارك أوريل» و«تيتوس ليفيوس» و«کورنلیوس تاسیت»؟! لو أنه عرضت علينا صفحة واحدة مع شرحها، لكل فيلسوف بارز ومؤرخ مشهور من فلاسفة العرب ومؤرخيهم لتغير رأي أكثر المستنيرين عندنا في اللغة العربية، وقدرتها على التعبير عن أدق الأفكار وأعلاها وأعمقها وأنبلها. أوَليس بهذه اللغة نقل «ابن رشد» و«ابن سينا» أعمق آراء فلاسفة الإغريق إلى أوروبا المتعطشة للمعرفة؟! أنتم معشر الفرنسيين فعلتم ذلك في تدريس الأدب الفرنسي!

ما من کتاب مدرسي — صغر أو كبر — لا يذكر فيه نماذج من أسلوب «مونتاني» الفلسفي، وأسلوب «روسو» الاجتماعي و«بوسويه» الديني و«فولتير» التاريخي؛ بل حتى أسلوب «موليير» الفكاهي أحيانًا إلى حدِّ التهريج!

ذلك أن المدارس الفرنسية أدركت أن تدريس اللغة يجب أن يشمل كل نواحي التعبير بها … أما قصر تعليمها على نماذج البلاغة اللفظية الجوفاء فهو امتهان لكرامة اللغة، وانتقاص من قدرتها على الأداء!

في العربية كاتب متعدد النواحي، له باع طويل في الجد والهزل، هو «الجاحظ» … هذا أيضًا لم نقرأ له سطرًا في المدارس … كل كاتب عربي بسيط الأسلوب نافع لنا في الحياة يقصونه عنَّا إقصاء بحجة أنه غير بليغ! ويأتون إلينا بالكاتب الذي لا ينفع في حياتنا إلا نموذجًا لإثارة السخرية! حتى الشعر، وهو مفخرة اللغة العربية، الشعر الذي كان يجب أن ترى فيه نفوسنا المتفتحة أول لون من ألوان الفن … ماذا انتخبوا لنا منه؟ قصائد المواعظ والحكم!

هنالك حقًّا نوع من الموعظة والحكمة يعرف الشاعر الحق كيف يلبسها ثوبًا من الصور الحسية والذهنية، ترفعها إلى مرتبة الفن العالي (كما فعل «أبو العلاء» و«المتنبي» و«النابغة الذبياني» في بعض قصائدهم)، ولكن الفرز والتمييز والتخير في هذا الباب يحتاج إلى حاسة فنية لا يملكها القائمون بهذا العمل.

حتى الشعر الموسيقي والشعر التصويري الذي عرضوا علينا بعض نماذجه (في أعمال «البحتري» و«ابن الرومي» على الأخص) لم يكن من خیر آثارهما.

ليس كل شعر فنًّا عاليًا؛ لأنه يعظ أو يصور أو يرنم … فالشعر الحق هو شيء أبعد كثيرًا من مجرد إصابة الأهداف الظاهرة، أو تحقيق الأغراض المباشرة، بل ربما انحطَّ شعر في عُرف الفن العالي لأنه اقتصر على صياغة حكمة أو تصوير منظر أو إحداث جرس … إنما الشعر الحق قد يتوسل بهذه الأشياء لبلوغ مأرب أسْمَى: هو الارتفاع بالناس إلى سحب لا تُبلَغ والرحيل بهم إلى عوالم لا تُنظر! هو أن يريهم من خلال كلماته البسيطة ووسائله البادية أشياء لم تكن بادية ولا طافية، في محيط ضمائرهم الواعية. هو بالاختصار ذلك السحر الذي يوسع ذاتية الناس، فيرون أبعد مما ترى عيونهم، ويسمعون أكثر مما تسمع آذانهم، ويعُون أعمق مما تعي عقولهم … هذا هو الشعر … هذا هو المقصود من كلمة «الشعر» في إطلاقها على كافة الفنون! ما من فن عظيم بغير شعر، أي بغير تلك المادة السحرية التي تجعل الناس يدركون بالأثر الفني، ما لا يدركون بحواسهم وملكاتهم!

لقد أثقلت عليك يا «أندريه» بهذا الحديث في موضوع لا يعنيك كثيرًا، ولكن من غيرك أبُثُّه كل خواطري؟ تحمَّل!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

إمعاني في بحوث الأدب العربي اليوم يجعلني غير صالح للحديث في شيء آخر، ولقد فرغت من مسألة اللغة فإذا مشكلة أخرى تقوم أمامي، هي أن الأدب العربي ذاته من حيث هو خَلْق فني يبدو لي ناقص التكوين!

والسبب في ذلك بسيط أيضًا:

إذا تأملتَ الآداب القديمة كلها، وجدتَ أنها قد عاصرتها فنون کبری! خذ مثلًا «مصر القديمة» و«الهند» و«الإغريق» و«الرومان» … إلخ.

لقد كانت المعابد العظيمة والتماثيل الرائعة، خليقة أن يعاصرها أدب يضارعها في قوة البناء ودقة التركيب وروعة الفن: «الملاحم والتمثيل والقصص» ولكن الذي حدث في تاريخ الأدب العربي كان غير ذلك … لقد نشأت لغة نضرة زاهرة، في بيئة قحلاء وسط الصحراء!

لقد كان أقصى ما عاصر لغة «امرئ القيس» أو «لبيد» أو «زهير» من مظاهر الفنون الأخرى تلك المسوخ والتهاويل لآلهة من الحجر! أطلقوا عليها «الهبل الكبير» و«الهبل الصغير» و«العزى» و«اللات»… إلخ.

لا أحسب أحدًا يجرؤ أن ينسبها إلى الفن في قليل أو كثير! إنه حقًّا لمن مفاخر اللغة العربية أن تبرز وحدها هذا البروز بين الرمال؛ كأنها عرار أو أقحوان، ولعل الفضل في ذلك للشعر، فالشعر زهر قد يَنْبُت في الخلاء، أما النثر فيحتاج في نموه إلى العمران، لكن جاء العمران بعد ذلك بظهور الإسلام، وتكونت حضارة إسلامية واسعة الأرجاء، فأقيمت المساجد الجميلة على أنقاض الهياكل القديمة، وشُيِّدت القصور ومُلئت بالبدائع والطرائف، وتقدمت الصنائع، وازدهرت الفنون، وابتلعت المدنية الإسلامية في جوفها كثيرًا من المدنيات. ومع ذلك فإن الأدب العربي لم يحاول أن يزيد في قوالب نثره، أو أن يساير تلك الفنون المعاصرة، حتى بدا للأجيال اللاحقة في ذلك الفقر الظاهر! والواقع أن الأدب العربي الإنشائي لا يختال للأنظار إلا في ثوبين معروفين: «الرسائل» و«المقامات»!

والمقامات أعمال قصصية، قُصِد بها سرد حكاية وتصوير أشخاص، ولكن الإغراق في الوشي اللفظي، والاحتفال بالوضع اللغوي؛ صرف همَّ الكاتب عن التعمق في التحليل، والإفاضة في السرد، والإجادة في البناء؛ فالأدب العربي الإنشائي قد عني باللفظ أكثر مما يجب، ولم يشأ أن ينزل عن تكلُّفه الذي يعتبره فصاحة وبلاغة؛ ليصور ما يجيش في نفس الشعب من إحساس، ولا ما يهيجه من خيال!

وهنا حدث أمر عجيب! إن روح الشعب لا يقهر! هذا الشعب في عصور الحضارة الإسلامية المختلفة قد تعطَّش للون جديد من الأدب، غير لون البداوة الأولى، لون من الأدب مستمد من إحساسه هو بالحياة الجديدة المتطورة المتغيرة! أدب جديد قائم على فن مشابه، ومساير للفنون الزاهرة المعاصرة، التي يراها بعينه، ويهيم في مراميها بخياله! فلما لم يشأ أدباء الفصحى أن يمدوا الناس بحاجتهم، لجأ الناس إلى أدباء من بينهم، لا يملكون أداة اللغة، ولا جمال الشكل، ولكن يملكون السليقة الفنية وروح الخلق … وهنا ظهر الأدب الشعبي!

فما ظهور الأدب الشعبي أحيانًا إلا علامة قصور أو تقصير من الأدب الرسمي، أو صرخة احتجاج على جمود الفصحاء! هكذا ظهر القصص الشعبي في صورة «عنترة» و«مجنون ليلى» و«كُثير عزة» … إلخ، وسارت الحضارة الإسلامية فسار معها الأدب الخيالي الاجتماعي الشعبي فإذا نحن أمام عمل فني رائع، هو «ألف ليلة وليلة»؛ ثم نبت في كل شعب من شعوب الإسلام قصصه الذي يطبعه بطابع عصره، فكان في مصر قصة «أبي زيد الهلالي» و«سيف بن ذي يزن» و«الظاهر بيبرس» … إلخ.

ومن الغريب أنك إذا تأملت «التصميم» الفني والبناء الروائي لهذا الأدب الشعبي، وجدته — من حيث الفن لا اللغة — هو السائر في الطريق الصحيح محاذيًا تلك الفنون الجديدة التي قامت بقيام الحضارة الجديدة، فلقد كان من المستغرب حقًّا للباحث أن يرى حضارة إسلامية عظيمة ذات فنون زاهرة وعلوم راقية، ولا يجد في أدبها أثرًا إنشائيًّا مثل «الشاهنامة» أو «الرامايانة» أو «الإلياذة» أو «كليلة ودمنة» … إلخ، حتى كادت تتهم العقلية الإسلامية بعقمها، ولكن الأدب الشعبي الإسلامي صحَّح الوضع أمام التاريخ العلمي، وأثبت أن الحضارة الإسلامية سارت في مجراها الطبيعي، مع هذا الفارق:

وهو أنه في الحضارات الأخرى الهندية أو الفارسية أو الإغريقية، كان خاصة الشعراء والأدباء هم الخالقين لتلك الآثار.

أما في حضارة الإسلام؛ فقد تخلَّى الخاصة عن بعض هذه المهمة لعامة أدباء الشعب وشعرائه، ووقفوا بعيدين عن كل تغيير أو ابتكار … حتى القرآن ما حاولوا أن ينتفعوا به انتفاعًا فنيًّا … لقد أتى القرآن بجديدٍ في فن الكتابة: لا اللغة وحدها، بل القصص. لقد استخدم الفن القصصي في التعبير عن المرامي الدينية السامية، ولكن المدهش أن الأدب العربي لم يرَ في القرآن إلا نموذجًا لغويًّا … ولم يرَ فيه النموذج الفني! فلم يخطر له استلهام قصصه، أو الاسترشاد بها، أو استغلالها استغلالًا فنيًّا مستفيضًا!

إن وحي الأدب العربي لم يرد أن يتحرك! … لا إلى أعلى ولا إلى أسفل، لا نحو القرآن، ولا نحو الشعب.

من الإنصاف أن أستثني واحدًا هو «الجاحظ» … إن هذا الكاتب شعر فيما يبدو لي بالغلطة، فسلك مسلكًا آخر … ونزل إلى الشعب يستوحيه، ويصوِّر أسواقه، وبُخلاءه، ولصوصه، وتجاره، وشرفاءه، وخبثاءه! في أسلوب بسيط حي يُعَد مثلًا طيبًا للنثر التصويري في عصور الحضارة والعمران … وهو بعينه الأسلوب الذي أثار على «الجاحظ» المسكين نقد المتنطعين من أدباء عصره، فرموه بالعامية والركاكة والابتذال!

وأريد أن أستثني أيضًا بعض الجانب الفني لمقامات «بديع الزمان» … فهو من حيث رسم أشخاصه، وتصوير المجتمع في عصره، يكاد يعطينا أحيانًا صورًا ناطقة على صغرها … تذكِّرني بصور «المنياتور» الفارسي … ولم يفسد هذا الأثر الفني إلا أسلوبه اللغوي؛ فلو أنه وُضِع بلغة «الجاحظ» في بخلائه، لكان أدنى إلى الكمال … ولكن هذا الأثر لم يُكتَب فيما يظهر إلا لإبراز رصانة اللغة، وثراء اللفظ، وبراعة السجع … أما الفن فلم يخطر للكاتب على بال!

والواقع أن تباهي أدباء العربية بالثروة اللفظية والمهارة اللغوية كاد يقتل النثر العربي نفسه، فلم ينقذه من هذا المصير — كما قلت لك — غير طائفة الفلاسفة، وفقهاء الدين، والمؤرخين، ومن شابههم من الباحثين الجادين؛ وأن مؤرخي الأدب أو رواته على الخصوص كان لهم أعظم الفضل في تيسير اللغة العربية، وإلباسها حُلة نضرة، دون التجاء إلى التصنع الممجوج: «الأغاني»، و«العقد الفريد»، و«نهاية الأرب»، و«الأمالي»، و«النوادر»، و«البيان والتبيين» … إلخ.

على أننا بعد ذلك إذا طرحنا جانبًا أعمال مؤرخي الأدب ورواة أخباره، على أهميتها وسلاسة لغتها، وأردنا أن نبحث عن فن أدبي يُعَد في ذاته خلقًا إنشائيًّا فنيًّا؛ لما وجدنا شيئًا يضارع الأدب الشعبي في: «ألف ليلة وليلة» و«عنترة» و«مجنون ليلى» و«أبي زيد الهلالي» … إلخ. فهذه الآثار، على الرغم من انعدام الروعة اللغوية فيها، وضياع الجانب الشكلي اللفظي؛ قد استطاعت أن تؤثر بمجرد فنها؛ ذلك أن القوة الخالقة في روح الشعب لم تضل لحظة عن طريقها إلى الخلق الفني، ومع ذلك فقد ظل الأدب الشعبي حتى اليوم غير معترف به في تاريخ الأدب العربي، بل إن أثرًا خالدًا مثل «ألف ليلة» اعترفت به اليوم كل أمم العالم … ونقلت قصصه إلى كل لغة، ووضعت في كل يد … حتى أيدي الأطفال.

«تذكرت الآن أن ولدك الصغير «جانو» أدهشني — يوم قابلته أول مرة في «كوربفوا» — فقصَّ عليَّ أقصوصة «علاء الدين والمصباح» على نحوٍ أثار عجبي.»

هذا الأثر الفني المشرف لم يعترف به أديب عربي اعترافًا صريحًا! لقد انطوت قرون، وما يزال هذا السد قائمًا؛ كأنه سد «الصين» بين النثر العربي؛ بسجعه وبلاغته المصطنعة، وبين خيال الشعب ورغباته وآماله.

لو أن أدباء اللغة الفصحى هدموا هذا السد من قديم، ونزلوا عن بعض جمودهم، وسايروا تقدُّم الفنون في زمانهم، وعبَّروا عن مطالب عصرهم وشعبهم، لكان الأدب العربي اليوم في مقدمة الآداب العالمية؛ فليس الروس هم أساتذة القصة، ولا الإنجليز، ولا الفرنسيون … بل نحن؛ بما لدينا من قرآن عرف القصص، وما خلقنا في مجتمعنا من أشباه «عنترة» و«ألف ليلة وليلة»، وما وضعنا في لغتنا من «مقامات» تُعد أساسًا لفن الأقصوصة! لأحق من يزعم بأننا أساتذة هذا الفن الروائي … لكن وا أسفاه!

هم أولئك الجامدون الذين وقفوا حيث هم، وتركوا لغيرهم تلك الكنوز، يغترفون منها ويربون عليها، إن هذا الذي أسميه سدًّا بين الجامدين والمجددين! أو هذا السد بين الأموات والأحياء … كان دائمًا موجودًا في تاريخ كل لغة! ألا تذكر «دانتي»، وكيف حطَّم هذا السد يوم أصرَّ على أن يكتب «الكوميديا الإلهية» لا باللاتينية — لغة العلماء في عصره — بل بالإيطالية لغة الناس في زمانه … و«مسترال» يوم وضع ملحمته الشعرية الرائعة «ميراي» بلغة الريف الفرنسي، وهي لغة لم أستطع فهمها، مما ألجأني إلى قراءة ملحمته في ترجمتها الفرنسية العصرية! ومع ذلك لم تحل لغة الريف دون تسنَّم ذلك الشاعر قمة المجد، واعتباره من أكبر شعراء فرنسا والعالم: لأن اللغة لم تكن يومًا حائلًا في أوروبا دون تقدير الأثر الفني في ذاته. أما عندنا فهي حائل دون مجرد الاقتراب منه؛ كأنما هو شيء مزر بمقام فضلاء الأدباء … لهذا لم تجد أديبًا عربيًّا، جرؤ على النظر في آثارنا الشعبية الرائعة من حيث هي فن وخلق، طارحًا مسألة لغتها جانبًا، متغاضيًا عما في هذه اللغة من إسفاف وقصور وعدم كفاية! لقد رضي الفضلاء أن ينظروا في تاريخ «الجبرتي»، وهو تقريبًا باللغة العامية، ولم يرضوا أن ينظروا في «ألف ليلة وليلة» وهو أسلم لغة في نظري من كتاب «الجبرتي»، ولكن السبب عندهم: أن ذلك تاريخ، وهذا أدب، والأدب في عرفهم مرادف للغة … فاللغة … اللغة هي لدينا شبح الأدباء المخيف … نحن عبيد ذلك الميراث من الألفاظ والعبارات والتراكيب التي وجدناها داخل صناديق المعاجم العتيقة، وكتب اللغة القديمة!

إننا ننظر فيها بحرصٍ، خشية أن ينفذ إليها نور هذا العصر أو نسيم هذا الزمن، فيعبث بنسيج عنكبوتها المقدس! يا لشبح القدماء المروع! يا لشبح الأموات، الذي يرهب كل من يعتبر اللغة كائنًا حيًّا يتغير ويتطور، وكل من يحاول التصرف فيها طبقًا لمطالب العصر وروح الزمن!

إن اعتصام الموتى ومن معهم خلف ذلك السد الهائل، الذي يقصيهم عن عالم الأحياء، بنزعاته الجديدة، وأذواقه الخاصة، ومقاييسه الشخصية؛ كان هو السبب في قيام حركات التجديد والإصلاح، والنهضة رافعة معاولها في وجه ذلك السد.

كل عملية تجديد وبعث ليست سوى تحطيم السد بين عالم الأموات وعالم الأحياء! … أعتقد أن «الجاحظ» في مسألة اللغة والتصوير الشعبي وقف بعض الشيء موقف «دانتي»، وحاول أن يحطم ذلك السد قليلًا، ولو أن الأمور سارت بعد ذلك سيرها الطبيعي طبقًا لشريعة التطور لتقدمت اللغة العربية منذ زمن بعيد. ولكن الغريب أن نجد كاتبًا في هذا العصر مثل «المويلحي» عندما أراد أن يصور الشعب المصري — وهو اتجاه طيب — في كتابه عيسى بن هشام — لم يستعمل لغة «الجاحظ»، ولا حتى لغة «ابن المقفع»، بل استخدم لغة الحريري وبديع الزمان! بماذا نفسر ذلك؟ إلا أن يكون هذا هو الاختيار الطبيعي الجدير بعصر نُكَاس وانحطاط!

على أن البوادر تدل اليوم على نزعة جديدة في أسلوب الكتابة … وإن كانت القوالب الأدبية لم تتنوع كثيرًا … ولعل باب «المقالة» هو أبرزها مكانًا، وأسرعها سيرًا في طريق التطور والتجديد … غير أن الشعور العام بضرورة التنويع في الأساليب والأبواب، يسري الآن في الطبقات المستنيرة!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

إني أضع دائمًا نصب عيني تلك المصادر الثلاثة أستلهمها فنيًّا: «القرآن» و«ألف ليلة وليلة»، و«الشعب» أو «المجتمع»! ولكن الأسلوب! … الأسلوب! لطالما شَغَلْتُك معي بالحديث عن الأسلوب الفني الذي أبحث عنه … أين أجده أخيرًا؟ ومع ذلك في وهمي أنه قد يكون على مقربة مني دون أن أشعر! لم لا يكون هو ذلك «الحوار» الذي أنفقت في ممارسته وقتًا طويلًا؟ إنه «القالب» الذي بدأت معالجته — كما تعلم — قبل نزوحي إلى «أوروبا»، ومن أجله انصرفت حتى عن الكتابة السياسية «المحترمة» في نظر أهل بلادي! لا يمكن أن يكون هذا الوقت والجهد قد أُنفِقَا عبثًا … لم لا تقول إن «الحوار» هو أسلوبي الذي أتحرق بحثًا عنه؟ لقد كان هو — كما تعلم — الناحية التي استرعت نظر من اطَّلع على مخطوطاتي في فرنسا من أدباء وفنانين … آه … لو أمكن إدخال «الحوار» قالبًا أدبيًّا وبابًا مرْعيًّا في الأدب العربي!

•••

(حاشية) أتدري يا «أندريه» لماذا لا أتوقع نجاحًا؟ لأن التمثيل في بلادنا أو «التشخيص» هو حتى اليوم بمعزلٍ عن «الأدب»، فالرواية التمثيلية عندنا شيء يمثَّل ولا يُقرأ، وربما كان للأدب عذره … فالتمثيلية لدينا لا يمكن أن تُقرأ، لأنها قائمة على مجرد الحوادث المثيرة والحركات والمفاجآت! ولا تعرف بعد الحوار القائم على دعائم الفكر والأدب والفلسفة … لكن إذا وجد هذا الحوار الأدبي الفكري الصالح للمطالعة … فماذا ترى يكون موقف الأدب العربي منه؟

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

لا يزعجك سيل خطاباتي المتدفق عليك؛ فإني أذكر قولك إن رسائلي تنفعك أحيانًا «لتلف» فيها فرشاة أسنانك وأدوات حلاقتك، وأزرار قميصك، ومختلف حوائجك الصغيرة في أسفارك، بين «ليل» و«باريس» فما يضيرك إذن استلام الخطابات الكثيرة؟ ما دمت لا تجيب ولا تتكلف شيئًا، لعل لكتابتي إليك اليوم سببًا واضحًا معقولًا: فاليوم هو عيدنا الكبير، والموسيقى تعزف بالأبواب طالبة ما نسميه «العيدية» والأراجيح منصوبة، والصبيان والأطفال يتصايحون، وينفخون في المزامير الصغيرة بملابسهم الحمراء القانية والصفراء والخضراء. والجميع يقول بعضهم لبعض: «كل عام وأنتم بخيرٍ» فلماذا لا أقول لك أنت أيضًا هذه الجملة؟ ثم هنالك سبب آخر، هو أننا في هذا العيد نضحي بخروفٍ، ولقد أكلنا يا سيدي اليوم ضلع خروف محمر، ووالله لقد تذكرتك، ولعلَّك أحسست اللحم المحمر في بطنك، ولقد أكلته باسمك كما أكلت أنت باسمي في «ليل» «دستة» المحار الأخضر، الذي أحبه، لكن وا أسفاه! كان ذلك فيما مضى … أما اليوم فأنا أحس ببطني «الزفت والقطران»، فماذا تراك الآن تأكل باسمي؟!

لست أدري لماذا؟! أتذكر الآن كثيرًا موقفي معك في «باريس» قبيل سفرك إلى «ليل»، فقد كان بخلي مخجلًا وقسوتي شديدة، إذ رفضت إقراضك كل ما كنت محتاجًا إليه، وأنا على علمٍ تامٍّ بأني لن أدعك حتى أقرضك ما شئت، ولكني أردت تعذيبك، فجعلت ألوِّح لك بالمحفظة، وجعلتك تتبعني ذليلًا في كل مكان، حتى قهوة «مونمارتر».

إنها كانت ليلة عجيبة، أتذكرها يا «أندريه»؟ لقد قلت لك: لا نقود إلا بعد سهرة ممتعة، فقد تكون هي سهرة الوداع … «وقد كانت»! وعهدت إليك بمهمة اقتناص ظبيتين، لما لك من خبرة في الأمور، فجلسنا في ذلك المشرب المائج بالظباء إلى قبيل الفجر، نتجاذب أطراف الفلسفة والفنون، وجرفنا الحديث في «لبنيتز» و«كانْت» و«دیكارت» و«برجسون» و«نظرية الجمال» في الفلسفتين: الألمانية والفرنسية، فنسينا ما كنا قد جئنا لأجله، وأُغلِقت المشارب، وأطفئت الأنوار، فقمنا خائبين نتعثَّر في أذيال عاهرات الحي بائرات آخر الليل، ونحن نسأل لنفسينا السلامة من شر «الأباش» الأوباش!

وفجأة إذا بك تشعر كأن ذراعًا تضرب في ظهرك، فالتفتَ مذعورًا فإذا هي عاهر شوهاء تستوقفك، فخلصت نفسك بعد جهد، وقد هدأ روعك بعض الشيء، وقلت لي: «كنت أحسبها لصًّا»! وفاتت مواعيد «المترو» ووقفت المواصلات، فلم يكن بدٌّ من تمضية ما بقي من الليل في حجرتي القريبة بشارع «روششوار»، وهي جحر فأر، وكلها ليست غير سرير وتحت سرير، فقسمناها بيننا بالقرعة، فكان حظك أن تحتل أنت الأرض تحت السرير، وما كدت أتمدد على فراشي حتى صحت بي أن لا نوم يُرجى لي إلا إذا ظفرت أنت بمبلغ القرض قبل النوم، فمنعني النعاس من مناقشتك الحساب، والاستمرار في تعذيبك! فدفعت إليك المبلغ وأنا نصف يقظان، ونمت واستغرقت في النوم، فلم أنتبه إلا بعض انتباه إليك وأنت تحاول إصلاح جرس «المنبه» المكسور ليوقظك في منتصف السابعة، ولست أدري بعد ذلك: هل طاوع «المنبه» الضيف الكريم، فأيقظه في الموعد المطلوب؟ كل علمي أنك استيقظت مبكرًا مثل العفريت، وملأت الحجرة جلبة وضجيجًا؛ تارة تفتح الأدراج بعنفٍ للبحث عن منشفة وجه نظيفة، وتارة تشد مسن آلة الحلاقة، وقد وضعت فيها سلاحًا جديدًا هو الوحيد الذي كنت أدخره لأيام نزهتي، وتارة تزيل الغبار عن ثيابك وقبعتك بصوت كالرعد … وأخيرًا … سمعت باب الحجرة يُفتَح ويُغلَق … ثم … لم أرك بعدئذٍ قط!

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

أهنئك أولًا بعودتك إلى «باريس»، ولو أن خبر مرض «جرمين» أحزنني غاية الحزن، وإني لأوصيك أن تتبع الحيطة في علاجها، وأن تعني بها العناية كلها مهما يكلفك ذلك من نفقات.

إن رسائلك يا «أندريه» تفتح أمامي أبواب موضوعات، إذا طرقتها فلن أستطيع الخروج منها قبل أن أملأ صفحات … جاء في خطابك السابق كلام طويل عن نفسي، وصفائها وعدم صفائها: أمر أرد عليك فيه بنعم أو لا، على أني حسبت أني أجبت عنه في موضع من المواضع، أو ربما كانت إجابتي في شيء آخر! إن مصيبتي هي في عجزي عن إخراج ما في نفسي كما تصورته أول مرة. إن الفكرة لتتكوَّن في نفسي، وتنمو وتمتد، وتتخذ شكلًا منتظمًا في رأسي، بل إني لأنفق أيامًا في بناء الأشخاص في مخيلتي، وترديد ما يقولون من كلام، وما يتحاورون به من حوار، ولا يبقى إلا أن أمسك بالقلم لأضع على الورق كل هذه الحياة الزاخرة النابضة، فإذا … وا أسفاه! … شيء آخر باهت بارد كالجثمان الهامد هو الذي يخرج … عمل واحد استطاع أن ينجو من هذه النهاية:

عمل دفعتني نفسي إلى كتابته، دون أن أستجمع في رأسي شيئًا من تفاصيله، أو أستحضر في خاطري دقائقه وأجزاءه … ومن الغريب أن الأشخاص تكونت وتلونت، وكأنها تخلق وجودها بذاتها. وسارت القصة بأشخاصها وبي إلى حيث لا أدري إلى أن أخبرتني الأشخاص أنفسها بالنهاية المحتومة التي لا بد لها أن تنتهي إليها!

لماذا أكتب إليك كل هذا الهراء؟ أنت الذي برهن لي في فترات على قلة اكتراثه بما أصنع، وبسخريته من آلامي وقلقي النفسي وشكوكي وأزماتي! لطالما حرصت مع ذلك على إخفاء أغلب هذه الأشياء عنك. ولا تغضب عليَّ؛ لقد شعرت في يومٍ من الأيام أن صداقتنا لا ترتكز على التشابه، ولا الاتفاق ولا الاتحاد، لقد كنَّا طرفي نقيض؛ لم يكن لي حتى حق الإفضاء إليك بما يملأ كل كياني الروحي!

أتدري ما هو هذا الشيء الذي يملأ كل كياني الروحي؟ هو حمى الخلق الفني. لقد كنت أخشى استهزاءك بهذا الشيء المقدس عندي. إني ما كنت أطلعك إلا على ما أطيق تعريضه لسخريتك … إنك ما كنت تستطيع أن تفهم ما كنت أنا فيه وقتذاك، لقد كنت أنت رجل «واقع» … أكثر مما ينبغي ﻟ «شاعر» … هل كان في مقدورك فهم تصرفاتي الجنونية في ذلك الحين؟ … تصور أني قضيت شهورًا أجهد ليل نهار في عمل أدبي جديد اسْتَغرق هو الآخر مئات الصفحات، ولم أفطن لنفسي إلا يوم جاءتني تلك البرقية تدعوني إلى العودة إلى بلادي! كان في البرقية هذه العبارة:

«احضر بأول مركب … تعيينك تقرر!»

وتسلمت بعدئذٍ نقودًا للسفر، وخطابًا يوضح لي فيه إمكان شغلي وظيفة بالنيابة العمومية المختلطة … عندئذٍ شعرت بما يشعر به ملاك في السحب، وهو يهوي إلى الأرض!

أنا! أنا الذي يعيش في سماء الفن يفكرون له في وظيفة من الوظائف؟! هؤلاء الناس قد جُنُّوا من غير شك! كيف يخطر على بالهم أن يوظفوا ملاكًا من ملائكة السماء؟! وأعدت النظر في خطاب أبي الذي يقول فيه: إنه لا يرى حتى ذلك الوقت في بلادنا شخصًا انفرد بحرفة الأدب دون أن يكون له عمل آخر، هو عماد حياته وقوام عيشه … وقال:

«إنه لا يصح القياس مطلقًا بما هو حاصل في أوروبا … فإن الوقت لم يحِن بعدُ في بلادنا لأن يضحي أحد بمستقبله في سبيل الأدب مثل هذه التضحية التي لا تدرك البلاد قيمتها ولا تشعر بها ولا بصاحبها». لعلَّ في هذا الكلام صوابًا، ولعلِّي طلبت إلى أهلي أكثر مما تحتمله الطبيعة الأبوية … وأردتهم أبطال قصص يأخذون الحياة كما أتخيلها أنا. هنا فقط تذكرت لأول مرة مسألة «أكل العيش» … نعم … ينبغي أن أكسب لقمتي على الأقل؛ فأنا مخلوق يأكل ويشرب، ولم يغِب عن والدي كل ما يحتمل صدوره مني؛ فنصَّ في خطابه:

«لن أنفق عليك مليمًا واحدًا بعد الآن إذا أخذت المال المرسل للسفر، فصرفته في غير وجهته ولم تحضر، وضاعت الوظيفة بسببك» … ما العمل؟ ومخطوطاتي الأدبية لم تتم. إني في حاجة إلى عامين آخرين في هذا الجو الفني؛ لأكمل عملي … لقد تغلبت إلى حدٍّ ما على صعوبات الخلق والتكوين … ولكن هناك صعوبة الأسلوب. إني أكتب الفرنسية؛ فلا بد لي من امتلاك ناصية الأسلوب الفرنسي، وخاصة ذلك الأسلوب الحديث الذي يشبه موسيقى «سترافنسكي» الحديثة في تعدد ألوان عباراتها، وبريقها الخاطف بالصور، ومفرقعاتها المدوية بغريب المعاني، كأنها «صواريخ» الأعياد و«الكرنفالات» … لا بد لي من المكث «بباريس» عامين آخرين … كيف السبيل إلى ذلك؟ هل يستطيع «أندريه» أن يقاسمني نصف نقوده، ونعيش في حجرة «منسارد» كحجرة «إيفان»، ونأكل أكل الكلاب من أجل «تخريفة» ﻟ «توفيق الحكيم»! هذا ما كان أندريه لا شك قائله، اطمئن يا أندريه، لم يخطر ببالي قط خاطر كهذا. ربما كنت قد فكرت لحظة في البحث عن عمل بباريس، ولعلِّي فكرت في الالتجاء إليك؛ لتجد لي مكانًا صغيرًا في أحد المصانع، ولكني طردت من رأسي هذه الفكرة على عجلٍ؛ فأنا أعلم صعوبة الحصول على عمل حتى للفرنسي في زمن كثر فيه العمال العاطلون! وإن وجد العمل فإن نفسي ليشق عليها مزاحمة الفرنسي في بلاده على انتزاع اللقمة من فيه!

وأخيرًا، رأيت كما تعلم أن الأولى بي الإصغاء إلى نصح مسيو «هاب» وترك الكتابة بالفرنسية، ووضع عملي من جديدٍ في لغتي ولغة بلادي التي لازمتني منذ الصغر؛ فأنا في الحقيقة لا أريد مطلقًا أن أكون مثل أولئك «اللقطاء» من الأجانب الذين يلجئون إلى الفرنسية لأنهم لا يملكون لغة قومية عريقة … إنما هو الإصرار العنيف على أن أنتزع من «باريس» ما يقنعني بأني حقًّا قد أصبت من الأدب والفن شيئًا … وما يقنع أهلي المساكين بأني لم أضِع حياتي سدًى … لكأني أردت من «باريس» شهادة أعود بها في موكب زملائي من دكاترة الحقوق الراجعين بألقابهم العلمية الظافرة!

لكن «باريس» خذلتني … وأفهمتني أن الخلق الفني شيء آخر … وأن الطريق إلى الفن طويلٌ وعرٌ.

«الإسكندرية»، في …

عزيزي «أندريه»

أمس فقط طالعت رسالة قديمة منك، حينما كنت في «ليل»، فإذا أنت تصفني بأني ذو قلبٍ طيبٍ صافٍ، بل أكثر من ذلك قلت: إني من أولئك الأصدقاء النادرين في «الصداقة»! وتلك كلماتك بنصها … أتنكر الآن ما قلت؟ لقد أخبرتك أن هنالك أشياء أو على الأقل شيئًا واحدًا، لا أجرؤ على مصارحتك به؛ لأني لا أطيق أن تتناوله بسخريتك … شيء كنت أقدسه — كما قلت لك — بكل ما يستطيعه قلب شاب طائش!

لم يكن الحب يا صديقي، في «باريس» بالقوة التي تخرجني عن التوازن! إنما الذي أخرجني عن طوري هو حب الأدب، وحلَّت المطامع الأدبية عندي محل المطامع العاطفية، ولكل حب «عذَّال» كما نرى نحن أهل الشرق! قد كنت أنت عندي «عاذل» الأدب، ترميني بالخيال والجنون بحجة ردي إلى حظيرة العقل والواقع!

لذلك ما كان ينبغي لي أن أطلعك على جنوني الأدبي، ومطامعي الأدبية إلا بمقدار … فهل تراني راوغتك، أو أخفيت عنك شيئًا غير هذا الشيء؟ ومع ذلك، دعنا من كل هذا … إنها باريس! إنها كانت باريس! آه يا عزيزي «أندريه»! إنها عندي كانت حلمًا، وكل تصرفاتي فيها إنما هي من قبيل تصرفات الأحلام! ما كنت أسير بمنطق العقل قط، ولكن اعرفني الآن! ها هنا، وأنا هادئ، وأنا في اليقظة!

وبعد، فلماذا تشاء أن تحدد طبعي وشخصيتي الآن؟ ألم أقل لك مرارًا: إني شخص غير مفهوم الآن حتى لنفسي! على أني أعتقد أني خُلِقت للخير لا للشر، وإذا نفذ إليَّ الشر فمنكم أنتم يا أصدقائي ومعارفي! «أندريه»، ما هذا الانقباض والاكتئاب في آخر رسالتك؟ إنك تذكِّرني ﺑ «توفيق الحكيم» في إحدى أزماته القلبية والفكرية بباريس! ولا عجب لمثله إذ يكتئب هناك وينقبض على الدوام، فلقد كان تعسًا حقًّا، خائبًا فاشلًا في كل نوع مارسه من أنواع الحياة: خاب في الجامعة، وخاب في الحب، وخاب في الأدب … لم يظفر قط بانتصارٍ في شيء ما؛ ذلك الانتصار اللازم للشباب كي ينتعش، لزوم الأمطار للأزهار!

لقد صفعه الحب على الخد الأيمن، ولطمه الأدب على الخد الأيسر، ثم وقع أخيرًا ذليلًا على أرض العذاب النفسي، إذ تذكر أنه ما زال يعيش من مال أهله، فهو ليس حرًّا حتى في الفشل! وليس له الحق حتى في حرية الرضا بالشقاء.

ولكن أنت يا «أندريه»؟ ما الذي يقبض نفسك ويملؤك اكتئابًا؟ لعلَّه منظر الخريف الكئيب حولك، وتساقط الأوراق الصفراء! إن قلب الشاعر «مقياس حرارة» يتأثر أحيانًا بمظاهر الطبيعة، فيبكي لبكائها، دون سبب آخر يدعوه إلى البكاء! لم يتح لي في لحظة من لحظات حياتي أن أحزن لحزن الطبيعة، أو أبسم لابتسامها، فإن ما عندي من أزمات داخلية شغل قلبي دائمًا عن الطبيعة!

إن عينيَّ مصوبتان دائمًا إلى أعماق قلبي! آه لو نزع عني قليلًا هذا الجراب المملوء بالأرزاء! يبدو لي يا «أندريه» أني إذ أرفع بصري إلى الحياة الخارجية، وأنسى نفسي الداخلية، يعود إليَّ الصفاء، ويشرق وجهي بروح الفكاهة والمرح. إني أستطيع أن أكون أكثر الناس مرحًا ودعابة وضحكًا، فأنا أملك هذه الروح الفكاهية أحيانًا، ولكني لا أجرؤ على الابتسام طويلًا! لا تحسب يا «أندريه» أن أسباب كآبتي، وضعف ثقتي بنفسي؛ قد زالت الآن! على النقيض. ومع ذلك ها أنت ذا تشعر بتغيُّر في حالتي النفسية! الواقع أني تغيرت، فأنا هادئ، صافٍ، مطمئن، فلا حمَّى، ولا حرارة، ولا حماسة! ولا شيء يهزني من تلك الأشياء. ربما كان هذا، لأني لم أعُد أطمع بعدُ في شيء، فأنا أسير في يد الزمن، كما يريد لا كما أريد!

معذرة إذا كنت أتجنب الكلام في انقباضك أنت، فأنا أحب أن تعلم أني لا أعيره أهمية ولا التفاتة، وإني لأراه غمامة سوداء من غمام الخريف! إن ثقتي فيك، وفي قوتك، وفي نجاحك في الحياة، لعظيمة! وختامًا أنصح لك أن تصحح عقيدتك فيَّ مرة أخرى!

«طنطا»، في …

عزيزي «أندريه»

أهنئك «بالنويل»، وبالعام الجديد، من مدينة «طنطا»، فقد عُيِّنت وكيلًا للنيابة بهذه المدينة! إنها عاصمة إقليم يُعَد أكبر أقاليم القُطر المصري! لك أن تفخر إذن بصديقك بعض الفخر! لن أمضي في الكتابة لأني غير متتبِّع ما تفعل الآن، فقد انقطعت بيننا السلسلة، وأخشى أن تكون غير مستعدٍّ لإنفاق بعض الوقت في مطالعتي!

إني مطمئن كما ترى بعض الاطمئنان … فالعمل في القضاء قد قضى على كثير من هواجسي الأولى!

إني أبتُّ الآن في حياة الناس، وأطلب رءوس الناس، فيجب على الأقل أن يكون لي رأس يدري ما يصنع!

ومع ذلك … كلَّا … لست في الاطمئنان الذي تظن! اُكتبْ إليَّ! اكتب إليَّ يا «أندريه»، كما كنت من قبل! إنك لا تدري خطورة سكوتك!

«طنطا»، في …

عزيزي «أندريه»

رسالة منك … أخيرًا؟! … آه … صدق من قال، وأنت نفسك القائل: إنه لا يجب أن آخذك أحيانًا على سبيل الجد! لو علمت كيف أقمت الدنيا في نفسي وأقعدتها لسكوتك … وأخيرًا ها أنت ذا تتكلم فاترًا باسمًا تلك البسمة الساخرة، لتقول لي في هدوء وبساطة:

«لماذا كل هذه الأهمية التي تريد أن تعطيها لسكوتي!» يا لله! بماذا أجيب؟ لا شيء … إن الحق لا شك في جانبك!

والآن فلنتحدث: تقول إنك لا تكتب إليَّ؛ لأنك الآن تعيش بلا تفكير … عجبًا، أوَ لا يمكن أن تكتب إليَّ بغير أن تفكر؟ أحقًّا أن اتصالنا الكتابي له عندك كل هذا الاعتبار؟! أتراه قد سلم من عبثك وهزلك؟ وما عساك تقول إذا أخبرتك أني الآن أبعد منك شوطًا في هذا السبيل! عبثًا تحاول اليوم أن تتعرَّف فيَّ محب الأدب والفن والتفكير! كلمات كانت هي كل حياتي منذ سنوات، وإن شئت فمنذ وجودي!

تقول: إنه ليس لديك الوقت الآن للمطالعة والتفكير، فإن الحياة قد جرفتك في خضمها! هذا حسن! … أما أنا، فحتى إن وجدت الوقت، فلست واجدًا الجو، ولا المحيط، ولا البيئة، ولا المناسبة!

كل ما يكتنفني اليوم من مناظر وجماد وإنسان لا يثير فيَّ شيئًا، مما يرفع النفس فوق ذاتيتها! فكل ما حولي هو مما يهبط بالنفس أدنى من ذاتيتها!

إني أعيش في جو الجريمة، وأحيانًا في عالم الغرائز الدنيا! إني مع القبح الآدمي، المادي والمعنوي ليل نهار، وجهًا لوجه! La Laideur! La Laideur!

أهذه هي الحقيقة؟ أهذا هو عالم الواقع الذي كان ينبغي أن أهبط إليه؟! لعلَّك تريد أن تسألني متعجبًا: «كيف أنت كوكيل نيابة؟!» لأنك ما زلت تعتبرني الشخص الغارق في الخيال، ولم تستطع قط أن تصحح في رأسك تلك الصورة!

وا أسفاه … لو علمت كيف تحطم اليوم هذا التمثال! الأدب والتفكير لم يبق معي منهما شيء! تقول في آخر رسالتك: إنك بدأت مع ذلك تطالع «تاريخ الفلسفة» و«أرسطو» … واهًا لنفسي، وما وصلت إليه! لَكَمْ كنت أود لو أظل طول حياتي في تاريخ الفلسفة! أي جمال فكري تحرمنا إياه الحياة لتقذف بنا وسط هذه الجثث والأشلاء؟! لكنك أردت لي يومًا أن أواجه عالم الواقع؛ فهاك ما أردت! ها أنا ذا في عالم الجثث والجيف!

أنا الخيالي الذي لا يعرف من الإنسان إلا ما في الكتب «الفلسفية أيضًا»، أقف الآن في كل يوم على عمليات تشريح جثة الإنسان! أنا الذي اعْتقَد في نفسه طويلًا رقة الحس، إلى حد الارتعاد من منظر إصبع تُجرح، مما صرفني يومًا عن التفكير إطلاقًا في دراسة الطب، آمُر الآن طبيب المركز بتقطيع أوصال الجثث بالمشرط في حضرتي؛ لأنظر إلى تجاويف الصدر والقلب والأمعاء!

أنا الشاعر مرهف الشعور، أطلب وأشاهد الجزر والتقطيع ولا أرتعد. أنا الذي كان يحسب الإنسان، كما صوَّرته الكتب وتخيَّله الشِّعر! لقد فهمت الآن أني حقيقة كنت طفلًا؛ إذ كنت أجهل من أي شيء نتركب نحن؛ ولكني من جهة أخرى، فهمت أيضًا كلمة «جوته»:

«إن العلماء يزعمون أنهم فهموا الإنسان، وقد نُزِع عنه أثمن شيء فيه، بل كل شيء فيه»، (ربما قصد الروح وحياة الحواس)! من المستحيل على من لم يحضر التشريح قط أن يدرك معنى كلمة «جوته» على حقيقتها … لقد أفادني التشريح في شيء:

لقد خرجت منه وأنا أشد إيمانًا بالروحية من قبل، وأقوى إيمانًا كذلك بأني رجل يستطيع أحيانًا — في سبيل حب المعرفة — أن يكون غليظ الكبد، فاقد الشعور، وبأني رجل يدرك أيضًا قيمة الحواس المادية في الإنسان!

أجل يا «أندريه»! … درس التشريح ثبَّت إيماني بالروحية والمادة معًا في كيان الإنسان، وجعلني أتأمل مرة أخرى، وأعيد النظر من جديدٍ في قضية الأدب، وأتساءل: ما رسالة الأدب إلى الناس؟ … أهو نصرة الروح، أم نصرة المادة؟ لقد اعتاد المفكرون تحقير المادة للرفع من شأن الروح! ولكن أليس للمادة صوفيتها هي أيضًا؟! إن العين النشوى بمنظرٍ جميلٍ، والأنف السكران بشذا عاطر، والفم الهانئ بمذاقٍ لذيذٍ، وكل حواسنا التي تصِلنا بعالم المادة؛ لقديرة أحيانًا أن ترفعنا إلى سعادة شبه روحية. كلما تنبَّهت هذه الحواس وتيقَّظت وتدرَّبت وعرفت كيف تستخلص من المادة أجمل ما فيها! هنا أستطيع أن أقول لك أن الأدب العربي على ضعفه البنائي وفقره في القوالب الفنية، كان غنيًّا في مراميه واتجاهاته، فهو لم يطرح من حسابه الإشادة بالسعادة التي تبعثها الحواس المادية، إلى جانب إشادته بالمتعة الذهنية التي تصدر عن قوانا المفكرة. ففي أغلب الأدب العربي نجد فصولًا طوالًا عن مباهج الأكل والشرب، والطعام، والخمر، والمسك والريحان، ومتع الملبس، وحتى متع الجسد، أو ما يسمونه «الباه»؛ كل ذلك يسجِّلونه بعناية، لا تقل عن عنايتهم بالفصول الأخرى، التي يدوِّنون فيها لذائذ العقل وطرائف البيان، وهم يكتبون وينظمون في موضوعات حسية، مما نسميها شائكة بصراحة تامة؛ لأن «الفضيلة» عندهم سلوك ومعاملة، ورجولة وشهامة، لا إنكار لمطالب الحواس، ولا إغفال لقوانين الطبيعة … ذلك في نظري دليل الحيوية!

وإني لم أدرك معنى «الحيوية» على نحوٍ عميقٍ إلا يوم حضرت «التشريح»!

عند ذاك بدأت أرى أن رسالة الأدب ليست نصرة الروح على المادة، أو نصرة المادة على الروح؛ إنما رسالته إقرار التوازن بينهما بإنماء هذه «الحيوية» في كلٍّ منها؛ لأن «الإنسان الحي» حقًّا هو ذلك الكائن الذي تيقظت فيه كل حاسة وملكة — مادية أو روحية — وتكوَّنت وتهذَّبت؛ حتى استطاعت أن تحصل له، وتتخيَّر أجمل ما في الوجود من عناصر السعادة الروحية والمادية!

أعتقد أن تلك غاية البشرية كلها منذ القدم، ترى أثرها في الوثنية: «مصر القديمة، والهند والإغريق والرومان» ثم في الإسرائيلية والإسلام! … ولم يشذ عنها إلا عصر الرهبنة المسيحية في القرون الوسطى، حيث طغت فكرة تضحية الجسد من أجل الروح، فأهانوا المادة … تلك الإهانة التي ما زالت لاحقة بها حتى اليوم، وخلطوا الفضيلة بالزهد، وخلطوا الرذيلة بالمتعة، وتغيَّر مدلول كلمة «الأخلاق الفاضلة» في ذلك العصر، عن مدلولها في عصور الحيوية والفطرة!

ولم يخفِّف عصر النهضة في أوروبا من تلك الفكرة فيما يتعلق بالأدب إلا تخفيفًا يسيرًا؛ فلبث الأدباء والشعراء هناك حتى العصور الحديثة، يرون واجبهم في تحقير المادة والحواس المادية عند الإنسان! في رأيي أن إغفال أي حاسة من حواسنا هو إقفال باب من أبواب المعرفة! إن المعرفة البشرية لا تدخل إلينا من باب العقل وحده، إنما تتسرب إلينا من كل مسام جلدنا وجسدنا، وذهننا وروحنا، ووعينا الظاهر والباطن؛ فمن كان يتوق حقًّا إلى المعرفة الكاملة والحقيقة العظمى، فليفتح لها كل الأبواب والنوافذ.

كنت أودُّ أن أحدثك طويلًا عن حياتي الجديدة في «طنطا»، ولكني أكتفي اليوم بأن أقول لك: إني أقطن النزل النظيف الوحيد في هذه المدينة، وهو «بنسيون» يحوي من النزلاء ثلاثة من الفرنسيين، وإنجليزيًّا واحدًا، واثنين من الألمان؛ وهم من المدرسين وموظفي «البنك»!

وقد اشتريت «جراموفون» جديدًا، وأحضرت من «القاهرة»، أخيرًا «السانفونية السادسة» أي الريفية، وقد كلَّفتني مائة وخمسين قرشًا، وأوصيت بشراء «التاسعة» وهي في عشر أسطوانات للشهر المقبل!

«طنطا»، في …

عزيزي «أندريه»

أشكر لك أقفاص المحار البرتغالي التي أرسلتها إليَّ مصورة على ظهر «كارت بوستال»! إنك عرفت كيف تثير مني الذِّكرى وتجري من فمي اللعاب!

وبعد، فلقد تباطأت في الكتابة إليك؛ لأني بالخبرة والتجربة تبيَّن لي أنك ذوَّاقة في شئون الفكر، كما أنا كذلك في شئون الفم، على الأقل، على حد اتهامك إياي؛ فرسائلي التي لا تعجبك لا تُحسَب عليك، لهذا آثرت السكوت على الكلام الفارغ … هذا سبب؛ والسبب الآخر أن حياتي الآن تتعارض قليلًا مع الكتابة؛ لأنها حياة، وليست بعد تعبيرًا عن الحياة، ولكن ما أسعدك أنت بهذا! هذا كل ما كنت تتمنى لي: الحياة! نعم يا عزيزي «أندريه»!

إني غارق في الحياة والواقع إلى أكثر من أذني … وثِق أن التعبير عن هذه الحياة هو ما لا أريد الاشتغال به الآن حتى لا يقال: إني في وظيفتي القضائية، وفي كرسي النيابة، إنما أقعد على «فوتيل» رقم كذا؛ لأشاهد الحياة مشاهدة النظارة في قاعات التمثيل!

ولن يقول هذا أحد سواك … وربما «مسيو هاب» لو علم! … كلَّا! إني أعيش الحياة وكفى، فلنترك إذن رواية خبرها للمستقبل، ولنسطر أفكارنا العابرة فقط، تلك الأفكار الفارغة التي لا بد منها لملء رسائلنا!

على أن هذه الأفكار قد ذهبت عني الآن أيضًا، ولم يبق منها ما يستحق أن أبعث به إليك، فاعذرني إذا ألقيت على الورق بكل ما يمرُّ برأسي من خواطر.

أندريه! يجب أن تعلم أن نافذة حجرتي تشرف على ميدان «الساعة»؛ ولكي تعرف أهمية هذا الميدان يكفي أن أخبرك أنه في «طنطا» بمثابة ميدان «الكونكورد» في «باريس»! ومع ذلك، إنه ليخجلني أن أصف لك ما تقع عليه عيني وسط هذا الميدان، لست أعني البشاعة الفنية التي تقوم عليها تلك الساعة الكبيرة. فمما لا ريب فيه أنه لم يرد في خاطر أحد أن يقيم في ذلك المكان شيئًا فنيًّا على الإطلاق — بشعًا كان أو غير بشعٍ — إنما الذي أعنيه هو انعدام كل ذوق، وزوال كل لياقة … فقد أنشئوا — وسط الخضرة المفروشة في قلب الميدان — بناء ظاهرًا، وهيكلًا بارزًا، يكاد يشمخ على غيره من المباني بجلال موقعه! أتدري ما هذا البناء؟ إنه ليس أثرًا تاريخيًّا، ولا نصبًا تذكاريًّا، ولا معبدًا فنيًّا! إنه مرحاض عمومي! ومع ذلك لا تنس أننا نحن الذين أهدينا إليكم تلك المسلة الرائعة، التي عرفتم قدرها فاخترتم لها أرحب مكان في صدر «باريس»، وهو ميدان «الكونكورد»! ثِق أن لدينا من أمثال هذه المسلة عددًا كبيرًا، مُلقى هنا وهناك في الرمال، ولكنهم عندنا يفضِّلون المراحيض؛ لأنها في نظرهم أنفع على الأقل وأجدى!

آهٍ يا «أندريه»! كل يوم تبرهن لي الظروف على أني — كلما دنوت من منطقة الفن والفكر في مصر — أُصاب بخيبة أمل! إن روح الجمال والفن لم يحل بعد — أو على الأصح — لم يبعث من جديد في أرض مصر الحديثة.

من المسئول عن قتل روح الفن في مصر، وقد كانت هي منبع الفن منذ القدم؟ إني لست من رأي القائلين: إن العرب هم المسئولون! إن العرب ليسوا بهادمي حضارات … إنهم طافوا بمدنيات زمانهم يأخذون وينبذون، ويتخيَّرون ويتركون … ولكنهم ما هدموا قط وما حطموا! إن المسئول هم المغول! ذلك الجنس القادم من أواسط آسيا بلا حضارة ولا مدنية، ولا مزية غير مزية الحرب والضرب! أولئك هم الذين حطموا المدنية الإسلامية بما جمعته ونقلته وصقلته من مختلف الحضارات!

إن مجرد الاطلاع على تاريخ مصر في تلك الحقبة المظلمة، التي وصفها «الجبرتي» ليكفينا أن نرى إلى أي دركٍ هوت بلادنا المسكينة، بل إن لغة «الجبرتي» في ذاتها — وقد كان من خيرة علماء الأزهر وقتئذٍ — لأنصع دليل على أن اللغة العربية نفسها قد سقطت فيما سقط تحت سنابك جياد أولئك البرابرة! وخرجنا من هذا الظلام؛ كما خرجت أوروبا من القرون الوسطى! هي ارتمت في أحضان الإغريق وارتمينا نحن في أحضان الغرب! وهي سارت في عصر النهضة من التقليد إلى التجديد، ونحن لم نزل في طور التقليد! ولعلَّ هذا يفسر لك أسلوب «المويلحي» الذي حدَّثتك عنه ذات مرة. على أن هناك بوادر كما قلت لك، ولا أكثر من بوادر، تدل على أننا بدأنا نتحرك نحو عصر نهضتنا، ولكن السير الجدي نحو هذه النهضة يتوقف على ثقافة القائمين بها؛ فنحن نعيش اليوم في عصر حضارة عظيمة هي الحضارة الأوروبية … فأي جهل منا بفرعٍ من فروع هذه الحضارة معناه التخلف والقعود. إن روح الحضارة الإسلامية الحقيقي كان الطموح إلى الإلمام — على قدر الإمكان — بكل الأفكار والمعارف والعلوم والفنون الشائعة في الحضارات المعاصرة لها.

ومما لا شك فيه عندي أنه لو لم يكن «المغول» لما تخلَّفت الآداب العربية والفنون الإسلامية عن نظائرها في الحضارة الأوروبية القائمة؛ لأن التبادل الفكري كان دائمًا قائمًا بين حضارة الإسلام والحضارات الأخرى.

وإن من السهل أن تتصور المجرى الطبيعي للمدنية الإسلامية إذا استبعدنا «الخطر المغولي»؛ لقد كان فلاسفة العرب متصلين بأوروبا، وكانت عقلية العلماء والأدباء في الممالك العربية متفتحة لتقبُّل كل تطور تأتي به روح العصور التي يعيشون فيها … فما كان هناك سبب قط يدعو التفكير العربي إلى التخلف عن أي تفكير معاصر يتطور ويتجدد؛ فإما أن يسير في موازاته، وإما أن يأخذ منه ويعطي، ويؤثر فيه ويتأثر به، ويحدث بينهما ما يحدث الآن بين التفكير اللاتيني والتفكير السكسوني من تفاعل وتداخل وتعانق وتزامل … فإذا أردنا القيام بعصر نهضتنا جديًّا فعلينا التشبُّع بهذه الروح … أما أن نظن النهضة في مجرد تقليد العرب بالحالة التي وقفوا عندها يوم انهيارهم أمام «المغول»، دون أن نلقي بالًا إلى القرون والأجيال، التي انطوت، وذهبت، وفصلت ذلك العهد عن عهدنا الحاضر، بما استجد فيه من علوم وفنون وأساليب حديثة، فهو حُمق وعَمى وجهل، لو اطلع عليه العرب الأقدمون أنفسهم لسخروا منه ومنا.

من أجل ذلك كان الشرط الأول، في نظري، هو الثقافة التامة … نعم، ينبغي لنهضتنا رجال من طراز رجال عصر النهضة في أوروبا: رجال موسوعيون يحيطون بكل ثمرات الذهن، ونتاج العبقرية في الحضارة المعاصرة لهم، والحضارات السابقة عليهم ولكن مع الأسف … أغلب رجال الفكر والأدب عندنا لا يريدون أن يلموا بأكثر من المادة اللفظية التي تمكِّنهم من تدبيج المقالات التي يحتذون فيها النماذج العربية القديمة! تصور أن كاتبًا مثل «المويلحي» نزح إلى أوروبا هو الآخر، مثل كثيرين من أدباء عصره … لكن عبثًا نحاول أن نلمح في آثاره أو آثارهم ما ينم عن معرفة أو تذوق لفنون أوروبا.

إني لأتساءل: أكانوا يسيرون هناك معصوبي الرأس لا يبصرون ولا يسمعون؟! ما الذي كان يصد عيونهم عن آداب تلك الأمم الحية وهي معروضة في الطرقات، تصيح من واجهات المكتبات؟!

وما الذي كان ينيم أرواحهم فلا يفطنون إلى جمال الهياكل وآثار الفن القائمة هناك في كل مكان، تكاد تصفع بسحرها البصائر والأبصار؟ ولا تدع ذا فَهْمٍ وذوق حتى تبعث فيه النشاط إلى الاطلاع والاعتراف من كل ينبوع من ينابيع الفكر والروح!

يُخيَّل إليَّ أن «الحريري» نفسه لو بُعِث من قبره ووُضِع هناك لما طال به الأمد عن التنبيه والتفطن والانتعاش والانتفاع بكل ما ينبض حوله من مظاهر الحضارة الحية القائمة.

إن العرب كانوا ذوي يقظة وفطنة وإحساس وتأثر بكل ما جاورهم وعاصرهم من مدنيات. إن أدباء هذا العصر لمن طراز غريب! إنهم لا يمكن أن ينُسَبوا إلى العرب، حتى إن أجادوا تقليد أساليبهم. إنهم في رأيي طراز قد طُعِّم بالروح المغولي … ذلك الجنس الذي يقلد ولا يبتكر، ويسيطر ولا يبصر، ذلك الجنس الذي استطاع أن يبلغ أسوار «فيينا»، ويتوغل في أوروبا دون أن يرى شيئًا من تقدُّمها الذهني، ودون أن ينتفع من حضارتها الفكرية!

كل مجد المغول في الحرب، وكل فنهم تقليد بعض ما وقع في أيديهم من الأساليب العربية تقليدًا ضيقًا، وكل فكرهم حِفْظ بعض النصوص الإسلامية حِفْظًا مغلقًا … وهكذا ورث تلك العقلية المغولية أدباء العربية في هذا القرن … فلم يروا شيئًا ولم ينتفعوا بشيء غير ذلك، ولم يخرجوا عن نطاق تلك الدائرة المقفلة … حتى الفكر الإغريقي الذي اتصل به العرب، وتفقهوا فيه، وكشفوا للعالم عن مراميه … هو أجنبي عنهم، ومن باب أولى «الأدب الإغريقي» وهو أعقد من الفلسفة الإغريقية وأعسر؛ لأنه متصل بالفنون الأخرى اتصالًا وثيقًا … خذ المآسي الإغريقية مثلًا … محال أن ينفذ إلى لبِّها وروحها من ليست له دراية، لا بفلسفة الإغريق وحدها، بل بكل أساطيرهم وفنونهم، من النحت إلى الرسم على الأواني.

لا أمل لنا — كما ترى — في تجديد الأدب العربي إلا بالاطلاع الواسع والثقافة الشاملة. إن تربية أهل الأدب في مصر — حتى مطلع هذا العصر — هي «تربية لغوية» قوامها الكتب، ثقافتهم الكتب وحدها، بها نشئوا، وعليها وحدها اعتمدوا في تكوين ملكة الإنتاج، هل يمكن أن نجد كاتبًا أوروبيًّا يعتمد في تكوين ملكاته الخالقة على الكتب وحدها؟

هل يوجد أولًا مثل هذا الكاتب في أوروبا؟ وإذا وُجِد؛ هل يستطيع أن ينتج هذا الإنتاج الذي نراه يرتكز على فن متين التركيب، أصيل التفكير؟

إن التربية الكاملة الشاملة لمختلف الفنون منذ الصغر هي التي تنمي عند الأديب الأوروبي ذلك الإحساس بالتناسق الفني الذي يرفعه إلى هذه المرتبة من مراتب الخلق والإبداع … وإذا سألتني عما أعني بالتربية الكاملة، فإني أقول لك: هي تربية جميع الملكات والحواس مجتمعة … فتربية ملكة العقل وحدها لا تكفي عند رجل الأدب والفن إن لم تصاحبها تربية حاسة البصر، وحاسة السمع … وحتى حاسة الشم والذوق.

التربية الكاملة للحواس والملكات هي ما أسمِّيه «الثقافة الكاملة» لا ينبغي لأديب أو فنان أن يترك حاسة من حواسه هملًا بغير تكوين … عاطلة لا تؤدي عملًا.

يجب أن يعلم منذ الصغر أن لكل حاسة «آداب لغتها»، وأن عليه أن يحذق «آداب اللغات» جميعها لكل حاسة من حواسه؛ فكما أن آداب لغة العقل والفكر تُقرَأ في الكتب والمكتبات، فإن آداب لغة العين تشاهَد في المتاحف والمعارض والهياكل والآثار الفنية والمناظر الطبيعية.

وإن آداب لغة الأذن توجد في قاعات الموسيقى والتمثيل والغناء، وإن آداب الشم في العطور الجميلة! ولغة المذاق في المآكل اللذيذة … إلخ.

يجب أن يعلم الأديب والفنان أن من واجبه ألا يجهل قط وجود «الجمال» الأسمى عند كل حاسة من حواسه، وأن هنالك عباقرة قد استطاعوا التعبير عن هذا الجمال، وتمكَّنوا من استخلاصه واستصفائه وصبِّه في قوالب فنية رائعة: هي الكتب والصور والتماثيل والمعابد والسانفونيات والأوبرات والأناشيد والتمثيليات والأشعار والأزهار … إلخ!

ما الفنون المختلفة بآثارها الباقية إلا «آداب لغة» كل حاسة من حواسنا … فعلينا أن نلم بتاريخ أدب هذه اللغات، وأن نتذوق أجمل نصوصها في كل ناحية من نواحيها، وألا نقصر التفاتنا على أدب دون أدب، فنظن الجمال في آداب لغة العقل وحدها، أو آداب لغة الفكر … إنما يجب أن نعلم أن لكل حاسة عوالم من الجمال لا نهاية لها، وأنه ينبغي لنا — إذا أردنا الارتفاع بآدميتنا — أن نسمو إلى تلك العوالم، وأن نجوس في أرجائها الواسعة، مهتدين بقيادة عظماء الفنون الذين طافوا بها قبلنا واستكشفوا قِمَمها وغاصوا على كنوزها.

نعم … لكل حاسة وملكة صحائفها الرائعات في تاريخ العبقرية الإنسانية الخالقة، ولا بد من الاطلاع عليها جميعًا لمن يريد أن يضع يده على أسرار الخلق في الأدب والفن … تلك هي التربية الكاملة والثقافة الشاملة، التي أراها ضرورية لأدباء عصر النهضة. وإذا كان الأدب العربي في هذا القرن واقفًا عند تلك المرحلة البدائية، فذلك لأن أكثر الأدباء لم يتلقَّوا بعد هذه التربية الكاملة التي تؤهلهم لتحمُّل أعباء الخلْق الفني الكامل!

•••

البارحة كنت في «القاهرة» وحضرت حفلة غناء شرقية، فرأيت عجبًا! الحاضرون هم ولا شك من أهل القرن العشرين … ولكن الموسيقى هي من غير شكٍّ موسيقى القرن العاشر!

•••

أخفيت عنك يا «أندريه» أني كتبت منذ عام وأنا في الإسكندرية شيئًا كالقصة التمثيلية، بنيته على سورة من «القرآن» … وجرفتني المشاغل فتركت هذا العمل في حقيبة لي، وكدت أنساه لو لم أفتح الحقيبة عفوًا منذ أسبوع … قرأته … أو على الأصح قرأت حوار البطل والبطلة، وكانت إحدى مقطوعات «بيرجنت» ﻟ «إبسن» في موسيقى «إدوار جريج» الجميلة تتصاعد من «الجراموفون» … يا للمفاجأة … ؟! أأنا الذي كتب هذا المنظر؟ لقد غمرني يا «أندريه» جو شعري … لست أدري بعد أمبعثه القصة أم الموسيقى؟! لقد تأثرَّت حقًّا من هذا الحوار الغرامي! لأول مرة أتأثر لشيء خطَّته يدي … حبذا لو أستطيع أن أترجم لك هذا المشهد؛ لترى معي هل أنا واهمٌ أو مصيب؟ أما بقية العمل فلم أجد فيه، للأسف، ما هزَّ نفسي.

«طنطا»، في ٨ يوليو …

عزيزي «أندريه»

ما أعظم سروري برسالتك التي جاءتني على غير انتظار؛ فكم طال بنا الصمت، وبي رغبة شديدة في طول الحديث معك، ولكنك تغيَّرتَ قليلًا يا «أندريه» وانكمشت صحائفك وندرت رسائلك؛ مما ينذرني بشرٍّ مستطير! عهدي بك سيَّال القلم، ولا شك أن لديك ما تقول لي وتمسكه عني قسوة منك، ألا قاتل الله صُحبتك! أما قولك: إنك بدأت تكتب، فوجدت الرسائل سخيفة، فآثرت السكوت؛ فهو عذر لا يُبديه مثلك لمثلي، ألا تخجل؟ إني لا أطلب إليك أن تقوم بإنشاء رسالة بالمعنى الأدبي للكلمة، ولعلِّي كنت كذلك ذات يومٍ، ولم يشفني من ذلك الداء غير مصارحتك إياي يومًا بأن بعض رسائلي تنفعك «للفِّ» الحوائج الصغيرة: من أزرار قمصان، إلى مواسي حلاقة! إذن ما معنى كلمة السخف عندك؟ أنت الذي لا يعجبني منه سوى رسائله التي لا معنى لها، وصفحاته التي يخلط فيها الحابل بالنابل، ولا يتحرج أن يستعمل ألفاظ أوباش مونمارتر وأوباش مرسيليا؟!

إنه ظلم! أقسم إنه الظلم بعينه، أن أكتب إليك أنا كلَّ هذه الرسائل، مع ما أنا واقع فيه من عمل مُهلك! إن مجرد وصف عملي ومقداره خصوصًا في فصل الصيف ليحتاج إلى إفراد رسالة طويلة. تصور أني أعمل بدل ثلاثة من الزملاء؛ إذ ليس لي إجازة هذا العام، أو الأصح: إني نزلت عنها للآخرين: شهامة مني أو حماقة. البرنامج اليومي كالآتي: عمل في دار النيابة من الثامنة صباحًا إلى الثالثة بعد الظهر، ومن الخامسة مساء إلى الثامنة، لتحقيق التلبس وقضايا المكتب … هذا عدا القيام لضبط الحوادث الليلية!

نعم؛ ذلك أن وكيل النيابة في مصر هو مخلوق فريد في نوعه في عالم المخلوقات القضائية؛ فهو يقوم بعمل النيابة وقاضي التحقيق معًا، وفي نفس الوقت، بالمعنى المعروف لهذين العملين المنفصلين في فرنسا وإنجلترا ودول الأرض قاطبة.

لذلك تراني عدا عمل النهار الشاق أقوم كل ليلة تقريبًا؛ لأضرب في كل طرف من أطراف مديرية الغربية، حتى ضجَّت بالشكوى مدام «بلانشان» صاحبة «البنسيون»، وضجَّ معها النزلاء، من طَرْق الخفراء ليلًا على الباب لإيقاظي، وضججتُ أنا بالطبع، وأصابني الأرق والسهاد! كل هذا أيضًا عدا الجلسات … أتدري كم جلسة عليَّ حضورها في الأسبوع؟ أربع جلسات. وهذا أيضًا خلاف الإيراد اليومي، وهو لا يقل عن خمسين ملفًّا تحوي قضايا من كل لون وصنف: جنح، ومخالفات، وعوارض، وشكاوى إدارية، يجب فحصها وقيدها وتقديمها للمحكمة أو حفظها!

كل ذلك في يوم ورودها! لقد قلتها ذات مرة في صيحة وأنا أكاد أجن: إن وظيفة وكيل نيابة مصري هي أشق عمل في العالم كله … ولا يُستثنى من ذلك إلا عمل جندي الخنادق في الحرب العظمى!

ولننتقل إلى حديث الأدب … آهٍ … ما أشهى كلمة «الأدب» بعد كل هذه … المرمطة! إني لا أملك وقتًا لتذكر هذه الكلمة … لَكَم أعجب الآن إذ كنت في يومٍ من الأيام خاليًا إلى حدِّ إنفاق الوقت في تخيُّل ما وراء الكتب. كم من الساعات أضعت في الجلوس جامدًا بمشارب حي «جامبتا» أنظم الأرض والسماء من جديدٍ، وأعيد بناء العالم طبقًا لتصوراتي ومُثلي العليا!

لو كنت أعلم ما ينتظرني ها هنا؟! لو كنت أعرف أن هذا هو المصير لكنت أشبعت نفسي لهوًا ومرحًا في «باريس»، ولاقتصدت في كل شيء، وأرحت نفسي بعض الراحة من ذلك العناء!

آهٍ لتلك الحمى الخبيئة التي كنت مصابًا بها، تلك الحمى التي أضاعت عليَّ كل ما يمكن أن يظهر من صفات طيبة … الآن شُفيت ولله الحمد، وها أنت ذا تراني شخصًا غير متعجل شيئًا، مستسلمًا للحياة والقدر، فليصنعا بي ما يريدان!

تسألني عن الرواية التي حدَّثتك عنها في رسالتي السابقة؟ إنها لیست عصرية ولا تاريخية، ولا حتى قصة تمثيلية حقيقية؛ بل … بل … لست أدري، ربما كانت عملًا فنيًّا يقوم على «الحوار» لا أكثر ولا أقل … حوار أدبي للقراءة وحدها … فإن وضْعها للتمثيل لم يخطر لي على بال … إن كلمة «التشخيص» التي عرَّضتني للإهانة في بدايتي الأدبية، ما زالت ترن في أذني … كلَّا! إن هدفي اليوم هو أن أجعل للحوار قيمة أدبية بحتة؛ ليُقرأ على أنه أدب وفكر. هذا العمل على كل حال لا يخرج عن كونه Transposition artisique لسورة قرآنية تُرتَّل في المسجد يوم الجمعة!

على أني لا أكتمك أني ساعة كتبتها لم أكن تحت تأثير القرآن وحده، بل أيضًا تحت تأثير مصر القديمة … لقد كنت قرأت الكتب الدينية: كتاب الموتى، والتوراة، والأناجيل الأربعة، والقرآن!

إن مصر القديمة كلها كانت واقعة تحت سلطان كلمة واحدة ملكت عليها فكرها وقلبها وعقائدها ومشاعرها: البعث، وهي كلمة ذات أربعة أوجه كالهرم: وجهها الأول: الموت، ووجهها الثاني: الزمن، ووجهها الثالث: القلب، ووجهها الرابع: الخلود!

هل أنا على حقٍّ في تفسير الكتب السماوية تحت ضوء مصر القديمة؟ ومن منها أصل الأديان؟

إذا كانت الأديان السماوية هي الحق، فلا بد أن تكون قديمة قدم الحق، أو على الأقل قدم الإنسان، فالأنبياء إذن لم يخلقوا الحق خلقًا بظهورهم، ولكنهم كشفوا عن وجوده الأزلي، فلا غرابة إذن في البحث عن منابع الأديان السماوية فيما كان قبلها من وثنية، والبحث عن منابع الوثنية في قلب الإنسان من يوم ظهوره على الأرض.

لو كان المسكين «إيفان» حيًّا لناقشني في كل ذلك بما يملأ أسفارًا … على أي حالٍ لا تشغل بالك كثيرًا بروايتي هذه، فهي ليست عملًا ذا بال … ولا أحسبها تمتاز عن مخطوطاتي السابقة في كثيرٍ أو قليلٍ، إلا أن تكون هي أول عمل أردت أن أستوحي فيه «القرآن»، كما أردت قبل ذلك استلهام «ألف ليلة وليلة» و«المجتمع» المصري قبيل الثورة … إلخ، وبعد، فما من جديدٍ في حياتي هنا، على أني لا أريد أن أختم هذه الرسالة قبل أن أخبرك أني سعيد لتشرفي بمعرفة «موزار»: معرفة أوثق عرًى من تلك المعرفة السريعة العابرة التي بدأت في «باريس». فلقد هبط «البنسيون» رجل إنجليزي من نوع Bidlake أو Burlap في قصة «هكسلي»، وأتى معه ﺑ «ألبوم» أسطوانات السانفونيات رقم ٤٩ و٥٠ و٥١ و«سوناتا» رقم ١٠ فسرعان ما تعارفنا بالطبع … وصرنا نتبادل الأسطوانات … أنا أعيره «بيتهوفن» وهو يعيرني «موزارت» … آهٍ … أي جمال؟ وأي سعادة أن تعيش بجوار هذا الطفل الإلهي «موزار»؟!

«طنطا»، في …

عزيزي «أندريه»

مضت شهور ولم أتلقَّ منك كلمة واحدة … ماذا بك؟ ماذا حدث لك؟ إني مع ذلك لا أستطيع أن أكفَّ عن الكتابة إليك … إلى مَن غيرك أفضي بهواجسي؟ أريد أن أتنفس، وأتكلم، وأجد إنسانًا يُصغي إلى حديثي! إلى ذلك النوع من الحديث الذي لا أجرؤ على الإشارة إليه في بيئتي القضائية … الويل لرجل القضاء الذي يستكشف زملاؤه فيه أنه أديب!

إن لنا مجلسًا يضمنا كل مساء في قهوة نظيفة فلا نتحدث في غير تصرفاتنا اليومية في القضايا؛ فمن ظهرت عليه بوادر الفكر في حديثه، أو عوارض الفلسفة في خواطره، حملقوا فيه، ثم تهامسوا: «اتركوه … هذا أديب! سامحوه … هذا فيلسوف!» وذكروها له، وعدوه بعد ذلك ممن لا يُوثَق في تقديراتهم أو تصرفاتهم القانونية، فإذا لم يجدوا مطعنًا في عمله فهم على الأقل متبرمون به وبحديثه.

ولن أنسى ذلك الزميل الفاضل قاضي المحكمة الكلية الذي كان مشغوفًا بالتاريخ الإسلامي … وعلى الأخص تاريخ الفاطميين؛ لقد كان في الواقع واسع الاطلاع فيه … طلي الرواية له؛ فلم يتركه زملاؤه يتحدث في هذا الموضوع قليلًا حتى انصرفوا عنه، وصاروا بعد ذلك كلما أقبل عليهم هذا الزميل نهضوا متهامسين: «هلِّموا بنا … صاحب الفاطميين حضر!» فما كان يمكث في استقباله والاستماع إليه غيري أنا، فلقد كنت حقًّا أجد عنده حديثًا يسرُّني ويلذ لي … وتكرر هذا الأمر حتى كدت أُتهَم أنا أيضًا، ويُذكَر اسمي معه في معرض التندر والسخرية! وجاء يوم كادت تقع فيه كارثة؛ فلقد هبط المدينة قاضٍ كان من زملاء دراستي بمدرسة الحقوق في القاهرة، وقيد اسمه معي بجدول المحامين في يومٍ واحدٍ … وشهد انصرافي بعدئذٍ إلى التأليف المسرحي، وحضر تمثيل بعض رواياتي … فما كاد يراني بين الحاضرين في المجلس حتى اتخذ مكانه بجواري … وهو يصيح بي: «أين أنت؟ وأين لياليك ورواياتك التي كانت منذ عشرة أعوام تملأ المسارح؟!» فحملق فيه رئيس المحكمة ورئيس النيابة، وكانا — لسوء حظي — بين الحاضرين … وقالا: «يعني إيه؟! … كان في التشخيص؟!»، فغمزت صاحبي … فنظر إليَّ، ورأى في عيني آيات التوسُّل والألم والضراعة، ففهم الموقف، وأدرك غلطته، وحاول إصلاحها قائلًا: «لا … قصدي أنه كان يميل إلى مشاهدة التمثيل، في ليالي الفراغ»!

ثم انفردتُ به أفهمه أن ذلك الماضي قد دُفِن، وأني الآن من أعضاء الأسرة القضائية المشهود لهم بحسن السمعة؛ فإياك أن تلصق بي كلمة «أدب»، أو كلمة «فن»، أو حتى كلمة «فلسفة»!

أرأيت يا «أندريه» في أي عالم أعيش الآن؟ هل كنت تصدق أن ذلك يحدث لي؟ … أأدركتَ الآن مقدار حاجتي إليك، وإلى الهمس بالحديث معك، من خلال قضبان حياتي الحاضرة؟!

اُكتب إليَّ … اُكتب إليَّ … أخبرني بأحوالك كلها … كيف حال «جرمين»؟ وكيف حال الصغير «جانو»؟ في أي مدرسة هو الآن؟ إني أتخيله دائمًا طفلًا صغيرًا، يلعب بسيفه الزائف ومدفعه الصفيح!

«دسوق … غربية»، في …

عزيزي «أندريه»

وا أسفاه! … مضى عام وأنا لم أزل في انتظار ردٍّ منك، رد صغير ينبئني بأن الحبل بيننا لم ينقطع! يظهر أنه انقطع … ذلك الحبل الذي كان يربط أحدنا إلى الآخر، ونحن هائمان في جليد ذلك القطب «الفكري» المرتفع!

ترى أين أنت الآن؟ أتركتني وحدي وذهبت عائدًا إلى المجتمع؟ هل فعلت ذلك؟ أما أنا فإني أقاوم … أقاوم بكل ما لديَّ من قوة وعزمٍ.

إني أكتب إليك الآن من مدينة صغيرة على النيل … تُدعى «دسوق» … هي مع ذلك مركز من أهم مراكز القطر؛ لقد أسندوا إليَّ أعمال نيابتها، فوجدت نفسي أمام عمل هالني من الكثرة والخطورة. إن قاضي المحكمة لا يقيم في المدينة؛ فهو يحضر جلسته ويذهب، وبهذا صرت أنا الرئيس المسئول عن شئون النيابة والمحكمة معًا! … لقد تبيَّن لي بعد أسابيع قليلة أني أنا الرئيس المتصرف في هذه المدينة كلها … فالبوليس والإدارة والصحة والهندسة والري والزراعة، وكل فروع الحكومة المختلفة تصبُّ مشاكلها بين يدي! حتى فيما لا يقع تحت طائلة القانون، وما يكتفي فيه بالنصح والإرشاد، والمصالحة والتوفيق، وإقرار النظام بالحسنى، كل ذلك يحتاج إلى رأيي، ولكلمتي فيه المقام الأول … لقد شعرت حقًّا بعبء المسئولية … فدفعني ذلك إلى العمل المضني!

لقد وضعت نظامًا دقيقًا للعمل لا أنحرف عنه قيد شعرة … إني أعمل نهاري كله … من الصباح حتى الثانية بعد الظهر، ومن الرابعة حتى السابعة، فأخرج للنزهة ساعة فوق جسر النيل … تلك هي الساعة التي تسمح لي فيها تبعاتي أن أتحرر قليلًا، لأعود إلى نفسي وذكرياتي!

في تلك الساعة الهادئة أسير وحدي فوق الجسر، أتأمل الأمواج في اصطفاقها الخافت … فتلعب في رأسي الأفكار القديمة من جديدٍ، أفكار الفن والأدب … فألتفت حولي حرصًا عليها من مفاجئ، فلا أبصر غير الخفير النظامي يحمل بندقيته ويتبعني عن بُعدٍ؛ ليبلغني ما يرد من إشارات مستعجلة، حتى إذا خيم الظلام عدت إلى مسكني فتناولت العشاء، ثم نظرت في بعض ملفات القضايا، ثم أويت إلى فراشي في انتظار إزعاجي نصف الليل، ببلاغٍ عن وقوع جناية!

لقد أحصيت عدد الليالي التي أنتقل فيها إلى حوادث جنائية في هذا المركز … فإذا هي في المتوسط خمس ليالٍ، أي أني لا أظفر بأكثر من ليلتين في الأسبوع أقضيهما نائمًا في فراشي كما ينام الآدميون!

إني أؤدي واجبي دون تذمُّر، وأنهض بأعباء عملي القضائي بأمانة وهمة واستقامة ألحظ أثرها الحسن في مكاتبات الرؤساء الرسمية … إنهم يثقون في تصرفاتي ثقة تملؤني فخرًا، هل كنت يا «أندريه» تتوقع نجاحي كوكيل نيابة؟ ولا أنا ما كنت أتوقع لنفسي ذلك!

لقد ثبت لي أني رجل أمين، لا يعرف الغش في شروط اللعب! إني في الفن كنت الفوضى بعينها، ولكني في عمل القضاء أنا النظام بعينه، بل إني — مبالغة في الغيرة على سمعة هذا المنصب — لا أختلط بالأعيان، ولا برجال الإدارة، ولا بأي شخصٍ أكثر من الاختلاط الذي يدعو إليه العمل الرسمي.

لطالما سمعت بأخبار زملاء قضائيين — لم يتصلوا يومًا بفن ولا بفنانين — ومع ذلك لم يبالوا، فكانت لهم في مراكز أعمالهم سهرات «بوهيمية» ومغامرات نسائية … تركت أثرًا في صحائف خدمتهم لا يُمحى، أما أنا فصحيفتي نقية بيضاء.

ولقد التقيت ذات مرة بالنائب العام، فقال: إنه يعدُّني من خيرة وكلائه عملًا واستقامة وسمعة.

فأنا إذن يا «أندريه» كما ترى … أسير بخطًى ثابتة نحو الإطار النهائي، الذي يريد أن يحبسني فيه المجتمع … ماذا بقي لي من الفن والفنان بقبعته السوداء ذات الإطار العريض؟!

كنت منذ أشهر بالقاهرة، فقابلني أحد زملاء الدراسة يشتغل الآن بالتجارة، ولا يعرف من أمري شيئًا … فما إن تفرَّس في وجهي وهيئتي حتى قال لي: «ماذا تعمل في الحياة؟ … لا بد أنك من رجال القضاء؟!» فدهشت وسألته «كيف عرفت؟» فقال لي: «شكلك وهيئتك وسيماؤك»! … عجبًا … أهكذا المهنة قد طبعتني بطابعها؟ … ورنَّ عندئذٍ في أذني صوت «إيما دوران» يوم قابلتني أول مرة وتفرَّست في وجهي قائلة لي: ماذا تعمل؟ … لا بد أنك فنان في «مونمارتر!»

وا أسفاه … مات ذلك الفنان … وحلَّت روحه في جسد رجل قانون! … أترى الفنان يا «أندريه» يُبعَث من موته يومًا؟ … ولكن كيف؟ كيف يحدث لي ذلك ها هنا … كيف يحدث ذلك لقضائي منظور إليه نظرة الرضا والاحترام؟ … كيف السبيل إلى الفن الآن … والمجتمع كما ترى قد هيَّأ لي مكانًا في أحضانه لا أستطيع منه فكاكًا؟! … «أندريه» … «أندريه» … أخشى أن يحطِّمني المجتمع … يحطم الفنان فيَّ … ربما كان قد حطَّمني وكسرني … ولكني أقاوم.

منذ أسابيع وأنا أتلقَّى من أهلي خطابات يغرونني فيها بالزواج، ويذكرون لي أسماء لامعة في الثروة والجاه، ويتهمونني بالحمق والغفلة والعته إذا خامرتني فكرة الرفض … ويظهر أن كل شيء قد أعد، وأن أصحاب هذه الأسماء قد قبلوا، فالمناصب القضائية — شأنها في مصر شأن فرنسا — مزيتها الكبرى هي سعرها الممتاز في سوق الزواج، فماذا تقول في ذلك؟ … إنهم ينتظرون قبولي، يكفي يا «أندريه» أن ألفظ كلمة «نعم»؛ ليضع المجتمع أصفاده في يدي الأخرى الطليقة، ويجرني نهائيًّا إلى المصير المحتوم!

لقد قلت لهم: «لا» بأعلى صوتي! … وهم مشدوهون لا يعرفون السبب! «لا» … تلك هي الصيحة الأولى لمقاومتي اليائسة، يجب أن أقاوم وأن أجاهد.

أليس كذلك يا «أندريه»؟! … أأرضى أن تطويني الحياة، وترغمني على ما لا أريد؟ … فيم كان إذن جهادي الطويل في سبيل الفن؟ فيم كانت الأعوام الطوال التي أنفقتها قراءة واطلاعًا، وتحصيلًا وتكوينًا، وممارسة لألوان الفن، وأنواع العلم، وفروع المعرفة؟ … لقد أردتُ أن أكون كاتبًا … وسأكون … ولكن … ولكن كيف يا صديقي «أندريه»؟ … إني أخط إليك هذا السؤال بصوتٍ مرتفعٍ في سكون هذا الليل … تحت هذا المصباح الضئيل المستيقظ انتظارًا لجرائم الناس! كيف السبيل يا «أندريه»؟ إنك تعلم أني عملت وجهدت لامتلاك ناصية فني … ولم أكتف ببدايتي الأولى منذ عشر سنوات … فتناسيتها … وانطلقت من جديدٍ أكتب وأمزق، وأكتب وأمزق … ولم يسلم من التمزيق أخيرًا سوى تلك المخطوطات التي حدَّثتك عنها.

أظن أني قد أعددت نفسي إعدادًا كافيًا … وأظن أني قد جاوزت السن التي يحسن فيها بأديبٍ أو فنان أن يظهر نهائيًّا، ليغرس قدمه في ميدان فنِّه، ويعرض ثماره على أهل وطنه، ولكن مع ذلك … أنا في شك يا «أندريه»! من أدراني أن فني يستحق النشر الآن؟ لم لا تقول إني متسرع؟! لطالما تسرَّعت من قبل … ألا يحسن بنا التريث، قد تسألني: إلى متى؟ لست أدري إلى متى، إن الفن حقًّا طويل، وإذا تريثت أكثر من ذلك فسأظل طول حياتي أتريث وأتشكك … ولكن من جهة أخرى إذا أخرجت للناس شيئًا تافهًا، فماذا يكون جوابك؟ … إن الانتظار إلى آخر العمر لأهون على نفسي الآن من إخراج عمل فني ناقص، إني لم أعد الشاب الطائش الذي كنت تعرفه في «باريس»!

إني الآن أكره العجلة … وأبغض النشر لمجرَّد النشر، وأقدِّس الفن حقيقة، وأنزِّه أي عمل فني عن الظهور، ما دمتُ أرتاب في أمره بعض الارتياب … كلَّا … فلنبقَ كما نحن يا سيدي، وحسبي أن أنظر في مخطوطاتي من حين إلى حين، لأستخرج في كل مرة نقصًا جديدًا … قد تدهش إذا قلت لك إني صحَّحتُ وعدَّلت وبدَّلت في كل مخطوطة، وقمت «بتبييضها» ونسخها بنفسي أكثر من أربع مرات … أجل يا «أندريه»! … لكل مخطوطة عندي — كبرت أو صغرت — أربع نسخ version مختلفة بخط يدي …

على أننا إذا طرحنا جانبًا مسألة النضج الفني لعملي، وهل تم قليلًا أو لم يتم؟ ومسألة الإقدام أو التريث وأيهما الأصوب؟ ومسألة الثقة أو الارتياب وأيهما الأرجح؟ فإن هنالك مسألة أخرى يجب ألا تغيب على خاطرك: المجتمع الذي حولي الآن!

كيف السبيل إلى الخروج من إطاري القضائي؟ … كيف أنشر فنًّا دون أن أتعرَّض لسخرية الزملاء، وخيبة أمل النائب العام، وفجيعة الأهل والخلصاء … آه يا «أندريه» معذرة! … إني أفكر الآن تفكيرًا سخيفًا … هذا كلام غير خليق بفنانٍ! ولكن هل أنا فنان؟ … أتراها القبعة السوداء هي التي كانت تملأ رأسي بهذه الأوهام؟! لقد خلعتها؛ كما تعلم منذ زمن بعيد … وها أنا ذا اليوم أتَّشح بالوسام الأحمر الأخضر!

ولم أعد أسمع أحدًا ينعتني بالفن … ربما قلت لي: يكفي أن تصغي إلى الصوت الصاعد من أعماق نفسك! … أجل «أندريه» … ولكن نفسي الآن ينخر فيها الشك، وما عدت أصدق لها كلامًا؟

واخجلاه! … لست أدري كيف يتكلم هذا الكلام رجل يتشبَّث بالفن … حقًّا يجب أن أومن بالفن … الإيمان بالفن هو «التعويذة» التي تفتح لي الطريق … إني أومن ﺑ «أبولون» أومن ﺑ «أبولون» إله الفن الذي عفرت جبيني أعوامًا في تراب هيكله … إنه ليعلم كم جاهدت من أجله، وكم كافحت وناضلت وكددت! باسمه أخوض المعركة الكبرى وأنازل كل مجتمع وكل حياة وكل عقبة تحول بيني وبين فني الذي منحته زهرة أيامي التي لن تعود!

١  أي ما يعادل وقتئذٍ ثمانية قروش مصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤