الرسالة الثانية عشرة

حول الوزير بيكن

لم يمضِ وقتٌ كبير على ما دار في اجتماعٍ مشهور حول المسألة المبتذلة الباطلة القائلة أي الرجال أعظم من الآخر: قيصر أو الإسكندر أو تيمورلنك أو كرومويل … إلخ.

وأجاب بعضهم بقوله: إن إسحاق نيوتن هو أعظمهم لا ريب، والحق بجانب صاحب هذا القول؛ وذلك لأن العظمة الحقيقية إذا كانت تقوم على تلقِّي عبقريةٍ جبَّارةٍ من السماء وعلى الانتفاع بهذه العبقرية لتنوير الإنسان نفسه وتنوير الآخرين؛ فإن رجلًا مثل السيد نيُوتن، الذي لا يكاد يظهر مثله في عشرة قرون، يكون العظيم؛ ولأن هؤلاء السياسيين والفاتحين الذين لا يخلو منهم قرنٌ ليسوا غير أشرارٍ بالحقيقة، فترانا مُلزمين بإجلال ذلك الذي يسيطر على النفوس بقوة الحقيقة، لا أولئك الذين يصنعون عبيدًا بالإكراه والقهر، وترانا ملزمين بتقديم احترامنا إلى ذلك الذي يعرف الكون، لا أولئك الذين يشوهونه.

ثم بما أنكم تطلبون أن أحدثكم عن رجال مشهورين اشتملت عليهم إنكلترة، فإنني أبدأ بالبيكَنَات واللوكات والنيوتنات، إلخ. وسيأتي القواد والوزراء بدورهم.

والرجل الذي يجب أن أبدأ به هو الكونت فِرْيُولام المعروف في أوروبة باسم أسرته: بيكن، وقد كان ابنًا لوزير العدل، وظل وزيرًا زمنًا طويلًا في عهد الملك جيمس الأول، ومع ذلك فإنه وجد من الوقت ما يكون فيه فيلسوفًا كبيرًا ومؤرخًا ماهرًا وكاتبًا رشيقًا بين دسائس البلاط وأشاغيل منصبه التي تستلزم تفرغ رجلٍ بكامله، وأدعى إلى العجب من ذلك كونه قد عاش في قرنٍ لم يُعرف فيه فن حسن الإنشاء ولا الفلسفة الجيدة، ولم يُفلت من عادة الناس، فتراه قد قُدِّر بعد مماته أكثر مما في حياته، ولا غرو، فأعداؤه كانوا في بلاط لندن، والمعجبون به كانوا في جميع أوروبة.

ولما أتى المركيز إفيات إلى إنكلترة بابنة هنري الأكبر، الأميرة ماري كيما تتزوج أمير وِيلس زار ذلك الوزير بيكن الذي كان مريضًا طريح الفراش في ذلك الحين فاستقبله مسدِل الستائر، فقال له المركيز إفيات: «أنت تشابه الملائكة الذين يحدَّث عنهم دائمًا فيُعتقد أنهم يعلون البشر، ولا يتاح للإنسان أن يقر عينًا بمشاهدتهم.»

وأنت تعرف، يا سيدي، كيف اتُّهم بيكن بجرمٍ غير خليقٍ بفيلسوفٍ مطلقًا؛ أي إنه ارتشى، وأنت تعرف كيف حُكم عليه من قِبل مجلس اللوردات بغرامةٍ تقرب من أربعمائة ألف فرنكٍ من نقودنا، وبنزع منصبه وزيرًا وقِرنًا.

واليوم يكرم الإنكليز ذكراه فلا يريدون الاعتراف بأنه كان مذنبًا، وإذا ما سألتموني عما أفكر في الأمر، فإنني أستعمل للرد عليكم كلمةً رويت لي عن اللورد بُولِنغبروك، وذلك أن الحديث دار في حضرته حول نجل دوك مارلبورو المتهم به، وتُذكر له أمور يستشهد فيها باللورد بولنغبروك الذي كان عدوَّه الأزرق، فكان يمكن هذا اللورد أن يقول عنه ما يقتضيه الحال، فاسمع جوابه: «كان هذا الرجل من العظمة ما نسيت معه عيوبه.»

ولذا فإنني أقتصر على تحديثكم عن الأمر الذي استحق به الوزير بيكن إكرام أوروبة.

إن أروع كتبه وأصلحها هو أقل ما يطالعه الناس وأكثرها عدم فائدة، وأعني بذلك كتابه «أرغن العلوم الجديد»، فهذا الكتاب هو المحالة١ التي بُنيت بها الفلسفة الحديثة، فلما قام قسمٌ من هذا البناء على الأقل عادت هذه المحالة لا تُستعمل.

وكذلك كان الوزير بيكن لا يعرف الطبيعة، وإنما كان يعرف جميع الطرق المؤدية إليه ويدل عليها، وكان منذ البداءة يقابل بالازدراء ما تسميه الجامعات فلسفة، وكان يصنع كل ما يتوقف عليه؛ وذلك لكيلا تداوم هذه الجمعيات التي قامت لإكمال العقل البشري على إفساده بماهياتها وفضائها وكنهياتها، وبجميع الكلمات الماجنة التي يوجب الجهل اعتبارها؛ فضلًا عن أن مزجها بالدين مزجًا مضحكًا جعلها مقدسةً تقريبًا.

وبيكن أبو الفلسفة التجريبية، ومن الثابت أنه كُشف من الأسرار قبله ما يثير العجب، فقد اختُرعت البوصلة والمطبعة والتصوير القالبي والتصوير الزيتي والمرايا والنظارات وبارود المدافع، إلخ، وقد بُحث عن عالمٍ جديد فوُجد وفُتح، ومن ذا الذي يعتقد أن هذه الاكتشافات العظيمة من صنع الفلاسفة وأنها وقعت في زمنٍ أكثر نورًا من زماننا؟ لا أحد. وذلك أن هذه التحولات الكبيرة حدثت في أشد أدوار العالم بربرية والمصادفة هي أسفرت عن جميع هذه الاختراعات تقريبًا، حتى إن من الجلي أن يكون لما يُسمَّى مصادفةً نصيبٌ كبير في اكتشاف أمريكة، فمما اعتُقد في كل وقتٍ — على الأقل — كون كِرِستُوف كولنبس لم يقم برحلته إلا اعتمادًا على شهادة ربان سفينةٍ كانت العاصفة قد ألقته في ربى جزائر كرايب.

ومهما يكن من أمرٍ فإن الناس كانوا يعرفون الذهاب إلى أقاصي الدنيا، وإنهم كانوا يعرفون تدمير المدن بصواعق مصنوعةٍ أشد هولًا من الصواعق الحقيقية، ولكن من غير أن يعرفوا الدورة الدموية وثقل الهواء وسنن الحركة والضياء وعدد سياراتنا، إلخ. وكان الرجل إذا ما أيَّد نظرية حول مقولات أرسطو، أو حول «نصيب المذنب» أو غير ذلك من الحماقات، عُدَّ نادرة الزمان.

وليست أدعى الاختراعات إلى العجب وأكثرها نفعًا هي أكثر ما يشرِّف الذكاءَ البشري.

وترانا مدينين بجميع الحرف للغريزة الآلية الموجودة عند معظم الناس، لا للفلسفة الصحيحة.

ولاكتشاف النار، وفن صنع الخبز، وصهر المعادن وإعدادها، وبناء البيوت، واختراع المكوك ضرورة غير ما للمطبعة والبوصلة، ومع ذلك فإن اختراع الحرف قد وقع من قِبل أناسٍ لا يزالون متوحشين.

وما أكثر ما يكون من عجبٍ في انتفاع الأغارقة والرومان بالآليات بعدئذٍ! ومع ذلك فإنه كان يُعتقد في زمنهم وجود سماواتٍ من بلَّور، وأن الكواكب مصابيح صغيرةٌ تسقط في البحار أحيانًا، وقد وجد أحد فلاسفتهم العظام، بعد مباحث كثيرةٍ، كون النجوم حصًى فُصلت عن الأرض.

وحاصل القول أنك لا تجد — قبل الوزير بيكن — أحدًا عرف الفلسفة التجرِبية، ولا تكاد تجد بين التجارب الطبيعية التي حدثت بعده واحدةً لم يشر إليها في كتابه، وقد قام بتجارب كثيرة بنفسه، وقد صنع أنواعًا من الآلات المفرِّغة للهواء تنبأ بها مطاطيَّة الهواء، فأدرك تُورِيشِلِّي هذه الحقيقة، ولم يمضِ على ذلك غير زمنٍ قليل حتى أخذت أقسام أوروبة كلها تقريبًا تُكب على الفزياء التجربية، فكان هذا كنزًا خفيًّا ساور بيكن أمره، ويتشجع جميع الفلاسفة بوعده فيُجدُّون في نبشه.

ولكن أكثر ما أثار دهشي هو أن أرى في كتابه نصًّا صريحًا على تلك الجاذبية الجديدة التي عدَّ نيوتن مكتشفًا لها.

قال بيكن: «يجب أن يُبحث عن وجود نوعٍ من القوة المغنطية التي تعمل فيما بين الأرض والأشياء الثقيلة، وبين القمر والمحيط، وبين السيارات، إلخ.»

وقال في مكانٍ آخر: «وجب أن تُجذب الأجسام الثقيلة نحو مركز الأرض أو أن يجذب بعضها بعضًا مبادلة، ومن الواضح في هذه الحال أن الأجسام، وهي تسقط، كلما دنت من الأرض زاد تجاذبها قوة.» ثم قال مواصلًا: «يجب أن يُجرَّب ليُرى هل الساعة ذات الأثقال تسير في ذروة الجبل بأسرع مما في أسفل المنجم أو لا، فإذا كانت قوة الأثقال تقل فوق الجبل، وتزيد في المنجم وضح كون الأرض ذات جاذبية حقيقية.»

وكان هذا المبشر بالفلسفة كاتبًا رشيقًا ومؤرخًا لُوذعيًّا أيضًا.

وتُقدر «رسائله في الأخلاق» كثيرًا، ولكنها وُضعت لتثقف أكثر من أن تروق، ولكن بما أنها لا تنطوي على هجو للطبيعة، «كالحِكَم» للمسيو دولا رُشْفُوكول، ولا على مذهبٍ للشك كمونِتِين، فإن الناس أقل إقبالًا على مطالعتها مما على مطالعة هذين الكتابين المحكمين.

وقد عُدَّ تاريخه عن «هنري السابع» من الروائع، ولكنني أكون مخطئًا كثيرًا إذا أمكن أن يقارن بكتاب السيد دُوتُو المشهور.

وإليك كيف يُعرب الوزير بيكن عن فكره حين الكلام عن اليهودي الدجال المعروف بارْكِنْز الذي انتحل بوقاحة اسم ملك إنكلترة، هنري الرابع، والذي شجعته على هذا دوكة برغونية، فنازع هنري السابع التاج:

ما انفكت الأرواح الشريرة تلازم الملك هنري بسحرٍ من دوكة برغونية التي أحضرت من مثوى النفوس شبح إدوارد الرابع حتى تؤذي الملك هنري، ولما أخبرت دوكة برغونية باركنز أخذت تفكر في البقعة السماوية التي تُظهر منها المذنب، فقررت أن يظهر فوق أفق أيرلندا في بدء الأمر.

ويلوح لي أن حكيمنا دوتو لا يقدم حول هذه الأسطورة غير ما يُعد رفيعًا فيما مضى، ولكن مع تسميته — بحق — سفسطة في أيامنا.

١  المحالة: الخشبة التي يستقر عليها الطيانون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤