مقدمة

صاحب الجائزة: ألفريد نوبل١

اسم يدوي في العالم مع دوي المفرقعات، ويدوي في العالم مرة على الأقل كلَّ سنة مع أصحاب الشهرة العالمية في السياسة والعلم والأدب، ووراء ذلك الدويِّ سيرة للرجل ظاهرة، وأخرى باطنة هي التي تعنينا؛ لأننا نعرف منها صاحب الجوائز، ونعرف منها بواعث عمله الباقي الذي تناط به ذكراه: رجل وديع لطيف قضى حياته يشعر بالفراغ، ويتشاغل بالعمل الدائب عن هذا الفراغ، ولا يحس بنفسه خلوًّا من شواغل العمل إلا ليحس في ضميره بخيبة الأمل، ويحس في جسده بالوهن والحاجة إلى السكينة والعزلة.

طلب إليه أخوه لدفيج نوبل أنْ يكتب تاريخ حياته، فكتب إليه ما فحواه: إنَّ له نصف حياة في الواقع، وإنَّ هذا النصف كان حقيقًا أنْ يتولاه عند ولادته طبيب من محبي الخير، يكتم أنفاسه ساعة بدرت منه الصيحة الأولى على أبواب الدنيا.

وأراد — بسليقته الأدبية — أنْ يسطر ترجمته في صورة بطاقة من بطاقات الشخصية فسطرها على الصورة التالية:
  • ألفريد نوبل: نصف إنسان Demi-man ضئيل، كان ينبغي أنْ يتاح له طبيب طيب يقضي عليه يوم قدم صارخًا إلى دنياه.
  • مزاياه: ينظف أظافره، ولا يحب أنْ يثقل على أحد.
  • نقائصه وأخطاؤه: بغير أسرة، كئيب، سيئ الهضم.
  • أهم رغباته: ورغبته الوحيدة ألا يدفن بقيد الحياة.
  • خطاياه: لا يعبد إله «المامون»!
  • حوادث حياته الهامة: لا شيء.

بطاقة حزينة، فيها مسحة ساخرة، لا يخطر لأحد من المطلعين على حياة الرجل من أهله وصحبه أنه كان مدعيًا فيها للتواضع، أو متكلفًا للظهور بمظهر الترفع عن الشهرة وبعد الصيت … وإنَّ الناس — اليوم وقبل اليوم — ليعجبون كيف تخلو حياته من شيء هام يذكره في «بطاقته الشخصية»! وكيف تكون أمنيته الوحيدة في الحياة أنْ يدفن بعد الموت ولا يدفن بقيد الحياة! وحبذا لو لم يكن دخلها ولم يعرف ما يتمناه فيها وما يحذره منها منذ اللحظة الأولى.

والعجب من هذا حق، ولكنه يزول كلما رجعنا إلى أنفسنا، ولمسنا الفارق في أعمالنا بين ما يهمنا وما يهم الناس فيها، فقد تكون الجوهرة الغالية حلية يتنافس عليها الذين يشترونها، والذين يلبسونها، والذين ينظرون إليها، ولكنها عند الذي يصقلها ويعدها للتنافس عليها: إنما هي تعب الليل والنهار، وعمل من أعمال الحاجة والاضطرار.

وقد كان ألفريد نوبل يعيش حقًّا في فراغ أليم: بينه وبين وجدانه، وبينه وبين أقرب الناس إليه، وكان هذا الفراغ الأليم هو «أهم شيء» في حياته، إنْ أردنا أنْ نعرف الباعث له إلى خلق الاهتمام، وإلى خلق الاهتمام في إبان الحياة، وهو خير عنده من الاهتمام بالذكريات وبالآثار بعد زوال الحياة.

•••

وإنَّ هذا الفراغ الذي أضجره على عيشته، وأسخطه على الواقع الملموس في دنياه لعجيب عند من ينظرون إلى شهرة الرجل، ويسمعون بأعماله ومخترعاته، ويعرفون شيئًا عن ثرائه ووفرة أرباحه من مصانعه التي انتشرت بين عواصم الغرب وهو في عنفوان شبابه، ولكنه فراغ لا يعجب له من يعلم أنه قضى عمره منذ طفولته دون العاشرة، ولم يمتلئ فؤاده قط من شعور الوطن ولا شعور السكن، ولا شعور الحب والثقة بإنسان من عُشرائه وشركائه، ولا بمبدأ من المبادئ التي كانت تروج دعواها بين الناس في زمانه، وهو أعلم من سواه بحقائق هذه الدعوى وراء الستار.

فقد فارق وطنه في طفولته؛ ليلحق بأبيه في عاصمة روسيا التي اختارها مركزًا لتجربة مشروعاته ومخترعاته، ثم قضى سائر عمره إلى يوم وفاته متنقلًا بين روسيا وأمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وعواصم الدول، أو ضواحي النزهة والاستشفاء، وأتقن في رحلاته هذه ثلاث لغات غير لغته الأصلية، وهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ولكنه كان في «حياته اللغوية» مثالًا للغربة والانقطاع عن وشائج الفكر في أعماق النفس البشرية، وقد ظهر ذلك من إخفاقه في محاولاته الأدبية، فكان ينظم الشعر بالإنجليزية، فيجيد غاية الإجادة التي يملكها الناظم الغريب عن اللسان والبيئة، ثم يعود إلى لغة الأم — كما يقال أحيانًا عن لغة الوطن — فإذا هو غريب عنها يحاول أنْ يودعها سرائر وجدانه، فكأنه ينقلها من لسان إلى لسان، ومن بديهة إلى بديهة؛ وكأنه في هذه المحاولة يوسط أحدًا بينه وبين نفسه قبل أنْ يوسط الترجمان بينه وبين القرَّاء.

وشعر السري العالمي بالحاجة إلى طمأنينة السكن: إلى «البيت» الذي يأوي إليه الأب والابن والقرين والقريب، ولا تفلح في بنائه الأموال والأمتعة إنْ لم تتوطد له أركانه الأربعة بين حنايا الصدور.

وكان يتمنى أنْ يسلم هذا البيت إلى الفتاة التي يهواها، ولكنه فقدها في إبان صباها، ثم أوفى على السن التي ينظر فيها إلى تقرير مصيره «البيتي» قبل فوات أوان التفكير في هذا المصير، وأوشك أنْ يجد ربة البيت التي توافقه في سِنِّهِ، وتوافقه في مزاجه، وتوافقه في عمله، فعملت عنده النبيلة «برتا كنسكي» النموسوية كاتبة لرسائله ومديرة لبيته، وكانت في الثالثة والثلاثين وهو في الثالثة والأربعين، فلما أحس ذات يوم أنه يحبها ويرتضيها قرينة لحياته لم يشأ أنْ يستغل حاجتها إليه وأنْ يفاتحها بهواه قبل أنْ يتبين جوابها المنتظر لما سيعرضه عليها في غير حرج ولا اضطرار إلى المواربة، فسألها: أهي طليقة القلب؟ ولم يكن جوابها إلى اليأس ولا إلى الأمل؛ لأنه علم منها أنها أحبت فتى من نبلاء بلادها، وأحبها الفتى فنهاه أهله عن الاقتران بها؛ لفقرها وتفاوت السن بينه وبينها، وأنها هجرت وطنها لتنسى، ولعلها وشيكة أنْ تنسى … ولكنه ذهب في رحلة من رحلاته فكتبت إليه في غيبته تستودعه وتعتذر إليه من سفرها قبل عودته، ثم علم أنها استجابت لدعوة عاجلة من فتاها، وأنه تمرد على مشيئة أسرته فتزوج بها وأرجأ إعلان الزواج إلى أنْ يقنع الأسرة بقبوله. وقُضي على السري العالمي مرة أخرى أنْ يأوي إلى العالم كله، ولا يأوي إلى بيت.

•••

وقد ربح ألفريد نوبل منذ شبابه ثروة عريضة من مخترعاته ومقاولاته، وربح في كهولته ثروة أعرض منها وأوسع انتشارًا بين حواضر العالم وعواصم الدول ومراكز الحياة الاجتماعية، فلم تعطه الثروة العريضة في شبابه وكهولته تلك الثقة التي يفتقر إليها ويود أنْ يطمئن إلى ركن من أركانها؛ لأنه كسب الثروة من صناعة «المتفجرات»، وهي يومئذ تنوء بأوزار قضية التسليح وقضية السلام، وتتجسم بين أيدي العاملين فيها فضائح الرياء والسمسرة والرشوة ومكائد الجاسوسية.

ومن سخرية الحظ أنَّ ثروة نوبل جلبت له شيئًا مذكورًا من ألقاب الدول التي جرى العرف على تسميتها بألقاب الثقة والتقدير، أو ألقاب الجدارة والاستحقاق؛ فزادته شكًّا ولم تزده ثقة، ونقل عنه أنه كان يقول: إنه مدين لألقابه من حكومات الشمال لبراعة طباخه، وللمعدات الأرستقراطية التي كانت تقدر براعة ذلك الطباخ، وأنه مدين بألقابه الفرنسية لصداقة أحد الوزراء، وبألقابه من أمريكا الجنوبية لزيارة هذا الرئيس، أو لولع ذلك الرئيس بتمثيل أدوار التشريف والإنعام.٢

وهكذا تكشف لنا هذه الصفحة الباطنة عن رجل وديع، لطيف المزاج، بحث عن الطمأنينة والثقة فلم يجدها في حياته، فتعزى بالعمل لتحقيق الطمأنينة والثقة بعد مماته، وحرص على تقدير العاملين لهما وشعورهم بهذا التقدير وهم بقيد الحياة، وما العمل لتحقيق الطمأنينة والثقة إلا العمل — بعبارة أخرى — لتحقيق السلام والإيمان بالمثل الأعلى؛ مناط الثقة التي لا يدركها المشغولون بالواقع المحدود، ويزيده كلفًا بهذه الغاية أنه اخترع شيئًا يصلح للتعمير في نطاقه الواسع، فلم يلبث أنْ رآه بين أيدي الناس سلاحًا من أسلحة الحرب والدمار، فهو يرصد المال الذي ربحه من هذه الصناعة؛ للتكفير عن سوء أثرها في أيدي سَاسَةِ الأمم وزبانية الحروب، وما كان له من باب للتكفير غير هذا الباب إلا إلغاء ما صنع، ومحو ما اخترع، وليس ذلك بالنافع ولا بالمستطاع.

أما سيرته الظاهرة فقد أصاب حين قال: إنها لا تشتمل على حدث ذي بال، فإن «المتفجرات» لها دويها الذي يزعج الأسماع، ولكنها عند من يخترعها لا تعدو أنْ تكون سلسلة من الأرقام والمعادلات، وتجارب المحاولة والتنفيذ.

اضطرت الحياة أباه — عمانويل نوبل — أنْ يعمل وهو يقارب الرابعة عشرة، ثم أصابه نحس الطالع فاحترق بيته الذي اقتناه، وصفرت يده من المال والصفقة، فغادر ستوكهلم سنة ١٨٣٧ إلى العاصمة الروسية، وألفريد — صاحب الجوائز — يومذاك في الرابعة من عمره، وبقيت ربة الأسرة في أرض الوطن مع أطفالها الصغار — وهم ثلاثة أبناء — مضطلعة وحدها بتربيتهم وتدبير معيشتهم في غيبة أبيهم، وفي انتظار الفرج من تلك المغامرة في البلد المجهول.

ووصل ألفريد إلى بطرسبرج وهو دون العاشرة، لم يختلف قبلها إلى مدرسة من مدارس التعليم المنتظم غير بضعة شهور، فعوض هذا النقص بالدروس التي كان يتلقاها على أستاذه الخاص في داره، ثم انقطعت هذه الدروس أيضًا وهو في السادسة عشرة، فتعلم باجتهاده وفطنته كل ما وعاه من تلك المعارف التي أعانته على الاختراع والإدارة، وتحصيل ما حُصِّلَ من ثقافة جعلته ندًّا مشهودًا له بالفضل بين أصحابه وعشرائه من نخبة العظماء.

وتحل بالأسرة كارثة جديدة تذهب بمصنع ألفريد وأخيه الصغير إميل (١٨٦٤)، ولم يفق أبوه من جرائرها حتى قضى نحبه (سنة ١٨٧٢)، ونهض ألفريد بالعبء كله في تجديد المصنع، والإشراف على معاملاته ومعاملات أسرته بين الأقطار التي زارها، وتعرف إلى أقطاب الأعمال فيها أثناء رحلاته أيام الطلب والاستطلاع.

ويتكشف معدِن الرجل من قدرته على توسيع أعماله والنهوض من كبواته مع سوء ظنه بالناس عامة وبأقرب المقربين إليه بعد تجربتهم في أيام سعده ونحوسه، ومفاجآت رواجه وكساده.

وأدل من ذلك على معدن هذه النفس القوية أنها احتفظت بقوتها بين متاعب القلب والجسد، متاعب القلب حرفًا ومعنًى؛ لأنه كان مصابًا بالذبحة الصدرية، ومتاعب الجسد من فرط الجهد ومن سوء الغذاء، أو من قِلَّةِ هذا الغذاء الصالح الذي كانت تسمح به معدته الواهية.

وفي سان ريمو بإيطاليا في العاشر من شهر ديسمبر سنة ١٨٩٦ تُوفي ألفريد نوبل، بعد أنْ حقق مبادئه، فلم يحفل بنصيب الآحاد من ميراثه كما حفل بنصيب الجماعات، ومنه نصيب خدامها في ميادين الصناعة والصحة والأخلاق.

وأعلنت وصيته بعد أيام من موته، ولكنها لم توضع موضع التنفيذ إلا بعد انقضاء أربع سنوات، وكان هذا التأخير من الأمور المنتظرة؛ لأنها تتطلب إجراءات شتى: قانونية وعملية، يتبعها وكلاء التنفيذ بغير إرشاد من صاحب الوصية، ولا سابقة من وصية قبلها، يهتدون بها، ويعملون على مثالها.

•••

وبدأت اللجنة جوائزها الأدبية منذ السنة الأولى في القرن العشرين، وكان أول المختارين لها الشاعر المفكر الفيلسوف «رينيه سولي برودوم» عضو الأكاديمية الفرنسية؛ «تقديرًا لتفوقه في الأدب، ولا سيما الشعر الذي يتسم بالروح المثالية السامية والإتقان الفني والتوفيق النادر بين الضمير والعبقرية.»

١  باختصار وتصرف يسير من كتابنا «شاعر أندلسي وجائزة عالمية».
٢  ترجمة هنريك شك Schuck لألفريد نوبل من كتاب «نوبل الرجل وجوائزه».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤