جوائز الأدب العالمية

إنَّ التحدث عن جوائز الأدب العالمية موضوع حاضر في كل وقت، متصل في كل موسم من مواسم الثقافة، وهو — على هذا — شائق ومفيد، تفضَّل باقتراحه خبراء الإذاعة العارفون بمطالب المستمعين، فحمدت اقتراحهم واستجبت إليه.

يحب الناس بالطبع حديث الجوائز، كما يحبون كل منظر من مناظر السباق والمباراة في ميادين النشاط الفكري أو ميادين الرياضة البدنية؛ لأنه يحفز النفس إلى التطلع، ويستنهضها إلى طلب العلم بأسباب السبق والشعور بالنقيضين المتقابلين، فوز السابق وتخلُّف المسبوق.

وفائدة النظر في أحكام المُحَكِّمِين بين المتسابقين أبلغ وأكبر من لذة الشوق والاستطلاع إلى أسباب الفوز وأسباب الحرمان، فإن هذه الأحكام ميزان صادق لأمانة الفكر، ونزاهة الضمير، وصحة المعرفة، وما من دراسة للنفس البشرية أصلح من أحكام المُحَكِّمِين في جوائز الأدب لمراقبة العقل والنفس والضمير معًا بين مهب الأهواء، وشبهات الأغراض، ونوازع المعرفة والجهل، وأعراض التقلب والاستقرار؛ لأن التمييز على ضوء العقل وهدى البصيرة بين ثمرات القرائح الإنسانية هو المحك الصادق لكل فضيلة من فضائل الفهم النافذ، والخُلق القويم، والقدرة على مغالبة الأهواء والشهوات؛ وفائدة الناظر في هذه الأحكام هي فائدة العلم بالطبيعة الإنسانية في قمتها العليا: وهي قمة الإدراك والإنصاف.

وجوائز الأدب العالميةُ كثيرة في العصر الحاضر، يتشعب الكلام عليها جميعًا، فلا ينتهي إلى نتيجة محدودة، ويغني عن تتبعها في وقت واحد أنْ نقصر الكلام على مثال منها يصدق عليه ما يصدق عليها، فإذا اكتفينا منها بأقدمها وأشيعها وأعمِّها غرضًا وأكبرها أثرًا ففي ذلك بلاغ يغني عن التوسع والاستقصاء.

جائزة «نوبل» السويدية هي الجائزة التي تصدق عليها هذه الصفة بغير خلاف.

وليس الكلام على جائزة «نوبل» بالشيء الجديد … فقد كثر الكلام في كل عام على تاريخها، وتاريخ صاحبها، وتواريخ الفائزين بجوائزها، كما كثر التعليق على اختيارها بين الموافقة والمخالفة، وبين الاستحسان والإنكار، ولنا أنْ نقول: بل بين التبرئة والاتهام.

ولكننا نحب أنْ نختار للكلام عليها بابًا من التعليق والتعريف: بابًا غير مطروق، أو بابًا لم يطرقه الطراق من قبل حتى لا مُفتتح فيه للعودة إليه، حينًا بعد حين.

إنَّ أحكام لجنة الجائزة السويدية ميزانٌ لثمرات القرائح والأذواق.

وتعليقًا على أحكامها في هذه الصفحات هو «وزن الميزان» إذا شئنا أنْ نجمعه في كلمتين.

ما معيار هذا الميزان؟

ما مبلغه من الدقة؟

ما مبلغه من الصواب؟

ما هو مبلغ التعويل عليه من ناحية الكفاية العلمية أو كفاية المعرفة والدراية؟

هل هو مثل عالٍ لما تبلغه الجوائز العالمية من الصواب والإنصاف؟ أو هناك فوق هذا المثل مثلٌ أعلى منه وأقرب إلى التقدير الصحيح؟

إنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة بالآراء النظرية شرح يطول.

ولكن المقارنة العلمية أقرب من ذلك إلى التَّفاهم المتفق عليه، وسبيل المقارنة العلمية هو الموازنة بين أسماء معلومة معروفة القدر عند الجميع من المستحقين للجائزة، وممن لهم من أصحاب الشهرة العالمية التي تمحصت مع الزمن، وتساوت فيها الموازين بغير خلاف كبير.

ولنقابل إذن بين عشرة من الذين استحقوا الجائزة وعشرة من الذين لم يستحقوها، وليكونوا جميعًا من الأدباء العالميين الذين اشتهروا منذ قيام اللجنة السويدية بأعمالها؛ أي منذ أوائل هذا القرن العشرين.

أما العشرة الذين نذكرهم بغير ترتيب أو مفاضلة فهم: «كاردوتشي، كيلنح، رومان رولان، جالزورتي، تاجور، أناتول فرانس، برناردشو، برجسون، أندريه جيد، هنجواي.»

هؤلاء هم العشرة الفائزون.

أما غير الفائزين فهم كذلك بغير ترتيب ولا مفاضلة: أميل زولا، بول يورجيه، لون تولستوي، توماس هاردي، محمد إقبال، نقولا كزانزاكس، بلاسكو أباتير، أميل فاجيه، بنديتو كروشه، روبرت فروست.

ويلوح لنا هنا معيار المقارنة الواقعية لأول وهلة؛ لأن سماع الأسماء كافٍ للموازنة المتفقة بين الأحكام والأقدار.

فمما لا شك فيه أنَّ المتروكين على الجملة لا ينتقصون في معيار من معايير الشهرة والاستحقاق عن الفائزين، ويجوز عند الكثيرين أنْ يكون المتروكون — على الجملة — أرجح في ميزان الشهرة والاستحقاق من جملة الفائزين.

وإذا جاز الخلاف في هذه الموازنة فهناك أسماء أخرى من الذين فازوا بالجائزة، لا يختلف اثنان في تقديرهم عند المقارنة بينهم وبين من ذكرناهم من الفائزين أو المتروكين.

وهذه عشرة أسماء، نذكرها كذلك بغير ترتيب ولا مفاضلة، وهم: يونتوييدان الدنمركي، وسيلانيا الفنلندي، ولالنس الأيسلاندي، وأسكندر يوتين الروسي، وسلفانور كواسمورو الإيطالي، وهيد نستام السويدي، وجون بيرس الفرنسي، وإيفواندريش اليوغسلافي، وايشيجاري الإسباني، وبول هيس الألماني.

فلا محل للتردد الطويل في حقيقة يجزم بها كل من يستمع إلى هذه الأسماء من المطلعين على أسماء الأدباء العالميين الذين توطدت لهم أركان الشهرة على ممر الزمن: إنَّ هؤلاء الفائزين لم يرتفعوا إلى مكانة المتروكين بتقدير الصيت الذائع ولا بتقدير النبوغ المتفق عليه.

ولا محل — بعد ذلك — للتردد في حقيقة مثلها لا بدَّ أنْ تترتب عليها؛ وهي أنَّ جائزة نوبل ليست شهادة محققة برجحان من ينالها على من تتخطاه، وإنَّ كثيرين ممن لم ينالوها أرجح قدرًا، وأثبت فضلًا، وأشيع ذكرًا من الفائزين بها، فما معنى هذا التفاوت البيِّن في أحكام اللجنة؟

هل معناه أنه خطأ راجع إلى المحاباة وتحكم الأهواء؟

هل معناه أنه خطأ، ولكن لا يرجع إلى المحاباة بل إلى نقص في موازين النقد والتمييز؟

هل معناه أنه علامة على القصور في كفاية اللجنة لأداء مهمتها؟

أيصح أنْ تكون لجنةٌ أخرى أقدر منها على النهوض بهذه المهمة العالمية؟

ظاهر الأمر أنَّ هذه الظنون نتيجة لازمة لذلك التفاوت البيِّن في أحكام اللجنة وتقديراتها.

ومهما يكن من مقطع اليقين في هذه الظنون فالمسلَّم بِه، في غير تردد، أنَّ لجنة نوبل ليست بالمعصومة من عوارض المحاباة والخطأ ولا من النقص في معايير النقد والتمييز، ولكنه حكم لا تنفرد به اللجنة السويدية وحدها ولا تسلم منه، على عمومه جماعة من بني الإنسان في كل زمان وفي كل مكان.

فإذا حسبنا للَّجنة قسمتها من الضعف الإنساني الذي لا محيد عنه، فمن الإجحاف بها أنْ تُحال عيوب التفاوت في الأحكام كلها إلى اختيارها، وأنْ تُلقى التبعة كلها عليها في ترجيح المجروحين وتطفيف ميزان الراجحين … فإن هناك ظروفًا كثيرة من طبيعة العمل في ذاته تعفي اللجنة من تبعات التفاوت في الحكم، وتجعل هذا التفاوت في بعض أحواله ضربة لازب لا حيلة لها — ولا لغيرها من لجان التحكيم — فيها.

•••

أول هذه الظروف أنَّ اللجنة مقيده بشرط مقدم على سائر الشروط في الكتابة التي تستحق الجائزة؛ وهو خدمة السلام والاتجاه بالكتابة إلى وجهة المثل الأعلى.

وسبب هذا الشرط — كما هو معلوم — أنَّ مؤسس الجوائز «ألفريد نوبل» كان من مخترعي صناعة الديناميت، وكان يشفق من استخدام هذه المادة المهلكة في أعمال التسليح، فوقف من ماله حصة كبيرة لاستغلالها في الأغراض السلمية، والإنفاق من أرباحها على هذه الجوائز لمن يستحقونها في خدمة السلام وتحقيق آمال الإنسانية، بين الممتازين من الأدباء والعلماء وأقطاب السياسة.

ولا يندر — على هذا الاعتبار — أنْ ينال الجائزة كاتب متوسط يتوافر له هذا الشرط، ويُحرمها كاتب أقدر منه وأوسع شهرة في زمانه، ولكنه متشائم أو منصرف إلى الهدم وإثارة الخصومات في مقاصد الفتح والاستعمار.

•••

مسألة أخرى تحسب من قيود اللجنة التي تضطرها إلى التفاوت في أحكامها؛ وهي أنها تعطي جوائزها لمن يستحقونها في عشرات السنين، ولا تقصرها على سنة واحدة — فلا يندر في هذه الحالة أيضًا أنْ يظفر بها من هو أقدر منه وأوفى نصيبًا من الشهرة العالمية — لأنه لم يبلغ مكانته إلا بعد سنوات.

وسبب غير هذا من دواعي التفاوت في أحكام اللجنة، وهو أنها — في الواقع — لجان عدة، وليست بلجنة واحدة في تكوين أعضائها، فإن الذين يحكمون اليوم في الجوائز غير الذين كانوا يحكمون فيها قبل خمسين سنة … ومن هنا يأتي الاختلاف لا محالة في الأذواق والأفكار.

ومن أهم أسباب التفاوت في الأحكام أنَّ اللجنة مرتبطة بالحكومة في دولتها؛ لأن جوائزها تصدر من هيئات رسمية، وتوزع في محافل يشهدها رؤساء الدول؛ فمن العسير على اللجنة أنْ تتجاهل مواطن الحرج السياسي في علاقة الدولة بسائر الدول الكبرى والصغرى، وبخاصة في مسألة السلام، أو مسألة التمييز بين من يخدمه ومن يجني عليه.

وشبيه بذلك موقف اللجنة في توزيع الجوائز بين الأمم، فربما تعمدت أنْ تتخطى أديبًا كبيرًا في أمة كثر فيها المستحقون للجائزة، وتعمدت أنْ توجهها إلى من هو دونه في أمة أخرى، حذرًا من مظنَّة المحاباة.

وبعض هذه الأسباب صالح لتسويغ كثير من المفارقات في تقدير اللجنة، ولكنه لا يصلح لتسويغها جميعًا؛ لأن التفاوت يحصل أحيانًا بين أديبين متساويين في جميع مزايا الترشيح والترجيح، ويحصل كذلك أنْ تتغاضى اللجنة عن نزعة التشاؤم في بعض الكتاب ولا تتغاضى عنها في غيره، وأنْ تنظر إلى السلوك «الشخصي» مرة، ولا تنظر إليه مرة أخرى، وقد يكون الاعتماد على الواقع في بيان هذه المفارقات أَوْلَى من الاعتماد على الرأي والنظر … وفي تجارب اللجنة خلال السنين غناء عن مناقشة الآراء والنظرات، مما سنبينه في الصفحات التالية إنْ شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤