باسترناك

في موسوعة المعرفة اليهودية كلمة عن جوائز نوبل قالت فيها: إنَّ اليهود — وأنصاف اليهود — الذين نالوا جوائز نوبل، قد بلغت نسبتهم نحو اثني عشر في المائة من مجموع الفائزين بها في بلاد العالم المتمدن، هي تعني بأنصاف اليهود من كان لهم أمهات يهوديات.

وقد صدرت موسوعة المعرفة اليهودية في سنة ست وأربعين (١٩٤٦)، ولا تزال النسبة في ازدياد، بمن يضاف إليها بعد صدور الموسوعة.

وهذه نسبة كبيرة تجاوزت النسبة التي يلاحظ فيها عدد اليهود في العالم، وهم أقل من عشرين مليونًا في بلاد العالم كله، ولعلهم أقل من ذلك بكثير.

وتزداد هذه النسبة إذا لوحظ عددهم في الدوائر العلمية التي ينتسب إليها أكثر اليهود الفائزين بالجائزة، فربما كانوا لا يزيدون على جزء من خمسين جزءًا من عدد زملائهم المسيحيين، وربما بلغت نسبتهم أكثر من خمسين في المائة من أبناء ملتهم المشتغلين بعلوم الطبيعة والكيمياء، ومعنى ذلك أنَّ نصف علماء اليهود في أنحاء العالم المتمدن قد وصلوا إلى جوائز نوبل العلمية، وهنا يظهر الفارق الكبير بين نسبتهم ونسبة غيرهم بحساب واحد، فإن الذين نالوا هذه الجوائز من غير اليهود ينقصون عن واحد في المائة من عدد العلماء العالميين، وهم عدة ألوف.

ولم يظهر مثل هذه النسبة في الجوائز الأدبية؛ لأن الأدباء اليهود الذين وصلوا إلى الشهرة العالمية أفراد معدودون، يُحسبون على أصابع اليد الواحدة، ولم يكن أحد منهم في طبقة الأعلام النابهين من أمثال أناتول فرانس، وبرناردشو، وبيراندلو، وبرتراندرسل … فلو أنهم أخذوا الجائزة الأدبية لكان معنى ذلك أنَّ النسبة تبلغ فيهم مائة في المائة، وأنَّ اللجنة السويدية تميزهم على من هم أرجح منهم قدرة وشهرة من غير اليهود، ولعل اللجنة أدركت أنَّ محاباة هؤلاء حاصلة بغير حاجة إلى وساطتها في دوائر النشر والإعلان؛ لأن أنصاف اليهود من أمثال رلكنه، وكافكا، وسارتر، قد زاحموا من هم أفضل منهم في ملكات الشعر والقصة، وقد كان ذلك حسبهم من المحاباة، فلا حاجة باللجنة السويدية إلى توريط نفسها في هذا المجال، وبخاصة عند النظر إلى الشروط المثالية الإنسانية، فإنهم منها على النقيض مما اشترطه مؤسس الجائزة من شروط القيم الأخلاقية والمثل العليا.

وقد استحق الجائزة كاتب كبير له قدره الراجح الذي لا اختلاف عليه، وهو الفيلسوف اليهودي برجسن، ولكن الاستثناء في أمره واضح من ناحية غير ناحية الشهرة والقدرة الفنية، وتلك هي ناحية الموضوع الذي اختير من أجله، وهو موضوع الفلسفة؛ إذ كان بين الشعراء والروائيين وكتاب المسرح والفن الجميل من هو أولى منه بشروط الجائزة الكتابية، فكان تفضيل موضوع الفلسفة على موضوعات الأدب الفني هو باب الاستثناء في أمر هذا الكاتب الكبير.

إنَّ هذه القضية جديرة بحصتها في التعليق في كلام يقال عن الجائزة وتقديراتها ومواضع الملاحظة عن أسباب المحاباة أو الإجحاف عليها، وليس لذلك من مناسبة أقرب إلى موضوعها من باب خاص تستدعيه قصة باسترناك في هذا الكتاب؛ وهي القصة التي أثارت من اللغط حولها ما لم تُثِرْهُ جائزة أدبية في سنة من السنين.

وقد ثار اللغط حول هذه الجائزة — بحق — في بلاد العالم، ولم تنفرد البلاد الروسية بهذا اللغط كما يعلم جمهرة القراء.

إنَّ أدباء الروس لم يظفروا بنصيب من جوائز نوبل منذ نشأتها، ولا استثناء لذلك في أمر تولستوي أشهر أدباء الروس في عصره، بل أشهر أدباء الغرب جميعًا في العصر الحديث.

ولما أجيز الكاتب الروسي «إيفان بوتين» في سنة ثلاث وثلاثين لم يكن ذلك الكاتب روسيًّا بحسب التبعية السياسية في ذلك الحين، ولكنه كان من رعايا الدولة الفرنسية، وكان من المهاجرين البيض المنفيين من وطنه الأصيل.

فلما أعلن اسم الفائز سنة ثمان وخمسين، وعَرَفَ الناس أنه بوريس باسترناك، كان موضع دهشتهم من النبأ أنه أول أديب روسي مقيم في بلاده، خَصَّتهُ اللجنة السويدية بجائزتها التي لم تَخُصَّ بها من قبله تولستوي، ولا أحدًا ممن لا يساوون تولستوي، ولكنهم يساوون باسترناك، ويرجحون عليه.

وتساءلوا: ما هي المَزِيَّةُ الخارقة التي خرجت باللجنة السويدية من قاعدتها المُطَّردة إلى هذا الاستثناء الغريب؟

إنَّ الموسوعة اليهودية — التي أشرنا إليها في مطلع هذا المقال — لم تذكر اسم باسترناك الشاعر؛ لأنه لم يكن علمًا من أعلام الأدب في سنة صدورها: سنة ست وأربعين (١٩٤٦) … ولكنها ذكرت اسم أبيه؛ لأنه المصور الذي زيَّن بالرسوم قصة البعث لتولستوي.

وقد تسربت له إلى الغرب شهرة محدودة بنظم الشعر، على طريقة وسط بين طريقة الرمزيين وطريقة المستقبليين، ولكنه كان أقل زملائه شهرة في البلاد الأوروبية إلى العام الذي نال فيه الجائزة، بعد ظهور روايته «الدكتور زيفاجو» باللغة الإيطالية سنة سبع وخمسين، وكان ظهورها بالترجمة الإيطالية، ورفضها في بلاد الشاعر بلغتها الروسية سببًا من أسباب الالتفات إليها، والتساؤل عن موقف الشاعر من برنامج الأدب كما قرره اتحاد الأدباء الماركسيين، ولم يكن باسترناك من أعضاء هذا الاتحاد.

وتعتبر قصة «الدكتور زيفاجو» عملًا جيدًا في باب القصة المطولة، ولكنها لا ترتفع إلى القمة في هذا الباب بمَزِيَّة من مزايا الروائيين الأفذاذ في العالم الغربي، أو في اللغة الروسية على الانفراد، وهي في جملتها مزايا الوعي الإنساني الواسع، والعبقرية الخلَّاقة في رسم الشخوص والأبطال، والدراما المطبوعة بسياق الحوادث، واستخراجها من ينابيعها الحيوية في نفوس الناس، وظروف العصر الذي يعيشون فيه … فلم تبرز في القصة مزِيَّةٌ فنية تعلو على مزايا المتوسطين من كُتَّابِ الرواية، وهي مطابقة الوصف للواقع المحسوس، وتمثيل الأحياء على امتلائه بدوافع الحياة اليومية، وتسجيل التاريخ بسلسلة من التجارب العملية، لا يحيط بها إدراك واسع، ولا تتعمق إلى القرار البعيد من وراء الحركة السطحية، ولكنها في أسلوب باسترناك حركة سطحية، يزينها بعض الوشي من نسيج الشعر والخيال.

أما الشروط المثالية، أو الشروط الروحية التي تُعنى بها لجنة نوبل فلم تكن رواية باسترناك خالية منها؛ لأن الترفع عن ابتذال الحياة بالأغراض المادية صريح على وجه الرواية، ملموح بين سطورها، مفهوم من تفصيلاتها، وفي بعض العبارات التي وردت بين ثنايا الحوار أقوال جريئة في انتقاد آراء الماديين، الذين يؤمنون بعقيدتهم على السماع والتقليد، ويَهْرِفون بما لا يعرفون، وهم يحسبون أنهم ثائرون على المقلدين المحافظين … ولكن هذه الأقوال لم تتجاوز نقل التجارب على علاتها، ولم يكن فيها ما يحسب من الجرأة، لو كتب بلغة غير الروسية، أو كتب لأناس يرفضون الماركسية، أو يقفون منها موقف الحَيْدَة.

كل هذه المزايا لم تكن كافية لترشيح الكاتب للجائزة بين عشرات النظراء من أبناء الأمم الأوروبية والأمريكية، وقد تكفي لترشيح أحد من الفرنسيين، أو من الألمان، أو الطليان، أو الإنجليز، ولا تتبعها تلك الضجة التي تبعت إعلان الجائزة في سنة ثمان وخمسين؛ لأن لجنة نوبل لم تتجنب أمة من هذه الأمم، ولم تَتحرَّجْ من توجيه جوائزها إلى أدبائها مرتين، وأكثر من مرتين … ولكن مثار الدهشة أنْ تصبح مزايا باسترناك كافية لاختياره بين أدباء لغته بعد نحو ستين سنة، لم يسبقه فيها سابق إلى تلك الجائزة بين أقطاب بلاده العالميين.

واللجنة تقول في أسباب اختصاص باسترناك: إنها منحته جائزتها «لمساهمته الهامة في كل من ميدان الشعر المعاصر، وميدان التراث الروسي العظيم في باب القصة.»

ولكن شعر باسترناك قد كان معروفًا قبل سنوات، وتراث القصة في اللغة الروسية بدأ قبل باسترناك بأكثر من مائة سنة، ولم تلتفت إليه اللجنة حين التفتت إلى الكاتب الكاتب الروسي إيفان بونين؛ لأنه كان من كتاب القصة القصيرة التي لا يبتدئ بها الباحث عن تراث القصة باللغة الروسية … وهذا إذا صرفنا النظر عن انتساب بونين إلى الجنسية الروسية، واعتزاله الإقامة في بلاده قبل نَيْلهِ الجائزة بسنوات.

فإذا كانت هذه المرشِّحات المُعْلنة قاصرة عن تعليل هذا الاختصاص العجيب، غيرَ مُغْنيةٍ عن البحث وراءها لتمييز باسترناك وتمييز روايته في حساب اللجنة، فالعذر واضح لِمَن يُعَلِّلُ ذلك بالعلة الوحيدة الباقية بين يديه: وهى أن باسترناك كاتب يهودى المولد، وأنَّ مسألة اضطهاد اليهود من المسائل التي تتخلل روايته في غير مَوضعٍ، ويتفق في ذلك الحين أنها كانت تثير القيل والقال حول بعض القضايا والتهم، وراء حدود البلاد الروسية.

وإذا احتاجت هذه العلة إلى علة أخرى تساندها، ولا تحصرها في ناحيتها اليهودية، فتلك العلة الأخرى هي نقد التجارب المادية، والزراية بمن ينتحلون عقائدها على التقليد والسماع.

ولا بُدَّ من الإشارة هنا إلى حقيقة تاريخية تفسر هذا النفوذ اليهودي في دوائر معهودة من أمم الشمال: هي دوائر التجارة العالمية، ودوائر العملة الأجنبية، التي لا يخفى شأنها في كل موطن تتصل مبادلاته بما وراء البحار.

فمنذ القرون الوسطى كانت بلاد الشمال ملاذًا مفتوحًا لليهود، وللطوائف الخارجة على سلطان الكنيسة الكاثوليكية؛ إذ كانت بلاد الشمال بين البلاد التي انفصلت عن تلك الكنيسة، وفتحت أبوابها لمن يَخْشَونَ البقاء في جوارها، وبين الأمم التابعة لمذهبها في الدين، ومسلكها في السياسة، ونزل اليهود منزلهم المرعيَّ، حيث تتسع الفرص لصفقات التجارة الدولية، ولمبادلات العملة من وراء البحار.

ويذكر القراء أنَّ محافل إسرائيل لم تخلُ قط — إلى هذه الأيام — من وفود الشمال، التي تشترك في الاحتفال بأعياد أورشليم وتل أبيب، تسجيلًا لحوادث اليهود مع النازيين … وقد يذكر القراء أيضًا أنَّ زعماء إسرائيل يتلقون الدعوة تباعًا لقضاء الرحلات في أرجاء الشمال، على مثالٍ لم يتكرر في عامة البلاد الأوروبية التي حاربت النازيين.

ولسنا نميل إلى القول بأن هذه المحاباة لباسترناك كانت عملًا من أعمال القصد والتدبير والتفاهم المكشوف بين أعضاء اللجنة المحكِّمينَ، ولكننا نخاله أثرًا من آثار الجو الشعوري، الذي يخلقه كل نفوذ قديم، لا سيما النفوذ الذي يتغلغل في شعاب المعاملات، خارج البلاد وداخلها … ولولا هذا «الجو الشعوري» لما بحثت اللجنة عن باسترناك، ولولاه لبحثت عن غيره بمؤهلاته، وما هو أكبر من مؤهلاته، في حيث تشاء الصهيونية العالمية، وحيث لا تشاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤