خاتمة المطاف

ونأتي إلى خاتمة هذه السلسلة عن تلك الجائزة العالمية، وهي — كما نعلم — أشهر جوائز العالم وأقدمها، وهي كذلك أصلحها لغرضين من أغراض البحث في هذا الموضوع، هما البحث في دلالة الجائزة على تطور الحياة الفكرية والنفسية في أكثر من ستين سنة، بدأت بالسنة الأولى من القرن العشرين.

وثاني أغراض البحث التي تصلح لها هذه الجائزة قبل غيرها هو الدلالة على وظيفة الجوائز العالمية في جملتها، ووظيفة الجوائز بأنواعها، بين عالمية وقومية، وبين دائمة متكررة وعارضة محدودة، تنقضي بانقضاء مناسبتها.

ونقول: إنَّ جائزة نوبل تدل على تطور الحياة النفسية، كما تدل على تطور الحياة الفكرية، بأنها مشروطة بشروط أخرى غير شرط الإجادة والإتقان في أعمال الفن والأدب، وتلك هي شروط العمل لقضية السلام والثقة بالمثل الإنسانية العالية، وهي مسألة أخلاقية نفسية، تتغير النظرة إليها، ويتغير الشعور بها بين زمان وزمان، وبين قبيل وقبيل من أمم الحضارة.

ولهذا قصرنا الكلام في جميع هذه الأحاديث على هاتين الدلالتين: دلالة التطور في مقاييس الأدب والأخلاق، ودلالة الوظيفة العامة التي تؤديها الجائزة العالمية.

فلم نقصد إلى إفاضة القول في تراجم الأدباء؛ لأنه شرح يطول، ولا تحتمله هذه الصفحات إلا في حيز ضيق مُخِلٍّ بفائدة الترجمة، وأنفع من الإلمام به في حيزه الضيق أنْ يرجع إليه في مطولاته أو مختصراته عند الحاجة إليها.

ولم نقصد إلى الإفاضة في التعليق على مؤلفات الأدباء؛ لأن الشروح الطوال في هذا الباب ألزم من شروح التراجم والسير، ومواضعها — عند الحاجة إليها — ميسورة في كل لغة يكتب بها النقاد ومؤرخو الآداب.

إنما كان من اللازم أنْ نشير إلى ترجمة الأديب، أو إلى مؤلفاته، كلما كان في ذلك إشارة إلى ظروفه الخاصة التي جعلته موضع التمييز والمحاباة، وموضع الإهمال والإجحاف.

وقد أشرنا — فيما سبق — إلى ظروف كثيرة تفسر لنا أسباب التفاوت في أحكام اللجنة التي توزع جوائز نوبل الأدبية، ثم تفسر لنا كيف تتفاوت هذه الأحكام أحيانًا، لأسباب غير الخطأ في التقدير، وغير الاستسلام لأهواء النفوس البشرية في علاقات الأفراد والجماعات، وجائزة نوبل شديدة الصلة بالأهواء السياسية التي لا يسهل إغفالها؛ لأنها على صلة رسمية بموقف حكومتها بين الحكومات.

وجملة ما نوجزه في هذه الخلاصة الختامية من أسباب التفاوت جميعًا، أنها ضرورية لا مهرب منها في كل جائزة عالمية متكررة.

«أولًا» لأنها تنظر في أعمال المؤلفين خلال سنوات متوالية في أمم مختلفة، وقد يستحقها في هذه السنة من هو أقل استحقاقًا لها قبل عشر سنوات، وقد يحرمها اليوم من كان أهلًا لها لو تقدم به الزمن، أو تأخر به، بين أقران غير الأقران، وفي موضوع غير الموضوع.

ولا بُدَّ أنْ يتفاوت التقدير «ثانيًا» لأن المحكمين يتغيرون، وتتغير الأذواق والمقاييس معهم بين حقبة وحقبة، وبين مدرسة ومدرسة من مدارس النقد والتفكير.

وتتفاوت الأحكام، «ثالثًا» لأن اللجنة مضطرة إلى اجتناب الشبهات، والحذر من تمييز أمة واحدة بين الأمم بنصيب من الجوائز يزيد على نصيب غيرها عند المقارنة العامة، ولو كثر المستحقون بالمصادفة في أمة واحدة، وقلَّ أمثالهم من المستحقين — بالمصادفة أيضًا — في أمة تناظرها، ولا تتخلف عنها في ميادين الثقافة أو ميادين العمل لقضية السلام ومبادئ الأخلاق.

فلو اتفق أنَّ اللجنة خَصَّتْ بجوائزها أديبين من أمة واحدة في سنتين متقاربتين، فمن أكبر الحرج لها أنْ تعود إلى تلك الأمة بجائزة ثالثة في السنة التالية، وأكبر الظن أنها تتحول بها عمدًا إلى أديب في أمة أخرى لا يساوي نظيره في الأمة الأولى، إذا جرت بينهما الموازنة على غير هذا الاعتبار.

وتتفاوت الأحكام «رابعًا» كلما اعترضت أزمات السياسة والحروب في وسط الطريق، فإن حكومة السويد تحتفل بتسليم الجوائز احتفالًا رسميًّا يحضره ملك البلاد، فلا يسع اللجنة الأدبية أنْ تحكم لأديب مستحق للجائزة، يعتبر الحكم له حكمًا لأمته، أو لقضية بلده، في معركة الخصومات الدولية، وهي تستحكم بين الدول الكبرى بين حين وحين.

وعلى هذه الحيطة من جانب اللجنة لم تسلم من الشبهات بغير الحق في كثير من السنين، فقد كان زعماء ألمانيا النازية يعتبرون حكمها لخصومهم اتهامًا للنازية بمحاربة السلام، وقد تكرر ذلك حتى أصبح ترشيح الأديب الألماني نفسه للجائزة عملًا مستنكرًا في نظر حكومته، وأعلنت الدولة النازية أنها تحرم على الأدباء أنْ يتقدموا لنيل الجائزة أو يقبلوها، وصدر مثل هذا الأمر من حكومات شتى، كانت في موقف دولي كموقف النازيين والفاشيين، ولم يكن لهذه الحكومات بدٌّ من إنشاء جوائز كبرى لأدبائها الممتازين، تساوي جائزة نوبل في طبقة التقدير، وإنْ لم تكن مساوية لها بحساب المال.

وقد يحدث التفاوت في جوائز نوبل لأسباب «محلية» لها أصولها التاريخية في بلاد السويد، فقد كانت هذه البلاد ملاذًا لكل مغضوب عليه من أعداء الكنيسة البابوية منذ القرون الوسطى، ولا سيما اليهود، وقد غلب النفوذ اليهودي على معاملاتها الدولية؛ لأنها أمة كثيرة العلاقات بالتجارة الخارجية، ومبادلات العملة على الخصوص، وهي سوق لا يبتعد عنها السماسرة من اليهود حيثما استقر بهم المقام، لا جرم كان لليهود حظ من جوائز نوبل يفوق نسبتهم العددية بكثير، وغلب ذلك على جوائز العلوم قبل جوائز الأدب، فربما صح أنْ يقال: إنَّ عدد العلماء اليهود الذين ظفروا بها لا يقل عن نصف عددهم في العالم بأسره، وربما صح — فوق ذلك — أن اللجنة لم تنصف أحدًا قط من خصوم اليهود، وممن لا يناصرون الصهيونية العالمية أو يقفون منها موقف الحذر والاشتباه.

وطرأت في السنوات الأخيرة أسباب للاستغناء عن جائزة نوبل، وإنشاء الجوائز التي تناظرها غير أسباب الشكوى من التحيز المقبول.

تلك هي الأسباب الاقتصادية التي يهتم بها الناشرون من أصحاب العلاقات الدولية، فإن هؤلاء يريدون أنْ تكون الجائزة العالمية في موضوع يروج في عالم المطبوعات «السوقية» أو عالم العرض على اللوحة البيضاء، ويريدون قبل ذلك أنْ يكون لهم رأي في اختيار الموضوع، وترجيح جانب القصة والمسرحية منه على سائر الموضوعات، وهذه هي الأسباب الاقتصادية التي دعت بعض الشركات إلى إنشاء جائزة دولية ينالها من يعمل بمقترحاتها، ويضمن — مع قيمة الجائزة — أنْ تتولى هذه الشركات ترجمة كتابه إلى بضع لغات، وأنْ تطبعَه وتحفظ حقوق طبعه في عدة أقطار.

•••

على أنَّ التفاوت في أحكام اللجنة لا يتنحى بها عن مكانها الملحوظ في الدلالة على تطور الحياة الأدبية، وتطور الأخلاق ومقاييس النظر إلى المثل العليا، فإن علامات التطور قد تُسْتَفادُ من التفاوت في الحكم، كما تُسْتَفادُ من اطِّراد الأحكام على وتيرة واحدة، وقد يكون البحث في هذا التفاوت معرضًا من معارض الأطوار الهامة في معايير النقد وأساليب الترجيح والتمييز، وربما استطاعت اللجنة بإرادتها أنْ تخالف الصواب في تقدير المزايا الفنية، وتفضيل الحسن منها على ما هو أحسن منه، ولكنها لا تستطيع بإرادتها أنْ تخطئ في الدلالة على أخلاق زمانها، ولا على نظرات أهله إلى المثل العليا، ومطامح الإنسانية في آمالها، فإذا جاز أنْ يكون للجنة حكم أدبي لا يمثل عصره، فمن البعيد أنْ تخلق مثلًا أعلى في قيم الأخلاق، يجاوزه كثيرًا إلى الصعود أو إلى الهبوط.

•••

إنَّ أسباب التفاوت في أحكام الأدب كثيرة متعددة، ولكن أسباب التفاوت في أحكام الأخلاق كبيرة واسعة المسافة؛ لأنها مسافة ما بين الأرض والسماء، بتعبير الحقيقة لا بتعبير المجاز.

كان في الغرب — عند إنشاء الجائزة — بقية من النظرة الدينية إلى المثل الأعلى … والمثل الأعلى في الدين يرتقي إلى سماء الله، ولا حدود للكمال الذي يرتفع به الرجاء في الله.

وكان الأوروبي في القرن التاسع عشر يطمح مع نيتشه إلى أفق السوپر مان، الذي يعلو على طبقة الآدميين علو الإنسان على طبقة القرود، أو كان الأوروبي — في ذلك القرن — يتغنى مع كارليل بعظمة البطل الأروع، الذي يحل من النفوس محل العبادة والتقديس، فلما غلبت عقيدة الواقع المادي على نفوس الناس في القرن العشرين، هبط المثل الأعلى من سمائه، واستغنى الضمير الأوروبي بالطيران في أجواز الفضاء عن اللحاق بآفاق عليين.

ثم أصبح قصارى الأمل في مصير الإنسان أنْ يروض نفسه على مواجهة اليأس، والتسليم بضرورة الوجود؛ تسليم قوامه الضرورة المقضية، ولا قوام له من الرجاء فيما وراء العيان، ولا في نحلة البطولة أو نحلة السوبر مان.

وكان آخر ذوي الأفكار من مستحقي الجائزة أديبًا يتكلم بلغة الفلسفة، كأنه السياسي الذي يتكلم بلغة «الدبلوماسية» حين يقول: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.

وهكذا انتهى المطاف برسالة نوبل في طلاب المثل الأعلى، ولا نخاله مرتفعًا إلى قمة تعلو على هذه القمة، إلى مدى سنوات مقبلات.

•••

وبعد فإننا نختتم هذه الدراسة ونحن نتسمع على بعض الأفواه سؤالًا لا غرابة فيه، ولا سيما ممن قرأ لنا — قبل اليوم — كثيرًا في موضوع هذه الجائزة.

لماذا عنينا بموضوع هذه الجائزة غير مرة؟

ومن الواجب أنْ يجاب هذا السؤال لتصحيح النظر إلى البحث كله، لا لمجرد الإيضاح في مسألة شخصية؛ لأن جلاء الحقيقة عن بواعث البحث جلاء للحقيقة عن الآراء التي تنبعث منها.

ونوجز البيان فنقول: إننا لم نعرض قط لموضوع الجائزة إلا استجابة لسؤال أو اقتراح.

قيل في الصحف يومًا: إنَّ زميلنا الأستاذ توفيق الحكيم استعار قصة «حمار الحكيم» من قصة الشاعر الإسباني خيمنيز، وسألني المختلفون عن رأيي فكتبته، وأجملت القول عن الفارق بين الروايتين، فاستتبع ذلك اقتراحًا من مؤسسة ثقافية كبيرة للكتابة عن الشاعر الإسباني، وعن الجائزة ومستحقيها، وظهر من ثم كتابي عن الشاعر الأندلسي والجائزة العالمية.

وسألتني قبل ذلك صحيفة أدبية عن حق الشاعر الهندي تاجور في الجائزة، فكان مقالي عنه جوابًا لذلك السؤال.

ولبَّيْتُ اقتراح الفُضَلاءِ من نقاد الإذاعة والمشرفين على برامجها، فأعددت للإذاعة هذه الأحاديث، ولا محل للسؤال عن بواعثي للحديث عنها؛ إذ يكون الباعث إليه خاطرًا من خواطر المقترحين.

والواضح المحقق أننا لم نشتغل بحديث الجائزة؛ لأننا نطلبها، فربما توافر لنا من ظروف طلبها ما لم يتوافر لغيرنا … ومن تلك الشروط أنْ تطلب باسم هيئة رسمية أو مجلس نيابي أو جماعة علمية، وقد عملنا في تلك المجالس والهيئات منذ نيف وثلاثين سنة، وكان من رأي بعض الرؤساء أنْ يذكروني بين مرشحيها، فكنت — مع شكري لهم — أفصح لهم عن رأيي في شروطها وموقفي منها، وآخِر من صارحته بهذا الرأي منذ سنوات: زميلنا توفيق الحكيم.

أما وقد خرجت بنفسي من هذه المظنة فليس من الجائز أنْ تختم مقالات نوبل وجائزته بغير إشارة إلى موقف لجنته من أدباء العربية، وليس من الدعوى التي ينكرها المنصفون أنَّ هؤلاء الأدباء فيهم من هو أولى بالجائزة ممن تخيرَتْهم اللجنة في سنوات كثيرة، ولا سيما السنوات الأخيرة، وربما كان لذلك خطره من قبل … ولكنه أمر لا خطر له في عهدنا هذا، عهد يستعيد فيه الشرق ثقته بنفسه، فلا يضيره أنْ يرى الغربُ فيه وفي أدبه غير ما يراه، وأن له في تقديره للرأي الأول والأخير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤