التفاوت بين الأمم في جوائز «نوبل»

ظهر لنا — فيما سبق — أنَّ أحكام اللجنة عرضة للتفاوت الكبير بين المستحقين وغير المستحقين.

وظهر لنا إلى جانب ذلك أنَّ هذا التفاوت لا يرجع كله إلى سوء القصد أو سوء التقدير.

ولكن له أسبابًا أخرى: أهمها أنَّ اللجنة مقيدة بشرط إنساني أخلاقي، لا بدَّ لها من ملاحظته عند المفاضلة بين الأدباء بالمزايا الفنية والأدبية، وذلك الشرط هو خدمة قضية السلام والمثل الأعلى.

ومن تلك الأسباب ارتباط اللجنة بالدولة، فلا تستطيع أنْ تسقط من تقديرها حساب العلاقات السياسية والدبلوماسية في مسألة ترتبط بقضية السلام.

ويذكر من هذه الأسباب أنَّ أحكام اللجنة موزعة على عشرات السنين، ويجوز لهذا أنْ يكون المستحق لها في هذه السنة أقل من زميل له فاته أنْ ينالها قبل بضع سنين.

ومن هنا تتعرض الموازنة بين الأدباء لكثير من التفاوت في مزايا الفن والأدب، ويمكن أنْ تنعقد المقارنة بين عشرة نالوا الجائزة وعشرة لم ينالوها، فإذا بالمحرومين أحق بها من الفائزين.

•••

لكن التفاوت في الأحكام غير مقصور على أفراد الأدباء؛ بل يتفق في كثير من الأحيان أنْ تتفاوت الأمم في حظها من عناية اللجنة لأسباب غير فنية أدبية، ولا إنسانية أخلاقية، كما اتفق ذلك كثيرًا في الجوائز التي كانت من نصيب أمم الشمال، وهي الأمم التي اشتهرت باسم أمم السكندناف.

وأمم السكندناف — كما هو معلوم — هي بهذا الترتيب: السويد، والنرويج، والدنمرك، وفنلاندة، وجزيرة أيسلانده!

وقد أصابتها الجوائز بهذا الترتيب أيضًا، فمنحت السويد أربع جوائز، ومنحت كل من النرويج والدنمرك ثلاث جوائز، ومنحت كل من فنلاندة وجزيرة أيسلانده جائزة واحدة.

وكأنما لوحظ أنَّ الدنمرك تخلفت في المضمار بعد السنوات الأولى، فمنحت جائزتها لأديبين في سنة واحدة، وهي سنة ١٩١٧ إحدى سنوات الحرب العالمية.

وقد كانت هذه الرعاية لأمم الشمال مقصودة من السنة الأولى، فكان اسم «إبسن» في مقدمة الأسماء التي عرضت لابتداء الاحتفال بالجائزة عند نشأتها، ولكن اللجنة كانت حريصة على تحقيق الصفة العالمية لجوائزها، وكان الابتداء بأنه من أمم الشمال خليقًا أنْ يفقدها انتباه العالم إليها في أول تجربة من تجاربها، فلما مضت السنة الأولى والثانية، لم تشأ السويد أنْ تبدأ بنفسها، وكان من مساعيها في ذلك الحين أنْ تحسم الخلاف بينها وبين جارتها النرويج في قضية الوحدة الوطنية، فاتجهت الجائزة اتجاهًا «تلقائيًّا» — كما يقال — إلى أديب النرويج الذي اشتهر اسمه في تلك القضية، وهو الشاعر الناثر بجور نستجيرن بجورنسون.

والحرص على شمول الأمم السكندنافية بالجائزة ظاهر من مراجعة أسماء المؤلفين وأسماء الكتب أو الموضوعات، بغير حاجة إلى التوسع في التفصيل.

ففيما عدا أديبًا أو أديبين، لم يعرف أحد من أولئك خارج بلاده في نطاق عالمي واسع.

ولم يتحقق لواحد منهم موقف ممتاز في شرط الجائزة الأول، وهو خدمة قضية السلام والمثل الأعلى، ولا تحققت له المزايا الفنية على ذلك المثال الرائع، الذي يسوغ الإغضاء عن ذلك الشرط بعض الإغضاء أو كل الإغضاء.

فالأدباء الذين ميزتهم اللجنة من أمم الشمال هم: بجورنسون من النرويج، وسلما لاجرلوف وهيد نستام من السويد، وكنوت هامسون وسيجريد أندسيث من النرويج، وأريك كارلفلد من السويد، وسيلانيا من فنلاندة، وجنسين وجيلروب Giellerup وبنتو بيدان من الدنمرك، ولاكسنس من أيسلانده، ولاجر كفيست من السويد.

وكلهم على فضلهم وكفايتهم لم يرتفعوا إلى منزلةٍ فوق منزلة الطبقة الوسطى بمقياس الشهرة العالمية، ولم ترفعهم إلى ما فوق تلك الطبقة شهرتهم العالمية التي أحاطت بهم بعد منح الجائزة، ويغلب على الظن أنهم لو نشئوا في غير بلاد السكنداف، لما تتبعتهم اللجنة حيث كانوا بهذه العناية وهذا الاستقصاء.

على أنها لم تنسَ رعاية السمعة العالمية مع هذه الرغبة الدائمة في مجاملة الأمم السكندنافية، ورعاية أواصر القرابة والجوار بين أمة السويد وسائر تلك الأمم التي شملتها في أوائل القرن العشرين جامعة «النورديك» أو الشمالية، بعد أنْ شاعت على الألسنة في تقسيم العلاقات العنصرية.

فقد اتخذت اللجنة من الظروف العالمية مسوِّغًا لاختصاص بلاد الشمال بثلاث جوائز في ثلاث سنوات متواليات، فبدأت في إبان الحرب العالمية الأولى بتوجيه الجائزة إلى أديب من الأمة الفرنسية التي كانت في مقدمة الأمم المشتركة في القتال: وهو رومان رولان المعروف بجرأته النبيلة في الدعوة إلى السلام، ثم اتخذت من الحرب الكبرى مسوِّغًا لاجتناب الأمم المشتركة فيها، ومنحت الجائزة سنة ١٩١٦ أديبًا من السويد، ومنحتها في السنة التالية أديبين من الدنمرك، ووقفتها سنةً، ثم عادت إلى أمم الشمال فوجهتها سنة ١٩٢٠ إلى أديب من النرويج.

أما أسبابُ منح الجائزة في جميع هذه السنين، فالهدف المقصود فيها أظهر وأدل على الرغبة في الاختصاص؛ لأنها — جميعًا — من الأسباب التي يصل إليها طالبها بعد البحث عنها، وليست من الأسباب التي يفرضها على اللجنة وفاؤها بجميع الشروط واتفاق الآراء عليها بغير بحث مقصود، فاعتبرت الدعوة إلى مذهب من مذاهب علم الجمال مرشحًا للجائزة التي منحتها الأديب السويدي هيد نستام عضو المجمع المشرف على هيئة التحكيم، وقالت في تحيتها له: «إنها تقدر عظمة شأنه في الدعوة إلى عهد جديد في فنوننا الجميلة.» وهي مزية خاصة باللغة السويدية.

وقالت عن الأديب الأيسلاندي: «إنها تمنحه الجائزة لكتابته الملحمية الحية التي جددت فن القصص الأيسلاندي القديم.»

وقد كان تعدُد أسباب المنح خليقًا أنْ يفتح الأبواب أمام اللجنة للاختيار من بلدان كثيرة في كل آونة، ولكنها عددت الأسباب وحصرت الجائزة في اثنين من بلد واحد حين اختصت بها الدنمرك سنة ١٩١٧.

فقالت عن جيلروب Giellerup «إنها تقدر في هذا الشاعر المفكر وفرة محصوله في فن القصة مع التنوع والنزعة المثالية.» وقالت عن زميله بوتبدان Pontoppidon الذي أسهب في بحث مشكلات الروح الإنسانية، وأنها قدرته لما امتاز به من الأوصاف القيِّمة للحياة الحاضرة في بلاده.

وألطف ما يلاحظ من الرغبة في المجاملة والاسترضاء بين الأختين الكبيرتين في الزمرة السكندنافية، أنَّ اللجنة لم تشأ أنْ تختار سيدةً من السويد دون أنْ يكون للنرويج نصيبٌ مثل نصيبها في رعاية الجنس اللطيف، فلحقت سيجريد أندست النرويجية بسلما لاجرلوف السويدية، بعد فترة عشر سنوات.

•••

فهناك — إذن — ميزانان في يد لجنة نوبل، تزن بهما؛ ميزان لأمم الشمال، وميزان آخر لسائر الأمم.

وهناك تفاوتٌ لا شك فيه، ولكنه في عرف المنصفين تفاوتٌ شبيه بالعدل إنْ لم يكن هو العدل بتمامه … لما فيه من رعاية الجوار وحسن المعونة الذي لا ينتظر من غير هذه الناحية، فإن لم يكن عدلًا كلَّ العدل فهو إحسان من أجمل الإحسان، وبخاصة لما فيه من المحافظة على قيمة الجائزة عند النظر إلى معايير الفن الصحيح، فإن الجوائز السكندنافية لم توجه إلى أحد خلوٍ من مزايا الإتقان.

•••

إلى الناحية الأخرى من الجوار أمة مقصودة بالاجتناب، تقابل هذه الأمم المقصودة بالرعاية.

فمن قبل أيام «نوبل» كانت السويد تنظر إلى روسيا القياصرة نظرة الحذر، وبدأت لجنة نوبل عملها في أوائل هذا القرن بين موقفين: موقفها إزاء الأدب القيصري وهي تخشاه، وموقفها أمام أعداء القياصرة وهي تخشى أنْ تغضب القياصرة بتشجيعهم والعطف عليهم، ثم بقي الجوار على قلق بين السويد وجارتها الكبرى بعد الثورة التي أزالت عرش آل رومانوف.

فمنذ أنشئت الجائزة لم ينلها أديب من الروس، وقد كان إيفان بونين الذي نالها سنة ثلاث وثلاثين روسيا من البيض، ولكنه كان ينتمي إلى الجنسية الفرنسية حين وجهت إليه.

ورضيت اللجنة عن باسترناك سنة ثماني وخمسين (١٩٥٨) لمساهمته في مجال الشعر العصري، ومجال التراث القصصي في الأدب الروسي.

ولكن الشاعر الذي أرضى نقاد السويد لم يُرْضِ الكثرة من نقاد بلاده، كما يذكر القراء.

على أنَّ هذا الموقف الخاص من الجارة الكبيرة قد تبعته مواقف مثله من أمم كبيرة أخرى، فكان له شأنه في استقلال بعض الدول بجوائزها من الطبقة الأولى، كما حدث في روسيا السوفيتية، وألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وغيرها من بلاد العالمين القديم والجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤