شروط جديدة لجائزة نوبل الأدبية

صدرت الطبعة الجديدة من الكتاب الجامع الذي تطبعه مؤسسة نوبل، وتسجل فيه تاريخ المؤسسة، وتاريخ جوائزها، ومعها بعض التفاصيل عن أعمالها وتقاريرها.

وقد وصلت هذه الطبعة بتاريخ الجوائز إلى سنة إحدى وستين (١٩٦١) واشتملت على تعقيبات النقاد التي انتهوا إليها بعد المقابلة بين ظروف الجوائز ومستحقيها، منذ نشأة الجائزة في مطلع القرن العشرين.

وخلاصة هذه التعقيبات — من الوجهة العملية — أنَّ الجائزة الأدبية يجب أنْ تقتصر على التشجيع المستحق في موضعه، وأن تُمْنَحَ للذين يقدمون الأمانة الفكرية على المكاسب المادية، ويترفعون عن مجاراة الأهواء المبتذلة طلبًا لرواج السوق، ووفرة الربح من أقرب طريق.

فالقيمة المادية التي تُقَدَّرُ لجوائز نوبل — بحسب مواردها السنوية — لا تزال أكبر قيمة بين جوائز العالم، وهي — كما هو معلوم — تتغير من سنة إلى سنة تبعًا لموارد المؤسسة، واختلاف قيمة العملة، ولكنها تتراوح على الدوام بين ثلاثين ألف دولار وأربعين ألفًا أو تزيد قليلًا.

ويلاحظ تقرير المؤسسة أنَّ هذا المبلغ — على ارتفاعه بالنسبة إلى الجوائز العالمية — قد يظفر به الكاتب العصري الرائج ثمنًا للعرض على اللوحة البيضاء أو أجهزة التلفزيون، وقد يربح أضعافه من تأليف القصة، ثم من تحويلها إلى التأليف المسرحي، ثم من إخراجها على اللوحة البيضاء وأجهزة التلفزيون، وغير ذلك من وسائل الإذاعة، وتداول النشر بين المعارض العامة، وبين الأندية الخاصة والبيوت.

فإذا نظر الكاتب إلى وَفْرَةِ العائدة فالقيمة التي ينالها من مؤسسة نوبل ليست بالمطمع الذي يغريه، أو يزين له تفضيل الجد والأمانة في خدمة الفكر والفن على مجاراة الأهواء، ومسايرة السوق، واغتنام تلك الأرباح.

وإذا تذكرنا أنَّ جائزة نوبل قلَّما تصل إلى الأديب في منتصف الطريق، وأنَّ جميع الأدباء قد تلَقَّوها وهم على أَوْجِ الشهرة في بلادهم أو في بلاد العالَم أجمع — فالقيمة المادية بالنسبة إلى هؤلاء لا تُحسب من المعونة الضرورية عند مسيس الحاجة إليها، ولا تُحْسَبُ من ضروب الإغراء التي تبعث القريحة الأدبية إلى تغيير الوجهة، أو القناعة بشرف السمعة، وحسن الجزاء، ولعل المؤسسة لم تنسَ — وهي تُراجِعُ هذه الظروف — قصة برناردشو، ولا عبارته التي قالها للمؤسسة حين ردَّ إليها جائزتها قبل نيف وثلاثين سنة …

فإنه اقترح على المؤسسة أنْ تُنْفِقَها في ترويج الأدب المشترك بين اللغتين السويدية والإنجليزية … أمَّا هو — كما قال — فقد وصل إلى الشاطئ، فلا حاجة به إلى طوق النجاة.

وما قاله برناردشو يصدق على الأكثرين ممن فازوا بالجائزة بعد أنْ جاوزوا منتصف الطريق، ولا سيما أبناء الأمم الكبيرة.

فالأديب الذي يبلغ غاية الشهرة في أمة صغيرة، قد تأتيه هذه المعونة المادية، كما تُحقِّقُ له معنى التشريف الأدبي في وقت واحد؛ لأنها تشيع ذكره في أنحاء العالم، بعد انحصاره بين حدود بلاده.

أمَّا الأديب الذي يَكْتُبُ باللغة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية، فهو يكتب للملايين من القراء ويضمن الشهرة العالمية، مع ضمان الشهرة القومية، ويستغني عن الجائزة بما فيها من العون، وما فيها من التشريف أو توسيع نطاق الشهرة على السواء.

بل ربما صَدَقَ على أدباء الأمم الصغيرة في العصر الحاضر كلُّ ما يَصْدُقُ على أدباء الأمم الكبيرة؛ لأن عالَمَ التمثيل على المسرح، وعلى اللوحة البيضاء يزدحم بأسماء الكُتَّابِ الذين نشئوا في رومانيا، أو سويسرة، أو إسبانيا، أو أقطار أمريكا الجنوبية … ومن هؤلاء الكتاب من يطلبهم المخرجون والناشرون، ويبحثون عنهم وهم في ديارهم، طلبًا للغرائب، والتماسًا للبِدَعِ الطارئة على الأسماع والآذان، وإشباعًا لرغبة الكشف والاستطلاع التي يتنافس فيها المخرجون والناشرون.

فلا حاجة بالأديب في البلد الكبير أو البلد الصغير إلى المعونة المادية من جوائز نوبل، ولا معنى للقيمة الأدبية — قيمة التشريف والتمجيد — إذا استحقها الأديب بمجرد الرواج والشيوع، وتساوت الكتابة التي تتطلبها بضاعة السوق، وتجد الباحثين عنها والمكافئين عليها بين المخرجين والناشرين، وهم يعملون لحساب شركات تملك الملايين، وتربح مما تنفقه على المسرحيات والصور المتحركة أضعاف ما يربحه المؤلفون، ويربحه معهم المخرجون والناشرون.

ومحصول التفكير في ذلك كله أنَّ مؤسسة نوبل ترى إعادة النظر في أسباب منح الجائزة؛ تحقيقًا لفائدتها الأولى: وهي تقدير الأمانة الفكرية في خدمة الفن والثقافة، وتجنيد القرائح في ساحة الجهاد الشريف للسعي إلى المُثُلِ العليا.

ولم يذكر نُقَّادُ المؤسسة موضوع الأدب الذي يقصدونه بإعادة النظر في قيمة الجائزة، ولكنه — كما هو واضح — كلُّ أدب يرتفع إلى الذروة في البلاغة وأمانة التفكير، ولكنه يقصر عن الكسب في معترك الزحام على إرضاء الأهواء والشهوات، ويعجز عن ادخار الثروة لصاحبه بحساب شباك التذاكر، ونُسَخ البيع وأبواق الدعاية.

وتكاد الموضوعات من هذا القبيل أنْ تُسَمِّي نفسها لمن يطلب أسماءها … فإذا استثنينا القصة التي تُثيرُ الغريزة، والمسرحية التي تثير اللغط، وتجتذب النظارة بأعاجيب العرض والتشكيل، واستثنينا معها ضروب التهويل على السذج والجهلاء بالمصطلحات والأسرار، فالذي يبقى بعد ذلك لا يَعْدو موضوعًا واحدًا: وهو الأدب البليغ من المنظوم والمنثور، يستند إلى شيء في النفس الإنسانية غير شهوة الغريزة: يستند إلى الذوق السليم، والضمير المستقيم.

ومما لا ريب فيه أنَّ الجوائز العالمية ستفقد وظيفتها إذا كان مقياسها هو مقياس الشهرة لا أكثر ولا أقل، وكان مقياس الشهرة هو مقياس الرواج والكسب في سوق الساعة.

وأضيع ما تكون الجائزة العالمية إذا هي نافست أرباب هذه السوق في تجارتهم التي يحسنونها، وينقطعون لتجاربها ومنوراتها، فإن الناظر إلى المثل الأعلى، وإلى القيم الإنسانية الباقية لا يستطيع أنْ يحقق شروط الكمال، وشروط الربح، والرواج في صفقة واحدة، ومهما يفعل فإن المتجرين بالأدب سيعرفون كيف يجتذبون إليهم طلاب الربح وروَّاد الشهرة، ولا يعنيهم بعد ذلك أمر الذين يفضلون الإتقان على النجاح، ويَقْنَعون بخمول الذكر إذا كلَّفتهم الشهرة العاجلة أنْ يخونوا أمانة الفكر التي يؤمنون بها.

وربما كان في وُسْعِ الناشرين والمخرجين أنْ يسخِّروا وسائلهم الخاصة لترويج البضاعة الكاسدة في سوق الأدب الرخيص؛ لأنهم يخاطبون جمهور هذا الأدب بما يُقْنِعه ويُرْضيه، ولا يتوقف إقناعهم إياه على صحة التمييز، وتمام المعرفة؛ لأن «الموضوعات» في بضاعة الأدب كالموضوعات في الملابس والأزياء، تتوقف على معرفة تامة وتمييز صحيح.

ومنذ سنتين دخلت الأساليب الاقتصادية إلى سوق الجوائز الكبرى في أوسع مجال، ونظمت عملها على قواعد التجارة العالمية التي تقتضيها أحوال الزمن ومطالبه العملية، وليس من اللازم أنْ تتجه هذه الجوائز إلى غير المستحقين للتقدير والتشجيع، أو غير المؤمنين بالمُثُلِ العليا، وأمانة الرسالة الإنسانية، ولكنَّ اللازم فيها أنْ تنظر إلى الرواج قبل كل شيء، ثم يأتي بعد ذلك دور الإتقان والكمال.

تألفت هيئة واحدة تضم إليها مندوبِينَ من دُورِ النشر في كل من إسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والسويد، والنرويج، والدنمرك، وهولنده، وتتصل بدارين كبيرتين من دور النشر في إنجلترا والولايات المتحدة، وقد ينضم إليها في المستقبل ناشرون من أمم أخرى.

هذه الهيئة تضمن — مقدَّمًا — أنْ يُطبع الكتاب الذي تختاره في بلاد تابعة لأربع عشرة دولة، وتضمن ترجمته إلى عشر لغات أو أكثر من ذلك — إذا اقتضى الأمر — في وقت واحد، وتضمن وسائل الإعلان والتوزيع في الصحف التي تقرأ بتلك اللغات، فلا تعطي جائزتها إلا وهي على ثقة من تعويضها السريع أضعافًا مضاعفة، وقد تقترح هي الموضوع على الكاتب كلما أَنِسَتْ من السوق العالمية رغبة فيه واستعدادًا لقبوله.

وابتدأت هذه الهيئة بتوزيع جوائزها — واسمها جوائز فورمنتر Formentor — سنة إحدى وستين (١٩٦١) وهي السنة التي فكرت فيها مؤسسة نوبل في إعادة النظر إلى شروط الاختيار للمحافظة على قيمة الجائزة المثالية، ولعل ظهور هذه الأساليب الاقتصادية في سوق النشر كان له شأنه في ذلك التفكير.
والقسط الأول من جائزة فورمنتر يساوي عشرة آلاف ريال، تتبعه أقساط متوالية من موارد البيع، والتوزيع، والعرض في الصور المتحركة، وقد كانت من نصيب كاتب إسباني اسمه سنيور جوان جارسيا هورتلانو، لم يصدر له غير كتاب واحد قبل كتابه المختار، عنوانه Tormenta de vearono «تورمنتا دي فيرانو» أي عذاب الصيف.

وجائزة نوبل تفقد وظيفتها — ولا ريب — إذا بنتْ ترشيحاتها على هذه القواعد الاقتصادية، ولكنها تقوم بوظيفة لا ينافسها فيها ناشر ولا مخرج، إذا وجهت عنايتها إلى أدب يضمن البقاء ولا يضمن الرواج على الدوام، وفي مجال القصة التمثيلية، والشعر الرفيع، والبلاغة الجميلة، والثقافة الإنسانية متسع لهذا الاتجاه الجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤