الجائزة والأدب النسائي

نال جائزة نوبل للآداب نحو ستين أديبًا، من مطلع القرن العشرين إلى السنة الماضية، وقد توقفت الجائزة في بعض السنوات لأسباب تتعلق — على الأكثر بالحرب العالمية — ونالها أكثر من واحد في بعض هذه السنين.

من هؤلاء الأدباء الستين أربع كاتبات: هن سلما لاجرلوف السويدية، وجرازيا ديلادا الإيطالية، وسيجريد أنديست النرويجية، وپيرل بك الأمريكية.

وقد كانت (١٩٠٩) أول سنة ظهر فيها اسم المرأة بين المرشحين لهذه الجائزة العالمية، وقالت اللجنة في شهادتها التي تذكر فيها أسباب استحقاق الجائزة أنها تمنحها إياها «تقديرًا للنزعة المثالية الرفيعة، وملكة الخيال الحي، والفطنة الروحية التي اتسمت بها كتابتها.»

واختيرت الكاتبة الإيطالية جرازيا ديلادا Grazia Deledda بعد ذلك بثماني عشرة سنة، فنالت الجائزة سنة سبع وعشرين (١٩٢٧) للسنة التي قبلها، وقالت اللجنة: إنها استحقتها «بكتابتها التي توحيها الروح المثالية، مع وضوح الحس في تصوير الحياة في الجزيرة التي هي وطنها — جزيرة سردينية — إلى مَزِيَّةٍ العمق والعطف التي تتناول بها المشكلات الإنسانية على الإجمال».
وفي السنة التالية؛ سنة ثماني وعشرين (١٩٢٨) وُجهت الجائزة إلى الكاتبة النرويجية سيجريد أندست Sigrid Undset «على الخصوص لقدرتها على وصف الحياة في البلاد الشمالية خلال القرون الوسطى».
وفي سنة ثماني وثلاثين (١٩٣٨) منحت الجائزة كاتبة أمريكية هي پيرل بك Pearl Buck ولم ينلْها قبلها أحد من الأمريكيين غير الكاتب المشهور «سنكلر لويس» سنة ثلاثين (١٩٣٠).

وقالت اللجنة: «إنها استحقتها بما لها من المقدرة الثرية بوصف حياة الريف في بلاد الصين وصفًا صادقًا على مثال قصص الملاحم، مع كتابة السِّير التي تحسب من آيات التراجم.»

فالكاتبات الأربع، كلهن من نوابغ أدباء القصة، أو الرواية المطوَّلة.

وكلهُن من أدباء المدرسة المثالية، وهي المدرسة التي قد تصف الواقع الصادق بغير كلفة، ولكنها تتجنب الواقعية المبتذلة.

وكلهُن يكتبن بهذا الأسلوب، سواء كتبن في موضوعات العصر الحاضر أو موضوعات الأزمنة الخالية، وسواء كانت كتابتهن عن أوطانهن أو عن أوطان أخرى، كالبلاد الصينية.

وإذا رُوجِعَ تاريخ الأدب الغربي في نصف القرن الماضي، فليس بين كاتباته من هي أحق بالتنويه والتقدير من هؤلاء الكاتبات المختارات، فليس لواحدة منهن قرينة لها في وطنها، ولا في غيره من أوطان الغرب من بنات جيلها، وقد تنعقد المقارنة بينهن وبين نوابغ القصة من الرجال والنساء، فلا يتخلفن وراء الصفوف في هذا المجال.

إلا أنَّ الفضل في هذا الإنصاف إنما هو فضل الزمن الذي يحكم حكمه الباقي، بعد خلافات الحاضر ومنازعات الآراء، أو هو الفضل الذي نعرفه اليوم بعد عرض التاريخ زهاء خمسين سنة، وليس هو الفضل الذي ظهر للنقاد والمحكِّمين في حينه، قبل تزكية الأيام وانقضاء الخلاف والمختلفين في كثير من الأحيان.

فالمحكِّمون في لجنة نوبل لم يعرضوا هذه السنين كلها مجتمعات في مقارنة واحدة، وإنما نظروا إلى كل جائزة على حدة في سنتها بحسب المرشحين فيها.

ولم يقصدوا أنْ يميزوا الأدب النسائي بين ألوان أخرى من الأدب، فإن كل سنة من هذه السنين قد كان لها مرشحوها العديدون من الرجال، ولم يكن في أكثرها وجه للمقارنة بين كاتبة وكاتبة أخرى في بلادها أو غيرها.

ولكنَّ الذي حدث أن هذا الإنصاف لم يأتِ بغير خلاف شديد، وبغير تردد كثير، ولم يظهر وجه الحق — بعد هذا التردد الكثير — إلا حين حكم الزمن، وتيسر التقدير الصحيح بالمقارنة التي لم تتيسر في أوان الجائزة، وإلا حين اتسعت آفاق المقارنة على مدى العشرات من السنين، ولم تكن هذه الآفاق تتسع في حينها لغير العام بعد العام.

وُلِدَتْ «سلما لاجرلوف» سنة ألف وثمانمائة وثماني وخمسين، ونالت الجائزة وهي في الحادية والخمسين، وأصيبت وهي في الثالثة بمرض في العظام، سلمت منه بعد العلاج الطويل بقدم عرجاء وبدن هزيل، وأقعدتها العلة عن الحركة الطلقة، فانصرفت إلى المطالعة والدرس في السن التي تنصرف فيها البنات للَّعب، وتَعلُّم الرقص وفنون الرياضة، فحاولت الكتابة ولمَّا تجاوز العاشرة بكثير، ونَظَمَتِ الشعر وهي في الخامسة عشرة، وتوفرت على التعليم الجامعي وهي في الثانية والعشرين، وعوَّلت على الاستعداد الكامل لصناعة التعليم في أعلى مراحلها بالبلاد السويدية، على الرغم من ثروتها التي كانت تسمح لها بالمعيشة في دعة ورخاء، بغير عمل لكسب العيش والارتزاق.

وقد مارست صناعة التعليم فعلًا إلى سنة خمس وتسعين (١٨٩٥) … ثم انتابتها أزمة من أزمات الشك والتشاؤم، فاضطربت حياتها أيما اضطراب، وانتابتها الحيرة في حياتها الخاصة، وحياتها الفكرية، فاعتزلت وظيفتها في التعليم، وأزمعت الرحلة إلى بيت المقدس لزيارة الأرض المقدسة، وكادت أنْ تعقد النية على الإقامة فيها مدى الحياة، لتعيش إلى جوار الحرم الذي وُلِدَ فيه السيد المسيح كما عاش على سنة النسك والفداء.

ولكنها تحولت بالنسك إلى عالم الفكر والتأليف، وكتبت روايتها المطولة باسم «أورشليم»، فأودعتها كلَّ ما اختلج في صدرها من لواعج الشك والقلق، وكلَّ ما استقرت عليه — بعد ذلك — من عقائد الطمأنينة والإيمان.

ولما قاربت الخمسين أراد المعجبون بأدبها من أبناء وطنها أنْ تكون الجائزة تحيتها في عيد ميلادها، فعارضهم مواطنهم الكبير ويرسن، رئيس المجمع الأدبي واللجنة المحكمة في الجوائز الأدبية، وكان من خطته أنْ يتجنب شبهات المحاباة لبلاد الشمال، وإنَّ ترشيح الشاعر الإنجليزي سوينبرن في تلك السنة أولى وأكرم من اختصاص الكاتبة السويدية بها، ولو كانت من حقها بالكفاية الفنية … على أنه كان ينكر هذا الحق، وكان يرى أنَّ غرابة البدعة وغلبة العاطفة على حكم النقد الصحيح، كان لهما فعلهما في ترشيح الكاتبة السويدية؛ إذ كان يأخذ عليها ما يسميه بتكلف الشعور ومجاراة العرف في الوساوس الدينية.

وحالت معارضة ويرسن دون صدور القرار من اللجنة باختيارها سنتين متواليتين، ثم أُعِيدَ الترشيح آخر مرة بتأييد قوي من جمهرة القراء في بلاد السويد، وبلاد الشمال عل الإجمال، فرجحت كفة المرشحين على كفة المعارضة من الرئيس وأنصاره، وتقرر بعد خمس سنوات من منحها الجائزة أنْ تُخْتارَ عضوًا في لجنة الجوائز، فلم تزل فيها صوتًا مسموعًا إلى يوم وفاتها، سنة ألف وتسعمائة وأربعين.

أمَّا الكاتبة النرويجية التي كانت الثانية من بلاد الشمال في سجل الجائزة، فقد مُنِحَتِ الجائزة وهي في الثانية والأربعين، وقد كان للشعور الديني شأنه في معارضة ترشيحها؛ لأنها عدلت عن المذهب البروتستانتي إلى مذهب الكنيسة الكاثوليكية وهي في الثالثة والأربعين، ولكنَّ هذا الشعور الديني قابله باعث من بواعث الشعور السياسي لم يزل يتجه إليها، لاختيار كاتبة نرويجية بعد الكاتبة الأولى التي اخْتيرَتْ من بلاد السويد، وزكَّاه موقف آخر لها من مواقفها الوطنية أثناء الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من الزعازع الداخلية، فكانت لها شفاعة من هذه البواعث المختلفة تزيد على شفاعة الفن والقيمة الثقافية، على رجاحة هذه القيمة بمقياس النقد الأدبي، ومقياس العلم الواسع بتاريخ البلاد.

أمَّا الكاتبة الإيطالية جرازيا ديلادا فقد عُرِضَ اسمها مرات قبل أنْ تمنح الجائزة في سنة ١٩٢٧ عن السنة التي قبلها، وقد اختارها مجمع الآداب في رومة عضوًا من أعضائه الخالدين سنة ست وعشرين (١٩٢٦)، ولعله كان تعويضًا لها، ولسمعة الأدب الإيطالي، بعد العلم بإهمال ترشيحها في اللجنة السويدية.

وقد نالت پيرل بك الجائزة وهي في السادسة والأربعين، ولم تكن عطلًا من الألقاب والجوائز قبل أنْ تتجه إليها جائزة نوبل في سنة ثمان وثلاثين (١٩٣٨)، فإنها كانت تتلقى ألقاب الجامعات من كل صَوْب، وكانت أول امرأة تُخْتار لمجمع الفنون والآداب في بلادها، ويظهر من صيغة الشهادة التي أجيزت بها أنها استمدت معظم أسباب الترشيح من ترجمتها لأبويها المبشرين في الشرق الأقصى، وأنَّ الإعجاب برواياتها الصينية قد تأخر إلى سنة ثمان وثلاثين، ثم كان للعوامل الدولية أثرها الواضح في ترشيح الكاتبة التي تعطف على الصين لجائزة من جوائز السلام … إذ كانت اليابان يومئذ تتحدى هيئة الأمم لتُطلق يدها في سياستها نحو الصين.

•••

فلم تكن طريق المرأة إلى الجائزة طريقًا مفروشة بالورود، ولم يكن إنصاف اللجنة لها عملًا من أعمال التحقيق، وإنما كان عملًا من أعمال التوفيق.

وهذه أيضًا ظاهرة من الظواهر العجيبة التي تستدعي الانتباه في أعمال الهيئات العالمية، فإنها لا تستطيع أنْ تنعزل عن تيار التاريخ من حولها، ولا مناص لها من تسجيله وتمثيله، وهي تجاريه أو تعارض مجراه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤