رافض الجائزة

وُلِدَ برناردشو في سنة ١٨٥٦، واختارته لجنة نوبل لجائزتها الأدبية سنة ١٩٢٥ … فكان يناهز السبعين، ويتسنَّم ذروة الشهرة العالمية حين وصلت هذه الجائزة إليه.

ولهذا الأديب الغريب قصة غريبة — مع الجائزة — كسائر قصصه وأطواره في حياته، وفي أعماله، ومن أجلها نَخُصَّهُ بحديث مستقل من سلسلة هذه الأحاديث عن جوائز نوبل الأدبية.

فهو الوحيد الذي رفض هذه الجائزة بين المئات ممن نالوا جوائز نوبل على اختلافها، وكانت حجته في رفضها أنه في غنًى عنها؛ لأنه وصل إلى بر الأمان، فلا حاجة به إلى عوَّامة النجاة.

والحجة — كما يبدو — حجة ظاهرة تُخْفي ما وراءها، فإن جائزة نوبل ليست من جوائز التشجيع، التي يُرادُ بها تنشيط السابحين في طريقهم إلى بر الأمان، وإنما هي جائزة تتويج وتقدير، ينالها القليلون ممن بلغوا الغاية واستقروا على القمة، ولا حاجة بواحد منهم إلى عوَّامة النجاة في طريقه إلى الشهرة، ولو كانت الجائزة مقصودة للتشجيع لما كان فيها الكفاية للمئات والألوف الذين يبدءون طريقهم أو يجاهدون في عبور عقباته قبل النهاية، وهم عدد لا يُحْصى في بلاد الأمم الغربية.

فبرناردشو لم يَرفضِ الجائزة لهذا السبب، ولكنه رفضها؛ لأنه رأى — بحق — أنها تخطته عدة سنوات، ووصلت قبله مرات عديدة إلى أناس لا يساوونه في نظر الناس، ولا في نظر نفسه، وقد كان هو — على رجاحة قدره — يرتفع بهذا القدر فوق مستواه بكثير.

فمن نالوا الجائزة قبله «فلادسلاوريمون» البولوني، وجاسنتو بنافنتي الإسباني، وكنوت هاسون النرويجي، وكارل سبتلر السويسري، وبتوبدان الدنمركي، وبول هيس الألماني، وكلهم ممن يصح أنْ يقال فيهم: إنهم نكرات إذا قِيسوا إليه بمقاييس الشهرة العالمية أو القيمة الأدبية.

وممن نالها قبله من أعلام الأدب أناتول فرانس الفرنسي وموريس مترلنك البلجيكي، وهما نظيران له يعز عليه أنْ يتخلف عنهما سنوات، بعد أنْ ظهرت له أكبر مؤلفاته التي لم يظهر له — بعد توجيه الجائزة إليه — ما هو أعظم منها وأحق بالتقدير.

وممن نالوا الجائزة قبله بسنتين شاعر أيرلنده وليام ياتس، وهو اختيار يَغضُّ من قَدْرِ برناردشو بصفة خاصة … لأنه أيرلندي كويليام ياتس، وليس له من الجهود في ميادين الأدب أو ميادين الإصلاح ما يُقرن بجهود برناردشو في هذه الميادين، وكثيرون غير برناردشو يشعرون بالغضاضة عليه من تأخيره، بعد تقديم من ذكرناهم، ومن لم نذكرهم في هذا الحديث … ولا استثناء في ذلك للعَلَمَينِ البارزين اللذين يُعْتَبران أشهرهم جميعًا في مجال الآداب العالمية وهما: مترلنك، وأناطول فرانس، فإن مترلنك أضيق أفقًا من برناردشو في ميادين الإصلاح والثقافة العامة، وفي كتابة أناطول فرانس من شوائب السخرية المتشائمة ما يُؤخَذُ عليه بمقاييس اللجنة السويدية قبل غيرها، عند المقارنة بينه وبين «شو» في إيمانه برسالة الإصلاح.

وإذا نظرنا إلى الناحية العالمية في جهود الإصلاح فقد كانت لبرناردشو كِفَّتُهُ الراجحة في هذه الجهود، وقد يتسع المقام هنا لباب من أبواب المقارنة، يأتي في مكانه في سياق هذه الدراسة.

فإن برناردشو قد تطوع بالحملة الشعواء على السياسة البريطانية بعد فاجعة دنشواي، وألَّفَ في موضوعها كتابه بعنوان: «جزيرة جون بول الأخرى» مقدِّمًا له بتلك الفصول المسهبة، التي أثبت فيها شناعة الحكم، وبُطْلان التهم المنسوبة إلى الفلاحين، وضمَّنها من التحقيقات الطبية والشواهد العيانية ما لا يحتمل المغالطة والتمويه، ولم يمضِ شهور على ظهور هذا الكتاب حتى وجدت الدولة البريطانية نفسها مضطرة إلى إعلان توبتها في العالم عن هذه الخطيئة المنكرة، فعزلت لورد كرومر معتمدها المسئول عنها، وحاولت بعد عزله أنْ تنهج لسياستها نهجًا جديدًا للتقرب من أبناء هذه البلاد.

يقارن هذا بمسلك أناطول فرانس في دور من أدوار القضية المصرية، فإنه سئل أنْ يقدم كِتابًا باللغة الفرنسية نشره الوفد المصري في أثناء اجتماع مؤتمر الصلح بباريس، وأراد أنْ يستفيد من شهرة الكاتب الكبير في لفت أنظار المؤتمرين إليه، فكتب مقدمته في صفحتين صغيرتين، وتقاضى عن هاتين الصفحتين ألف جنيه، سُلِّمَتْ إليه قبل كتابة المقدمة بأيام!

فالغرابة في قصة برناردشو مع الجائزة تنقلب إلى استغراب لعمل اللجنة نفسها، بعد بيان الحقيقة.

وقد كان هذا التأخير غريبًا في نظر الناس، ولم يكن غريبًا في نظر برناردشو إلى نفسه، وقد نفسر نحن هذه الغرابة بتفسير واحد لا نعرف لها تفسيرًا أقرب منه إلى القبول: وهو زعامة شو للثورة الاشتراكية في البلاد الإنجليزية، فإن اللجنة السويدية — وهي تمثل معهدًا من معاهد رأس المال — لم تعترف قط بحق الجائزة لصاحب دعوة اشتراكية، ولم تعدل عن هذا الموقف إلا في الزمن الأخير، بعد سريان الدعوة الاشتراكية إلى بلادها، اعتصامًا بها من خطر الانقلاب الماركسي الذي اقترب منها، ولولا ذلك لما تغير موقفها من تقدير برناردشو وتقدير الثورة الفابية التي كان من زعمائها.

إلا أنَّ غرائب برناردشو تتراءى على أطرفها وأظرفها عند النظر إلى مقاييسه هو في تقدير نفسه، وتقدير أدبه بموازين الآداب العالمية: قديمها وحديثها.

تقدم أنه كان من زعماء الدعوة الاشتراكية في البلاد الإنجليزية، وتلك هي الدعوة التي انتهت بقيام حزب العمال ووصوله إلى الاستقلال بالوزارة بعد الحرب العالمية الأولى.

فلما أراد رئيس الوزارة أنْ يعلن اعترافه بفضل برناردشو على الحزب، وعلى وزارته، كاشَفَهُ بعزمه على كتابة اسمه في قائمة الشرف، أو قائمة الرُّتبِ والنياشين، وسأله أنْ يختار الرتبة التي يرتضيها لنفسه أول هذه الرُّتبِ — وهي رتبة الفارس التي يلقب حاملها بلقب سير — كما هي العادة في نظام التدرج بهذه الألقاب.

ولكن صاحبه لم يلبث أنْ سأله: هل في وُسْعِكَ أنْ تطلب لي لقب البرنس أو لقب الديوك؟ إنَّ هذه الألقاب لا تُطْلَبُ ولا أرى أنني أقل ممن يحملونها، إذا دخلنا في باب الرتب والنياشين … فخير لنا أنْ نبتعد من هذا الباب!

أما الرتب الأدبية فقد كان برناردشو يطمح فيها فوق لقب البرنس، ولقب الديوك، بل فوق لقب الملك، إذا كان في الأدب ملوك.

وربما صحَّ أنْ يكون للأدب ملك يعترف له بتاج الشعر والمسرح «برنساتُ القلم ودوقاته» في البلاد الغربية، وفي طليعتها البلاد الإنجليزية، وهو وليام شكسبير.

وعند برناردشو أنَّ وليام شكسبير لا يساوية ولا يدانيه، وقد قال مرة: إنه لو كانت له فكرة في كتابة روايات كروايات شكسبير لألَّفها جميعًا في بضعة شهور.

وسمعه ناقد فقال متهكمًا: أرأيت: لو كانت له فكرة؟! … ويعني الناقد أنَّ برناردشو لا يملك الفكرة التي تعينه على محاكاة شكسبير.

أما برناردشو فمعناه أن روايات شكسبير لا تستحق أنْ تكتب في عصره؛ لأنها روايات لم تكن لها رسالة إلى أبناء العصر عند تأليفها، ولكنه هو يؤلف الرواية، ويقصد بها أنْ تؤدي له رسالة في التعريف بحقائق الدنيا، أو حقائق النفس الإنسانية، ولو لم تكن مقصورة على مشاكل الاجتماع أو على العقد النفسانية في الطب الحديث.

وندع لبرناردشو دعواه على شكسبير، فإنها بينة البطلان، وقد عَرَفَ الناس من رواياته كل ما يعرفهم به شاعر من أسرار الحياة الاجتماعية وأسرار الحياة النفسية، وكان تصويره لأسرار البلاط ودسائس القصور مقدمة فعالة للثورة التي نشبت بعد وفاته بأقل من جيل، وكان لها أثرها في تقييد سلطان الملوك وفرض الرقابة القومية على القصور.

ندع هنا دعوى برناردشو على شكسبير، ولا ندع دعواه لنفسه بين معاصريه، فإنه — في الحق — لم يجاوز بها قدره الذي يعرفه المعجبون به وبأولئك المعاصرين، وليس بين الذين تقدموه إلى الجائزة خلال عشر سنوات أحد يساويه في مقدرته الفنية، أو في كفايته الأدبية، ومن ساواه في فنه وأدبه لم يكن كفُؤًا له في غيرته على الحق وإخلاصه لحب الخير والإصلاح.

ويؤخذ من محاضر الجلسات التي نشرتها لجنة نوبل أخيرًا أنها كانت تشعر بأن الجائزة تصل إليه متأخرة، وإن لم تكن متأخرة جدًّا على رأي أمين السر فيها؛ لأنها — على رأيه — لم تصل بعد فوات الأوان.

لكنَّ الفرصة كانت سانحة لموقف من المواقف الصيَّاحة التي يحبها رجل المواقف المسرحية على مسرح الفن، ومسرح الحياة، ففي تاريخ الأدب الإنجليزي موقف مأثور لحكيم من أكبر الحكماء المحدثين في جميع العصور، وهو موقف الدكتور صمويل جونسون مع النبيل الأديب لورد شسترفيلد، وكان الدكتور جونسون قد شرع في تأليف معجمه الخالد في نحو اللغة الإنجليزية، وهو يطمع في معونة اللورد الأديب، فأعرض عنه اللورد بعد أنْ تلقاه بادئ الرأي بالمجاملة المعسولة من طرف اللسان، وأبت على الحكيم أنفته التي اشتهر بها أنْ يعاود اللورد بالطلب أو الزيارة حتى أتم تأليف المعجم، وعلم اللورد أنه وشيك الظهور، فعزَّ على اللورد — حينئذٍ — أنْ يفوته شرف الرعاية لهذا العمل الجليل، وأبدى — من جانبه — العناية به والسؤال عنه، ولكن الحكيم العزوف لم ينسَ الهوان الذي قوبل به غير مرة وهو يطيل الانتظار في قاعة الاستقبال بقصر اللورد، فلا يؤذن له بالمثول بين يديه، فكتب إليه خطابه الذي تداولته تواريخ الأدب منذ ذلك الحين، وصاغه بتلك البلاغة التي عهدت في أحاديث الحكيم وكتاباته، فافتتحه بالاعتذار عن قبول الكرم الرفيع من قِبَل العظماء؛ لأنه لا يعرف كيف يتقبله إذ كان لم يتعوده، فلا يدري كيف يكون الشكر؛ لأنه لم يدرِ كيف يكون الإحسان! واختتمه بتلك الكلمات التي تلقى بها برناردشو منحة نوبل، فقال بعد الإشارة إلى حُماةِ الآداب من النبلاء: «أليس حامي الأدب — يا سيدي — هو ذلك الذي ينظر إلى السابح الذي يحاول النجاة بحياته فلا يعنيه أمره، حتى إذا بلغ الساحل أغرقه بالمعونة؟ إنَّ لفتة اللورد لو تقدمت برهة لكانت غوثًا، ولكنها تأخرت حتى وصلت إلى غير حافل بوصولها … تأخرت حتى أصبحت في الحياة فريدًا لا أسعد بها غيري، ومعروفًا لا حاجة بي إلى تعريف.»

وقد ذاع خبر ذلك الخطاب البليغ في تاريخ الآداب؛ لأنه يسجل مرحلة الرعاية الأدبية من جانب الأمراء والنبلاء، ويذيع اليوم جواب شو؛ لأنه يسجل الموقف بعينه بعد انتقال الرعاية من الأمراء والنبلاء إلى القراء والنقاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤