الفصل التاسع

الشجاعة سعادة

متى يكون الجندي شجاعًا؟

يكون شجاعًا حين يؤمن بأنه يدافع عن شأن أو مبدأ أو شرف، وحين يحس أن كل هذه الأشياء أو واحدًا منها هو أكبر قيمة من حياته، وأنه لو قُتِلَ في سبيل واحد من هذه الأشياء فإن غيره من الجنود سيثابر على الدفاع عنه، وأن النصر بذلك محقق سواء على يده أو يد غيره بشجاعته أو بشجاعة من يقاتلون بعد موته، هذا هو الجندي في الجيش.

ولكن للشجاعة ألوان أخرى؛ فإن الكاتب يكون شجاعًا حين يحس أن دفاعه عن مبدأ أو مذهب لن يكون عبئًا؛ إذ هو واثق بأن المستقبل كفيل بانتصار هذا المبدأ أو المذهب.

وبكلمة أخرى إن كلًّا من الجندي والكاتب يشجعان حين يؤمنان بالمستقبل ويثقان بالنصر، إن لم يكن بقوة كفاحهما فبقوة الكفاح الذي يكافحه من يتسلمون السيف والقلم بعدهما.

وبكلمة أخرى أيضًا نقول إن الكاتب الشجاع والجندي الشجاع يتفاءلان بالمستقبل، وإن التشاؤم عندما يتسلل إلى قلبيهما يتسلل الجبن أيضًا إليهما.

نحن شجعان عندما يكون ميدان تفكيرنا أو اهتمامنا في المستقبل، وعندما نؤمن به ويتحقق انتصارنا فيه.

لهذا السبب نستطيع أن نقول إن أساس الشجاعة هو إحساس السعادة، أي هو الإحساس بانتظار النصر، والتفاؤل الدائم بأن ما ندافع عنه من وطن أو مبدأ أو حق سوف يتحقق، وإذن نحن نرضى بأن نفقد حياتنا كي تحيي ما هو أكبر منها، أو تحيي الوطن أو المبدأ أو الحق.

وكما أن إحساس السعادة والفرح يرافق الشجاعة كذلك إحساس التعاسة والحزن يرافق الجبن؛ ذلك لأننا نجبن حين نتشاءم، أي حين نحس أن المستقبل ليس لنا وأن من العبث أن نستشهد في سبيل مبدأ أو وطن أو حتى لأننا غير واثقين بالنصر النهائي.

وإذن نستطيع أن نقول إن الشجاعة هي أعظم الفضائل الاجتماعية، وإن المجتمع الحسن، بما يبعث في أفراد عائلته من الأمل، يملأ قلوبهم شجاعة وسعادة ويحملهم على الإنجاز والخدمة والتضحية.
  • هل يمكن أن يكون الجندي الفدائي مجرمًا؟

  • هل يمكن أن ينتحر؟

الجواب: لا، بل لا قطعًا

ولكن لماذا لا؟

لأنه قد جعل حياته غالية فلا يرضى لها بأي عمل رخيص دنيء فضلًا عن عمل إجرامي، ثم هو قد وهب نفسه لعمل عظيم فعظمت نفسه بهذا العمل العظيم، وهو لا يمكن كذلك أن يفكر في الانتحار لأنه يحس أن حياته كبيرة القيمة وأنه يؤدي بها خدمة عظيمة لوطنه وأن استقلاله يحتاج إليه.

وإذن نحن نستخرج من مثال هذا الجندي الفدائي عبرة، هي أن الخدمة الإيثارية ضرورية لكل شاب كي يحس أن حياته غالية سامية.

يجب على كل شاب أن يؤثر على نفسه، يؤثر الوطن أو الإنسانية أو الشرف أو الخير.

وذلك بأن يخدم ويتعب لغيره، فيحاول أن يرفع ظلمًا، أو يصل إلى هدف شريف، أو يحقق برنامجًا سياسيًّا أو اجتماعيًّا يعتقد سداده، أو يعاون يتيمًا، أو يكافح استعمارًا، أو يتصدى لاستبداد.

وهذه الخدمة الإيثارية هي التي تكسبنا السعادة وتجعلنا نحس القيم الروحية العليا التي نحيا بها على المستوى الرفيع.

والشاب الذي يحس هذه القيم يحس أيضًا كرامة شخصية ترفعه عن الدنيا، وتحمله على أن يلتزم الفضائل السامية، وعندئذ تستحيل هذه الخدمة الإيثارية خدمة ذاتية، أي إن الشاب ينفع نفسه حين ينفع غيره؛ ذلك أننا نرتفع ونعظم حين نأخذ بالدفاع والعمل في شأن اجتماعي عظيم.

إن هناك كثيرين ممن لم يفكروا أو لم يتعمقوا شئون هذه الدنيا، وهم يحسبون أن السعادة بالملذات والشهوات، ولكن الحقيقة أننا لا نطلب هذه السعادة، إذ هي في صميمها حيوانية، لأن سعادة الرجل الناضج هي كفاح إنساني يغمر شخصيته ويبعثه على النشاط ويربطه بالمجتمع ويجعله يحس بأنه عضو نافع.

وهناك أنواع كثيرة من هذا الكفاح فإن الشاب الذي يدرس علمًا أو فنًّا هو مكافح، وكذلك الذي يدرس السياسة وينتهي إلى برنامج للإصلاح هو أيضًا مكافح، وكلا هذين يجد أن العمر قصير في هذا الكفاح؛ ولذلك لا يمكن أحدهما أن يسأم أو ينحرف أو أن يسقط.

ولكن هناك أيضًا ميادين أصغر؛ فإن الانتماء إلى جمعية خيرية لتربية اليتامى أو مساعدة الأرامل أو تعليم العميان يملأ القلب كرامة والعقل تفكيرًا ويكبر الشخصية.

إن الواقع أن الإنسان أكبر من ذاته، أو هو لا يكبر إلا إذ تجاوز ذاته ونزع من الأثرة إلى الإيثار؛ أي خرج من نطاق الأنانية الفردية إلى نطاق الغيرة الاجتماعية.

وهذا هو الذي يجعلنا نعجب بالفدائيين، ونعجب بالشجاعة والشهامة، لأن هاتين الفصيلتين تعنيان الإقدام والتضحية بالذات في سبيل غير اللذات، أي تعنيان الإيثار.

وليست الأمومة في جمالها سوى هذا الإيثار الذي يشع منها حين تجوع الأم كي تشبع طفلها، وليس الحب في روعته سوى هذا الإيثار الذي يؤثر به كل من المحبين الآخر، وليست الجندية سوى إيثار الشعب — شعبنا الذي ننتمي إليه والذي هو أسرتنا الكبرى — على أشخاصنا، ولن نحس السعادة الداخلية العميقة إلا حين نؤثر على أنفسنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤