الفصل الثالث

المنظر الأول

(واجهة المنزل الذي يقطنه شاهين في كفرة مليم بطنطا … على المنزل «يافطة» مكتوب عليها «شاهين رحمي المحامي» وبجوار المنزل قهوة بلدي ومطعم فول، تظهر منه «قِدرة» الفول المدمس ووابور غاز لقلي الطعمية … شاهين في الصباح المبكر جالس على كرسي بقرب باب القهوة يقرأ جريدة.)

شاهين (ورأسه في الجريدة ينادي) : واد يا بلحة! … واحد فنجان قهوة يكون مضبوط وحياة أبوك!
بلحة (على عتبة القهوة) : البن بلا قافية خلص … معاك تعريفة نشتري به بن؟
شاهين (يرفع رأسه عن الجريدة) : شيء جميل … وفاتحين ليه النهارده؟! قهوة ما فيش فيها بن تفتح ليه؟ … بني آدم ما فيش عنده دم يعيش ليه؟
بلحة : ما فيش عندنا دم؟! … طيب والله أقول للمعلم لما يرجع!
شاهين : سبحان الله! … أنا قلت ما فيش عندكم دم! … أنا قلت بس ما فيش عندكم بن!
بلحة : والشخص اللي بلا قافية ما فيش في جيبه تعريفة يبقى إيه؟
شاهين : يبقى برده زي القهوة اللي ما فيش فيها بن!
بلحة : طيب بقى خالصين!

(صمت.)

شاهين (بعد لحظة) : وإن كان يا سي بلحة المطلوب فنجان شاي؟
بلحة : شرحه.
شاهين : شرحه ازاي؟
بلحة : المعلم أمر بعدم الشكك.
شاهين : يا سي بلحة الكلام ده بخصوص الزباين المستجدين.
بلحة : كله عندنا واحد.
شاهين : مش أصول … ومع ذلك أنا مش زبون.
بلحة : أمال حضرتك إيه؟
شاهين : أنا محامي المحل مش مصدق اسأل المعلم لما يرجع … إن ما كانش يقول لك إني أنا محامي القهوة … اترافع لكم مجانًا في جميع قضاياكم: مضاربات ومشاغبات ومخالفات في نظير إني …
بلحة : إنك بلا قافية تاكل وتشرب شكك!
شاهين : ما تقولش شكك … إنت برده مش فاهم مركزي هنا في المحل … أنا يا ولد مش زبون … الحقيقة انك انت ومعلمك اللي زبايني!
بلحة : والحرمة نبوية العطارة صاحبة الملك؟
شاهين : كذلك زبونتي … وعمرها ما طالبتني بإيجار المكتب لأن في عينها نظر …
بلحة (يتحرك نحو داخل القهوة) : أصل المعلم بلا قافية راجل شديد … أما أروح اجلي كروانة الطعمية قبل ما يجي يسب ويتخلَّق.

(صمت.)

شاهين : أعوذ بالله كمان حصلت … قهوة الصبح ما نلقاهاش! … واد يا بلحة!
بلحة (من الداخل) : إيه؟
شاهين : آمنا وصدقنا إن مفيش عندكم بن! … كويس … طيب مفيش إنسانية؟!
بلحة (من الداخل) : مفيش عندنا إيه؟!
شاهين (يعود إلى الجريدة) : ولا حاجة!

(صمت يقطعه حضور المعلم حسانين.)

المعلم : ما شاء الله يا حضرة الأستاذ! … لا شغلة ولا مشغلة!
شاهين : هات لي شغل اشتغل!
المعلم : قاعد كده رِجل على رِجل بتقرا بلا قافية الجرنان واحنا من صباح ربنا دايرين نجري من كَفرة لكَفرة نبحث لك عن زبون!
شاهين : تبحث لي أنا ولَّا بتبحث لنفسك؟
المعلم : آهو بس نخلص بقرشين من حقنا المتأخر!
شاهين : الله يسهل لك.

(يعود إلى الجريدة.)

المعلم : ما تقول لنا فيه إيه بلا قافية النهارده في الجرنان؟ … قضية القنابل بتاعت اسكندرية جرى فيها إيه؟
شاهين : مرافعة النيابة بعد أسبوع … ولسة المحامين … وبعدين الحكم …

(تُسمَع ضوضاء في الحارة وتظهر نبوية العطارة ومعها رجل.)

نبوية (صائحة من أول الحارة) : فين هو ادلعدي الأبوكاتو؟
المعلم (ينظر إلى جهة الصوت) : الحرمة صاحبة الملك ساحبة لها بلا قافية زبون.
نبوية : قم يا سي شاهين اقف مع الرجل في الكركون … الَّا يقفلوا دكانه بعيد عنك … قال إيه ما عندوش رخصة!
المعلم (للرجل) : صباح الخير يا حاج أحمد! … (للمرأة) دا معرفتي يا ست نبوية، اتفضل هنا يا حاج! … (ينادي) واحد قهوة سكر مضبوط!
نبوية : وبعدها لك يا معلم حسانين! … أبقى أنا اللي جايبه الزبون ومتقاولة ويَّاه …
المعلم : تقاولت على كام!
نبوية : في عين عدوك ربع ريال!
المعلم : ربع ريال ازاي يا ولية! … الأستاذ شاهين كله … أكبر محامي في الخط يقف مع الحاج بربع ريال؟
الحاج : القضية بسيطة يا معلم حسانين … مسألة رخصة وقَفل محل … يعني لا قتلنا ولا سرقنا.
المعلم : مفهوم! … مفهوم! … وهو قفل محلك شوية؟ … دي برده قضية من غير مؤاخذة عايزة كلام طويل وعريض.
شاهين (ينقل عينيه بين المعلم والحاج كالمتفرج) : ؟
الحاج : دول وحياتك انت كلمتين ورَد غطاهم … ولو كنت بس أعرف أقرا واكتب كنت فهمت حضرة الضابط …
المعلم : طيب خليهم ١٥ قرش!
الحاج : أنا يا معلمي اتفقت مع الست نبوية وقبضتها الفلوس وانتهى الإشكال!
المعلم (لنبوية) : قبضت الفلوس!
نبوية : معلوم اقبض … ما اقبضش ليه يا روحي … مش اخلص بقرشين … أهو كله من أصل المطلوب المتأخر عليه من إيجار ادلعدي المكتب!
المعلم : المعلم ودي أصول يا ست نبوية!
نبوية : كل من كان يعمل لمصلحته.
المعلم : احنا يا ستي في الهوا سوا … وزي انت ما هو متأخر لك نقدية أنا راخر متأخر لي نقدية … مش كان الواجب نتفق ونقسم المبلغ بيننا بالنص!
نبوية : حكم … وإيش عجب انت يا معلم حسانين لما جالك زبون الجمعة اللي فاتت قبضت منه وأنا واقفة في الشباك عيني تبص ما سألت عن صحة سلامتي ولا عزمت علي بربع ولا نص! … وحياتك ما اسأل أنا رخرة عن صحة سلامتك! … قم يا أستاذ!
المعلم : وشرفك الأستاذ ما هو قايم؟
نبوية : وحياتك ما هو الَّا قايم … أنا قابضة الأتعاب! … قم يا أستاذ مع الحاج لحد الكركون … قم ادلعدي خف رجلك!
المعلم : ما تقومش يا أستاذ!
نبوية (لشاهين) : إنت يا سي شاهين! … رد أمال وانت قاعد كده مبحلق عينيك تتفرج علينا … كأننا بنلعب ادلعدي قدامك في الأراجوز … إنت قايم ولَّا موش قايم؟
شاهين : قايم فين؟
نبوية : في القضية!
شاهين : قضية إيه؟
شاهين : قضية الحاج … قبضنا الأتعاب في أمان الله أربعة وعشرين قيراط.
شاهين : ربع ريال!
المعلم : شوف العقول يا أستاذ! … الولية اللي ما عندهاش نظر عايزة تقومك بربع ريال!
شاهين : ما أقومش أبدًا … هو أنا تاكس! … التاكس الصفيح يا ولية بيقوم بتلاتة صاغ … ابقَى أنا المحامي خلقة ربنا أقوم بخمسة صاغ!
نبوية : أمال تقوم بكام؟
المعلم : أقل من عشرة صاغ ما يقومش!
شاهين (كالمخاطب لنفسه) : أنا شخصيًّا ما ليش مصلحة! … خمسة صاغ عشرة صاغ … ما فيش نقدية عمرها داخلة جيبي!

(يعود إلى الجريدة ويقرأ.)

الحاج : هي من خمس قروش؟ … خد يا حضرة وقم معانا … كذابة عطلة قَفل الدكان!
المعلم (بسرعة) : هات يا حاج!

(يقبض منه الربع ريال.)

نبوية : ازاي تقبض انت يا معلم حسانين؟
المعلم : أنا ربع ريال وانت ربع ريال، كده العدل والمفهومية!
نبوية : أمري الله! … قوِّم لنا الأستاذ بقى بالعجَل!
المعلم : قم يا أستاذ!
شاهين (يرفع رأسه عن الجريدة) : نعم.
المعلم : قم مع الحاج.
شاهين : ما كنت دلوقت بتقول لي ما أقومش!
المعلم : لأ … قوم!
شاهين : سبحان مغير الأحوال!
المعلم : قوم خف رجلك لحد الكركون قول للحاج كلمتين حلوين!
شاهين : حاضر … اسبقني انت يا حاج وانتظرني على باب القسم.

(الحرمة والحاج يخرجان.)

المعلم (لشاهين) : وحضرتك؟
شاهين : حضرتي … أظن يستحق انك تؤمر له بفنجان قهوة مضبوط … ما دمت طالبني احضر مع المتهم، لازم دماغي كمان يحضر معايه!
المعلم (ينادي) : واد يا بلحة … واحد قهوة مضبوط برة للأستاذ.
شاهين (يضع ساقًا على ساق) : بس قل له يكتر البن!
بلحة (يُطل برأسه من الباب نحو معلمه) : أجيب له بصحيح؟
شاهين : عجايب!
المعلم : هات له يا واد قهوة كويسة بالعجَل!
شاهين : ولا بأس كمان من طبق فول بالزيت الطيب، وشوية طعمية وسلطة لكن على ذوقك!
المعلم : هات يلَّه يا واد كمان واحد فول «كومبليه»!
شاهين : أيوه كده … كلف المحامي تاخد منه شغل!
المعلم (وهو يتحرك نحو القهوة) : أدِحْنا بنكلف …

(يدخل القهوة.)

(يُسمَع بوق سيارة ويَظهر الدكتور صبحي.)

صبحي (ينظر إلى اليافطة ويطرق باب المنزل) : ؟
نبوية (من النافذة) : مين؟
صبحي : شاهين أفندي المحامي هنا؟
نبوية : يا صباح القشطة … عايزُه في قضية … اصبر … اصبر يا حضرة الأفندي لما أنزل لك!
شاهين (يلتفت فيرى صبحي) : يا دكتور صبحي!
صبحي (يلتفت) : إنت قاعد عندك؟
شاهين : تفضل هنا!
صبحي (ينظر حوله) : إيه القهوة دي؟
شاهين : دي البورصة بتاعتي … تطلب إيه؟
صبحي : ولا حاجة أبدًا … أشكرك … أنا جاي لك في مسألة مهمة.
شاهين : خير!
صبحي : في مسألة مهمة جدًّا … مسألة ربما غيرت مستقبل حياتك كله!
شاهين (في تهكم) : يا ساتر!

(الحرمة نبوية تخرج من المنزل تلتف في ملاءتها.)

نبوية (صائحة تلتفت حولها) : راح فين الأفندي الزبون؟ … (تراه فتهرع إلى القهوة) كويس خالص … دي أصول يا سي شاهين؟
شاهين : نعم!
نبوية : بقى مسافة ما اسحب الملاية وانزل ألقاك قاعد تتفق مع زبوني؟!
شاهين : زبونك؟ … فين هو؟
نبوية (تشير إلى صبحي) : الأفندي … كنت لسة جايباه وجاية … بس هو اسم الله سبق حبتين!
صبحي (غير فاهم) : بتقول إيه دي؟
شاهين (لنبوية) : مفيش زبون يا ستي … الدكتور صبحي صاحبي وحضر لي في زيارة حُبِّيَّة.
نبوية : زيارة حبية! من إمتى يا ادلعدي، اللي عمري ما شفت حد زارك ولا عرفت لك حبيب ولا قريب … دي أمور أنا فاهماها، ناوي تضرب الفلوس في جيبك … طيب والنبي ما أنا رايحة إلا لما أحضر القبض!

(تقعد على الأرض بجوارهما.)

شاهين : قبض إيه يا ست نبوية! … مش كده … عيب … قومي ادخلي بيتك!
نبوية : والنبي الغالي ما أنا سايباك!
صبحي : إيه الحكاية؟
شاهين : قسمًا بالله العظيم يا حرمة إن ما دخلت بيتك وقصرت الشر …
نبوية : حاتعمل إيه يا نور عيني الاتنين؟
شاهين (يخرج من جيبه المسدس) : أفرغ في كرشك الرصاص اللي هنا كله!
نبوية : يا دهوتي (تجري) حصَّلتْ … ترفع علي البارود … فينا من كده؟ … حد الله بيني وبينك!

(تدخل منزلها.)

شاهين (لصبحي) : دا المسدس بتاع عيسوي بك سهى عليَّ أرده له بعد الليلة إياها!
صبحي : هاته أرجعه له إذا كنت تحب!
شاهين (يضعه في جيبه) : خليه عندي تذكار! … عمرنا ما طلنا حاجة من ريحة سعادته … قل لي إيه بقى المسألة اللي رايحة تغير مستقبل حياني!
صبحي : اسمع لي كويس قيمة عشر دقايق …

(يظهر بلحة حاملًا صينيةً عليها الفول والطعمية والقهوة ويضعها أمام شاهين.)

شاهين (يشير إلى الأكل ويعزم على صبحي) : بسم الله …
صبحي : متشكر … اتفضل انت … أنا فطرت وشربت قهوتي وكل حاجة … اسمع اللي رايح أقوله نفذه بالحرف الواحد، وأنا أقسم لك إن حياتك …
شاهين (وهو يشمر ليأكل) : إنت جاي النهارده مخصوص علشان تتكلم في حياتي؟
صبحي : أيوه سيبني أتكلم في حياتك … لأن دي مش حياتك … إنت دلوقت مش عايش!
شاهين : أمال أنا باعمل إيه؟
صبحي : لاحظ إن ده كلام جد … أرجوك تاخد حياتك شوية على سبيل الجد!
شاهين (وهو يلتهم قطعة طعمية) : حاضر.
صبحي : لأن تدهورك السريع ده غير طبيعي!
شاهين : ازاي؟
صبحي : مؤكَّد إنت عندك انحطاط خلقي من النوع …
شاهين (في حلقه لقمة) : بلاش قباحة أمال على الصبح!
صبحي : مش قصدي … أنا باتكلم بصفتي حكيم … الصدمة إياها اللي حصلت لك يا شاهين أثرت على أعصابك، وغيرت كل أخلاقك وأنستك عملك ومواهبك، وجعلتك شخص فاقد الأمل والعزيمة … شخص غير مهتم لشيء … ولا تصلح لشيء … إنت رجل مريض … إنت رجل ميت في نظر الهيئة الاجتماعية … شاهين رحمي بتاع زمان … الرجل الشيك الظريف خلاص توفاه الله!
شاهين : الفاتحة على روحه!
صبحي : المصيبة يا شاهين إنك غير قادر على الكلام في الجد … لو تعاهدني إنك تكلمني جد وتفتح لي نفسك دقيقة واحدة تأكد إني أقدر أشفيك!
شاهين : تشفيني؟ … برده حانرجع للكلام إياه! … ما تروح تشفي العيانين اللي عندك يا أخي … متشطر عليَّ انا ليه؟ … حد قال لك إني عيان؟
صبحي : أنا قلت لك في إمكاني أعالجك، ولازم أعالجك … بس افتح لي نفسك!
شاهين : لأ … افتح لك أحسن قزازة كازوزة تروق لك دمك … واد يا بلحة!
صبحي : مش عايز أشرب حاجة … متشكر!
شاهين : أمال إيه اللي يخليك تروق وتفرفش؟
صبحي (كالمخاطب نفسه) : أنا قربت أيأس!
شاهين : أيوه ايأس … أنصحك … واسأل مجرب … مفيش في الدنيا أحسن من اليأس!
صبحي : إنت مش عايز تساعدني أبدًا؟
شاهين : أساعدك في إيه؟
صبحي : في إني أعالجك!
شاهين : تاني! … كنت فاكرك حاتقول لي أساعدك وتساعدني في مسح طبق الطعمية اللي أنا غرقان فيه لوحدي!
صبحي (مطرقًا) : مفيش فايدة!
شاهين (ينادي) : واد يا بلحة … تعال شيل.
بلحة (وهو يرفع) : ما لها الطعمية النهارده! ما شطبطش عليها ليه في أمان الله؟
شاهين : النهارده هي اللي حاتشطب علي بإذن الله!
بلحة : دي بزيت طيب!
شاهين : مفهوم!
المعلم (بباب القهوة) : واد يا بلحة … خف رجلك أمال وروح بالعجَل اقف جنب النار!
بلحة : حاضر يا معلمي.
المعلم : وانت يا أستاذ … خف رجلك أمال بالعجَل وروح أقف جنب الراجل في الكركون!
شاهين : حاضر يا معلمي!

(صمت.)

صبحي : شاهين! … تعرف إيه اللي ينقذك؟
شاهين (على وشك الانفجار) : وبعدها لك بقى؟
صبحي : الشيء الوحيد اللي ينقذك هو الاعتقاد بأن كل شيء فيك ما ماتش!
شاهين (صائحًا) : أنا في جاه النبي!
صبحي : اسمعني دقيقة واحدة يا شاهين … رجَّع ثقتك بنفسك أولًا ترجع في الحال حياتك ترتفع على وش الدنيا … المسألة في غاية البساطة … كافح … كافح … كافح … كل شيء ممكن … كل شيء في يدك … شوية ثقة بنفسك … شوية كفاح … وشوية ثقة بالحياة وانت تنجح وتفوز من جديد باحترام الناس … من رجال ونساء … أيوه يا شاهين … من رجال ونساء … وانت فاهم قصدي كويس … آن الأوان تحظى باحترام الجميع من جديد!
شاهين : احترام الجميع؟!
صبحي : واحترام ابنك!
شاهين (كالمخاطب نفسه) : عز الدين!
صبحي : لاحظ إنه في يوم حايكبر، ويسأل عن مركز والده، ويحب يفتخر به زي كل الأولاد!
شاهين (في إطراق) : ابني! … صحيح المسألة دي فاتتني!

(صمت.)

صبحي : ما تفكرش … الحظ خدمنا خلاص!
شاهين (يرفع رأسه) : خدم مين!
صبحي : خدمك … وده سبب حضوري لك النهارده … كل اللي كان لازمك قضية واحدة كبيرة … تترافع فيها مرافعتك العظيمة بتاعة زمان واسمك يظهر من جديد!
شاهين : قلنا دا شيء مش ممكن يحصل!
صبحي : حصل.
شاهين (غير مصدق) : إمتى؟!
صبحي : تعرف قضية القنابل الكبيرة بتاعة اسكندرية؟ … من يومين بالمصادفة قابلت قريب واحد من المتهمين فيها، وأثناء الحديث استطعت أقنعه بأنه يوكلك عن قريبه … وفعلًا حضر معايه النهارده وتركته في قهوة في ميدان الساعة؛ لأن هنا طبعًا مش مكان لائق … إيه بقى رأيك في الفرصة الوحيدة دي؟ … إن فاتتنا عمرنا ما احنا نافعين … لأن مش كل يوم تلقى قضية قنابل تهز البلد، ومرافعاتها تُنشَر في جميع الجرائد، لاحظ انت رايح تقف قدام أكابر المحامين: الهلباوي ومرقس فهمي … لاحظ إن نجاحك في القضية دي، معناها إنه انكتب لك عمر جديد … وإن فاتتك دي معناها إنك مقضي عليك إلى الأبد … ومفيش بعدها قوة تقدر تحيِيك وتخرجك من البؤرة اللي انت فيها دي إلى الأبد … إلى الأبد!
شاهين (في عدم اهتمام) : وفين الزبون ده؟
صبحي (ينظر إلى ملابسه) : انتظر … إنت يلزمك شيء من حُسن الهندام … ما عندكش بدلة أنضف من دي؟
شاهين : عندي فوق بدلة بصفين.
صبحي : بصفين … بصف … المهم تكون نضيفة!
شاهين : لكن بس أنا …
صبحي : آه … واخد بالي … يلزمك طبعًا قرشين في جيبك … (يخرج محفظته) أقدر أسلفك خمسة جنيه لحد ما تقبض جزء من مقدم الأتعاب … وتهيأ نفسك … أظن الأحسن تقابل صاحب القضية في القهوة وتعتذر له بأنك مسافر ومستعجل، وتأسف لأنك ما تقدرش تقابله في المكتب، لأن مكتبك هنا طبعًا … إنما المهم إنك تدرس القضية دراسة تامة … وتحضر في الميعاد تمام يوم الجلسة لأن ده آخر سهم، وآخر أمل، وآخر دوا …
شاهين : خليها على الله!
صبحي : المهم يا شاهين إنك تاخد المسألة جد، وتُشعر نفسك إنك رجل محترم.
شاهين : يعني اتنفخ؟
صبحي : اتنفخ قوي!
شاهين : وإيه اللي ينفخني؟
صبحي : ثقتك بأهميتك … بأهمية حياتك لنفسك ولبلدك … وللمجتمع يا أستاذ يا عظيم … يا محامي يا قدير … إنت العلَّامة القانوني الضَّليع … إنت اللسان الفصيح والذكاء اللامع اللي كان في يوم من الأيام نور العدالة … إنت الكفء لأضخم قضية … إنت الركن الركين للقضاء والإنسانية … إنت الأستاذ الكبير شاهين رحمي!
شاهين (لا يتمالك ويصيح) : طظ!

(صبحي يطرق يائسًا.)

المنظر الثاني

(نفس المنظر السابق … ولكن الوقت ليل والقهوة خالية وعلى وشك التشطيب.)

المعلم : واد يا بلحة أنا مروَّح بقى … اطفي الكلوب … واغسل المواعين واقفل.
بلحة : حاضر.
المعلم : اسمع يا واد … إياك تنسى اللي كان قال لك عليه الأستاذ قيل ما ينام.
بلحة : قال إيه؟
المعلم : مش كان قال لك تخبط على شبَّاكه وتصحيه بعد التشطيب لأجل يلحق وابور الصعيدي؟
بلحة : احنا فين والصعيدي فين؟ … مش بلا قافية وابور الساعة اتنين اللي يوصل اسكندرية الصبح … واحنا دلوقت مش بعد نص الليل بشوية؟
المعلم : اعرف شغلك … آديني وصيتك … وانت عارف الأستاذ مشدد علشان القضية الكبيرة بتاعة بكرة الصبح في اسكندرية اللي بقى له بلا قافية دلوقت فوق ١٥ يوم حابس نفسه يستقرا فيها ويستعد!
بلحة : مش واخد بالك يا معلمي … من يوم الأفندي النضيف اللي جه قعد معاه هنا … والأستاذ وشه من غير مؤاخذة متغير، وعقله سارح ولا لوش نفس لأكل ولا شرب ولا ضحك ولا كلام!
المعلم : ما هي بلا قافية القضية … هو حتى من يومها بان ولا طول في القعدة عندنا … شاغلاه قوي … تقولش حايحكموا عليه بالشنق إن خسرها!

(يُسمَع صوت خفير الدرك قادمًا يضرب الأبواب بنبوته.)

الخفير (بصوتٍ عالٍ) : إحم!
المعلم (لبلحة) : هات الضرف وقفل بالعجَل قبل الخفير ما ييجي يعمل لك زمبليطة! … أنا بلا قافية مروح!
بلحة : روح انت يا معلمي!

(المعلم يذهب مسرعًا.)

الخفير (يظهر) : سهران ليه يا جدع انت؟ … ميعاد التشطيب فات من بدري … مستنظر حضرتك لما آجي أكتبك مخالفة!
بلحة : أنا لسة يا حضرة الأفندي كنت رايح أطفي الكلوب وأجيب الضرف!
الخفير : اطفي الكلوب وشطب قدامي وانجر روح!

(بلحة يطفئ النور ويغلق القهوة.)

بلحة : الساعة من غير مؤاخذة كم دلوقت؟
الخفير : قربنا يا واد على الفجر! … يعني انت مستحق مخالفة أربعة وعشرين قيراط!

(يتحرك منصرفًا.)

بلحة (وقد فرغ من غلق الدكان) : الفجر! … هو لسة بلا قافية وابور الصعيدي فات؟
الخفير (وهو يذهب) : زمانه داخل المحطة … إنت أعمى مش شايف السنافور مفتوح؟

(يختفي في الأزقة.)

بلحة : أما انهض أمال أصحي الأستاذ!

(يطرق النافذة بشدة.)

بلحة : يا أستاذ شاهين … يا شاهين أفندي … يا سي شاهين … اصحى!
شاهين (يفتح النافذة ويطل) : مين؟
بلحة : البس بالعجل وانزل! … الوابور بلا قافية فتحوا له السنافور!
شاهين (في النافذة مضطربًا) : سنافور! … وكنت منتظر اما يفتحوا له السنافور! … سنافور يفتح نافوخك!
بلحة : البس قوام … آديني صحيتك وعملت الواجب … مع السلامة.

(يذهب.)

شاهين : عمل الواجب، وأنا اعمل ازاي دلوقت؟! … ألبس ازاي؟ مش لاحق أبدًا … ما فيش غير كوني أصر هدومي في ملاية السرير وابقى البس في القطر!

(يختفي من النافذة سريعًا.)

الخفير (يظهر … يضرب الأبواب بنبوته ليتحقق من إغلاقها) : إحم! … (شاهين يخرج بقميصه ولباسه، عاري الرأس والقدمين إلا من شبشب بيتي وعلى كتفه صرة الملابس وينطلق من الباب خارجًا في الطريق) … (الخفير يراه فيصيح) اضبط حرامي … اقف عندك يا جدع … اقف يا جدع!

(ويجري نحو شاهين ويضبطه.)

شاهين (في دهشة) : بلاش تعطيل يا خفير! … سيبني ألحق القطر!
الخفير (في تهكم) : أسيبك تلحق القطر؟! … واطلب لك كمان عربية حنطور توصلك للمحطة؟! فرجني إيه اللي انت طالع تجري به ده في الشارع الساعة اتنين بعد نص الليل!
شاهين : ملبوسات.
الخفير : مفهوم! … واللي زيك يعني كان يطلع يجري بخزينة البنك الأهلي! … الحرامية برده مقامات!
شاهين : أنا مش حرامي يا خفير!
الخفير (يأخذ منه الصرة ويفتشها) : طيب وريني يا حضرة المحترم … يخرج الملابس، جزمة جديدة … بدلة جديدة … طربوش جديد … ما شاء الله … كله جديد في جديد … مبروك عليك … والبضاعة دي بقي تعلق مين؟
شاهين (نافد الصبر) : دي هدومي وملابسي، وسبني ألحق القطر … إلا بعدين أضرك يا خفير!
الخفير : تضرني؟ … إنت باين عليك حرامي فلفوس! … وانا ما احبش الفلفسة … امشي انجر قدامي على القسم!
شاهين : قسم؟ … ازاي؟ … والقطر؟ … والقضية؟ … أنا مش حرامي يا خفير!
الخفير : أمال حضرة جنابك تبقى إيه؟!
شاهين : أنا محامي.
الخفير (ضاحكًا) : لأ … دي مش مبلوعة … أنا برده ولو اني خفير لكن في عيني نظر … بذمتك مش انت الحرامي، لكن أنا برده راضي بذمتك لو تشوف واحد خارج من بيت بقميص ولباس، وعلى كتفه صرة فيها هدوم جديدة وطالع يجري بها في الشارع الساعة اتنين بعد نص الليل، تقول عليه دا «حرامي» ولَّا تقول عليه دا «محامي»! … «بعد لحظة» رد … اتكلم … جاوب!
شاهين (في إطراق وحيرة وارتباك) : كلامك معقول يا خفير … لكن … لكن المسألة لها أصل …
الخفير : الأصل والفصل ده يبقى ينقال في القسم … غلطناش في حقاك يا حضرة؟
شاهين : لكن بس أنا … لازم ألحق القطر ده … ما فيش قطر غيره يوصلني في ميعاد الجلسة ودي قضية مهمة جدًّا … يا خفير أرجوك أرجوك!
الخفير : لا … إنت يظهر بقى فاكرني خفير مغفل!
شاهين : أقسم لك بشرفي … أقسم لك بشرفي!
الخفير : شرفك؟ … ما هو شرفك ده اللي محل نظر! … اتفضل اثبت شرفك في القسم! كفاية عطلة قبل مرور الدورية!
شاهين (في صوتٍ متهدج) : إنت مش عارف الحقيقة … القطر يفوتني … أرجوك يا خفير … أرجوك!
الخفير (في شدة) : أنا طولت بالي عليك قوي! … امشي قدامي! … مش ناقص الا كده … إنت عايزني أركبك القطر، واقطع لك تذكرة، واحط لك صرة المسروقات فوق رف العربية، وأقول لك مع السلامة، نشوف وشك في خير! … لايمها شوية … إنت يا واد مضبوط متلبس أربعة وعشرين قيراط … وكان الواجب أضرب صفارة من بدري بدل ما ادخل معاك في أخد ورد!

(يصفر طويلًا.)

شاهين (يرتمي جالسًا فوق الصرة التي على الأرض) : قلنا كده قال اتنفخ واعمل محترم وروح اترافع في اسكندرية … كويس كده دلوقت الاحترام ده!

(يُفتَح شباك في المنزل وتطل نبوية.)

نبوية : جرى إيه يا خفير؟ … بتصفر ليه؟
الخفير : حرامي!
نبوية : وفين هو الحرامي؟ … ظبطته؟
الخفير : آهو قدامك بصُرة المسروقات!
نبوية (صائحة) : الأستاذ؟! … فشر!
الخفير (يلتفت إليها) : بتقولي إيه يا حرمة؟ … تعرفيه؟
نبوية : ازاي ما اعرفوش؟ … دا الأستاذ شاهين المحامي!
شاهين (للخفير) : جالك كلامي!
الخفير : وعامل في نفسك كده ليه يا حضرة الفاضل؟
شاهين : علشان ألحق القطر … تسمح لي بقى؟

(يريد أن يجري.)

(تنطلق صفارة القطار.)

الخفير (يمسك به) : مش كده يا حضرة الفاضل … دي مش تصرفات … إن جريت بالشكل ده الدورية راح تفتشك تاني في السكة!
نبوية : أيوه كده … خللي بالك من الأستاذ وحياة عينيك يا غفير لحد ما انزل لكم … مسافة ما اتلفح بالطرحة الا هَوَا الليل ادلعدي بيقرص في جتتي!

(تترك النافذة.)

شاهين : وانا كان مالي ومال برد الليل؟ … والله بركة يا جامع!
الخفير : باين عليك يا أستاذ ما لكش غية تحضر الجلسة … اطلع البس هدومك على مهلك وسافر في قطر الصبح وروح الجلسة بمقامك!
شاهين : كلامك مظبوط يا حضرة الخفير … ما فيش غير كوني أبعت تلغراف يؤجلوا لي ميعاد المرافعة ساعتين تلاتة … وأروح على أقل من مهلي … على قولك بمقامي واحترامي … تتفضل سيجارة يا حضرة الغفير؟ … (يبحث في جيبه فلا يجد جيبًا لأنه بدون بدلة) علبة السجاير فوق … لا مؤاخذة!
الخفير (يخرج علبة سجايره) : ألف لحضرتك أنا سجارة من السمسون الفرط اللي معايه؟
شاهين : أكون ممنون!
الخفير (وهو يلف السيجارة) : وقضية مين اللي سيادتك رايح لها اسكندرية؟
شاهين (بنفخة تمثيليةٍ مصطنعة) : قضية القنابل الكبرى … أنا الأستاذ الكبير شاهين بك رحمي … أنا سند العدالة والإنسانية شاهين رحمي!

(يضحك مقهقهًا ساخرًا ضحكًا طويلًا.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤