تحوتمس الثالث
تراخَت قبضة مصر عن الدويلات السورية قليلًا إبان حكم «تحوتمس الثاني»
والملكة «حتشبسوت» ولكن ما إن ارتقى العرش «تحوتمس الثالث» (١٤٩٠–١٤٣٦ق.م.) حتى
بدأ بسلسلة من الحملات على بلاد الشام دامت طيلة حياته. وكانت معركة «مجدو»
بفلسطين، التي قادها ضد تحالف سوري، فاتحة معاركه الكبرى، والمؤسسة الحقيقية
لسُلطة الأسرة الثامنة عشرة في آسيا. ولدينا نصٌّ طويل منقوش على جدار معبد
الكرنك يسرد الحوليات الحربية لتحوتمس الثالث ويتحدَّث بتفصيل وإفاضة عن حملة
مجدو، مع ذكر الأماكن والتواريخ بدقة. وسنُقدم فيما يأتي ملخصًا لأهم فقراته:
في مطلع النص، يجتاز تحوتمس الثالث حصن «صايل»
Sile على الحدود المصرية قُرب بلدة القنطرة
الحالية في برزخ السويس؛ وذلك في اليوم الخامس والعشرين من الشهر الرابع من
الفصل الثاني للسنة، ثم يتقدَّم نحو بلدة «شاروحين» التي كانت الحامية المصرية
مُعسكِرة فيها، ويجتازها إلى «غزة» التي يصلها في اليوم الرابع من الشهر الأول
من الفصل الثالث للسنة؛ أي خلال مدة مقدارها تسعة أو عشرة أيام، وفي اليوم
السادس عشر من الشهر نفسه يصل الجيش المصري إلى مدينة «ياهيم»
Yehem، التي حدد الباحثون موقعها عند الطرف
الجنوبي لجبل الكرمل؛ أي خلال مدة مقدارها أحد عشر يومًا، هناك يَعقد الفرعون
اجتماعًا لقادة جيشه شارحًا لهم الوضع العسكري:
[لقد دخل جيش «قادش»، العدو اللئيم، إلى مدينة «مَجِدو» وهناك جمع إليه أمراء
كل البلاد الأجنبية التي كانت مُوالية لمصر. وكذلك «نهارين» و«ميتاني» من
حوريين
Hurru وكوديين
Kode، بأحصنتِهم وجيوشهم ورجالهم. وكما
نُمي إلينا، فقد قرَّر العدو أن يَنتظر في مجدو ليقاتل صاحب الجلالة فهلا
أفضيتُم لي برأيكم في هذه المسألة؟ بعد الاستماع إلى الفرعون، شرح له القادة
الوضع الميداني للعدو، فجناح دفاعه الجنوبي في «تعنك»
Taanak، والشمالي في «وادي قينا»
Qina قرب مجدو، وهناك ثلاثة محاور تؤدي إلى
العدو. الأول مباشر وقصير ولكنه ضيِّق لا يَسمح بالتقدم إلا في رتل واحد،
والآخران أطول ولكنهما أسلم، واحد يَنتهي في تعنك والآخر في «زفته»
Djefti. ورجوه ألا يأخذ الطريق القصير
المباشر. ولكن الفرعون خلافًا لنصيحة قُوَّاده، قرَّر التقدم على الطريق القصير
الضيق مُباغتًا العدو الذي لم يكن يتوقَّع ذلك فهزمه هزيمةً مُنكَرة، أتى بعدها
الأمراء المُتحالفون لتقبيل قدميه وطلب العفو].
٩
يُعطينا هذا النص القيِّم معلومات جيدة حول عدة مواقع كنعانية قديمة ورَد
ذكرها في التوراة، وهي: غزة وشاروحين وتعنك ومجدو كما يذكر مدنًا وشعوبًا
عرَّفَنا بها علم الآثار وعلم التاريخ، مثل قادش وميتاني وكود. ورغم أن كمال
الصليبي لم يتعرَّض لحملات تحوتمس الثالث الشرقية بشكل خاص، إلا أنه حدَّد في
مواضعَ متفرقةٍ من كتابه أماكن بعض المواقع الواردة أعلاه في غرب العربية؛ فغزة
هي «آل عزة» القرية الجبلية في أواسط سلسلة السراة جنوب النماص (ص١٠٠)، وميتاني
هي «وادي متان» في منطقة الطائف، ونهارين هي قرية «النهارين» في موقع غير بعيد
عن وادي متان في منطقة الطائف (ص٢١٩)، ومَجِدو هي «مقدي» في منطقة القنفذة
(ص١١٩)، وتعنك هي «الكنعة» في تهامة زهران (انظر خريطة الصليبي رقم ٣).
فإلى أي حدٍّ يَنطبق مسار حملة تحوتمس الثالث على هذه المواقع في غرب
العربية؟
يتَّضح من النص أن حلف الدويلات السورية قد عُقد هذه المرة تحت لواء مملكة
«قادش»، التي كانت مملكة مُزدهرة في تلك الأيام وتحكم منطقة واسعة في أواسط
وجنوب بلاد الشام، وقد ورد ذكرها مرارًا في السجلات الحثية والآشورية وغيرها من
وثائق الشرق القديم، ممَّا ساعد المؤرِّخين على تحديد موقعها التقريبي، إلى أن
تمكَّن علم الآثار من اكتشاف مدينة قادش تحت تلِّ النبي مند على الطرف الجنوبي
الغربي لبحيرة قطينة إلى الجنوب من مدينة «حمص» الحالية.
١٠ ويبدو أن ملك قادش قد جمَع إليه العديد من حكام الممالك الشمالية،
يذكر النص منها الحوريين والميتانيين والكوديين. وكان الحوريون، وهم شعب
يتكلَّم لغة غير سامية، قد بدءوا بالتسرُّب إلى مناطق بلاد الشام الشمالية
والجزيرة العليا منذ أوائل الألف الثاني قبل الميلاد، واستغلُّوا فترة ضعف
السلطة في وادي الرافدين لتشكيل ممالكهم هناك، وأهمها مملكة «ميتاني» التي
ازدهرت أواسط الألف الثاني قبل الميلاد في حوض نهر الخابور، ومُعظم معلوماتنا
عن مملكة ميتاني مُستمَدة مباشرةً من وثائق مدينة «نوزي» الميتانية التي تمَّ
الكشف عن أطلالها قُرب «كركوك» في الأراضي العراقية الآن.
١١ أما «كود» و«كوديون» فهي تسمية أطلقها المصريون على مناطق وسكان
كيليكيا وشمال غربي سورية.
١٢
وقد انضمَّت الممالك الشمالية بقيادة قادش إلى الممالك الجنوبية التي انضوت
تحت لواء «مَجِدو» الكنعانية في فلسطين. وقد استطاع علم الآثار التعرُّف على
مَجِدو القديمة تحت تلِّ المتسلِّم على بُعد عشرين ميلًا جنوب شرقي حيفا، وهو
تلٌّ بيضوي الشكل يتحكَّم بالممر الاستراتيجي الذي يفصل جبل الكرمل الذي يندفع
نحو البحر، عن سلسلة الجبال المركزية في فلسطين. وقد كانت مصر دائمًا راغبةً في
إبقاء هذا الممر الاستراتيجي تحت سيطرتها من أجل تأمين تحرُّكاتها نحو فلسطين
الداخلية. كما كشفَت التنقيبات أيضًا عن بلدة «تعنك» على مسافة خمسة أميال
جنوبي غربي مجدو تحت التل المعروف اليوم بتل تعنك، وقد أثبتَت نتائج التنقيب
الأركيولوجي أن الموقعَيْن قد تهدَّما وانقطع فيهما الاستيطان منذ مطلع القرن
الخامس عشر، أي منذ حملة تحوتمس الثالث ومعركة مَجِدو، إلى أواخر القرن الرابع
عشر حيث انتعشتا مجددًا واستمرتا إلى فترة الحكم الإسرائيلي.
١٣
ويَرِد في التوراة أن الإسرائيليين قد فتحُوا مجدو أيام يشوع بن نون (راجع
سِفر يشوع ١٢: ٢١ و١٧: ١١) وهناك انتصر «باراق» و«دبوره» على الكنعانيين
المدافعين بقيادة «سيسرا» (راجع سِفر القضاة ٤: ١٦–١٧). وتُذكر مَجِدو مع تعنك
باعتبارهما جارتَين في منطقة واحدة (راجع سِفر القضاة ٥: ١٩؛ ويشوع ١٧:
١٩).
والآن نُتابع مسار حملة تحوتمس الثالث على ما تذكره الوثيقة المصرية، وعلى
ضوء ما تشكَّل لدينا من معلومات حديثة. فالجيش المصري يجتاز حصن صايل المعروف
في السجلات المصرية بوقوعِه على الحدود المصرية مع شبه جزيرة سيناء قرب قرية
القنطرة الحالية، ويُدعى أيضًا حصن «تجاور».
١٤ ثم يجتاز بلدة شاروحين التي حدَّدنا موقعها سابقًا عند الطرف
الجنوبي الغربي لفلسطين، ليَصل إلى مدينة غزة بعد عشرة أيام، وهي المدة اللازمة
لقطع المسافة بين القنطرة وغزة وطولها حوالي مائة وخمسون ميلًا، ضمن أراضٍ
مُسالمة واقعة تحت تهديد الحاميات المصرية التي كانت معسكرةً في شاروحين. وبعد
قضاء ليلة في غزة يتابع الجيش مسيرته إلى سفح جبل الكرمل على مَقربة من مَجِدو
التي تعسكر حولها قوات التحالف السوري بقيادة ماك قادش، فيقطع المسافة بين غزة
وجبل الكرمل، وطولها ثمانون ميلًا في أحد عشر يومًا، وهي مدة طويلة نسبيًّا
والسبب في ذلك عائدٌ إلى كون القوات المصرية تتقدَّم على طول الساحل الفلسطيني
عبر مناطق عاصية ومعادية؛ وذلك على عكس تقدمها في المقطع الأول من الحملة. عند
بلدة ياهيم، يتوقَّف تحوتمس الثالث ليضع خطة الهجوم، فيعرف من حديث قادتِه
العسكريين أن المتحالفين كانوا يُدافعون على خطوط مُتتابعة، حيث المؤخرة في
تعنك والقلب حوالي مَجِدو والمقدمة إلى الشمال منها. ولكن مفاجأة الفرعون تُفشل
خطة التحالف ويسقط المدافعون فريسةً سهلة في يد تحوتمس الثالث، وهكذا نجد أن
مسار حملة تحوتمس الثالث يَنطبِق بكامل تفاصيله ومسافاته على جغرافية فلسطين من
دون غرب العربية، فإذا كانت غزة المقصودة في هذه الوثيقة المصرية هي «آل عزة»
الواقعة في أواسط جبال السراة جنوب النماص، لتُوجب على الجيش المصري بعد
اجتيازه حصن صايل عند برزخ السويس أن يقطع صحراء سيناء، ثم يلتف حول خليج
العقبة ويهبط سواحل البحر الأحمر إلى منطقة القنفذة حيث يَلتفُّ شرقًا نحو جبال
السراة في طريق وعرة وشاقة لا تقلُّ مسافتها عن ١٢٠٠ ميلٍ. وهي مسافة لا يُمكن
اجتيازها في عشرة أيام على ما ذكره النص المصري بوضوح، بل تتطلَّب قرابة الشهر
ونصف الشهر، إذا أخذنا المعدَّل العصري لمسيرة جندي المشاة في الساعة وهي ثلاثة
أميال ونصف الميل. وإذا كانت «مَجِدو» التي نظمت حولها قوات التحالُف السوري
صفوفها هي «مقدي» غرب العربية، لوجب أن تكون «الكنعة» التي هي «تعنك» عند
الصليبي على مقربة منها، ولكن نظرة إلى خريطة الصليبي رقم ٣ توضح أن المسافة
بين «مقدي» في منطقة القنفذة و«الكنعة» في تهامة زهران لا تقلُّ عن مائتي
كيلومتر، الأمر الذي يجعل من المُستحيل تكتيكيًّا توزيع فِرَق المُتحالفين على
هذه المساحات الشاسعة، يُضاف إلى ذلك أن النص المصري كان واضحًا كل الوضوح
بخصوص تجمُّع قوات العدو في مَجِدو وجوارها (انظر خريطتنا رقم ٤).
وفي نصٍّ آخر قصير وقليل التفاصيل منقوش على مسلَّة معروفة بمسلة «عرمات»
نسبة إلى المكان الذي اكتُشفت فيه بمصر، نجد إشارة أخرى إلى حملة تحوتمس الثالث
على مَجِدو. فالفرعون يتَّجه إلى بلاد «زاهي»
Djahi وبلاد «ريتينو» لإخماد العصيان فيها،
ويخوض معركة فاصلة ضد العدو الذي جمع قواته في مَجِدو.
١٥ وبلاد ريتينو كما رأينا هي فلسطين وسورية، أما بلاد زاهي، فهي كما
يَعرف كل دارس للنصوص المصرية، الساحل الفينيقي بشكل خاص، وقد تُستعمَل الكلمة
بشكلٍ مَرنٍ أحيانًا للدلالة على المناطق الداخلية التي تَلي الساحل نحو سورية وفلسطين.
١٦
بعد حملة مَجِدو تتابعَت حملات الفرعون تحوتمس الثالث على بلاد الشام حتى
بلغت ستَّ عشرة حملةً خلال عشرين سنةً. بعض هذ الحملات كان حروبًا حقيقيةً
صعبة، وبعضها الآخر كان استعراضًا للقوة وجمعًا للجزية. وسنُتابع فيما يأتي
استعراض بعض النصوص ذات العلاقة بموضوعنا؛ لأن المجال لا يتَّسع لعرضها
جميعًا.
في حملته السادسة يتوجَّه تحوتمس الثالث إلى قادش، ثم يَنقلِب إلى مدن
الساحل: [والآن كان جلالته في بلاد ريتينو إبان حملته السادسة المظفَّرة. وصَل
إلى قادش وجعلها خرابًا، قطع أشجارها وحصد قمحها. بعد ذلك اجتاز جلالته «ريات»
Reyet مُتوجِّهًا إلى «سيميرا» ومنها إلى
«أرداتا» ففعل بهذه المدن فعله بقادش، وحصل منها على الجزيات الآتية … (تعداد
لأصناف الجزية المقدمة). وأخذ أولاد الأمراء أسرى إلى مصر، حتى إذا ما مات أمير
منهم أرسل بولده خلفًا له]
١٧ من المدن الواردة أعلاه، نعرف على وجه التأكيد قادش التي تمَّ
اكتشافها كما ذكرنا، تحت تلِّ النبي مند قُرب مدينة حمص الحالية في سوريا. كما
تمَّ التعرف على «أرداتا» إلى الشمال الشرقي من مدينة طرابلس الحالية في لبنان،
١٨ وبشكلٍ شبه مؤكَّد على «سيميرا» المدينة الكنعانية الساحِلية
الكبيرة، وذلك تحت «تلِّ الكزل» قرب ميناء طرطوس السوري، على ما تُفيد التقارير
الأولية لبعثة التنقيب الأثرية العاملة في الموقِع الآن برئاسة الدكتورة ليلى
بدر من الجامعة الأمريكية في بيروت. وبذلك يتوضَّح مسار هذه الجملة التي ابتدأت
من ضفاف نهر العاصي عند بحيرة قطينة ثمَّ انعطفَت شرقًا نحو الساحل
القريب.
وعن حملته الثامنة تذكر حوليات الكرنك ما يأتي: [كان جلالته في بلاد ريتينو.
وصل إلى «قَطْنا» في حملته المظفرة الثامنة، اجتاز بعد ذلك مُنعطف نهارين
الكبير إلى شرق هذه المياه حيث نصَب مسلَّة إلى جانب مسلة أبيه. ثم مضى شمالًا
فاجتاح مدن نهارين وسلبها ودمَّر مُعسكرات الأعداء. ثم طاردَهم بالمراكب
مسافةً، فكانوا أمامه يفرُّون كقطيع حيوانات صحراوية لا يلتفتون إلى الوراء.
بعد ذلك اتجه جلالته جنوبًا فوصل ببلاد «ني» Ni
وقفل عائدًا بعد أن وسَّع حدود مصر].
وفي نصٍّ آخر يُعطي الفرعون تفصيلات عن كيفية عبوره مياه نهارين: [لقد صنعتُ
سُفني من خشب الأرز عند جبال «بلاد الإله» قرب «سيدة جبيل» وحملتُها على عربات
تجرُّها الماشية سارت أمامي من أجل عبور النهر الكبير الذي يفصل بين هذه البلاد
الأجنبية ونهارين … وفي كل عام كانت أخشاب الأرز تُحتطَب من لبنان ويؤتى بها
إلى بلاطي].
١٩
في نصِّ الحملة الثامنة هذه، يَرِد ذكرُ مدينةٍ سورية مهمَّة جدًّا هي مدينة
«قَطْنا» التي كانت عاصمةً لمملكة قوية منذ مَطلع الألف الثاني قبل الميلاد.
ويرِد ذكرُ هذه المملكة في وثائق الدول المجاورة وخصوصًا وثائق مدينة «ماري»
المعروفة على الفرات، فقد تزوَّج «يمسخ حدد» ملك ماري من ابنة ملك قَطْنا، على
ما تذكره إحدى الوثائق العديدة المتعلِّقة بالصلات مع مملكة قَطْنا، كما عُثر
حديثًا على وثائق تذكر مملكة قَطْنا في أرشيف مدينة «إيبلا» في الشمال السوري.
وقد كشفت التنقيبات الأثرية موقع قطنا تحت «تل المشرقة» على مسافة ١٨كم إلى
الشمال الشرقي من مدينة حمص الحالية في وسط سورية. وقد كشفت التنقيبات التي
تقوم بها بعثة سورية عن المعبد والقصر الملكي، وعددٍ لا بأس به من النقوش
الكتابية التي تُؤكِّد هوية المدينة، وتذكر أسماء الملوك الذين تتابعوا على
حكمها.
كما ورَد ذِكر مدينة قَطْنا أيضًا في الوثائق الحثية بالأناضول. وفي إحدى هذه
الوثائق، يَذكر الملك «شوبيلوليماس» أخبار انتصاراته في الجزيرة العُليا وسورية
الداخلية. فبعدَ توجُّهه إلى آشور، يعود الملك فيقطع نهر الفرات مُتوجِّهًا إلى
«حلبا» (حلب) وبعد فتحها يُتابع مسيرته شرقًا إلى مملكة «موكيش» (التي تمَّ
اكتشاف عاصمتها تحت تل عطشانة شرقي أنطاكيا)، ثم يتَّجه جنوبًا إلى «قَطْنا»
فيدمرها ويتابع إلى «دمشق» التي يُهاجمها بالتعاون مع قوات قادش.
٢٠
من قَطْنا هذه تَبتدي، حملة تحوتمس الثالث، الثامنة، في الأرض التي يدعوها
النصُّ ببلاد الإله وهي تَسمية معروفة في الوثائق المصرية للدلالة على بلدان
المشرق عمومًا حيث يَصدُر إله الشمس المصري كل صباح من أُفقِه الشرقي. وبعد
القضاء على مقاومة المدينة يتوجَّه الفرعون نحو المنعطف الكبير لنهر الفرات،
حاملًا معه السفن التي صُنعت له خصوصًا في مدينة «جبيل» وقُطعَت لبنائها أخشاب
الأرز من جبل لبنان. أما تعبير «سيدة جبيل» الوارد في النص فهو اسم تبادلي
للآلهة «عستارت» إلهة الساحل الكنعاني عمومًا ومدينة جبيل على وجهِ الخصوص،
وكان المصريون يُقدِّسونها ويَقرنونها بآلهتهم «هاتور». عند نهارين يجتاز
الفرعون النهر الكبير إلى الضفة الشرقية فيَقضي على مدن الأعداء ويُطارد فلولهم
بمراكبه.
فأين مسار هذه الحملة من مواقع كمال الصليبي المفترضة في غرب العربية؟ لم
يتعرَّض الصليبي لمدينة قَطْنا القديمة، ولم يُعطِ لها مقابلًا في غرب العربية،
أما جبيل (بيبلوس عند الإغريق) المدينة البحرية المعروفة على الساحل اللبناني،
والتي تدعوها النصوص المصرية «جبيال»
Gebal،
٢١ فقد وجد مُقابلها في موقع «القابل» في إقليم نجران الداخلي،
ونهارين في «وادي متان» قرب الطائف (انظر الصفحات ٢٣٥ و٢٢٩)، أما «لبنان» نصوص
التوراة ووثائق الشرق القديم فهو ليس لبنان الشام، بل «لبينان» في شمال اليمن،
وهو مُرتفِع تَكثُر فيه أشجار العرعر. وليس هناك ما يمنع في رأيه أن يكون أرز
لبنان هو عرعر لبينان؛ لأن القواميس العربية تُفيد بأنَّ الأرز قد يكون العرعر
(انظر الصفحات ٧٨ و١٥٢). وفي الحقيقة لا يُمكن لمسرح الحملة الثامنة لتحوتمس
الثالث أن يكون في غرب العربية. فالهدف الأول للحملة كان مملكة قَطْنا التي عثر
عليها المُنقِّبون في سورية وقرءوا نصوصها المكتوبة، وبعد إخضاع قَطْنا جاءت
إلى الفرعون سفن مَبنية من مدينة جبيل التي لا يُمكن أن تكون «القابل» في إقليم
نجران الجبلي الداخلي في غرب العربية؛ لأنَّ السفن تُبنى على الشواطئ لا على
قمم الجبال، والخشب الذي استخدم في بناء مراكب تحوتمس الثالث، هو خشب الأرز
المتحطِّب من جبل لبنان القريب من جبيل لا خشب العرعر الآتي من لبينان نجران؛
لأنه إذا كانت كلمة الأرز في القواميس العربية قد تعني العرعر، فإنَّ المصريين
كانوا قادِرين على التمييز بين الأرز والعرعر دون الرجوع إلى القواميس العربية،
وهم عندما يذكرون الأرز فإنما يَعنون هذا الشجر تحديدًا، وموطنه الوحيد في
المنطقة هو مُرتفَعات سلسلة الجبال السورية الساحلية. وأخيرًا كيف تكون مياه
نهارين التي تقطعها المراكب ويُبحِر بها المصريون إلى الجهة الشرقية هي وادي
مثان قرب الطائف على ما يقول؟
وتعريف مياه نهارين على أنها نهر الفرات، يُساعد على إزالة الشكوك التي
أثارها كمال الصليبي في كون مدينة «كركميش» الواردة في النصوص المصرية هي
كركميش السورية الواقعة على نهر الفرات إذ يقول: [… والدراسة الصحيحة لحملة
مِصرية أخرى تذكرها التوراة العبرية هي حملة نخو الثاني في السنوات الأخيرة من
القرن السابع، تدلُّ على أن هذه الحملة أيضًا كانت موجَّهة بدورها ضد غرب شبه
الجزيرة العربية الذي كان يُسيطر عليه البابليون آنذاك، ومعركة كركميش الواردة
في أخبار الأيام الثاني وإشعيا وإرميا التي جرت بين المصريِّين والبابليين بهذه
المناسبة، إنما جرت قرب الطائف في جنوب الحجاز، حيث ما زالت هناك قريتان
مُتجاوِرتان تُسميان «القر» و«قماشه». ولعل الحملات العسكرية الأبكر والتي تعود
بتاريخها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، والتي يُفترض عمومًا أنها كانت موجهة
ضد فلسطين والشام، إنما كانت موجهة بدورها ضد غرب شبه الجزيرة العربية] (ص٣٧).
والحقيقة أن مدينة كركميش في سجلات حملات تحوتمس الثالث ترد كمدينة واقعة على
مياه نهارين، والآتي إليها يعبر مياه النهر من عندها. نقرأ في نصٍّ ترَكه أحد
قادة تحوتمس الثالث في حملته على نهارين: [… ومرةً أخرى كسبتُ الغنائم في هذه
الحملة بأرض كركميش فحصلتُ على عددٍ مِن الأسرى الأحياء، ثم عبرتُ فوق مياه نهارين].
٢٢ فإضافةً إلى ما أثبتناه من تطابُق مياه نهارين مع نهر الفرات،
فإنَّ موقع كركميش الواضح في هذا النص يتطابق مع موقع كركميش السورية على الضفة
اليُمنى لنهر الفرات،
٢٣ (انظر خريطتنا رقم ٧).
وكانت كركميش عاصمة لمملكة سورية مُهمَّة تتحكَّم في حوض الفرات الشمالي منذ
مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وورد ذكرها مرارًا في وثائق أرشيف مدينة ماري
المُجاورة لها والتي كانت على علاقات طيبة معها. وقد تمَّ اكتشاف موقع المدينة
قرب مدينة جرابلس الحالية على الضفَّة اليُمنى للفرات عند الحدود التركية. خضعت
المدينة للحثيين الأناضوليين في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وبعد انهيار
الإمبراطورية الحثية على يدِ شعوب البحر حوالي ١٢٠٠ق.م.، صارت كركميش من أقوى
الدويلات السورية الشمالية التي دُعيت بالدويلات الحثية الجديدة،
٢٤ وهي تسمية خاطئة درج استعمالها بين المؤرِّخين، رغم دعوة بعضهم
حديثًا إلى تغييرها. هذا، وسيكون لنا عودة إلى كركميش عندما نأتي إلى دراسة
النصوص الآشورية التي ذكر فيها هذا الموقع مرارًا.
قبل أن نَترك سجلات تحوتمس الثالث، سنتوقف عند حملته السادسة عشرة والأخيرة:
[والآن كان جلالته على الطريق الساحلي في سبيله إلى تدمير «عرقاتا»
Irqata والمراكز الواقعة إلى جوارها … تمَّ
التوصُّل إلى «تونيب»
Tunip التي أُحرقت
واجتثَّت مزروعاتها وقُطعت أشجارها. ثم عاد الجيش مُظفَّرًا إلى منطقة قادش
واستولى على ثلاث مدن هناك وأسر أعدادًا كبيرة من المرتزقة الأجانب القادِمين
من نهارين للمعونة …]
٢٥
ومرةً أخرى فإنَّ مسرح هذه الحملة لا يُخفي نفسه. فمدينة «عرقاتا» التي
توجَّه إليها الفرعون على الطريق الساحلي، قد تمَّ التعرف عليها في موقع «عرقا»
اليوم وهي قربة تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة طرابلس الحالية في لبنان،
٢٦ وقد وردت أيضًا في النصوص الآشورية مرارًا كمدينة ساحلية وباسمها
الحالي عرقًا دون تحوير.
٢٧ أما «تونيب» فرغم عدم تمكُّن علماء الآثار حتى الآن من تحديد
موقعها بدقةٍ، إلا أنَّنا نعرف من تقاطعات أخبارها في وثائق بلاد الشام أنها
كانت عاصمةً لمملكة صغيرة سيطَرت على المناطق الممتدة غربي مدينة حمص. وهناك
نصُّ معاهدة مكتوبة بين أحد ملوكها واسمه «آري – تشوب» وملك أوغاريت «نقم –
عفا» تمَّ العثور عليه في أوغاريت.
٢٨ كما تمَّ العثور في أرشيف مدينة «ألالاخ» عاصمة مملكة «موكيش»،
التي اكتُشفت تحت «تل عطشانة» في سهل العمق في الشمال السُّوري غربي حلب، على
مُعاهَدة مكتوبة بين ملك ألالاخ «نقميبا» وملك تونيب المدعو «ياريم» تنظم
علاقات حُسن الجوار بين البلدين نقتطف منها الفقرات الآتية الموضوعة على لسان
ملك ألالاخ:
-
إذا أراد تاجر من أحد البلدَين أن يَبيع بضاعته في البلد الآخر،
سواء أكانت قمحًا أم شعيرًا أم زيتًا أم … فإنه يفعل ذلك دون
الحصول على ترخيص مُسبَق بذلك.
-
إذا تآمر في بلادك أفرادٌ ضدِّي، وكانوا من مواطني «موكيش»
وسمعتَ بالأمر، عليك أن تبحث عنهم، ثم لا تَقتلهم بل تقوم بتسليمهم
إليَّ.
-
إذا أبقَ عبدٌ أو جارية في بلدي ولجأ إلى بلدك، عليك أن تَقبض
عليه وتعيدَه إليَّ.
-
إذا رحلت بعض الأُسر من بلدي إلى بلدك سعيًا وراء الرزق، عليك
باستقبالهم وتأمين معاشهم. فإذا أرادوا العودة عليك أن تعمل على
تسفيرهم، ولا يحقُّ لك احتجاز أيِّ أسرة في بلدك منهم.
٢٩
أخناتون وفترة تل العمارنة
بعد وفاة تحوتمس الثالث، تراخت قبضة مصر تدريجيًّا عن مناطق نفوذها التقليدية
في بلاد الشام. وقد بلَغَت مرحلة الانحسار أوْجها إبان حكم الفرعون أمنحوتب
الرابع (أخناتون) الذي حكم بين عامي ١٣٦٩ و١٣٥٣ق.م. حيث تُركت الممالك السورية
لصراعاتها الداخلية ولهجمات جماعات «العابيرو» التي استهدفت فلسطين بالدرجة
الأولى، بينما انشغل الفرعون بإصلاحه الديني الشامل وديانته التوحيدية
المُتمركزة حول الإله «آتون» القوة الإلهية الوحيدة المتمثِّلة في قرص الشمس
الملتهب. اتخذ أخناتون عاصمة جديدة في مدينة «أخيت آتون» أي أفق آتون، ليَبتعِد
عن مراكز القوى الدينية القديمة. وقد تمَّ اكتشاف هذ المدينة تحت «تل العمارنة»
بمصر العليا في نهاية القرن الماضي، وكان أهم ما عُثر عليه هناك أربعمائة وثيقة
مكتوبة باللغة الأكَّادية التي كانت لغة الديبلوماسية الدولية في ذلك العصر،
دُعيت برسائل تل العمارنة ومعظمها عبارة عن مراسلات تمَّت بين الفرعون وحكام
آسيا الغربية في بابل وآشور وميتاني وكنعان وحاتي (مملكة الحثيين). وغطَّت
الرسائل فترة زمنية امتدت بين أواخر حكم «أمنحوتب الثالث» والد أخناتون، وكامل
سنوات حكم أخناتون، مما اصطُلح على تسميتِه بعصر تلِّ العمارنة.
شغلت المُراسلات المتبادَلة مع ملوك الدُّويلات السورية حيزًا كبيرًا من
رسائل تل العمارنة، فهناك مراسلات مع ملوك «جبيل» و«عكا» و«مجدو» و«شكيم»
و«جازو» و«أورشليم» وغيرها. إلا أن كمال الصليبي يرى في وثائق تل العمارنة
رسائل مُتبادَلة مع ملوك وحكام دويلات غرب شبه الجزيرة العربية فيقول: [إنَّ
بعض أسماء الأماكن المفردة الواردة في رسائل تل العمارنة تُطابق فعلًا أسماء
أماكن موجودة في فلسطين وفي غرب شبه الجزيرة العربية في آنٍ معًا. وأبرز هذه
الحالات تلك المتعلِّقة ﺑ «عكا» و«يافا» أما إذا أُخذت أسماء تل العمارنة
جماعيًّا، فإنها لا تندرج عمليًّا إلا في غرب شبه الجزيرة العربية] (ص١١٧). وقد
توصَّل الصليبي إلى هذه النتيجة من غير أن يقدِّم لنا نموذجًا واحدًا من رسائل
تل العمارنة، بل اكتفى بعرض جدول بأسماء بعض المواقع الواردة في الرسائل
ومقابلاتها في غرب شبه الجزيرة العربية.
وقد قمنا بدراسة جميع رسائل تل العمارنة المتعلقة بالدويلات السورية في بلاد
الشام، بكل عنايةٍ، فتبيَّن لنا بما لا يدع مجالًا للشك بأنها مراسلات قد جرت
مع ملوك سوريا وفلسطين، ولا يُمكن بحال من الأحوال أن تَنطبِق المعلومات
التاريخية والأركيولوجية الواردة فيها على غرب العربية وسنُقدِّم الدليل على
ذلك من خلال عرض بعض تلك الرسائل.
نقرأ في النص
EA, NO 190 وهو عبارة عن إحدى
رسائل ملك أورشليم الكنعانية في فلسطين إلى الفرعون ما يأتي: [إلى الملك مولاي،
هكذا يقول خادمُك «عبدي هبة» انظر إلى ما فعله «مِلك إيلو»
Milkilu و«شوارداتا»
Shuwardata بأراضي الملك مولاي. لقد دفعوا
بقوات من «جازر»
Gezer ومن «جت»
Gath ومن «كيلة»
Keilah. أخذوا أراضي «روبوتو»
Rubutu، وأراضي الملك سُلِّمت إلى شعب
«العابيرو». حتى بلدة في أراضي «أورشليم» من أملاك سيدي اسمها «بيت لحم»
Bit-Lahm قد أُعطيت إلى «كيلة»، فليُصغِ
مليكي إلى خادمه «عبدي هبة» ويرسل قوات تُعيد الأراضي الملكية إلى الملك. وإذا
لم تَصِل القُوات، فإن أراضي الملك ستغدو للعابيرو].
٣٠
في هذا النَّص، كما في أي نص تاريخي آخر، هناك مواقع لم يتم التعرُّف عليها،
وأخرى مرجَّحة، وثالثة ثابتة بالدليل الأركيولوجي. فموقع «كيلة» مشكوك بأمره،
و«روبوتو» يُرجَّح أن تكون في مكانٍ ما جنوب غربي موقع «مَجِدو».
٣١ أما «جازر» فمدينة كنعانية مهمة تقع على المنحدرات الغربية للسلسلة
المركزية في فلسطين، بدأ التنقيب في موقعها منذ مطلع القرن الحالي، وتمَّ
التعرف عليها خلال الحملات المتتابعة بإجماع كل علماء الآثار. وقد أفادت
التنقيبات الأخيرة أن المدينة ترجع بأصولها إلى الألف الرابع قبل الميلاد،
وبقيَت مسكونةً مع بعض الانقطاعات إلى الفترة التوراتية.
٣٢ (ويمكن مراجعة أخبارها في التوراة في المواضع الآتية: يشوع ١٠: ٣٣؛
و١٦: ٣؛ و١٠؛ و٢١: ٢١؛ والأيام الأول ٦: ٦٧ و٢٠: ٤؛ والقضاة ١: ٢٩؛ وصموئيل
الثاني ٥: ٢٥؛ والملوك الأول ٩: ١٥–١٧).
وأما «جت» فكانت إحدى مدن الفلستيِّين الرئيسية وحصنًا من حصونهم، أمكن لعلم
الآثار التعرُّف عليها في موقع «تل جت» في الشريط الساحلي الفلستي جنوبًا
٣٣ (ويُمكن مراجعة أخبارها في التوراة في المواضع الآتية: (صموئيل
الأول ٦: ١٧ و٧: ١٤ و١٧: ٤؛ وصموئيل الثاني ٢١: ١٥–٢٢؛ ويشوع ١١: ٢٢؛ والعدد
١٣: ٣٣؛ والتثنية ٢: ١٠–١١ وغيرها).)
ويلفت نظرها في النص أعلاه ورود ذِكر بلدة «بيت لحم» لأول مرةٍ في السجلات
القديمة، وتَرِد هنا مُترافقةً مع «أورشليم» باعتبارها تقع في منطقتها. فماذا
قال كمال الصليبي بشأن هذين الموقعَين الواردين في رسائل تل العمارنة؟ فيما
يتعلَّق بأورشليم، حدد مكانها جنوب مدينة النماص بعسير حيث تُوجد إلى الآن
قريتان توءمان اسم الأولى «أروي» والثانية «آل سلام» قرب التنومة (ص١٢٠) أما
«بيت لحم» فلم يأتِ على ذِكرها في جدوله لمواقع تل العمارنة، بل في الفصل
الثامن الذي يرسم فيه حدود مملكة يهوذا القديمة في عسير، حيث حدَّد موقع بيت
لحم بقرية «أم لحم» الحالية في وادي أضم (ص١٧٢). وبما أننا سنُفرد لاحقًا في
باب «البينة الآثارية» حيزًا كبيرًا لأركيولوجية مدينة أورشليم، فإننا سنكتفي
هنا بالإشارة إلى تناقض في طبوغرافية موقعي أورشليم وبيت لحم عند كمال الصليبي
على ضوء رسالة تلِّ العمارنة؛ فالرسالة تقول إنَّ بلدة بيت لحم تقع في أراضي
أورشليم (وهنا يجب أن أُنبِّه إلى أن قراءة أولبرايت لكلمة بيت لحم غير
مؤكَّدة) وهو ما يتَّفق تمامًا مع الوضع الطبوغرافي للمُوقِّعين في كنعان حيث
لا تبعد بيت لحم عن أورشليم أكثر من عشرة كيلومترات، أما في خريطة الصليبي فإن
المسافة بين منطقة جنوب النماص حيث تقع القريتان التوءمان أروي وآل سلام،
ومنطقة وادي أضم الشمالي حيث الموقع المفترض لبيت لحم، تبلغ اﻟ ٢٥٠كم، وهو ما
يتعارض مع نَص رسالة تل العمارنة الواضح بهذا الشأن.
ولعل من أكثر رسائل تل العمارنة تمثيلًا للوضع السياسي في فلسطين والساحل
الكنعاني، رسالة «رب عدي» ملك مدينة «جبيل» إلى الفرعون يشكو إليه فيها تعديات
«عازيرو» ملك «أمورو» تقول الرسالة:
[من «رب عدي»
Rib-Addi إلى مولاه الملك، إله
شمس البلاد. عند قدمَي الملك أسجد سبع مرات وسبعًا. لقد كتبتُ مرارًا في طلب
قوات الحماية ولم أحصل عليها؛ فالملك لا يُصغي لكلمات خادمه، ورسولي الذي بعثتُ
به إلى البلاط عاد خالي الوفاض وبلا قوات. وعندما رأى أهل بيتي أن الفضَّة لم
تعطَ إليَّ هَزِئوا بي، وكذلك قوادي وإخوتي واحتقروني. مضيتُ إلى «هامونيري»
Hamuniri وكان أخي يُؤلِّب المدينة ضدي
ليعطيها إلى أبناء «عبدو عشيرتَه»
Abdu Ashirta
وعندما عرف أخي أن رسولي عاد خالي الوفاض وبدون قوَّات لدَعمي، ازدراني وطرَدني
خارج المدينة. أرجو من الملك ألا يقف مكتوف اليدَين أمام فِعال ذلك الكلب. انظر
إلى حالي، فأنا رجل مريض ومُسنٌّ ولا أستطيع القدوم إلى مصر … ولكني أرسلت
ابني، خادم الملك مولاي. فليَستمِع الملك إلى كلمة خادمه ويرسل قوات من الرماة
إلى جبيل لكيلا يدخلها المتمردون وأبناء عبدو عشيرتَه … إن المتمردين لقلةٌ
ومعظم أهل المدينة إلى جانبي، وعندما يسمعون بوصول القوات، ستعود المدينة إلى
الملك مولاي … إن في مدينتنا جبيل ثرواتٍ كبيرةً للملك مولاي، جاءت من أسلافنا،
فإن لم يتدخَّل الملك من أجل المدينة فإنه سيَفقد كل مدن كنعان].
٣٤
ويبدو أن تعديات «عازيرو» بن «عبدو عشيرته» ملك آمورو قد شملَت معظم مناطق
الساحل الكنعاني، فلدينا رسالة من «أبي مِلك»
Abimilk ملك صور تُكرِّر الشكوى نفسها،
يقول في آخرها: [… إنني أحمي «صور» المدينة العظيمة من أجل مولاي الملك، إلى أن
تصلَني قواته فتهبني ماءً لأشرب وحطبًا لأدفأ. ثم إن «زيميريدا» ملك «صيدون» قد
كتب مرارًا إلى المجرم «عازيرو»
Aziru بن «عبدو
عشيرتَه» بخصوص كل ما سمعه من مصر، وها أنا قد كتبت إليك بكل ما يتوجَّب عليك معرفته].
٣٥
«عازيرو» ملك «آمورو» الشخصية المركزية في هاتين الرسالتين، معروف لدينا من
وثائق أخرى بعضها من بلاد الشام وبعضها الآخر من مَوطن الحيثيين في الأناضول.
ومملكته آمورو، كما نعرف من هذه الوثائق، كانت تسيطر على السهول الممتدة حول
نهري الكبير والأبرش وعلى المنطقة الساحلية من طرطوس وحتى البترون. وقد أسَّس
فيها «عبدو عشيرتَه» سلالة تسلَّمت زمام الأمور منذ مطلع القرن الرابع عشر وحتى
مطلع القرن الثاني عشر عندما قضت عليها موجات شعوب البحر.
٣٦ وكانت عاصمتها مدينة «سيميرا» التي أشرنا سابقًا إلى موقعها في تل
الكزل قرب طرطوس عند دراستنا لسجل الحملة السادسة لتحوتمس الثالث. ويبدو أن
الملك عازيرو كان يلعب في هذه الأحداث الدامية، التي جرت في فلسطين والساحل
الكنعاني أواسط القرن الرابع عشر، دورًا مرسومًا له من قِبل الحثيين الذين
استغلوا فرصة ضعف مصر إبان حكم آخناتون لملء الفراغ في سورية ويؤكد لها هذا
الاستنتاج معاهدة عُقدت بين الملك الحثي «شوبيلوليماس» وعازيرو ملك آمورو. وقد
عُثر على نصِّ المعاهدة في «بوغازكوي» موقع عاصمة الإمبراطورية الحثية
بالأناضول منقوشًا على نسختين واحدة حثية والأخرى أكادية، يعود تاريخ هذه
المعاهدة إلى فترة تل العمارة، ويرد فيها اسم عازيرو في النسخة الحثية بصيغة
«عازيراس». وهذه فيما يأتي مقدمتها الموضوعة على لسان الملك الحثي:
[أنا الملك الشمس جعلتُك يا «عازيراس» تابعي. فإن صُنت أرض ملك «حاتي» سيدك
فإن سيدك ملك حاتي سيُقدم لك الحماية بالطريقة نفسها. عليك أن تَحمي رُوح مليكك
وشخصه وجسمه وأرضه كما تَحمي روحك وشخصك وجسمك وأرضك، وملك حاتي سيُقدِّم لك
بالمقابل الحماية نفسها، وكذلك أولادُه وأحفاده. ويتوجَّب عليك دفع ٣٠٠ شيكل من
الذهب الخالص لملك حاتي في كل سنة جزيةً، يَجري وزنها بمَوازين تجار بلاد حاتي.
وعليك أن تأتي بلاد حاتي، إلى الملك الشمس مرةً في كل عام. لقد كان ملك «مصر»
وملك «الحوريين» وملك … وملك «كنزا» وملك «نوخاشا»
Nuhassa وملك «نيبا»
Niya وملك … وملك «موكيش»
Mukis، وملك «حلب»
Halba وملك «كركميش»
Kargamis، كانوا جميعًا يُناصبُون الملك
الشمس عداوةً، غير أن عازيراس ملك آمورو قد ترك بوابة مصر وصار مواليًا للملك الشمس].
٣٧
إنَّ معظم المدن والممالك الواردة أسماؤها في هذا النص قد كشف علم الآثار عن
مواقعها وقُرئت نصوصها وقُوطعت مع نصوص أخرى من ممالك الشرق القديم. ﻓ «حاتي»
هو اسم مملكة الحيثيين في الأناضول، به دعوا أنفسهم وبه عرفهم جيرانهم.
والحوريون هم شعب مَملكة «ميتاني» في الجزيرة العليا التي عرفنا الكثير عن
أخبارها من وثائق موقع «نوزي».
و«كنزا» هي مملكة «قادش» على نهر العاصي قرب مدينة حمص الحالية. و«موكيس» هي
مملكة ألالاخ في سهل العمق بين مدينتي حلب وأنطاكيا، وقد تمَّ اكتشافها تحت «تل
عطشانة» الذي أمدنا بفيض من النصوص المهمة. و«حلبا» هي مملكة حلب أو «يمخاض»
التي كان مركزها في مدينة حلب الحالية. أما «نوخاشا» (أو نوخشي) فنعرف مِن
تقاطُعات أخبارها في نصوص الممالك الأخرى أنها شغلت مكانًا يقع بين مدينتي
«حماة» و«حلب». وهكذا نجد أن مملكة آمورو التي شغلت أخبارها حيزًا لا بأس به من
رسائل تلِّ العمارنة قد قامت في بيئة سورية شأنها في ذلك شأن بقية ممالك عصر
تلك العمارنة. فأي حُجة تبقى بعد ذلك لنَقلِ مسرح هذا العصر الحافل إلى غرب شبه
الجزيرة العربية؟
سيتي الأول: وثائق من كنعان
بعد سقوط أخناتون لم تَستطِع مصر إعادة سيطرتها على مناطق نفوذها في سورية
وفلسطين إلا في عهد «سيتي الأول» (١٣٠٢–١٢٩٠ق.م.)، وهو الفرعون الثاني من
الأسرة التاسعة عشرة. وتَكمُن أهمية سجلات هذا الفرعون أن بعضها قد وُجد في أرض
فلسطين. وهذا ما يُمدُّنا بمعلومات مباشرة من ساحة الحدث ذاتها، لا مِن أرشيفات
مصر ومسلاتها ونصبها التذكارية.
فلقد تمَّ العثور في موقع «بيت شان» المدينة الكنعانية المهمَّة في فلسطين،
على نصب تذكاري نَقش عليه سيتي الأول أخبار حملته على مدينة بيت شان التي
تَمركز فيها مُناوئوه. نقرأ في النص، بعد المقدمة الفخرية المعهودة:
[هو الذي يَنفذ إلى جحافل الآسيويين ويُجبرهم على الرضوخ، الذي يُحطم أمراء
«ريتينو» وتطال يدُه كل الخارجين عليه. في هذا اليوم، جاء مَن يُخبره بأنَّ
العدو اللئيم في بلدة «حمث»
Hamath قد جمَع
إليه العدد الغفير من الجنود واستولى على «بيت شان»
Bet-Shan، ثم عقدُوا حِلفًا من «باهيل»
Pahel، وها هم قد حجزُوا أمير «رحوب»
Rehob عن الخروج. عند ذلك قام جلالته
بإرسال جيش إلى بلدة حمث وآخر إلى بيت شان وثالث إلى «ينوم»
Yanoam وما إن انقضى النهار حتى هُزموا
جميعًا أمام عظمة جلالته ملك مصر العُليا والسُّفلى …]
٣٨
لقد كشفت التنقيبات الأثرية عن بيت شان تحت «تلِّ الحِصن» قرب مدينة «بيسان»
الحالية في فلسطين التي حافظت على الاسم القديم للمدينة الكنعانية، وتبيَّن أن
الموقع كان مسكونًا منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وبقيَ مأهولًا بالسكان عبر
العصر البرونزي وصولًا إلى العصر الحديدي في أواخر الألف الثاني ومطلع الألف
الأول قبل الميلاد.
٣٩ أما بقيَّة الأماكن الواردة في النص، فقد أمكَن تحديد مواقعها إما
بشكل تقريبي أو مؤكَّد. ﻓ «حمث» هي «تل الحامة» على بُعد عشرة أميال جنوبي
بيسان، و«رحوب» من «المُحتمَل» أن تكون «تل الصارم» على بُعد ثلاثة أميال جنوب
بيسان، و«ينوم» من المحتمل أن تكون في موقع «تل النعامة» شمالي بحيرة الحولة.
٤٠ هذا وإضافة إلى بيت شان، المدينة التي شهدت أحداثًا مهمَّةً في
التوراة فقد ورَد في التوراة أيضًا ذِكر رحوب (راجع سِفر العدد ١٣: ٢١؛ وصموئيل
١٠: ٨٦؛ ويشوع ١٩: ٢٨–٣٠، و٢١: ٣١؛ وأخبار الأيام الأول ٦: ٧٥) ومن أجل ينوم
(راجع يشوع ١٥: ٥٣).
وبذلك يُقدِّم لنا نصُّ سيتي الأول دليلًا قاطعًا مُزدوجًا. فمدينة بيت شان
التوراتية قد تم العثور عليها في أرض كنعان، والبينة عليها ليسَت أركيولوجية
فحسب بل وكتابية أيضًا؛ إذ يظهر بوضوح اسم المدينة في النص المُكتشَف بين
أنقاضها. ومن ناحية أخرى يُثبت هذا النص أن الحملات المصرية كانت موجهةً نحو
سورية وفلسطين لا نحو غرب شبه الجزيرة العربية، وإلا كيف يترك فرعون مصر حجرًا
تذكاريًّا في فلسطين يُخلِّد فيها انتصارًا حقَّقه في عسير؟ إضافة إلى ذلك فقد
تمَّ العثور في موقع بيت شان على نصب تذكاري ثانٍ تركه سيتي الأول أيضًا، ورغم
تحطُّم النصب وصعوبة قراءة الكتابة المنقوشة عليه، فإننا نَفهَم منه أن الفرعون
قد صد هناك هجمات العاييرو والقادمين من الأردن. كما عثر على تمثال للفرعون
«رمسيس الثالث»، وعلى نص تركه أحد القادة العسكريين في حملة هذا الفرعون ضد
شعوب البحر، يَحكي عن وصول الجيش المصري إلى شمال فلسطين سعيًا وراء فلول
القوات المُتراجعة.
٤١
أمام كل هذه الحقائق التاريخية والأركيولوجية، لا نستطيع الاتِّفاق مع كمال
الصليبي في نقل «بيت شان» السجلات المصرية إلى غرب العربية، حيث وجد مكانها في
موقع «الشنية» في منطقة الطائف (ص٢٠٩–٢١٠) ولا نستطيع مُجاراته في القول بأن
الباحثين من شتى المشارب قد أساءوا تفسير السجلات الطبوغرافية المصرية، وهو قول
ما انفكَّ يُردِّده عبر كتابه دون أن يُقدم شاهدًا واحدًا على ما يقول.
ترك لنا سيتي الأول أيضًا عددًا من الرسوم على جدران الكرنك تُصوِّر معاركه
في آسيا وأفريقيا، ومع كل رسمٍ نصٌّ توضيحي قصير. وسنُقدم فيما يأتي ترجمة
للنصوص المتعلِّقة بحملاته الآسيوية.
٤٢
[في السنة الأولى لحكم ملك مصر العُليا والسُّفلى، بطشت يد الملك الجبار
بأعدائه من «الشاسو» من حصن «صايل» إلى «كنعان»؛ حيث تغلب عليهم جلالته كأسد
هصور فجعلهم أشلاء تَسبح في دمائها بالأودية]. وقد كُتب هذا النص تحت صورة
تُظهر حصار الجيش المصري لمكان محصَّن غير محدَّد الهوية. أما الشاسو المذكورون
هنا فهم، كما يقول خبراء النصوص المصرية، البدو المتجوِّلون في جنوب فلسطين
وشمال العربية،
٤٣ ويبدو أن الفرعون قد طارد هؤلاء حتى وصل إلى بعض المدن الكنعانية
التي كان حُكامها يَستأجرونهم أو يُحرِّضونهم على العصيان. وهناك مشهد يصور
استيلاء الجيش المصري على بلدة «ينوم» الكنعانية وقد ذكر تحت المشهد اسم
المدينة دون أي شرحٍ. ويبدو أن هذه المعركة هي معركة ينوم نفسها الواردة في نصب
بيت شان التذكاري. ومشهد آخر يصور مجموعة من الآسيويين تَقطع الأشجار في بلدةٍ
أشار النص المرافق إلى حاكمها بأنه أمير لبنان العظيم. ومشهد يصور عودة الفرعون
المظفَّرة من حملة له في سورية كُتب تحتَه: [عودة جلالته من ريتينو العليا، بعد
أن وسَّع حدود مصر] ومشهد يصور قيام الفرعون بتقديم القرابين للآلهة بعد عودته
من قتال الحثيين نقرأ تحته: [تقديم القرابين من الإله الطيب — أي الفرعون — إلى
أبيه آمون رع، لدى عودته من بلاد حاتي، بعد سحق المتمرِّدين ومحق الآسيويين
وبلدانهم، وقد أتى معه بأمراء ريتينو الأنذال ليضعهم في معبد أبيه آمون رع].
وهناك مشهد يصور حصار مدينة قادش السورية كُتب تحته: [صعود الفرعون لتدمير قادش
وبلاد آمورو]. ومما يُؤكد أن قادش المذكورة في هذا النص هي قادش بلاد الشام،
العثور على بقايا حجر تذكاري للفرعون سيتي الأول في موقع المدينة المكتشفة.
٤٤
رمسيس الثاني: الوفاق الدولي
تابع «رمسيس الثاني» (١٢٩٠–١٢٢٤ق.م.) ما بدأه سيتي الأول من إعادة النفوذ
المصري إلى مناطقه التقليدية في بلاد الشام، بعد فترة الانحسار التي ابتدأت
بحُكم الفرعون أخناتون، وهي الفترة التي نشط خلالها الحثيون وبسطوا نفوذهم
تدريجيًّا على مُعظَم مناطق بلاد الشام. وكما فعل سيتي الأول فقد ترك لنا رمسيس
الثاني عددًا من النُّصب التذكارية في بلاد الشام، أهمها النُّصب الذي تمَّ
العثور عليه في موقع بيت شان بفلسطين، وقد نُقش عليه: [في السنة التاسعة، الشهر
الرابع من الفصل الثاني اليوم الأول، عند طلوع الفجر تمَّت هزيمة الآسيويين.
جميعًا أتوا صاغِرين يَنحنون أمامه في قصره في «بي - رمسيس - ميري - آمون»]،
٤٥ وبي رمسيس المذكورة هنا هي عاصمة رمسيس الثاني التي بناها في منطقة
الدلتا. وهناك أيضًا ثلاثة نُصب تذكارية أخرى تركها رمسيس الثاني عند مصبِّ نهر
الكلب بين بيروت وجبيل، ولكنَّها أُخرجت من الموقع في حالة مُهشَّمة لا تسمح
بالقراءة الواضحة لنصوصها.
٤٦
وكان لا بدَّ لنشاطات هذا الفرعون الطموح من أن تَصطدِم بعناد الحثيين
وتصميمهم على الاحتفاظ بمناطق نفوذهم، وهم القوة العُظمى الثانية في المنطقة
إلى جانب مصر بعد أفول بابل، فقامت بين الإمبراطوريتَين حروب شرسة أهمها معركة
قادش على ضفة نهر العاصي عام ١٢٨٦ق.م.، التي خلَّدها الفرعون في نصٍّ مفصل
طويل، نقتطف فيما يأتي بعض فقراته ونلخص الأخرى.
٤٧
[السنة الخامسة، الشهر الثالث من الفصل الثالث، اليوم التاسع … توجَّه جلالته
إلى بلاد «زاهي» في حملته المُظفَّرة الثانية. نَصب معسكره على التلال الواقعة
إلى الجنوب من قادش. وعندما أخذ بالتحرُّك شمالًا ووصل إلى بلدة «شاباتونا»
أتاه اثنان من «الساشو» وقالا له إنهما ينتميان إلى أكبر الأُسر العاملة إلى
جانب ملك الحثيين المهزوم، وأنهما وأصحابهما سيتركون الحثيين وينضمُّون إلى
الفرعون. كما أبلغاه بأن ملك الحثيين يُعسكِر في أراضي «حلب» إلى الشمال من
«تونيب» ويخشى التقدُّم جنوبًا فزعًا من جلالة الفرعون]. وقد تبيَّن فيما بعد
أن هذَين البدويَّين كانا جاسوسين لملك الحثيين، وأنهما أبلغا الفرعون نبأً
كاذبًا ليتقاعس عن المُضي شمالًا لملاقاة العدو. وبينما كان المصريون آمنين في
معسكرهم جنوبي مدينة قادش وصل الحثيون إلى تخومها وتهيئوا للمُفاجأة [فوصل ملك
الحثيين ومعه ملوك بلدان عديدة بمشاتهم وعرباتهم، ساقهم إلى جانبه عنوةً وقسرًا
واصطفُّوا للقتال خلف قادش المدينة المُراوغة. وعندما علم جلالته بالأمر حرَّك
قواته شمالًا ونزل إلى الشمال الغربي من قادش]. وهناك قبض جنوده على جاسوس
للعدو أخبر الفرعون بمعلومات هامة عن مواقع الحثيين وقُوَّاتهم التي رفدتها
جيوش من «نهارين» و«كود» كاملة العدد والتجهيز. وبينما كان يعقد اجتماعًا
لقادته على عَجلٍ، أطبق عليهم الحثيون فتضعضعت قوات المصريين، غير أن شجاعة
الفرعون وإقدامه رجَّحت كفة الميزان، حيث أعمل في الخصوم تقتيلًا بيده وسلاحه
ورمى بجثثهم في نهر العاصي.
لا يمكن لمسرح هذه المعركة أن يكون في غرب شبه الجزيرة العربية (انظر خريطتنا
رقم ٥) فجميع المواقع المذكورة في هذا النص كنا قد حدَّدنا أماكنها في بلاد
الشام. فرمسيس الثاني يتحرَّك على الطريق الساحلي عبر بلاد «زاهي» وهي في
النصوص المصرية المناطق الساحلية لفلسطين ولبنان، ثم يتابع مسيرته شمالًا
ليعسكر إلى الجنوب من مدينة «قادش». أما قوات الحثيين فتتجمَّع في أراضي حلب
شمال «تونيب» تُرفدها قوات من «نهارين» و«كود»، ويتقدم الحلفاء إلى شمالي موقع
قادش حيث تقع المعركة على ضفاف نهر العاصي (ويُدعى بالهيروغليفية المصرية
Yarnet التي يقابلها باليونانية
Orotes).
لم تكن معركة قادش هي الفاصلة، بين القوَّتين العُظميَين. فقد استمرَّت
المناوشات بينهما طيلة ستة عشر عامًا تلتْ ذلك، انتهَت بتوقيع معاهدة بين
الطرفين تُعتبر من أشهر معاهدات العالم القديم. وقد أطلقت هذه المعاهدة يد
الحثيين في مناطق بلاد الشام الواقعة إلى الشمال من قادش واحتفظ المصريون
بسيطرتهم على المناطق الواقعة إلى الجنوب منها. وقد تمَّ اكتشاف نسختي
المعاهَدة في موقعين يَبعدان عن بعضهما آلاف الأميال؛ فالنص الحثي للمعاهدة
وُجد في مدينة «حاتوسس» عاصمة الحثيين في الأناضول التي اكتُشفت قرب
«بوغازكوي»، وهو مكتوب باللغة الأكادية، والنص المصري وُجد على جدار معبد آمون
في «طيبة» بمصر وهو مكتوب بالهيروغليفية المصرية.
٤٨ وقد أعقب المعاهدة زواج رمسيس الثاني من ابنة الملك الحثي
«حاتوشيلي».