علم الآثار وتاريخية التوراة
يقوم المحور الرئيسي في نظرية الصليبي ونهجه على القبول بالرواية التوراتية باعتبارها تاريخًا مؤكَّدًا مُسلَّمًا بصحته، والشك في جغرافيتها. فهو يقول في فصله الأول: [في الدراسة الراهِنة، ستُقلب الأمور رأسًا على عقب، وبدلًا من أخذ جغرافية التوراة العبرية كمُسلَّمة، ومناقشة صحتها التاريخية، سآخُذ تاريخيتها كمُسلَّمة وأناقش جغرافيتَها وبين شعوب الشرق الأدنى القديم. يبدو أن بني إسرائيل كانوا وحدَهم المالكين لإحساسٍ مُرهَف بالتاريخ. أو هم على الأقل الوحيدون الذين فهمُوا أنفسهم تاريخيًّا وعبَّروا عن ذلك بطريقة واضحة مُنسجِمة مُكتملة. وتُقدِّم كتبهم المقدسة رسمًا ذاتيًّا حيًّا ومُفصلًا، وهو رسم فريد من نوعه بالنسبة إلى عصره] (ص٥٣).
وفي الحقيقة، فإنه منذ ظهور النَّقد المنهجي للتوراة اعتبارًا من مطلَع القرن الثامن عشر، لم تقم مدرسة واحدة على القبول المطلق بالرواية التاريخية باعتبارها تاريخًا حقيقيًّا غير خاضِع للمُناقشة أو النقد، نَستثني من ذلك الاتجاه اللاهوتي الذي يؤمن بأن الكتاب في صيغته الحالية، قد دُوِّن بإلهامٍ من الرُّوح القدس. ثم جاء عصر الاكتشافات الأركيولوجية الكبرى في آشور وبابل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي سورية مع مطلَع القرن العشرين، ليضع بين أيدي الباحثين التوراتيِّين معلومات تاريخية ونصية وأركيولوجية، لم يسقطها من حسابه أحد قبل كمال الصليبي قط.
والتسليم بتاريخية التوراة عند كمال الصليبي، هو نتيجة منطقية لنقلِه جغرافيتها ومسرح أحداثها إلى غرب العربية، حيث نَفتقِد إلى أي محكٍّ موضوعي يمكن اختبار روايات التوراة عليه، فالمنطقة لم تُستكشف آثاريًّا، ولم يأتِنا عنها بنبأ واضح أي شعب من شعوب الشرق القديم. والصليبي بعد أن شككنا بكثير من معلوماتنا حول تاريخ بلاد الرافدين والشام ومصر، ورفض السجلات التاريخية كوثيقة يُمكن الاعتماد عليها (إلا قُرئت على طريقته)، فإنه لم يترك أمامنا من معيار آثاري ونصِّي وتاريخي يُمكن الاعتماد عليه في نقد التوراة، لتبقى وحدها الوثيقة المُعتمَدة، شاهدة على نفسها وشاهدة على أحداث عصرها. وهذه نتيجة لم يضعها في حُسبانه قطعًا عندما [شعر بأن من الواجب عليه أن لا يُبقي ما توصلت إليه معرفته بشأن التوراة سرًّا] (ص١٩).
أما بعد أن أوقفنا على قدمَيها الأمور التي قلبها الصليبي، على حدِّ قوله، رأسًا على عقب، وأوضَحنا المسلَّمات التاريخية والأركيولوجية التي لم تُوضَع قبل ذلك في مُتناول جمهرة القراء من غير المتخصِّصين، فإنَّنا نستطيع الآن أن ندلف إلى امتحان تاريخية التوراة استنادًا إلى البيِّنة الأركيولوجية المدعومة بالبيِّنة التاريخية. ولسوف نُقسِّم الفترة التي تُغطيها أحداث التوراة إلى المراحل الآتية، باحثين عن تاريخية الأحداث في كل منها: (١) عصر الآباء، (٢) الخروج من مصر ودخول بلاد كنعان، (٣) عصر القضاة، (٤) المملكة الموحدة، (٥) المملكة المنقسمة والانهيار.
(١) عصر الآباء
هناك اتِّفاق بين المؤرِّخين على أن تحرُّكات الآباء الواردة في سِفر التكوين، قد جاءت في فترة الاضطرابات التي أحدثها ظهور العموريين في الهلال الخصيب بين نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد. تلك الفترة التي تميَّزت بتعطُّل تام للمراكز الحضارية في المنطقة، وتدمير للمدن ونزوح وهجرات. وقد توسَّطت هذه الفترة بين عصر البرونز المبكر وعصر البرونز الوسيط.
والرأي الشائع بين الباحثين اليوم، هو أنَّ شخصيات روايات سِفر التكوين في التوراة، مثل إبراهيم وإسحاق، (وهم مَن يُطلِق عليهم الباحثون التوراتيُّون اسم الآباء) تَنتسِب إلى الأقوام العمورية؛ وذلك اعتمادًا على الأصول اللغوية لأسمائهم، كإسحاق ويعقوب وعيسو، وأن تحرُّكاتهم التي ابتدأ مع نزوح إبراهيم من بلاد الرافدين، ترجع إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر. وفي الحقيقة، لم يُمكن حتى الآن العثور على أدلة آثارية تثبت رواية سِفر التكوين، لأن تحركات الآباء كانت في حقيقتها تحركات قبلية قامت بها مجموعاتٌ مُتنقِّلة لم تعرف الاستقرار ولا سكنى الحواضر. أما النصوص التاريخية، فصامتة تمامًا عن هذا الموضوع، سواء في بلاد الرافدين وبلاد الشام أم في مصر التي رحل إليها يوسف بن يعقوب وصار هناك الوزير الأول للفرعون — حسب الرواية التوراتية — من هنا، فإن كل ما كُتب ويكتب اليوم، حول روايات الآباء في التوراة، هو محض تخيُّل وافتراض، ومحاولة لاستقراء نصوص التوراة وتفسيرها، على ضوء الأوضاع السائدة في الشرق القديم إبان تلك الفترة. لذا فنحن واجدون من الاجتهادات حول هذا الموضوع قدر ما لدينا من باحثين تصدَّوا له. أما التاريخ وعلم الآثار فلا يستطيعان البتَّ في مسألة الآباء في المرحلة الراهنة.
فقصص الآباء في سِفر التكوين رغم ترجيح وجود أساس واقعي لها، ليسَت إلا نوعًا من الملحمة البطولية، مما تعوَّدت الشعوب تدبيجه عن البدايات الأولى، ولنا في «الشاهنامة» ملحمة الفرس الشهيرة، خير مقال على ذلك. فالنَّفَس الملحمي يسود في سِفر التكوين، سواء في الأسلوب أم في المضمون. فبعد المقدِّمة المثيولوجية المتعلِّقة بخلق العالَم، تدخل في سلسلة أحداث مليئة بالتهويلات والمبالغات. فنرى مجموعة إبراهيم القليلة تهزم تجمع ملوك بلاد الرافدين السبعة بقيادة «أميرافل» الذي قرنه بعض الباحثين بحمورابي (التكوين ١٤: ١–١٦)، ومدن بكاملها تَختفي من الوجود بنار وكبريت من السماء تَنسكِب عليها (التكوين ١٩: ٢٢–٢٦)، وتوهب الذرية لرجال ونساء في المائة من عمرهم (التكوين ١٧: ١٨–٢٤)، ويأتي الآلهة إلى بيوت البشر ويأكلون على موائدهم (التكوين ١٨: ١–٢٣)، وتَلتحِم بعض شخصيات الآباء في صراع جسدي مع الآلهة (التكوين ٣٢: ٢٢–٢٩).
(٢) الخروج من مصر، ودخول كنعان
أما عن زمن الخروج، فهناك اتِّفاق على وضعه قرابة ١٢٦٠ق.م.، إبان حكم الفرعون رمسيس الثاني الذي اشتهر بتشييد المباني العامة والصُّروح الضخمة، اعتمادًا على اليد العامِلة المسخَّرة، والذي اتخذ عاصمة له في منطقة الدلتا، حيث يسهل الفرار إلى بلاد الشام القريبة. وقد ورد في سِفر الخروج، أن خروج بني إسرائيل قد تمَّ من مدينة «رعمسيس» باتجاه «سكوت» (الخروج ١٢: ٣٧). ومدينة رعمسيس معروفةٌ في التاريخ المصري، فهي التي بناها الفرعون رعمسيس الثاني في الدلتا قرب الحدود المصرية الشرقية وأطلق اسمه عليها. إلا أنه رغم الجهود الكبيرة التي بذَلها المؤرِّخون حتى الآن، فقد فشلوا في إيجاد أساس تاريخي لقصة الخروج من مصر، وبقيت النصوص المصرية صامتة صمتًا مطبقًا عن هذا الحدث المركزي في كتاب التوراة. مما يرجح أن الخروج قد قامت به مجموعة صغيرة من الأجراء المسخَّرين فرت بشكل سِلمي، أو سمح لها بالخروج والعودة من حيث أتت. فمن غير المعقول أن يغادر مصر ستمائة ألف مسخر من أشباه العبيد، وينسحبون من الدلتا في قتال تراجُعي نحو برزخ السويس حيث يَهزمون الفرعون ويتسبَّبون في مقتله، دون أن تأتي سجلات ذلك العصر، الذي يُعتبر من أكثر فترات التاريخ المصري توثيقًا، على ذِكرهم.
كل هذا يَجعلنا نلحق سِفر الخروج بسِفر التكوين، باعتباره استمرارًا للقصص الملحمي التي تَعتمِد القليل من الأحداث التاريخية الواقعة. فالسِّفر، كسابقه، مليء بالتهويلات الملحمية، كقصة ولادة موسى وحياته، والأوبئة العشرة التي حلَّت بفرعون وأهل بيته وكل شعبه، وعبور البحر، وقتال العماليق، وبقاء ثياب الهاربين جديدة لا تبلى، وغير ذلك من الأحداث.
بعيدًا عن هذه المواقع الثلاث، تَتفاوت البينات الآثارية فيما يتعلَّق بالمدن التي يروي سِفر يشوع اقتحامها وتدميرها، فمنها ما يتطابق مع التاريخ المفترض لدخول الإسرائيليِّين، ومنها ما يتباعد. ولكن الذي يجعل الأمر أكثر تعقيدًا مما نَعتقده، هو أن الدمار الذي لحق المدن الفلسطينية خلال الربع الأخير من القرن الثالث عشر، لا يُمكن إرجاعه بصورة مؤكَّدة إلى جهة بعينها. فإضافة إلى أحداث سِفر يشوع، وهي أحداث غير مؤكَّدة إلى جهة بعينها. فإضافة إلى أحداث سفر يشوع، وهي أحداث غير مؤكَّدة تاريخيًّا، هناك شعوب البحر الذين كانوا في طريقهم إلى مصر في تلك الفترة، ثم تراجعُوا عنها أمام رمسيس الثالث الذي دفعهم إلى فلسطين وطاردهم هناك، وعلى ذلك فإن جزءًا لا بأس به من المدن المدمَّرة يمكن عزوها إلى شعوب البحر أو إلى رمسيس الثالث نفسه.
وخلاصة القول في موضوع دخول كنعان، هو أنه لم يتوفر لدينا دليل تاريخي يُثبت رواية التوراة، أما الدلائل الأركيولوجية فلا تُؤيد الرواية التوراتية إلا في بعض جوانبها. وحتى في هذه الحالة، فإنَّ الشكوك تبقى قائمةً والبرهان غير أكيد. ومن المرجَّح أن الدخول قد تمَّ بشكل بطيء وسِلمي في معظم الأحوال، وعلى فترات طويلة ومُتباعِدة سمحت للقادمين بالاختلاط مع المقيمين في الأرض واستيعاب ثقافتهم، وأنَّ هؤلاء القادمين لم يدخلوا بأعداد كبيرة من شأنها تغيير الطبيعة السكانية للمنطقة والطغيان على الغالبية الكنعانية الموجودة هناك منذ بدايات التاريخ المكتوب. ومن المؤكَّد أن السيطرة القصيرة للإسرائيليين في مملكتي السامرة ويهوذا، لم تكن إلا سيطرة سياسية لا تعكس بالضرورة تفوقًا عدديًّا.
لقد تداخَلَت في سِفر يشوع الأحداث التاريخية مع الأحداث الملحمية بشكل يَجعل من الصعوبة بمكانٍ فرز الحقيقة عن الخيال.
(٣) عصر القضاة
بعد سِفر يشوع الذي يَصف اقتحام القبائل الإسرائيلية أرض كنعان واستيلاءها على أرض فلسطين كاملة، نجد سِفر القضاة يُعطينا صورةً مختلفة تمامًا عن تلك القبائل المُنتصرة. فبعد الاستقرار في الأرض، نجد أن القادمين ليسوا إلا جماعات مفكَّكة منقسمة على نفسها إلى فريقين متخاصمَين هم القبائل الشمالية والقبائل الجنوبية، وأن خطًّا من المدن الكنعانية القوية تُشكِّله أورشليم وجازر وعجلون يفصل بين المجموعتَين ويمنع اتصالهما، وأن بعض المدن الكنعانية التي من المفترض أنها وقعَت في أيدي الإسرائيليين إبَّان اجتياحهم، تعيش حياتها الطبيعية كمُدن مُستقلَّة، وبعضها الآخر قد سكنه الإسرائيليُّون إلى جانب الكنعانيِّين الذين لم يتمكَّنوا من طردِهم. كما نجد غزاة الأمس المُتجبِّرين ليسوا إلا فِرقًا مُستضعفة واقعة تحت نير جيرانهم الفلستيين، يضطهدونهم ويسومونهم سوء العذاب.
(٤) المملكة الموحدة
بعد خُضوعهم لاضطهاد الفلستيين فترة طويلة قرَّر الإسرائيليون توحيد قواهم تحت قيادة أول ملوكهم «شاؤل» الذي أمضى حياته في قراع الفلستيين، عبر روايات لا تمكن إلا في زمرة الملاحم. وتبلغ الحكمة الملحمية لحياة شاؤل ذروتها، في مشهد موته مع أولاده الثلاثة. نقرأ في صموئيل الأول ٣١: ٢–١٣ [واشتدت الحرب على شاؤل فأصابه الرماة رجال القسيِّ فانجرح جدًّا من الرماة. فقال شاؤل لحامل سلاحه استلَّ سيفي واطعنِّي به لئلا يأتي هؤلاء الغُلف ويطعنونني ويُقبحونني، فلم يشأ حامل سلاحه لأنه خاف جدًّا. فأخذ شاؤل السيف وسقط عليه، ولما رأى حامل سيفه أنه قد مات شاؤل، سقط هو أيضًا على سيفه ومات معه. فمات شاؤل وأبناؤه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله في ذلك اليوم معًا … وفي الغد لما جاء الفلسطينيون ليعدُّوا القتلى، وجدوا شاؤل وبنيه الثلاثة ساقطين في جبل جلبوع، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه … وسمَّروا جسده على سور بيت شان. ولما سمع سكان يابش جلعاد بما فعل الفلسطينيُّون بشاؤل، قام كل ذي بأس وساروا الليل كله وأخذوا جسد شاؤل وأجساد بنيه عن سور بيت شان وجاءوا بها إلى يابيش وأحرقُوها هناك. وأخذوا عظامهم ودفنوها]. وهذا مشهد يليق بملحمة من ملحمتَي هوميروس المعروفتين، وخُصوصًا فيما يتعلَّق بإحراق جثة شاؤل وأولاده قبل دفنهم، وهي عادة غير معروفة في تعاليم التوراة، تركها مُحرِّرو التوراة في حلتها الملحمية هذه رغم تعارضها مع الشريعة.
وخلَف داود شاؤل، بعد أن أظهر بطولات خارقة أثناء خدمته مع شاؤل، استهلَّها بقتلِه فارس الفلستيين «جُليات»، عندما كان فتًى غر لا يَحمل سوى المقلاع وعصا الراعي، وهذه فكرة كثيرة التكرار في ملاحم الشعوب. إضافة إلى ذلك فإن بقيَّة سيرة حياة داود كملك تفشِّي الكثير من العناصر الملحمية المعروفة في الشرق القديم. فقد كان الأصغر بين إخوته الثمانية، مع ذلك اختاره الرب ليخلف شاؤل على المُلك. وهما يُمكن أن نقارن مع ملحمة كرت الأوغاريتية، حيث كان كرت ثامن إخوته. ومثل كرت أيضًا الذي حصل على عروسِه بالحرب، كذلك داود الذي ترتَّب عليه قتل العديد من الفلستيين مهرًا لعروسه. وكلا الملكَين يتعرض لغضب سماوي بسبب خطاياهما، فداود يخطئ بزواجه من زوجة أوريا الحثي بعد أن دبر قتله، وبإحصائه بني إسرائيل، وكرت يُخطئ بنسيانه تقديم النذور للآلهة، فتتعرَّض مملكتا الاثنين للجوائح والمصائب، ويهلك من بني إسرائيل سبعون ألفًا. وشخصية داود في سِفر صموئيل أبعد ما تكون عن ملامح الرصانة التي حاول مُحرِّرو التوراة رسمها لملوكهم، فكان مولعًا بالموسيقى، ويقود موكب الرقص العنيف أمام تابوت العهد بعد معارك النصر كملك وثني.
لقد وحَّد داود قبائل الشمال وقبائل الجنوب، وأسس أول وآخر مملكة موحَّدة لبني إسرائيل. وتقول الرواية التوراتية التي لم يُؤيدها شاهد تاريخي، أن داود بعد أن استقرت له الأمور داخليًّا، قد اتَّجه إلى التوسُّع فأخضع منطقة شرقي الأردن، ثم امتدَّ شمالًا إلى آرام فأخضع دمشق والممالك الآرامية الأخرى. أما ابنه سليمان فقد تفرغ من بعده إلى البناء والتشييد والتجارة والنشاط الدبلوماسي، فبنى هيكل الرب في أورشليم وإلى جانبه المنطقة الملكية بقصورها المتعددة وأبنيتها الإدارية، وجمَّل العاصمة وحصَّنها تحصينًا قويًّا. وإضافة إلى أعماله في أورشليم فقد أعاد بناء ثلاث مدن كنعانية قديمة هي حاصور ومجدو وجازر. وقد بلغ من ثروة سليمان في ذلك الوقت أن سفنَه قد جاءت في إحدى حملاتها محمَّلة بأربعمائة قنطار من الذهب، أي ما يعادل سبعة عشر ألف كيلوغرامًا بأوزاننا المعروفة اليوم، وبلغ من رخاء الناس أنَّ الفضة في أورشليم كانت مثل الحجارة!
أما من الناحية التاريخية، فلا يُمكن التثبت من قيام المملكة الموحدة، ولا من وجود داود وسليمان؛ لأنَّ أخبار هذه المملكة وأسماء ملوكها لم ترد في سجلات الثقافات المجاورة. أما القول بأن المملكة الموحَّدة كانت موجودة لأنَّ انقسامها هو الذي أدَّى إلى نشوء مملكتي إسرائيل ويهوذا، فقولٌ مردود لأنَّنا نعرف الآن أن إسرائيل قد نشأت قبل يهوذا بأكثر من قرن.
وخلاصة القول في أمر المملكة الموحَّدة اعتمادًا على البيِّنات الأركيولوجية والتاريخية، هو أنها لم تكن، في حال وجودها، سوى مملكة صغيرة قامت خلاف فترة قصيرة لا تتجاوَز السبعين عامًا ثم آلت إلى الانهيار.
(٥) المملكة المنقسمة
بعد موت الملك سليمان حوالي عام ٩٣١ق.م.، عادت الخلافات القبلية (وفق الرواية التوراتية) من جديد، وانقسمَت المملكة إلى مملكة يهوذا في الجنوب تحت حكم ابن سليمان المدعو «رحبعام» ومملكة إسرائيل في الشمال تحت حكم «يربعام» ويُمكن القول اعتمادًا على نتائج التنقيب الأثري، أن المملكة الحقيقية المزدهرة قد استمرَّت في الشمال؛ حيث الأراضي الزراعية الخصبة والطرق المفتوحة على التجارة في البر والبحر. أما في المملكة الجنوبية التي لم تَنل من القسمة إلا الأراضي الفقيرة فقد عاشت أورشليم في حالة من العزلة محاطة ببلاد معادية من جهاتها جميعها. وبينما انفتحت السامرة على بقية العالم الكنعاني وصارت جزءًا منه، ازداد انكفاء أورشليم على نفسها تدريجيًّا ودخلت عصر التحجُّر.
وقد رأينا من خلال دراستنا الأركيولوجية لعدد من المواقع الرئيسية في المملكتين تطابق الرواية التوراتية أحيانًا مع نتائج التنقيب الأثري ونصوص الشرق القديم. وهذا يدلُّ على أن أسلوب مُحرِّري التوراة قد بدأ بالتغيُّر فضعُفَ السرد الملحمي للأحداث، وحلَّ محله محاولة لسرد الأحداث بأسلوب تاريخي متسق. غير أنه، ورغم العديد من التقاطعات بين الرواية التوراتية والشواهد الآثارية والتاريخية خلال فترة المملكة المُنقسمة، فإن محرري التوراة كانوا في كثير من الأحيان على شيء من الانتقائية في تقديم الأحداث. فاشتراك الملك آخاب في حلف قرقرة إلى جانب حلف دمشق ضد شلمنصر الثالث لم يَرِد في التوراة، وليس لدينا ما يدعو إلى الشك في صحة الخبر الآشوري المتعلق بذلك، حيث تم تقديم معلومات مفصلة عن عدد الجنود والفرسان والعربات التي قدمها آخاب للمعركة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بخضوع الملك ياهو للعاهل الآشوري وتقبيل الأرض تحت قدميه، الذي أغفلته الرواية التوراتية بينما نراه مُصورًا في منحوتة آشورية بارزة كُتب تحتها: «جزية ياهو بن عمري».
ورغم المحاولة التي هدفت إلى تقديم تسلسلٍ تاريخي متَّسق لأخبار المملكة المنقسمة، فإن الظلال الملحمية بقيَت تؤطر الكثير من الأحداث والأشخاص، فملاك الرب يضرب جنود سنحاريب عند أسوار أورشليم ويقتل ١٨٥ ألفًا من جنوده (الملوك الثاني ١٩: ٣٥) والنبي إيليا أيام الملك آخاب يقتل مائة من جنود الملك أتوا لإحضاره (الملوك الثاني ١: ٣–١٦)، ويذبح أربعمائة من أنبياء البعل بعد تغلُّبه عليهم في منافسة تقديم الذبيحة (الملوك الأول ١٨: ٢٠)، ويفلق مياه الأردن بضربة من ردائه (الملوك الثاني ٢: ٨) وهو يُنزل المطر أو يحبسه عن الأرض (الملوك الأول ١٧: ١، ١٨: ١–٤٦) ويركب عربة نارية تحمله إلى السماء (الملوك الثاني ٢: ١١–١٣).
بناءً على ما تقدَّم كله، نخلص إلى القول بأن كتاب التوراة قد ابتدأ بالأسطورة في مطلع سِفر التكوين، حيث جاء بعدة أساطير تنتمي إلى النسق الميثولوجي السوري–البابلي ثم انتقل إلى السرد الملحمي الذي يعتمد أحداثًا مغرقة في القدم تختلط بالخرافة وتُحيط بها هالات البطولة والمعجزة، بطريقة يصعب معها تبين الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال. بعد ذلك أخذ الخيط التاريخي يتوضَّح تدريجيًّا بين الخيوط المتشابكة للسرد الملحمي، حتى توصل محررو التوراة إلى محاولة للتوثيق التاريخي، يجب التعامل معها بحذر بسبب انتقائيتها وتدخل أهواء أصحابها.
من هنا، يجب تصنيف مضمون الكتاب وَفق هذه الزمر الأربعة وإرجاع كل رواية إلى زمرتها قبل دراستها والتعقيب عليها. فليس من المعقول أن نبحث عن الأساس التاريخي لدمار مدينتي سدوم وعمورة بنار وكبريت من السماء بنفس الطريقة التي نبحث فيها عن الأساس التاريخي لدمار السامرة أو أورشليم، كما فعل الصليبي عندما أعطى القيمة التاريخية نفسها لكلا الحادثَين، انطلاقًا من القبول الكامل بالرواية التوراتية باعتبارها تاريخًا مؤكدًا.