الخروج ومسألة مصر
إن المشكلة الأساسية في مسألة تاريخية التوراة تَكمن، كما أشرنا سابقًا، في عدم توافق الرواية التوراتية، فيما يتعلَّق بدخول الإسرائيليين إلى مصر والخروج منها، مع التواريخ المصرية والسجلات الملكية الفرعونية. ولما كان الخروج من مصر بالطريقة التي قدمتها الرواية التوراتية، يُشكِّل المحور الرئيسي في كتاب التوراة برمته، فقد جهد المؤرخون المهتمون بهذا الموضوع في صياغة نظريات معقولة حول الخروج وزمنه، تجعله في اتفاق مع التاريخ المصري. فقال البعض بأن الإسرائيليين ليسوا إلا جماعة من الهكسوس غادروا مصر إبان الثورة الشاملة التي طردتهم من هناك حوالي عام ١٥٧٠ق.م. وقرن البعض بين العبرانيين والمعابيرو الذين كانوا يهاجمون المدن الفلسطينية خلال فترة تل العمارنة في مصر. وقام فريق ثالث بالتوسط بين النظريتين، فقال إن الإسرائيليين قد خرجوا من مصر مع الهكسوس ودخلوا فلسطين باعتبارهم عابيرو، بعد فترة تجول تزيد عما ذُكر في التوراة.
ونظرية الصليبي في مسألة الخروج، تعتمد بدورها على القبول بحرفية الرواية التوراتية والبحث عن منفذ للخروج من مأزقها التاريخي، ولكن دون مساس بتواريخ الشرق القديم، بل بإلغاء أيَّة إمكانية للمقارنة بينها وبين الرواية التوراتية، وذلك بنقلِ مسرح الحدث إلى غرب العربية حيث تنعدم التواريخ والأحداث التاريخية الثابتة.
وقد تعامل الصليبي مع مسألة مصر بحرية أكبر مما رأيناه في مسألة الأردن. فإذا كان الأردن تارةً الجرف الرئيسي لسراة عسير، وتارةً ثانية أيُّ مَرتفع من القمم والمُرتفعات التي لا تحصى في الجانب البحري من عسير وجنوب الحجاز، وتارةً ثالثة أي مجرى أو مسيل أو بركة ماء، فإنَّ موقع مصر يَنتقِل عند الصليبي من إفريقيا إلى الجزيرة العربية جيئة وذهابًا، وفق الحادثة التوراتية المترافقة معها. فإن كان للحادثة التوراتية تقاطع ثابت مع واقعة تاريخية مثبتة، لم يجد الصليبي مناصًا من الاعتراف بأن المقصود بالكلمة التوراتية «مصريم» هو مصر الفرعونية، وإن لم يكن للحادثة أي تقاطع تاريخي ثابت، أخذها بحرفيتها كحادثة تاريخية، ووجد لمصريم المرتبطة بها موقعها المناسب، فهي إما قرية «المصرمة» في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية «مصر» في وادي بيشة في عسير الداخلية أو «آل مصري» في منطقة الطائف.
ففيما يتعلق بحملة الفرعون «شيشق الأول» على مملكة يهوذا والوارد ذِكرها في سِفر الملوك الأول ١٤: ٢٥–٢٨ يعترف الصليبي بأن المقصود بمصريم هنا هو مصر الفرعونية. وهو لا يستطيع غير ذلك؛ لأنَّ شيشق الأول (٩٤٥–٩٢٤ق.م.) معروف تاريخيًّا على أنه الفرعون الأول من الأسرة الثانية والعشرين في مصر، وأخبار حملته مذكورة في السجلات المصرية بتفاصيلها. وكذلك الأمر فيما يتعلق بحملة الفرعون «نخو» وهزيمته من قبل البابليين عند الفرات، الوارد ذِكرها في سِفر الملوك الثاني من الأسرة السادسة والعشرين في مصر، وأخباره مذكورة في سجلات وادي الرافدين.
هذا جلُّ ما يذكره الصليبي عن رواية الخروج من مصر وهو رغم تحديده للمكان الذي خرج منه الإسرائيليون بالمصرمة في القسم الجنوبي لمُرتفَعات عسير (انظر خريطة الصليبي رقم ٦). وتحديده لمكان الانطلاق لعبور الأردن بمنطقة الطائف في الشمال (انظر خريطة الصليبي رقم ٧)، إلا أنه لم يُعنَ بدراسة مسار الخروج من المصرمة إلى الطائف، وذلك فيما عدا بضع إشارات ثانوية في هوامش الصفحة ٧٠ والصفحة ٥٢. ولعلَّ السبب الأساسي في ذلك، هو عدم مقدرته على حل مشكلة عبور البحر الذي شقَّه موسى بعصاه ومشى فيه على اليبس مع أتباعه.
في تعرفه على جبل حوريب يستعين الصليبي هذه المرة بالقرآن الكريم، فيقول إنَّ القرآن الكريم حيثما تكلم عن الآباء العبريين أو عن إسرائيل أو عن الأنبياء اليهود، أشار إلى عدد من الأماكن التي هي من الأسماء المعروفة في غرب شبه الجزيرة العربية. وحيث يُمكن للتوراة مثلًا أن تعطي اسم جبلٍ في غرب العربية، فإن القرآن قد لا يعطي اسم هذا الجبل، بل اسم وادٍ أو بلدة أو اسم موقع آخر في الجوار نفسه. وحتى الآن جرى البحث عن جبل حوريب التوراتي في سيناء ولم يُعثر عليه بهذا الاسم. ولكن القرآن يقول لنا بدقَّة أين كان حوريب، فهو مُرتفَع جبلي في المنطقة البحرية من عسير، ويُسمى اليوم جبل هادي. وعلى سفح جبل هادي هناك قرية ما زالت تُدعى حتى اليوم «الطوَّا» يُمكن أن تكون قد أعطَت اسمها ذات يوم إلى رافد مُجاور يَصب في وادي بقرة، ولا بدَّ أن هذا الرافد هو الوادي المقدس طوى المذكور في القرآن، وفي وادي بقرة، توجد هناك حتى اليوم قرية تُدعى «حارب» لا بد أن تكون قمة جبل هادي المجاورة قد أخذت منها (ص٦٩–٧٠).
والاستشهاد هنا يتمُّ بما ورد في سورة القصص ٢٩–٣٠ حيث نقرأ: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وبما ورَد في سورة طه: ١١–١٢: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. والحقيقة، فإنَّ كمال الصليبي في استشهاده بالقرآن الكريم قد قدَّم نصف الحقيقة فقط؛ لأن جبل الطور الذي بالواد المقدس طوى يقع في سيناء على ما تذكره آيات أخرى، وهذا يتطابق مع الرواية التوراتية عن مكان حبل حوريب. نقرأ في سورة التين: ٢–٣: وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، وفي سورة المؤمنون: ٢٠: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ.
ويَرتبط بمصر في التوراة بلد آخر اسمه «كوش» الذي يرد في مُعظم المواضع مُقترنًا بمصر. وبما أن النصوص التوراتية توحي بأن كوش تقع إلى الجنوب من مصر، فقد طابق الباحثون بينها وبين الحبشة، خصوصًا وأن الترجمة السبعينية تورد الاسم تارةً بصيغته العبرية «كوش» وتارة تُترجمه إلى الحبشة. ولكن الكثير من المؤرِّخين وعلماء اللغات القديمة يَميلُون إلى اعتبار كوش على أنها أرض النوبة.
غير أن للصليبي رأيًا مختلفًا في هذه المسألة، فهو بعد أن نقل مصر إلى غرب العربية كان لا بدَّ من نقل كوش معها، حيث يعثر على مكانها القديم في موقع «الكوثة» اليوم قرب خميس مشيط … وهو يتَّخذ من رواية هجوم «زارح الكوشي» على مملكة يهوذا منطلقًا لإثبات وجهة نظره. نقرأ في سِفر أخبار الأيام الثاني ١٤: ٩: [فأخرج إليهم زارح الكوشي بجيش ألف ألفٍ، وبمركبات ثلاثمائة وأتى إلى مريشة. ودعا آسا الرب وقال … فضرب الرب الكوشيين أمام آسا وأمام يهوذا، فهرب الكوشيون وطردهم آسا والشعب الذي معه إلى جرار … وضربوا جميع المدن التي حول جرار؛ لأن رعب الرب كان عليهم، ونهبوا كل المدن لأنه فيها نهب كبير].
وتعليقًا على هذه الرواية يقول الصليبي: [وتَبرُز مشكلات أخرى من خلال ذكر جرار في أخبار الأيام الثاني ١٤؛ حيث تبدو البلدة وكأنها تخصُّ الكوشيين. وقد عرف هؤلاء الكوشيون تقليديًّا بكونهم حبشيين … وإذا نحن سلَّمنا بأنَّ الكوشيين كانوا بالفعل حبشيين، يبقى هناك السؤال كيف تيسَّر لهؤلاء الحبشيِّين أن يسيطروا على أرض هي أرض جرار، ويَفترض أنها كانت في فلسطين؟ وهل كان هؤلاء الحبشيُّون مصريِّين من عهد الأسرة الخامسة والعشرين؛ أي الأسرة الحبشية (٧١٦–٦٥٦ق.م.)؟ هذا أمر غير معقول باعتبار أن سيطرتهم على جرار كانت في عهد آسا ملك يهوذا الذي تُوفِّي قبل عهد الأسرة الحبشية هذه بحوالي قرن ونصف القرن … ولحلِّ هذا اللغز الغامض المحيط بجرار قد يكون من الأفضل الانطلاق من الدليل الوارد في أخبار الأيام الثاني ١٤. ومحاولة تحديد الهوية الحقيقية للكوشيين المذكورين في هذا النص، وكما أُشير سابقًا، فإن كوش يترافق ذكرها في النصوص التوراتية مع مصريم التي تشير بالتأكيد إلى مصر في بعض الفقرات التوراتية، أما في أماكن أخرى في التوراة فإن مصريم تشير إلى أي من المواقع العديدة في غرب شبه الجزيرة العربية، بما فيها قرية المصرمة في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية مصر في وادي بيشة في عسير الداخل، والباحث عن كوش في ذلك الجوار العام يجدها فورًا في «الكوثة» - كوث - قرب خميس مشيط].
وفي الواقع فإن الرواية التوراتية لم تذكر أن قائد القوة المهاجمة كان ملكًا لمصر أو حتى ملكًا لكوش، بل اكتفت بوصفه بالكوشي. وفي ذلك دلالة مهمة وواضحة على أن الكوشيين لم يصعدوا من إقليم في جنوب مصر إلى مملكة يهوذا، بل كانوا يعملون لمصلحة فرعون مصر، وإلا لكان النص قد وصف زارح بأنه ملك كوش، كما وصف «ترهاقة» فيما بعدُ، ولدينا أكثر من بيِّنة نصية على تواجدٍ مكثف للقوات الكوشية في الجيش المصري (راجع أخبار الأيام الثاني ١٢: ٣) وأغلب الظن أن زارح هذا لم يكن سوى قائد مصري من أصل حبشي أو نوبي توجه بأمر من الفرعون على رأس حملة قوامها الكوشيون لتأديب ملك يهوذا، وقد سيطروا في طريقهم على مدينة جرار وجوارها من أراضي الفلستيين. وعندما صدهم آسا تراجعوا إلى جرار التي كانت بمثابة قاعدة المؤخَّرة لحملتهم. وعندما أخلوها نهبها آسا مع المواقع المجاورة لها، والتي لم تكن أصلًا من أملاكه.
ويتكرَّر ذِكر كوش مرارًا كثيرة في التوراة، وغالبًا ما تُذكر بالترافُق مع ممالك كبرى مثل فارس والهند وعيلام وفوط (ليبيا)، الأمر الذي يؤكد صحة مطابقتها مع الحبشة أو بلاد النوبة، ويستبعد «كوثة» الصليبي في غرب العربية من مسرح الأحداث نقرأ في سِفر إشعيا ١١: ١١ [ويكون في ذلك اليوم أن الرب يُعيد يده ليقتني بقية شعبه التي بقيت من آشور ومن مصر ومن فتروس ومن كوش ومن عيلام ومن شنعار ومن حماة ومن جزائر البحر]. وفي حزقيال ٣٨: ٥ [وأخرجك أنت وكل جيشك خيلًا وفرسانًا كلهم لابسين أفخر لباس … فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجنٍّ وخوذة …].
وحيثما ذكرت كوش بالترافق مع مصر، كانت الإشارة واضحة في النص إلى مصر الفرعونية، الأمر الذي يستبعد «مصرمة» و«كوثة» كمال الصليبي في غرب العربية. نقرأ في إرميا ٤٦: ٧–٩: [من هذا الصاعد كالنِّيل، كأنهار تتلاطم أمواجها تصعد مصر كالنيل، وكأنهار تتلاطم المياه. فيقول (الربُّ) أصعد وأغطي الأرض، أهلك المدينة والساكنين فيها، اصعدي أيتها المركبات ولتخرج الأبطال. كوش وفوط القابضان المجن …]. وفي حزقيال ٢٩: ٩–١٠: [ويأتي سيف على مصر، ويكون في كوش خوف شديد عند سقوط القتلى في مصر … ويسقط عاضدو مصر وتنحطُّ كبرياء عزتها من مجدل إلى أسوان]. وفي حزقيال ٢٩: ١٠: [لذلك ها أنا ذا عليك وعلى أنهارك، وأجعل أرض مصر خربًا خربة مقفرة من مجدل إلى أسوان إلى تخم كوش]. إضافة إلى ارتباط كوش بمصر الفرعونية في هذه النصوص، فإنَّ فيها إشارة واضحة إلى موقع كوش إلى الجنوب من مصر، فهي تلي مناطق أسوان في أقصى جنوب مصر.
وفي النصوص التوراتية التي ترد فيها كوش غير مقترنة بغيرها من البلدان يتضح من وصفها أنها ليست سوى ذلك الجزء الذي يلي مصر على حوض النيل. نقرأ في سِفر إشعيا ١٨: ١: [يا أرض حفيف الأجنحة التي في عبر أنهار كوش، المرسلة رسلًا في البحر وفي قوارب من البردي التي تَسير على وجه المياه. اذهبوا أيها الرسل إلى أمة طويلة وجرداء إلى شعب مخوف]. إنَّ التعابير المستعمَلة هنا مثل أنهار كوش وقوارب البردي التي تَسير على وجه المياه، والرسل التي تعبر البحر، لا يمكن أن تشير إلا إلى بيئة لها علاقة بنهر النيل وإفريقيا.
وهناك بينة منطقية تستمدها من أخبار حملة شيشانق ملك مصر على أورشليم الواردة في أخبار الأيام الثاني ١٢: ١–٤: [وفي السنة الخامسة للملك رحبعام، صعد شيشق ملك مصر على أورشليم؛ لأنهم خانوا الرب، بألف ومائتي مركبة وستين ألف فارس ولم يكن عدد للشعب الذين جاءوا معه من مصر، لوبيين وسكيين وكوشيين. وأخذ المدن الحصينة التي ليهوذا وأتى إلى أورشليم]. فإذا كانت حملة شيشانق قد تمَّت، كما يقول الصليبي ضد غرب العربية، فكيف حوت في صفوفها الكوشيين من أهل «الكوثة» وهي مدينة في غرب العربية ذاتها؟ وما الذي حوَّل بأهل الكوثة إلى مصر ليعودوا مرةً أخرى كعناصر مقاتلة في جيشها إلى جانب عناصر إفريقية أخرى مثل اللوبيين والسكيين؟
أما الآشوريون فقد دعوا «كوش» باسم «كوشو»، ويتَّفق مع ما ورد في سجلاتهم عنها مع ما تحصَّل لدينا من النصوص التوراتية والمصرية. نقرأ في التوراة عن أول احتكاك بين الآشوريين والكوشيين في سِفر الملوك الثاني ١٩: ٨–٩، حيث يَصعد «ترهاقة» ملك كوش لنجدة ملك يهوذا الذي حرضه على آشور [فرجع ربشاقي ووجد ملك آشور (سنحاريب) يحارب لبنة لأنه سمع أنه ارتحل عن لخيش. وسمع عن ترهاقة ملك كوش قولًا: قد خرج ليحاربك. فعاد وأرسل رسلًا إلى حزقيا قائلًا هكذا تكلمون حزقيا ملك يهوذا قائلين …]. وترهاقة ملك كوش المذكور في هذا النص، هو الفرعون الثالث من الأسرة الخامسة والعشرين والتي تُدعى بالأسرة الحبشية ولم يكن في عهد سنحاريب قد ارتقى العرش، بل كان يعمل قائدًا في خدمة الفرعون السابق، ثمَّ ارتقى العرش قبل عدة سنوات من ارتقاء «أسرحادون» كآخر فراعنة الأسرة الحبشية. وكما وجدنا ترهاقة يتدخل في السياسة الفلسطينية أيام الملك حزقيا، كذلك نجده وقد صار فرعونًا يتدخَّل في شئون الساحل الفينيقي محرضًا الممالك الفينيقية على آشور نقرأ في نص لأسر حادون:
بعد فتح مصر وكوش، يقوم أسر حادون بتعيين ملوك مصريين محليين في مختلف المقاطعات تابعين له مُباشرةً ويعود إلى آشور، غير أن ترهاقة الذي توارى عن الأنظار في الأحراش يعود إلى تنظيم قواته ويستولي على مصر مجددًا، ويطارد الملوك المعنيين من قِبل آشور، فيحمل عليه خليفة أسر حادون «آشور بانيبال». نقرأ في خبر هذه الحملة:
فأين «المصرمة» و«الكوثة» في هذا الإطار الواسع لتاريخ الشرق القديم؟
(١) استطراد حول الخروج: قصة بلعام بن بعور
نقرأ في العدد ٢٢: ١–٨ [وارتحل بنو إسرائيل ونزلوا في عربات موآب من عبر الأردن أريحا … وكان بالاق بن صفور ملكًا لموآب في ذلك الزمان. فأرسل رسلًا إلى (العرَّاف) «بلعام بن بعور» إلى «فتور» التي على النهر في أرض بني شعبه ليدعوه قائلًا: هو ذا شعب قد خرج من مصر هو ذا قد غشى وجه الأرض، وهو مُقيم مُقابلي، فالآن تعالَ والعن لي هذا الشعب لأنه أعظم مني، لعله يُمكننا أن نكسره فأطرده من الأرض، لأني عرفت أنَّ الذي تباركه مباركٌ والذي تلعنه ملعونٌ. فانطلق شيوخ موآب وشيوخ مديان، وحُلوان العرافة بين أيديهم وأتوا إلى بلعام وكلموه بكلام بالاق، فقال لهم بيتوا هنا الليلة فأردُّ عليكم جوابًا كما يكلمني الرب فمكث رؤساء موآب عند بلعام].
لقد كان بلعام بن بعور شخصيةً دينية آرامية رفيعة المقام، كما يبدو من النص التوراتي والنص الآرامي. وقد بقيت ذكراه قائمةً في الذاكرة الشعبية، ثم انتقلت بطريقة ما إلى الرواية التوراتية. وها هو يخرج إلينا من تحت أنقاض موقع آرامي عريق، ليذكرنا بأن التاريخ يكتب بمعول التنقيب، لا بالتأمُّلات اللغوية الذهنية.