الفصل السادس

بلاد العرب

كان العرب يتحكَّمون بالطرق التجارية الكبرى التي تصل تجارة الهند واليمن بمناطق بلاد الشام الداخلية وثغورها الساحلية، كما كانوا يسيطرون على الطرق الواصلة بين بلاد الرافدين وسورية عبر بادية الشام. وكان النزاع على هذه الخطوط التجارية هو الدافع إلى الحروب العربية الآشورية التي ابتدأت منذ الغزوات الآشورية المنظِّمة للمنطقة، ولهذا، كان من الطبيعي أن نعثر على أول ذِكر للعرب في السجلات التاريخية، في أخبار القرن التاسع قبل الميلاد وعلى وجه التحديد في سجل شلمنصر الثالث عن معركة قرقرة، التي قررت مصير السياسة الآشورية في بلاد الشام، فلقد شاركت القبائل العربية في حِلف قرقرة ضد شلمنصر الثالث، وقدَّم زعيمها «جنديبو العربي» إلى المعركة فرقةً من الهجانة كاملة العتاد والتسليح.

غير أن كمال الصليبي ينفي أن تكون الكلمة الآشورية «أريبي» التي وصف بها جنديبو في النص، هي النسبة إلى «عرب» ويرجِّح أن تكون نسبة إلى موقع في عسير يُدعى اليوم «عربة» أو «عرابة»، ثم يجد لجنديبو نفسه أثرًا اسميًّا ما زال قائمًا اليوم في قبيلة اسمها «بنو جندب» تعيش في أواسط عسير (ص٣٧). ولكن النصوص الآشورية اللاحقة، التي ورد فيها ذِكر العرب وبلاد العرب، والتي لم يشر إليها الصليبي، توضح بما لا يدع مجالًا للشك أن الكلمة الآشورية «آريبي» هي نسبة إلى العرب، وأن هؤلاء هم شعب كبير متنوع في تقسيماته القبلية ومتوزع في مختلف أنحاء الجزيرة العربية وبادية الشام وسيناء.

يرد ذِكر العرب مرةً ثانية في سجلات «تغلات فلاصر الثالث» (٧٤٤–٧٢٧ق.م.) حيث نعلم عن استلامه الجزية من ملكة عربية اسمها «زبيبة»، وقهره لملكة أخرى اسمها «شمسة». ونعرف من المناطق التي أرسلت إليه الجزية، بعد استسلام الملكة «شمسة»، «تيماء» و«سبأ». وفي نص ﻟ «صارغون الثاني» (٧٢١–٤٠٥ق.م.) نقرأ عن القبائل العربية التي قهرها هذا الملك وبينها قبيلة «ثمود»: [بناء على نبوءة صادقة من إلهي آشور سرتُ وقهرت ثمود وإباديدي ومارسيمانو وحايبا، العرب الذين يعيشون بعيدًا في الصحراء، الذين لا يعرفون البحار ولا الرؤساء، ولم يأتوا بجزيتهم لأي ملك، لقد أبعدت من بقي منهم حيًّا وأسكنتهم في السامرة].١
وفي نص ﻟ «أسر حادون» (٦٨٠–٦٦٩ق.م.) نقرأ معلومات وافية عن العرب: [من «أدوماتو» معقل العرب الذي فتحه أبي سنحاريب وأخذ منه الجزية والأسلاب وصور الآلهة وساق إلى آشور ملكة العرب «إشكالاتو»، أتى حزائيل ملك العرب بهدايا كثيرة إلى نينوى حاضرة مُلكي، وقبَّل قدميَّ وتوسَّل من أجل إعادة صور آلهته. عطفت عليه، وأصلحت العطب الذي لحق بصور «عتر - شمين» و«داي» و«نوحاي» و«رولداو» و«أبيريللو» و«عتر - قورما» آلهة العرب، وأعدتها إليه بعد أن نقشت عليها كتابةً تعلن عظمة «آشور» مولاي، وتذكر اسمي. ثم جعلت عليهم ملكة، «طاربو» التي ترعرعت في قصر أبي، فأعدتها إلى بلادها مع آلهتها. وعندما وافت المنية حزائيل، وضعتُ على عرشه ابنه «ياطع» Iata، وفرضت عليه جزيةً إضافية … بعد ذلك أهاج «أوابو» Uabu (ربما وهب بالعربية) كل العرب ضد ياطع ليستأثر بالملك، ولكني — أنا أسر حاجون، ملك آشور ملك الجهات الأربع، المحب للعدالة والمبغض للخديعة — أرسلت جيشي لنجدة ياطع، فأخضع كل العرب وهزم أوابو ومقاتليه، وأتى بهم إليَّ مكبلين بالأصفاد، فوضعت أطواقًا في أعناقهم وقيدتهم إلى أعمدة بوابتي].٢
وفي نص ﻟ «آشور بانيبال» (٦٦٨–٦٣٣ق.م.) نقرأ: [في حملتي التاسعة جمعتُ قواتي وسرتُ ضد «يواطي» Uate ملك بلاد العرب (أريبو)، لأنه حنث بالعهد ونسي معاملتي الحسنة له، فرفع عنه نير حكمي الذي فرضه عليه مولاي آشور. لقد امتنع عن المجيء والسؤال عن صحتي، ومنع الجزية والهدايا، واستمع إلى تحريضات «أكاد» على الثورة، كما فعلت عيلام، ولم يأبه لعهوده معي وقسَمه … بعد أمرٍ أُوحي إليَّ من آشور وعشتار، أهبت بجيشي وهزمته في معركة دموية … قهرت كل أهل بلاد العرب ممن ثاروا معه … وقام جيشي بإحراق الخيام التي يعيشون فيها. أما يواطي، فقد هرب وحيدًا إلى بلاد الأنباط Nabati].٣
وفي نصٍّ آخر ﻟ «آشور بانيبال»، نعرف عن القبائل العربية التي أطلقت عليها التوراة اسم «قيدار»: [«أمولاي» ملك «قيدار» Qi–da–ri، هب لقتال ملوك بلاد العرب التي وهبها لي آشور وعشتار وبقية الآلهة العظام. ولكني بناءً على وحي صادق من آشور وسن وحدد ونيبو وعشتار وننورتا ونرجال ونسكو، قمت إليه وهزمته وقبض عليه رجالي حيًّا، ومعه أيضًا «عادية» Adia زوجة يواطي ملك بلاد العرب، وأتوا بهما إليَّ] … وفي نصٍّ آخر: [… وأما عادية ملكة بلاد العرب، فقد هزمتُها هزيمةً منكرة، وأحرقت خيامها وقبضت عليها حيةً، وأتيت بها مع الأسري الآخرين إلى آشور].٤ ولكن الملك يواطي الذي توارى عن الأنظار في بلاد الأنباط، يعود إلى الظهور وإثارة الفتن في وجه الآشوريين بالتعاون مع الأنباط تارةً والقيداريين تارةً أخرى، مما نستطيع تتبعه في عدة نصوص آشورية أخرى، يوصف في بعضها بملك الإسماعيليين Su–Mu–Il، حتى يقبض عليه آشور بانيبال حيًّا.٥

هذه الصورة الواضحة للعرب وبلادهم، التي ترسمها لنا السجلات الآشورية هي التي نراها أيضًا في أسفار التوراة. فبلاد العرب ليست مجاورة لمملكتي يهوذا وإسرائيل، وأهلها لا يمتون بصلة لأهل التوراة، بل هم شعب مغاير لهم في كل شيء، ولا تربطه بهم رابطة قريبة كانت أم بعيدة.

نسمع بأخبار العرب في التوراة، منذ أيام الملك سليمان. ففي سِفر الملوك الأول وأخبار الأيام الثاني، نجدهم تجارًا يؤمون أورشليم: [وكان وزن الذهب الذي جاء سليمان في سنة واحدة ستمائة وستًّا وستين وزنة ذهب، فضلًا عن الذي جاء به التجار والمستبضعون، وكل ملوك العرب وولاة الأرض، كانوا يأتون بذهب وفضة إلى سليمان] (الأيام الثاني ٩: ١٣–١٤)، ثم نراهم بعد ذلك غزاة متحالفين مع خصوم مملكة يهوذا: [وأهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين، فصعدوا إلى يهوذا وافتتحوها وسبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضًا] (الأيام الثاني ٢١: ١٦–١٧) … [ولما سمع سنبلط وطوبيا والعرب والعمونيون والأشدوديون أن أسوار أورشليم قد رُممت والثغر ابتدأت تُسد، غضبوا جدًّا وتآمروا جميعًا أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضررًا] (نحميا ٤: ٧–٨).

والعرب يسكنون في بلاد الوعر وفيافي العطش. ونعرف من قبائلهم في أخبار التوراة «تيماء» و«قيدار» و«دان»، وجميعها واردة في سجلات بابل وآشور. نقرأ في سِفر إشعيا ٢١: ١٣–١٧ [وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين. هاتوا ماء لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا … فإنه هكذا قال لي السيد، في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل، لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم].

وتنسب الرواية التوراتية أهل تيماء إلى «تيما» بن إسماعيل (التكوين ٢٥: ١٥؛ والأيام الأول ٢٢: ١–٣٠. وتذكر تيماء بالترافق مع سبأ (أيوب ٦: ١٩؛ وحزقيال ٢٧: ٢١–٢٢)، ومع ددان (إشعيا ٢١: ١٣ و١٤؛ وإرميا ٢٥: ٢٣). وهي تقع اليوم في القسم الأعلى من جزيرة العرب، في منتصف المسافة بين مكة ودمشق. أما ددان فكانت محطًا للقوافل ومركزًا للتجارة الآتية من اليمن والهند، وتقع إلى الجنوب الغربي من تيماء، واسمها الحديث «العلا». وكان الددانيون من التجار المرموقين في العالم القديم، نقرأ في سِفر حزقيال في معرض حديثه عن صور: [ددان تاجَرَتْك بطنافيس للركوب. العرب وكل رؤساء قيدار هم تجار يدك، بأفخر كل أنواع الطيب وبكل حجر كريم والذهب وأقاموا أسواقك] (حزقيال: ٢٠–٢٢).

أما بنو قيدار فينسبهم سِفر التكوين ٢٥: ١٣ إلى «قيدار» وهو بن إسماعيل الثاني، وهم كما يخبرنا سِفر إرميا يعيشون تحت الخيام ويربون الغنم والجمال: [عن قيدار وعن ممالك حاصور التي ضربها نبوخذ راصر ملك بابل، هكذا قال الرب، قوموا اصعدوا إلى قيدار واخربوا بني المشرق، يأخذون خيامهم وغنمهم ويأخذون لأنفسهم شققهم وكل آنيتهم وجمالهم وينادون إليهم الخوف من كل جانب] (إرميا ٤٩: ٢٨–٢٩). ويطلعنا سِفر نحميا على اسم أحد ملوكهم المدعو «جشم» الذي استطعنا أن نحصل عنده على تقاطع تاريخي يثبت وجوده وتاريخ حكمه. فعندما كان نحميا يبني سور أورشليم الجديد حوالي عام ٤٥٠ق.م.، أثار عمله توجُّس القبائل التي كانت تستفيد من طريق التجارة المفتوح إلى فينيقيا: [فلما سمع سنبلط وطوبيا وجشم العربي وبقية أعدائنا أنني قد بنيت السور ولم تبقَ فيه ثغرة، أرسل سنبلط وجشم إليَّ قائلين هلمَّ نجتمع معًا في القرى في بقعة أونو، وكانا يفكران أن يعملا بي شرًّا] (نحميا ٦: ١–٢). وقد تم العثور في «تل المسخوطة» عند قناة السويس قرب الإسماعيلية (وهي المنطقة الحدودية مع سيناء قديمًا) على بضع طاسات فضية عليها نقوش آرامية قصيرة، كُتب على إحداها: [نذر إلى «هان - إيلات» من «قينو» بن «جشم» مَلِك قيدار …] ويرجع هذا الأثر بتاريخه إلى بحر القرن الخامس قبل الميلاد،٦ أي إلى فترة نحميا كاتب السِّفر المعروف.

ويرد في سِفر إشعيا خبر ذو دلالة عن قيدار ومدينتهم «سالع» التي هي «بيترا» المدينة النبطية المعروفة: [لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رءوس الجبال ليهتفوا] (إشعيا ٤٢: ١١). ومدينة سالع الواردة هنا كانت تابعة للآدوميين الذين امتدت مناطقهم من جنوب البحر الميت إلى خليج العقبة وصحراء سيناء، وكانت على ما يذكره سِفر عوبديا: ٣ قطعة حصينة يهرع إليها الآدوميون وقت الحصار، ويقيمون في الأعالي في شقوق الصخر. ولكن يبدو، وفق رواية إشعيا أعلاه، أن القيدرايين قد استولوا عليها فيما استولوا من أراضي الآدوميين، وأن الأنباط الذين تلوهم لم يكونوا سوى فريقًا فيداريًّا أقام في سالع بصورة دائمة، وتحوَّل اسمها إلى بترا فيما بعد. واسم بترا يعني باليونانية الصخر، وكذلك اسم سالع بالكنعانية.

من هذه الشواهد النصية من كتاب التوراة وتقاطعاتها المتنوعة، نستنتج أن العرب الواردين في التوراة بشتى قبائلهم وفروعهم، لا علاقة لهم بموقع «العربة» في منطقة عسير (على حد قول الصليبي). وبلاد العرب المقصودة في التوراة، هي جزيرة العرب بما فيها عسير واليمن، حيث تذكر سبأ والسبئيين إلى جانب بقية الجماعات العربية، وهذه الأرض لا علاقة لها بمملكة يهوذا وإسرائيل.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إذا كانت ذكرى غرب العربية قد انمحت من ذاكرة اليهود تدريجيًّا، وذلك اعتبارًا من القرن الخامس قبل الميلاد، وأخذوا ينظرون إلى فلسطين باعتبارها المسرح المركزي للحدث التوراتي (ص٤٢–٤٩) فكيف تنمحي هذه الذكرى من كل مصادر التاريخ القديم؟ لقد كان المؤرخون الإغريق قريبين زمنيًّا من أواخر عهد دولة يهوذا، وكتبوا بدقة وتفصيل عن شعوب وأحوال جزيرة العرب، فلماذا لم يتطرقوا إلى دولة اسمها يهوذا موجودة في عسير، ولماذا لم يحكوا عن تاريخها القديم وأخبارها؟ لماذا صمت عنها «هيرودوتس» الملقب بأبي التاريخ والذي عاش بين ٤٨٠ و٤٢٥ق.م. وزار معظم مناطق الشرق القديم فأسهب في الرواية عن تاريخها، ووصف بلداتها وعادات أهلها ودينهم وطقوسهم، مما رآه بأم عينه أو سمع مباشرةً أخباره من أصحابها. ومثله «ثيوفراست» الذي عاش في القرن الرابع بين عامي ٣٧٢ و٣١٢ق.م. وبعده «إيراتوسيتن» و«ديودور الصقلي» و«سترابو» و«بليني» وغيرهم. كيف حيكت مؤامرة الصمت على هذا النطاق العالمي، لتُهتك أسرارها في أواخر القرن العشرين بعد الميلاد؟

إن مَن يقرأ الوصف الدقيق لأحوال بلاد العرب في تاريخ هيرودوتس يدرك مدى الدقة في أعمال المؤلفين الكلاسيكيين وجهدهم الكبير في تحري الحقائق يقول هيرودوتس في بعض المقاطع التي تصف بلاد العرب:

[ومن جهة الجنوب، آخر المعمور، بلاد العرب. وفيها وحدها يوجد البخور والمُر والقرفة والدارصيني واللاذن، والعرب يَجْنون كل هذه الأشياء بتعبٍ جزيل إلا المر. ولكي يجنوا البخور، يحرقون تحت الأشجار التي تولِّده صمغًا يُسمى ميعة يأتي به الفينيقيون إلى الأغارقة … وعلى هذه الطريقة يجني العرب البخور. ولكن طريقة جني القرفة هي هذه: حينما يذهبون في طلبها يغطون أبدانهم ووجوههم أيضًا إلا العيون بجلود الثيران والماعز، والقرقة تنبت في بحيرة قليلة العمق، وعلى هذه البحيرة وحولها توجد حيوانات من جنس الطير تشبه الخفافيش فتصيح صياحًا شديدًا، وهي قوية جدًّا فيجتهد العرب بدفعها ويقون عيونهم، وبهذا التحفظ يجنون القرفة … وتستنشق في بلاد العرب رائحة زكية جدًّا، والعرب عندهم نوعان من الغنم يستحقان الاعتبار … وبلاد الحبشة تمتد غربي بلاد العرب باتجاه الجنوب، وهذه آخر البلاد المعمورة، ويحصل منها كثير من الذهب وفيلة ضخمة جدًّا. وكل أنواع الأشجار البرية والأبنوس. والرجال فيها كبار الأبدان حِسان الصور كاملوا البنية ويعمرون طويلًا …].٧
ويقول ديودور الصقلي في أحوال الأنباط في مطلع تاريخهم أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، نقلًا عن شاهد عيان معاصر لتلك الفترة اسمه «هيرونيموس القرديائي»: [لقد آلوا على أنفسهم ألا يبذروا حبًّا ولا يغرسوا شجرًا يؤتي ثمرًا، ولا يعاقروا الخمرة ولا يشيِّدوا بيتًا، ومَن فعل ذلك كان عقابه الموت. وهم ملتزمون بهذه المبادئ، لأنهم يعتقدون أن من تملَّك شيئًا استمرأ ما ملك، واضطر من أجل ذلك أن ينصاع لما يفرضه عليه ذوو القوة والجبروت … وثمة قبائل عربية كثيرة تتخذ الصحراء مراعي لقطعانها ولكن الأنباط يفوقون الجميع بثرائهم].٨
ومن ناحية أخرى فلو أن مملكتي يهوذا وإسرائيل قد قامتا في عسير لجاورتا طيلة حياتهما حضارات اليمن من سبأ ومعين وقتبان، فماذا تحدث المؤلفون الكلاسيكيون عن دول اليمن وشعوبها، ولم يتحدثوا عن الدول والشعوب المفترضة في عسير؟ يقول «ثيوفراست» عن بلاد اليمن: [هناك تنبت أشجار البان والمر والدارصيني في بلاد سبأ وحضرموت وقتبان ومالي. والجبال هناك مرتفعةٌ ومغطاة بالثلوج والنباتات، وتنفجر منها أنهار تجري إلى الأودية والسهول … وكان من عادة الذين يجنون اللبان والمر أن يحملوه من كل ناحية إلى هيكل إله الشمس الذي لم يكن لهم بيت تبلغ عظمته من نفوسهم مبلغه، والذي كان له حراس مدججون بالسلاح أشداء من العرب، فإذا ما وصلوا إلى هذا الهيكل بما جنوه من اللبان والمر، قدموا منه مقدارًا إلى الحرس، ثم يضع كل واحد منهم ما جناه في مكان وعليه لوح كُتب عليه مقدار الوزن والثمن. فإذا جاء التجار نظروا الألواح وأخذوا ما وقع عليه اختيارهم، وتركوا في مكانه الثمن المعين في اللوح].٩
ويقول «سترابو» نقلًا عن مصادر أقدم في دول اليمن: [ويقطن في تلك البلاد شعوب أربعة. أهل معين على شاطئ البحر وتُعرف عاصمتهم باسم قرنا، ثم أهل سبأ وعاصمتهم مأرب، ثم أهل قتبان ومنطقتهم تمتد من الخليج وفيها مدينة ملوكهم المسماة تمنة، ثم أهل حضرموت وعاصمتها سبتة، وأهل هذه المنطقة ذوو غنى وجاه عظيم وأبنيتها فخمة، خصوصًا الهياكل والقصور، وعماراتها تشبه عمارات المصريين].١٠

فلماذا فات على هؤلاء جميعًا الالتفات إلى يهوذا وإسرائيل المتلاصقة حدودها، وفق طبوغرافية الصليبي، مع حدود ممالك اليمن؟ ثم ماذا عن النقوش اليمنية نفسها، التي حُلت نصوصها بالمئات حتى الآن، لماذا لم ترد فيه إشارةٌ ولو عابرة إلى الجيران الشماليين، وأين أخبار دويلات اليمن في التوراة؟ ففيما عدا زيارة ملكة سبأ لسليمان (الملوك الأول: ١٠) هل يعقل أن تنقضي حياة مملكتي يهوذا وإسرائيل المفترضة في غرب العربية دون احتكاك مع دول اليمن القريبة، وهما اللتان دخلنا في حروب لم تنقطع مع كل الدويلات المحيطة بهما. وأخيرًا ماذا عن المصادر العربية ذاتها، وعن الإخباريين الذين رووا لنا كل ما وصلهم عن ممالك اليمن القديمة وعن شعوب العرب البائدة، لماذا لم تتسلل إليهم ولو معلومة واحدة تشير ولو من بعيد إلى قيام دولة سليمان ودولتي إسرائيل ويهوذا في عُقر دارهم؟

إن نظرية كمال الصليبي، إضافة إلى بيناتها اللغوية، مطالبةٌ بالإجابة المقنعة عن كل هذه الأسئلة المشروعة.

١  Leo Oppenheim, op. cit., p. 286.
٢  Ibid., p. 292.
٣  Ibid., p. 298.
٤  Ibid., p. 298.
٥  Ibid., p. 300.
٦  Franz Rosenthal, op. cit., p. 657.
٧  تاريخ هيرودوتس، المرجع السابق، الكتاب الثالث من الفقرة ١٧٠ إلى ١١٤.
٨  إحسان عباس، تاريخ دولة الأنباط، دار شروق، عمان ١٩٨٧، ص١١ و٢٩.
٩  ولفنسون، تاريخ اللغات السامية، دار القلم، بيروت ١٩٨، ص٢٣٥.
١٠  المرجع نفسه ص ٢٣٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤