الفصل السابع

(١) أَسْماءُ الأُمَراءِ

كانَ القَصْرُ السَّعِيدُ — كَما رآهُ زائِرُوهُ — آيةً منْ آياتِ الفَنِّ العالِي والذَّوْقِ السَّلِيمِ، فَلا عَجَبَ إِذا دَهِشَ الأُمَراءُ والجُنْدُ حِينَ ارْتادُوا حَدائِقَهُ وأَبْهاءَهُ، وَشَهِدُوا أَضْواءَهُ ولَأْلَاءَهُ. وَلا تَسَلْ عَنِ ابتِهاجِهمْ بِما شَهِدُوهُ مِنْ جَمالِ تَصاوِيرِهِ، وَبَراعَةِ هَنْدَسَتِهِ. وَقَدْ قَضَى الأُمَراءُ أُمْسِيَّةً حافِلَةً بِجالِباتِ البَهْجَةِ، وَباعِثاتِ السُّرُورِ، وَقَدْ حَفَلَتْ مَوائِدُهُمْ بِما لَذَّ وَطابَ، مِنْ طَعامٍ وَشَرابٍ، فَظَلَّ الأُمَراءُ يَسْمُرُونَ جانبًا مِنْ اللَّيْلِ.

تَسْأَلُني: أَيُّ حَدِيثٍ كانَ مَوْضُوعَ حِوارِهِمْ، ومَدارَ سَمَرِهِمْ؟ وَما أَحْسَبُكَ إلَّا عارِفًا بِجَوابِ سُؤَالِكَ، فَلَنْ يَغِيبَ عَنْ فِطْنَتِكَ أَنَّ حِوارَهُمْ لَمْ يَعْدُ الحَديثَ عَمَّا لاقَوْهُ في سَفَرِهِمْ مِنْ مُدْهِشاتٍ وَغَرائِبَ، وَما تَعَرَّضُوا لهُ في رِحْلَتِهِمْ مِنْ كَوارِثَ وَمَصائبَ، وَكَيْفَ اجْتَمَعَ الشَّمْلُ الشَّتِيتُ، بَعْدَ أَنْ طوَّحَتْ بِهِمُ الأَقْدارُ في مَطارِحِ الأَرْضِ؛ فَنَسُوا بِذلِكَ كُلَّ ما اعْتَرَضَهُمْ مِنْ مصِائِبَ ومِحَنٍ. ثُمَّ عَرَّجُوا عَلَى ما أَصابَ مَدِينَةَ النُّحاسِ، وَما لَحِقَ بِساكِنِيها مِنْ طَيْرٍ وَحَيَوانٍ وَناسٍ. وَراحُوا يُقَلِّبُونَ الأَمْرَ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إلَى سَبَبٍ يُعَوِّلُونَ عَليْهِ، أوْ تَعْلِيلٍ تَرْتاحُ عُقُولُهُمْ إلَيْهِ.

(٢) كَشْفُ السِّتارِ

وَهُنا قالَتِ البَبَّغاءُ «صَبِيحَةُ»: «عِنْدِي جَوابُ ما تَسْأَلونَ، فَهَلْ أَنْتُمْ لِما أَقُولُ سامِعُونَ؟»

فَقالوا لَها في شَوْقٍ ولَهْفَةٍ: «آذانُنا لِحَدِيثِكِ سامِعَةٌ، وَقُلُوبُنا لِما تَقُولِينَ واعِيَةٌ.»

فَقالَتِ البَبَّغاءُ: «لَعَلَّ الأَمِيرَيْنِ «فاضِلا» وَأُخْتَهُ «رائِعَةَ» لا يَعْرِفانِ الكَثِيرَ عَنِ المَلِكِ «فُرْهُودٍ» جَدِّهِما لِأبِيهِما، وَلا عَنِ ابْنِ عَمِّهِ الأَمِيرِ«سَوْدَلٍ» جَدِّهِما لِأُمِّهِما. وَقَدْ آنَ لَهُما أَنْ يَعْرِفا ما كانَ لِجَدِّهِما «فُرْهُودٍ» مِنْ شَأنٍ عَظِيمٍ، وفَضْلٍ عَمِيمٍ، فَقَدْ ذاعَ صِيتُهُ في البِلادِ، بِما عُرِفَ عَنْهُ مِنْ عَدْلٍ وَحَزْمٍ وَرَشادٍ. وَكانَ مَوْضِعَ إجْلالِ مُلُوكِ عَصْرِهِ قاطِبَةً، وَكانَ مِنَ المُعَمَّرِين.

(٣) رُؤْيا «فُرْهُودٍ»

وَقَدْ رَأَى في نَوْمِهِ قُبَيْلَ وَفاتِهِ دابَّةً غَرِيبَةَ الشَّكْلِ، لَها ذَيْلُ ثُعْبَانٍ وَجِسْمُ سَمَكَةٍ، وَجَنَاحا نَسْرٍ، وَوَجْهُ بُومَةٍ. وَشَهِدَها تَطِيرُ في الفَضاءِ حَتَّى تَبْلُغَ ذِرْوَةَ الجَبَلِ، ثُمَّ تَعُودُ مُنْدَفِعَةً إلَى المَدِينَة، وَتَحُلُّ في حَدِيقَةِ قَصْرِهِ، فَتَنْعَبُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. وَسَمِعَ لتَنْعابِها الكَرِيهِ صَوْتًا يُصِمُّ الآذانَ. وَرَأَى الحَدِيقَةَ قَدْ ذَوَتْ أَزْهارُها، وَصُوِّحَ نَبْتُها، وَتَهاوَى طَيْرُها، وَدَبَّ المَوْتُ في أرْجائِها.

فانْتَبَهَ المَلِكُ «فُرْهُودٌ» مِنْ نَوْمِهِ مَذْعُورًا، وَدَعا ابْنَ عَمِّهِ الأَمِيرَ «سَوْدَلًا»، وَقَصَّ عَلَيْهِ رُؤْياهُ فَقالَ لَهُ «سَوْدَلٌ»: «لا مَعْدَى لَنا عَنِ اسْتِشارَةِ «صَفْصافَةَ» الحَكِيمِ، فَعِنْدَهُ تَأوِيلُ هذِهِ الرُّؤْيا، وَهُوَ وَحْدَهُ الذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يُشِيرَ عَلَيْنا بِالرَّأْيِ الرَّاجِحِ.»

وَكانَ «صَفْصافَة» ساحِرَ عَصْرِهِ. وَكان المَلِكُ «فُرْهُودٌ» يُصْفِيهِ الوُدَّ مُنْذُ طُفُولتِهِما إلَى أَنْ بَلَغا سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ، فَلَمَّا قَصَّ رُؤْياهُ عَلَيْهِ أَطْرَقَ «صَفْصافَةُ» مُتَجَهِّمًا، وقالَ لِمَلِيكِه: «يا لَهُ مِنْ حُلْمٍ خطِيرٍ، يَحْمِلُ في ثَناياهُ أَفْدَحَ النَّكَباتِ. وَلا مَعْدَى لَنا عَنِ التَّجَمُّلِ والصَّبْرِ، حَتى يَنْفُذَ قَضاءُ الله فِينا، وَتَجْرِيَ أَحْكامُهُ عَلَى ذَوِينا. وَلَنْ يُثْنِيَني عائِقٌ عَنِ السَّعْيِ في تَهْوِينِ وَقْعِهِ الألِيمِ، وتَخْفِيفِ ضَرَرِهِ الجَسِيمِ، ما وَسِعَني الجُهْدُ وَساعَفَني العِلْمُ، فَأَمْهِلْني شَهْرَيْنِ، لَعَلِّي أُوَفَّقُ في مَسْعايَ.»

•••

وَغابَ «صَفْصافَةُ» عَنْ مَلِيكِهِ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ عادَ إِلَيْهِ، وَقالَ لَهُ في لَهْجَةِ المُطْمَئِنِّ الواثِقِ: «كُلُّ شَيْءٍ حَسَنٌ إذا حَسُنَتْ نِهايَتُهُ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ الكارِثَةَ الّتِي تَحُلُّ بِهذِهِ المَدِينَةِ لَنْ يَزِيدَ عُمْرُها عَنْ عامٍ وَنِصْفِ عامٍ، ثُمَّ يَعُودَ إلَى أَهْلِيها الأَمْنُ والسَّلامُ، بَعْدَ أَنْ يَتَعَرَّضَ ثَلاثَةٌ مِنْ كِرامِ الأُمَراءِ لِلحِمامِ (لِلْمَوْتِ). وَقَدْ بَذَلْتُ ما في وُسْعِي لِتَأمِينِ المَدِينَةِ في خِلالِ هذِهِ المِحْنَةِ مِنْ كلِّ طامِعٍ في غَزْوِها، أوْ مُتَطَلِّعٍ لِنَهْبِها وَسَلْبِها، فَلا يُساوِرْكَ الهَمُّ، وَلا يُبَرِّحْ بِكَ الغَمُّ وَفَوِّضْ أَمْرَكَ لِخالِقِ الأرْضِ والسَّماءِ، وَرازِقِ الطَّيْرِ في الهَواءِ؛ فَهُوَ أَبَرُّ بِنا وَأَرْحَمُ، وَأَرْفَقُ عَلَيْنا وَأَكْرَمُ.»

فَسَأَلَهُ «فُرْهُودٌ»: «أَقَرِيبَةٌ هذِهِ المِحْنَةُ أَمْ بَعِيدَةٌ؟»

فَأَجابَهُ «صَفْصافةُ»: «لَنْ تَقَعَ هذِه المِحْنَةُ في عَهْدِكَ، بَلْ في عهْدِ «أُسامَةَ» وَلَدِكَ.»

(٤) فَضْلُ «صَفْصافَةَ»

وَقَدْ صَدَقَ «صَفْصافَةُ» فِيما قالَ، وَبَرَّ بِما وَعَدَ، وَكانَ لِبَراعَتِهِ أَحْمَدُ الأَثَرِ في تَأمِينِ الطَّرِيقِ، وَأَكْبَرُ الجُهْدِ في تَهْيئَةِ الوَسائِلِ لاجتِماعِ الشَّمْلِ، فَقَدْ كانَ لَهُ الفَضْلُ في إِقامَةِ سُورِ هذهِ المَدِينَةِ العالِي، وَتَزْوِيدِهِ بِما نَقَشَهُ مِنْ طَلاسِمَ وَأَرْصاد، لِصَدِّ الغُزاةِ وَالرُّوَّادِ، وَما أَعَدَّهُ مِنْ فاتِناتِ الجَوارِي الَّتي تَلُوحُ لِكُلِّ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِاقْتِحامِ السُّورِ، فَيَنْدَفِعُ نَحْوَهُنَّ، وَتُدَقُّ عُنُقُهُ قَبْلَ أنْ يَصِلَ إِلَيْهِنَّ. وَبِهذا ضَمِنَ أَلَّا يَفْتَحَ المَدِينَةَ إِلَّا ماجِدٌ كَرِيمٌ، جَدِيرٌ بِتَفْرِيجِ كُرْبَتِها، وَتَخْلِيصِها مِنْ مِحْنَتِها.

وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى هذا الصُّنْعِ المَجِيدِ؛ فَأَنْشَأَ في تِلْكَ الجَزِيرَة النَّائِيَةِ هذا القَصْرِ السَّعِيدَ، وَأَقامَنِي وَإخْوَتِي مِنَ الجِنِّ فِيهِ، لِنَتَوَلَّى حِراسَتَهُ، فكانَ مَوْئِلًا لِلأَمِيرَيْنِ مَكِينًا، وَحِصْنًا حَصِينًا. وَقَدْ وَضَعَ فِيهِ تِمْثالَ الفتاةِ الحَسْناءِ الَّتي رَآها الأمِيرانِ، وَنَثَرَ حَوْلَها نَفِيسَ اللُّؤْلُؤِ والمَرْجانِ، لِتُغْرِيَ الطَّامِعِينَ، حَتَّى لا يَدْخُلَ القَصْرَ إِلَّا مُخْلِصٌ أَمِينٌ.»

وَلَمَّا انْتَهَتْ «صَبِيحَةُ» مِنْ حَدِيثِها سَأَلَها الأُمَراءُ الأَرْبَعَةُ مُتَلَهِّفِينَ: «وَكَيْفَ وَقَعَتِ الواقِعَةُ؟ وَأَيُّ ساحِرٍ دَبَّرَ هذِه الفاجِعَةَ؟»

فَقالَ الأَمِيرُ «فاضِلٌ»: «لا رَيْبَ أَنَّهُ المَلِكُ «مَرْمُوشٌ» الحَقُودُ وَوَزِيرُهُ «أُنْبُوشٌ»، فَكِلاهُما عَدُوٌّ لَنا لَدُودٌ، وَهُما بِأَمْثالِ هذِهِ الدَّسائِسِ أَخْبَرُ، وَبِتَدْبِيرِ هذِهِ المَكايِدِ أَبْصَرُ، وَعَلَى تَنْفِيذِها أَقْدَرُ!»

فَقالَتْ «صَبيحَةُ»: «لَوِ اسْتَطاعَ «مَرْمُوشٌ» ذلِكَ لَما تَوانَى وَلا قَصَّرَ، وَلا تَرَدَّدَ وَلا تَأَخَّرَ، وَلكِنَّهُ أَعْجَزُ عَنْ بُلُوغِ هذِهِ الغايَةِ وَأَصْغَرُ، وَأَقَلُّ وَأَحْقَرُ. كَلَّا أَيُّها الإخْوانِ، فَلَيْسَ لَهُ في هذِهِ النَّكْبَةِ شَأنٌ، وَلا طاقَةَ لَهُ بِتَدْبِيرِها وَلا يَدانِ؛ بَلْ هِي مِحْنَةٌ غَيْرُ مُتَعَمَّدَةٍ وَلا مَقْصُودَةٍ. وَلَوْلا لُطْفُ اللهِ لَضاعَ كُلُّ أَمَلٍ في انْفِراجِ الأَزْمَةِ، وَكَشْفِ الغُمَّةِ.»

فَسأَلَها الأُمَراءُ مَدْهُوشِينَ: «كَيْفَ تَقُولِينَ؟ وَماذا تَعْنِينَ؟ بِرَبِّكِ إلَّا ما أَفْصَحْتِ عَمَّا أَلْغَزْتِ، وَأَوضَحْتِ لَنا ما أَبْهَمْتِ.»

(٥) السَّاحِرُ «عَوْسَجَةُ»

فَقالَتْ «صَبيحَةُ»: «كانَ «صَفْصافَةُ» في عَصْرِهِ ساحِرَ الهِنْدِ الأَكْبَرَ، كَما أَسْلَفْتُ لَكُمُ القَوْلَ، فَلَما ماتَ ظَهَرَ ساحِرٌ آخَرُ لا يَقِلُّ عَنْ «صَفْصافَةَ» قُدْرَةً وَمَهارَةً، وَخِبْرَةً بِالسِّحْرِ وَبَصارَةً. إنَّهُ «عَوْسَجَةُ» السَّاحِرُ. وَكانَ أَبوُهُ وَزِيرَ المَلِكِ «صَلْدَم». وَكانَ هذا المَلِكُ كَما تَعْلَمُونَ خادِعًا ماكِرًا، مُسْتَبدًّا جائِرًا، لَمْ يَتَوَرَّعْ عَنِ اغْتِيالِ وَزِيرِهِ النَّاصِحِ الأَمِينِ، بَعْدَ أَنْ أَخْلَصَ لَهُ النُّصْحَ وَأَصْفاهُ الوُدَّ. وَقَدْ شَهِدَ «عَوْسَجَةُ» — وَهُوَ في مُقْتَبَلِ صِباهُ — كَيْفَ صَرَعَ «صَلْدَمٌ» الغادِرُ أَباهُ، فَهَرَبَ «عَوْسَجَةُ» إلَى بِلادِ التُّبَّتِ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى الانْتِقامِ مِنْ قَاتِلِ أبِيهِ، وَما زالَ يُواصِلُ اللَّيْلَ بِالنَّهارِ حَتَّى بَرعَ في فُنُونِ السِّحْرِ، وَفاقَ أَساتِذَتَهُ وَمُعَلِّمِيهِ، فَأَصْبَحَ بَعْدَ مَوْتِ «صَفْصافَةَ» ساحِرَ الهِنْدِ الأَوْحَدَ.

(٦) بُوقُ «عَوْسَجَةَ»

فَلَمَّا بَلَغَ هذِهِ المَنْزِلَةَ عَكَفَ عَلَى تَدْبِيرِ وَسِيلَةٍ لِلانْتِقامِ مِنْ قاتِلِ أبِيهِ، فَلَبِثَ عِشْرِينَ عامًا كامِلَةً عاكِفًا عَلَى صُنْعِ بُوقِهِ الذَّهَبِي الصَّغِيرِ، حَتَّى إذَا أَتَمَّهُ أَعَدَّ العُدَّةَ لِلسَّفَرِ إلَى مَدِينَةِ «صَلْدَمٍ» قاتِلِ أَبِيهِ. وَما زالَ يُواصِلُ سَيْرَهُ حَتَّى بَلَغَ مُنْتَصَفَ طَرِيقِهِ إلَيْهِ. وَشاءَتِ الأَقْدَارُ أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهِ المَقامُ عَلَى ساحِلِ هذِهِ المَدِينَةِ، فَيَسْتَمِعَ إلَى جَماعَةٍ مِنَ التُجَّارِ قَدِمُوا مِنْ بِلادِ عَدُوِّهِ، فَيَتَعَرَّفَ مِنْ حَدِيثِهِمْ مَصْرَعَ «صَلْدَمٍ»، وَكَيْفَ زَلَّتْ قَدَمُهُ وَهُوَ يُطارِدُ أَحَدَ الغِزلانِ، فَهَوَى مِنْ قِمَّةِ الجَبَلِ، وِتنَاثَرَتْ أَشْلاءُ جِسْمِهِ، واخْتَلَطَ لَحْمُهُ بِعَظْمِهِ. وَهُنا زال غَضَبُ «عَوْسَجَةَ» وانْصَرَفَتْ نَفْسُهُ عَنْ الانْتِقامِ، وَخَشِيَ أَنْ يَقَعَ البُوقُ الذَّهَبيُّ المَسْحُورُ في يَدِ غَيْرِهِ، فَيُسِيءَ بِهِ — عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ — إلَى الآمِنِينَ، فَألْقَى بِهِ إلَى البَحْرِ، وَكَرَّ إلَى وَطَنِهِ راجِعًا، فَماتَ في طَرِيقِه.

(٧) خَصَائِصُ البُوقِ

فَسَأَلها الأُمَراءُ: «فَأَيُّ سِرٍّ أَوْدَعَهُ السَّاحِرُ في هذا البوقِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِينْتَقِمَ بِهِ مِنْ عَدُوِّهِ؟»

فَقالَتْ «صَبيحَةُ»: «لَقَدْ أَوْدَعَ فِيهِ مِنْ ضُرُوبِ السِّحْرِ ما لا يَتَخَيَّلُهُ العَقْلُ، فَقَدْ يَسَّرَ لِنافِخِهِ مِنْ فُنُونِ الانْتِقامِ ما لا يَخْطُرُ عَلَى البالِ، وَأَتاحَ لَهُ القُدْرَةَ عَلَى النَّسْخِ والمَسْخِ والفَسْخِ والرَّسْخِ.»

فَسَألَها الأُمَراءُ مُتَحيِّرِينَ: «أَفْصِحِي بِرَبِّك عَما تَقُولِينَ، فَما نَحْنُ عَلَى فَهْمِ أَلْغازِكِ بِقادِرِينَ: ماذا تَعْنِينَ بِالنَّسْخِ والمَسْخِ والفَسْخِ والرَّسْخِ؟»

فَقَالَتْ «صَبيحَةُ»: «في المَرْتَبَةِ الأُولَى يَنْتَقِلُ الآدَمِيُّ مِنْ صُورَتِهِ إلَى صُورَةٍ أعْلَى وأَشْرَفَ. وفي الثَّانِيَةِ يَنْتَقِلُ إلَى صُورَةِ إحْدَى البَهائِمِ. وَفي الثَّالِثَةِ يَنْتَقِلُ إلَى صُورَةِ بَعْضِ الحَشراتِ. وفي الرَّابِعَةِ يَتحَوَّل نَباتًا أَوْ جَمادًا.»

فَصَرَخ الأُمَراءُ مَدْهُوشِينَ: «وَكَيْفَ يَتِمُّ ذلِك لِمَنْ يَنْفُخُ في البُوقِ؟»

فَقالَتْ «صَبِيحَةُ»: «حَسْبُهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ في ذِهْنِهِ الصُّورَةَ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَ إلَيْها مَنْ يَشاءُ، أَوْ يَذْكُرَ عَلَى لِسانِهِ اسْمَ حَيَوانٍ أَوْ نَباتٍ أَوْ مَعْدِنٍ — خَسِيسًا كانَ أَوْ حَقِيرًا — فَلا تَنْقَضِي لَحَظاتٌ قَلِيلَةٌ بَعْدَ أَنْ يَنْفُخَ في البُوقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى يَبْلُغَ النَّافِخُ مُرادَهُ، وَيَتِمَّ لَهُ ما أرادَهُ.»

فَقالَ «إقْبالٌ»: «لَقَدْ أخْبَرْتِنا أنَّ «عَوْسَجَةَ» قَذَفَ البُوقَ في البَحْرِ، فَماذا حَدَثَ بَعْدَ ذلِك؟»

فَقالَتْ «صَبِيحَةُ»: «بَلعَتْهُ سَمَكَةٌ، وَجاءَ صَيَّادٌ فاصْطادها. وَمَرَّ بِالصَّيَّادِ نَسْرٌ، فانْتهَزَ مِنَ الصَّيَّادِ غَفْلةً، فخَطِفَ السَّمَكَةَ، ثُمَّ طارَ بها إلَى قِمَّةِ الجَبَلِ، فَرَأى ثُلَّةٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ عُشِّهِ، فَعادَ بِها أدْراجَهُ، واسْتَقَرَّ عَلَى شَجَرَةٍ عالِيَةٍ في حَدِيقَةِ المَلِكِ، فَأَكَلَ السَّمَكَةَ وَتَرَكَ البُوقَ، وَلَمْ يَلْبَثِ البُوقُ أنْ سَقَطَ إلَى الأَرْضِ. وَجاءَ وَلَدُ البُسْتانِي في اليَوْمِ التَّالِي فَرَأى البُوقَ الذَّهَبِي الصَّغِيرَ، فَأُعْجِبَ بِمَنْظَرِهِ، وَنَفخَ فِيهَ — عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ — ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَإذا كُلُّ مَنْ بِالمَدِينَةِ تَماثِيلُ مِنَ النُّحاسِ.»

فَسَأَلتْها «رائِعَةُ»: «وَلِماذا تَحوَّلُوا نُحاسًا وَلَمْ يَتَحَوَّلُوا شَيْئًا آخَرَ؟»

فَقالَتْ «صَبِيحَةُ»: «كانَ وَلَدُ البُسْتانِي يَحْسَبُ البُوقَ الذَّهَبِي بُوقًا مِنَ النُّحَاسِ، فَاتَّجَهَ ذِهْنُهُ إلَى هذَا المَعْدِنِ.»

فَقالَ «فاضِلٌ»: «الآنَ ظَهَرَ أَنَّ «مَرْمُوشًا» لا يَدَ لَهُ في هَذِهِ النَّكْبَةِ.»

فَقالَتْ «صَبِيحَةُ»: «بَلْ كانَ لَهُ يَدٌ في تَأْمِينِ المَدِينَةِ وَسَلامَتِها.»

فَقالَتْ «وادِعَةُ»: «وَكَيْفَ كانَ ذلِكِ؟»

فَقالَتْ «صَبِيحَةُ»: «لَولا قُدُومُ جَيْشِهِ اللَّجِبِ لِغَزْوِ المَدِينَةِ لَما فَكَّرَ أَحَدٌ في إغْلاقِ أَبْوابِها، لِرَدِّ عُدْوَانِ مَنْ يُفَكِّرُ في غَزْوِها وانْتِهَابِ كُنوزِهَا، فَقَدْ حاوَلَ «مَرْمُوشٌ» أَنْ يَدْخُلَ المدِينَةَ فَعَجَزَ عَنْ ذلِك وَرَجَعَ خَائِبًا مَدْحُورًا. وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ غَيْرُ الأَمِيرِ «إِقْبالٍ» عَلَى اقْتِحَامِ سُورِهَا العَالِي، وَفَتْحِ بَابِهَا المَنِيعِ.»

فَقَالَتْ «رَائِعَةُ»: «رُبَّ ضارَّةٍ نَافِعَةٌ.»

وَقالَ «إقْبالٌ»: «أَلا سبيلَ إلَى تَخْلِيصِ المَدِينَةِ مِنْ مِحْنَتِها؟ وتَفْرِيجِ كُرْبَتِها؟»

فَقالَتْ «صَبِيحَةُ»: «بَلَى، وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الأسْبابُ، وَحَانَتِ الفُرْصَةُ لإِنْجازِ هذا المُهِمّ العَظِيمِ.»

فَقالَ «إقْبالٌ»: «وَكَيْفَ السَّبِيلُ إلى ذلِك؟»

فَقالَتْ «صَبِيحَةُ»: «لَمْ يَبْقَ عَلَى كَشْفِ هذِهِ المِحْنَةِ غَيْرُ ساعاتٍ وَدَقائقَ، ثُمَّ يَنْجَلِي لِأَعْيُنِكُمْ صِدْقُ مَا سَمِعْتُمُوه مِنْ حَقائِقَ.»

وَأَرَادَ الأُمَرَاءُ أَنْ يَتَمادَوْا في أَسْئِلَتِهِمْ، لَوْلا أَنَّ سِنَةً مِنَ النَّوْمِ طافَتْ بِأَجْفانِهِمْ، فَأَسْلَمَتْهُمْ إلَى الرُّقادِ.

فَلَمَّا طَلَعَ الفَجْرُ اسْتَيْقَظَ الأَمِيرُ «إقْبالٌ» فَجَالَ في جَنَباتِ القَصْرِ، وَقَدْ شَغَلَهُ التَّفْكِيرُ في إنْقاذِ المَدِينَةِ عَنْ كُلِّ ما يَحْوِيهِ مِنْ نَفائِسَ وَتُحَفٍ، فَمَشَى إلَى حَدِيقَةِ القَصْرِ، فَرَآهَا قَدْ اتَّصَلَتْ بِحَدِيقَةِ القَصْرِ المَلَكِي فَوَاصَلَ سَيْرَهُ قَلِيلًا، وَحانَتْ مِنْهُ الْتِفاتَةٌ، فَرَأَى البُوقَ الذَّهَبِي الصَّغِيرَ، فَالْتَقَطَهُ وَعادَ بِهِ أَدْرَاجَهُ، لِيُحدِّثَ أَصْحَابَهُ بِما رَآهُ.

(٨) خاتِمةُ القِصَّةِ

وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ حُجْرَتِهِمْ رَأَى بُوقَ «عَوْسَجَةَ» يَنْجَذِبُ إلَى شَفَتَيْهِ؛ فَلَمْ يَتَمالَكْ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَ، وَهُوَ مَشْغُولُ البالِ بِرَدِّ الحَياةِ إلَى التَّماثِيلِ الجامِدَةِ، فَما إِنْ أَتَمَّ نَفْخَهُ مَرَّاتٍ ثَلاثًا حَتَّى تَحَقَّقَتِ الآمالُ عَلَى يَدَيْهِ، وَدَبَّتِ الحَرَكَةُ في تَماثِيلِ النُّحاسِ، وَعادَ إلَى الحَياةِ كُلُّ ما في المَدِينَةِ مِنْ حَيَوانٍ وَطَيْرٍ وَناسٍ. وَاسْتَيْقَظَ الأُمَراءُ الثَّلاثَةُ مِنْ نَوْمِهِمْ مدْهُوشِينَ.

فَقالَتِ الأَمِيرَةُ «رَائِعَةُ» لِلأَمِيرَيْنِ «إقْبالٍ» و«وَادِعَةَ»: «ما أَشْبَهَ هذا الصَّوْتَ بِما سَمِعْتُهُ مُنْذُ عامٍ وَنِصْفِ عامٍ.»

لَقَدْ صَدَقَتْ «رَائِعَةُ». وَلكِنْ شَتَّانَ بَيْنَ هذا وَذاكَ، شَتَّانَ بَيْنَ الصَّوْتَيْنِ: صَوْتِ اليَوْمِ وَصَوْتِ الأَمْسِ. هذا يَجْلِبُ السَّعادَةَ وذَاكَ يَجْلِبُ النَّحْسَ، هذا يُعِيدُ الحَياةَ وَذلِكَ يَدْفَعُ إلَى الرَّمْسِ (القَبْرِ)!

وَهَمَّتْ «رَائِعَةُ» أَنْ تُسْرِعَ إلَى لِقاءِ أَبِيها، فَرَأَتْهُ ماثِلًا أمَامَها قَبْلَ أَنْ تَنْقُل قَدَمًا، فَقَدْ أَحْضَرَتْهُ الجِنِّيَّةُ «صَبِيحَةُ» إلَى القَصْرِ السَّعِيدِ قَبْلَ أَنْ يَنْفُخُ الأَمِيرُ في البُوقِ بِلَحَظاتٍ، فَلَمَّا عادَتْ إِلَيْهِ الحَياةُ سَمِعَ ابْنَيْهِ في الحُجْرَةِ التَّالِيَةِ، فَانْتَقَلَ إِلَيْهِما، وَعَقَدَتْ دَهْشَةُ الفَرْحَةِ أَلْسِنَتَهُمْ جَمِيعًا؛ فَبَكَوْا فَتْرَةً مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ. وكانَتْ ساعَةً بَهِيجَةً يَتَضَاءَلُ أَمامَها العُمْرُ كُلُّهُ. وَأَقْبَلَ الأَمِيرانِ يَبْسُطانِ لِلمَلِكِ تَفْصِيلَ ما حَدَثَ. وَما إِنْ بَلَغُوا مِن القِصَّة نِهايَتَها حَتَّى رَأَوُا المَلِكَ «عاصِمًا» وَالِدَ الأَمِيرَيْنِ «وادِعَة» و«إقْبالٍ» واقِفًا أَمامَهُما. وَما إِنْ رَآهُ وَلَدَاهُ، حَتَّى أَسْرَعا يُرَحِّبانِ بِهِ وَيُعانِقانِه، وَيَسْأَلانِهِ: كَيْفَ اهْتَدَى إلَى مَكانِهِما؟

فَأَسْرَعَتْ «صَبِيحَةُ» إلَى إِجابَتِهِما، وَقالَتْ لَهُما: «لَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ البَهْجَةَ لا تَتِمُّ إلَّا بِحُضُورِ المَلِكَيْنِ، لِيَشْهَدا زَواجَ الأَمِيرَيْنِ بِالأَمِيرَتَيْنِ.»

وَهكَذَا أُقِيمَتِ الأَفْرَاحُ، وَابْتَهَجَ الشَّعْبُ كُلُّهُ أَيَّما ابْتِهاجٍ.

وَكانَ يَجُرُّ المَرْكَبةَ المَلَكِيَّةَ جَوَادانِ كَبِيرانِ، لا نَظِيرَ لَهُما في الخَيْلِ رَوْعَةً وَفَخَامَةً، وَحُسْنًا وَقَسامَةً، أَحْضَرتْهُما البَبَّغاءُ لِيَتِمَّ بِهِما البَهْجَةُ والرُّوَاءُ. وَلا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ المَلِكَيْنِ وَالأُمراءِ حِينَ أَخْبَرَتْهُما «صَبِيحَةُ» أَنَّ الجَوادَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحْضَرَتْهُما ليَجُرَّا مَرْكَبَةَ الزِّفافِ هُما المَلِكُ «مَرْمُوشٌ» وَوَزِيرُهُ «أُنْبُوشٌ» اللَّذَانِ أسْرَفا في إِساءَتِهِما، وتَمادَيا في اعْتِدائِهِما، وَتَفَنَّنا في أَذِيَّةِ جِيرانِهِما، وَلَمْ يَتَوانَيا عَنْ إِلْحاقِ الأَذَى بِالبَرِيَّةِ، بَعْدَ أَنِ اسْتَعْبَدا ثَلاثَةَ أَرْباعِ المَمالِكِ الهِنْدِيَّةِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤