الفصل السابع

حالات الوعي المتغيِّرة

النوم والأحلام

الأحلام تراودنا جميعًا، بالرغم من زعم البعض أنهم لا يحلمون أبدًا. ومن السهل إثبات ذلك. فإذا استيقَظَ شخص يزعم أنه لا يحلم أبدًا في الوقت الذي يُظهِر فيه دماغُه السماتِ المميزةَ لنوم حركة العين السريعة، فإنه سيذكر بالتأكيد أن حلمًا راوَدَه؛ لذلك فإن مَن يدَّعِي أنه لا يحلم هو في واقع الأمر مجرد شخص ينسى أحلامه؛ فالقدرة على تذكُّر الأحلام هي التي تختلف كثيرًا من شخص إلى آخَر، وليس القدرة على رؤية الأحلام. هناك دليل آخَر على ذلك يتمثَّل في أن تعطي مثل هؤلاء الأشخاص قلمَ رَصاصٍ وورقة، وأن تطلب منهم كلَّ صباح أن يدوِّنوا أيَّ شيء يتذكَّرونه عند استيقاظهم. يمكن لأي شخصٍ فعل هذا، والتأثير المعتاد هو حدوث زيادة كبيرة في القدرة على تذكُّر الأحلام، وفي خلال بضعة أيام تنهال الأحلام على معظم الناس، حتى إنهم يتمنَّون العودةَ إلى ما كانوا عليه من قبلُ من عدم القدرة على التذكر.

في أي نوم طبيعي أثناء الليل، يمرُّ الدماغُ بأربع مراحل من نوم حركة العين غير السريعة؛ يمر أولًا عبر المراحل من الأولى وحتى الرابعة، ثم يعود ثانيةً إلى المرحلة الأولى، ثم يدخل في فترة نوم حركة العين السريعة، ويكرر هذا النمط أربع أو خمس مرات كل ليلة. إذا تمَّ إيقاظ الناس في تلك المراحل المختلفة، فسيَصِفون تجارب مختلفة؛ فكثيرًا — وليس دائمًا — في مرحلة نوم حركة العين السريعة، سيقولون إنهم يحلمون، في حين أنهم في مرحلة نوم حركة العين غير السريعة قد يقولون إنهم يفكِّرون تفكيرًا عابرًا أو مليًّا في شيء، أو يشاهدون صورًا ثابتةً إلى حدٍّ ما، أو لا يفعلون شيئًا على الإطلاق. يمرُّ الأطفال، وحتى الرُّضَّع، بنفس المراحل الفسيولوجية، لكن القدرة على رؤية أحلام معقَّدة وواضحة تتطوَّر تدريجيًّا، مع تطوُّر المهارات المعرفية والقدرة على التخيُّل.

نعرف الكثيرَ عن فسيولوجيا النوم وبعض الجوانب التي يمكن أن يحدث فيها خطأ، لكن تلك المعرفة تُخفِي صورةً أقلَّ يقينًا بكثير عند النظر إلى النوم كحالة من الوعي.

كما هو الحال بالنسبة إلى الكثير من جوانب الوعي، يبدو مفهومَا حالات الوعي وحالات الوعي المتغيِّرة واضحين ظاهريًّا؛ على سبيل المثال: كلنا نعرف أننا نمر بشعور مختلف عن شعورنا المعتاد في حالة الهذيان بسبب الحمَّى، وقد نخمن، دون أن نمرَّ بالتجربة، بأننا نمرُّ بشعور مختلف أيضًا عندما نثمل أو نتعاطى المخدرات أو نكون في حالة روحية؛ لذا يمكن أن نُطلِق على كل هذه الحالات حالاتِ الوعي المتغيِّرة.

غير أن أي محاولة لتعريف تلك الحالات ستدخل بنا على الفور في مشكلات. هناك طريقتان واضحتان في هذا الشأن؛ أولًا: هناك مقاييس موضوعية مثل قدر الكحوليات التي تناوَلَها أحد الأشخاص، أو الطريقة التنويمية التي طُبِّقت عليه، لكنَّ تلك الطريقة ليسَتْ مثاليةً؛ لأن شخصين يمكن أن يشربَا نفسَ الكمية وأحدهما يصبح ثَمِلًا جدًّا، في حين لا يكاد الآخَر يتأثر. بالمثل، تؤثِّر الطرق التنويمية على نحوٍ مختلف على الأشخاص المختلفين، في حين لا تكون أخرى مؤثِّرة على الإطلاق. هناك حالات وعي قليلة تكون مرتبطة بأنماط فسيولوجية فريدة، ويعطينا قياس الحالات الذهنية نتائج متضاربة. من الممكن أن تكون مقاييس السلوك غير مُجدِية؛ لأن الناس يمكن أن يدَّعُوا أنهم يمرون بحالات وعي متغيِّرة دون أن يبدو أيُّ تغييرٍ ظاهِرٍ على الإطلاق في سلوكهم. على أي حال، يبدو بالفعل أن كل تلك المقاييس الموضوعية يغيب عنها أن أي حالة متغيِّرة تتعلَّق بالكيفية التي تشعر بها تجاهها، وهي شيء خاص بالنسبة إلى الشخص الذي يمرُّ بها.

لهذا السبب، عادةً ما يتمُّ تفضيلُ التعريفات الذاتية لتلك الحالات؛ على سبيل المثال: يعرِّف عالِمُ النفس تشارلز تارت حالةَ الوعي المتغيِّرة بأنها «تغيُّرٌ كيفيٌّ في النمط العام للأداء الذهني، بحيث يشعر المارُّ بها بأن وعيه يختلف على نحوٍ جذريٍّ عن الطريقة التي يكون عليها في الأحوال العادية.» هذا بالتأكيد يوضِّح المقصود بتلك الحالات، لكنه يُدخِلنا أيضًا في مشكلاتٍ، مثل تحديد المقصود بالحالة «الطبيعية»، والتعامُل مع الحالات التي يكون من الواضح فيها (للجميع ما عدا المصابين) أن المصابين في حالة غريبة لكنهم يدَّعُون أنهم طبيعيون جدًّا.

كذلك، من الغريب أن هذا التعريف تصادِفه مشكلةٌ عندما ننظر إلى أوضح تلك الحالات وهي الحلم؛ فمن أبرز سمات أيِّ حلم عادي هو أننا لا نشعر بأن «وعينا مختلِف على نحو جذري»، على الأقل في وقت الحلم؛ إننا فقط نستيقظ لاحقًا ونقول في أنفسنا: «لا بدَّ أنني كنت أحلم!» لهذا السبب، يشكُّ بعض الناس أن الأحلام يمكن اعتبارها تجارب، فرغم كل شيء، لا يبدو أننا «نمر» بها في الوقت الحالي؛ وإنما نحن فقط «نتذكرها» لاحقًا. إذن فالسؤال الآن: هل حدثت فعلًا الأحلامُ كما بدت لنا، أم أننا اختلقناها في لحظة الاستيقاظ؟ وهل يمكن أن نعرف هذا؟

من المدهش أن هناك طرقًا عدة لمعرفة هذا؛ على سبيل المثال: من الممكن أن نُدرِجَ أشياء معينة في أحلام الناس، مثلًا عن طريق تشغيل أصوات معينة لهم، أو تنقيط ماء على بشرتهم. أحيانًا، سيذكرون لاحقًا أنهم حلموا بأجراس كنيسة أو شلالات، وعندما يُطلَب منهم تقديرُ توقيت تلك الأحداث، يتَّضِح أن الأحلام استغرقَتْ تقريبًا الوقت الذي بَدَا أنها تستغرقه.

fig21
شكل ٧-١: في شلل النوم، يحدث شلل لكل عضلات الجسم وتتحرك العينان فقط، وأغلب الثقافات لديها خرافات فيما يتعلَّق بشلل النوم، مثل عجوز نيوفاوندلاند الشمطاء التي تظهر في شكل شيطانة بالليل، وقد تحطِّمُ صدرَ النائم بأن تجلس عليه لتمنعه من الحركة.

هناك طريقة أفضل تتمثَّل في استغلال الأشخاص القليلين الذين يمكن أن يروا أحلامًا جَلِيَّة بإرادتهم؛ يحدث الحلم الجَلِيُّ عندما تعرف، أثناء الحلم، أنك تحلم. في الاستبيانات، ادَّعَى نحو ٥٠٪ من الناس أنهم يحلمون أحلامًا جليَّة، و٢٠٪ تنتابهم على نحو متكرِّرٍ إلى حدٍّ ما. بالنسبة إلى هؤلاء الذين لم يحلموا قطُّ بهذا النوع من الأحلام، قد تبدو تلك الأحلام غريبة جدًّا. يبدأ أي حلم جَلِيٍّ بحدوث شيء غريب ويبدأ الحالِمُ في الشكِّ؛ بأن يقول في نفسه مثلًا: كيف صعدتُ إلى قمة هذا المبنى؟ أو ما الذي أتى بجدتي إلى هنا مع أنني أعرف أنها ماتَتْ؟ وبدلًا من أن يقبل هذا الشيءَ الغريب — كما نفعل عادةً في الأحلام — يدرك الحالم أنه لا يمكن أن يكون حقيقيًّا، ومع هذا الإدراك يتغيَّر كلُّ شيء؛ فتبدو مشاهِد الحلم أكثر وضوحًا، ويشعر الحالم بنفس شعور ذاته الواعية الطبيعية، وقد يبدأ التحكُّم في الحلم. عند هذه النقطة، يبدأ الكثير من الناس في الطيران والاستمتاع، لكنْ نادرًا ما تستمر الأحلام الجلية لفترةٍ طويلةٍ، ومعظم الناس يعودون إلى الأحلام العادية بسرعة كبيرة.

يشترك القليل، بل القليل جدًّا، من الأشخاص الذين اعتادوا الحلم بأحلام جلية في تجارب معملية ويتعلمون كيفية إعطاء إشارات أثناء أحلامهم؛ ففي نوم حركة العين السريعة، يحدث شلل في كل عضلات الجسم تقريبًا، وإلا لَكنتَ ستقوم بتمثيل أحلامك بنفسك، لكن العينين تستمران في الحركة وتستمر أيضًا عملية التنفس؛ لذا يستطيع الحالمون بأحلام جلِيَّة أحيانًا الإشارةَ بتحريك أعينهم. يسمح هذا للقائمين على التجارب بتحديد توقيت الأحلام وملاحظة نشاط الدماغ أثناءها. بوجهٍ عام، يحدِّد هذا الأمرُ الوقتَ الحقيقي للأحلام، ويوضِّح أيضًا أن الدماغ يتصرَّف تقريبًا بنفس الطريقة كما لو كان صاحبه يسير بالفعل في الشارع أو يلعب مباراة تنس أو يغني أغنية، أو أيًّا كان ما يحلم به؛ الاختلاف الوحيد أنه لا يقوم بما يفعله فعليًّا.

هل الأحلام تجارب؟

لا توجد نظرية مقبولة على نحوٍ عامٍّ للأحلام، وهناك بعض الحقائق الغريبة جدًّا في حاجةٍ إلى تفسيرٍ؛ على سبيل المثال: عند الاستيقاظ، نتذكَّرُ أننا رأينا أحلامًا لم نكن على وعي بها في وقتها. وفي حين أن التجارب أشارَتْ إلى أن الأحلام تحدث في الوقت الفعلي، فالكثير من النوادر تصف أحلامًا تمَّ اختلاقُها عند الاستيقاظ؛ ومن أشهر تلك النوادر تلك الخاصة بالطبيب الفرنسي ألفريد موري (١٨١٧–١٨٩٢) الذي حلم بأنه أُخِذ أثناء أحداث الثورة الفرنسية إلى المِقْصَلة، ليجد نفسه عند الاستيقاظ وقد وقع على رقبته الجزءُ الخلفي من السرير.

هناك نظرية جمعَتْ بين وجهتَيِ النظر السابقتين؛ ففي أثناء نوم حركة العين السريعة، تحدث عمليات دماغية عديدة على نحوٍ متزامن، ولا تكون أيٌّ منها داخلَ دائرة الوعي أو خارجها، وعند الاستيقاظ يمكن اختلاقُ أيِّ عددٍ من القصص باختيار أحد الخيوط العديدة الممكنة من القصاصات المتعددة التي تبقَّتْ في الذاكرة، وتكون القصة المختارة هي الوحيدة من بين تلك القصص العديدة التي ربما تم تحديدها، لكن لا يوجد حلم فعليٌّ؛ فلم تحدث أيُّ قصة بالفعل «في دائرة الوعي». وفي نظرية «الاختيار الرجعي» هذه، لا تُعَدُّ الأحلامُ تياراتٍ من التجارب تمرُّ عبر العقل النائم.

إن شلل العضلات أثناء نوم حركة العين السريعة له نتائج أخرى؛ فأحيانًا يستيقظ الناس قبل أن تختفي حالة الشلل هذه ويجدون أنفسهم لا يستطيعون الحركة. يُعرَف هذا بشلل النوم، ويمكن أن يكون تجربة مرعبة جدًّا إذا لم تكن تعرف ما يحدث؛ عادةً ما تتضمَّن تلك التجربةُ أصواتَ دمدمة وطحن وأضواءً غريبة وإحساسًا قويًّا بأن هناك شخصًا بالقرب منك. إن معظم الثقافات لديها الخرافات الخاصة بها المتعلِّقة بشلل النوم، مثل «عجوز نيوفاوندلاند الشمطاء» التي تأتي وتجلس على صدور الناس بالليل، أو الشيطان أو الشيطانة التي من معتقدات العصور الوسطى. إن الخرافات الخاصة باختطاف الكائنات الفضائية للنائم ربما تكون المقابل الحديث لتلك الخرافات؛ فهي تجربة واضحة مُختلَقة في تلك الحالة غير السارة من الشلل التي يكون فيها الشخصُ بين اليقظة والنوم.

العقاقير والوعي

يقدِّم تأثيرُ العقاقيرِ على الوعي الدليلَ الأكثر إقناعًا على أن الإدراك يعتمد على الدماغ. ربما يبدو هذا أمرًا واضحًا، لكنني ذكرته لأن هناك العديد من الناس الذين يعتقدون أن عقلهم منفصل عن دماغهم، بل ويمكنه البقاء لما بعد موت الدماغ. يصبح من الصعب جدًّا قبول هذا النوع من النظريات بمجرد أن ندرك تأثيرات العقاقير النفسية المفعول.

العقاقير النفسية المفعول تؤثِّر على الوظائف العقلية، وتوجد في كل الثقافات المعروفة لنا، ويبدو أن الناس يجدون متعةً كبيرةً في إيجاد طرق لتغيير حالة وَعْيهم؛ فالكثير من تلك العقاقير النفسية المفعول يمكن أن تكون خطيرة وقد تكون مُمِيتةً إذا تمَّ تعاطيها على نحو خاطئ، ومعظم الثقافات لديها نظام معقَّد من الطقوس والتقاليد والقواعد التي تحدِّد مَن يمكنه تعاطي أيِّ نوع منها بالضبط، وتحت أي ظروفٍ، وبأي شكل. والاستثناء هو الحضارة الغربية الحديثة؛ حيث يعني حظرُها لتلك العقاقير أن نظم الحماية الطبيعية لا يمكن تطويرها؛ ومن ثَمَّ يُسمح بشراء العديد من أكثر تلك العقاقير تأثيرًا من الشارع، ويحصل عليها صغار السن دون وجود مثل هذا الفهم أو الحماية.

هناك مجموعات رئيسية عديدة من العقاقير النفسية المفعول، التي لها تأثيرات مختلفة؛ فعقاقير التخدير هي تلك التي تؤدِّي إلى فقدانٍ تامٍّ للوعي، وكان أول تلك العقاقير ظهورًا عبارة عن غازات بسيطة مثل أكسيد النيتروز، أو ما يُطلَق عليه «غاز الضحك»، وهي التي عند استنشاقها بجرعات كبيرة تؤدِّي إلى فقدان الوعي، لكن عند استنشاقها بجرعات قليلة يزعم الكثيرون أنها تُدخل المرء في حالات روحية، وتساعد على الوصول إلى رؤًى فلسفية. أما عقاقير التخدير الحديثة، فعادةً ما يتكوَّن كلٌّ منها من ثلاثة عقاقير منفصلة، تقوم على التوالي بتخفيف الألم وإحداث الاسترخاء وإفقاد الوعي.

ربما يعتقد البعض أن دراسة عقاقير التخدير ستكون طريقةً جيِّدة لفهم الوعي؛ فربما نكتشف ماهية الوعي عن طريق زيادته أو تقليله على نحو منهجي. في واقع الأمر، من الواضح أن تلك العقاقير تعمل بطرق عديدة ومختلفة، لكنها في الغالب تؤثِّر على الدماغ بالكامل؛ فلا يوجد دليلٌ على وجود «مركزٍ للوعي» أو عملية معيَّنة يتمُّ بَدْؤُها أو إيقافها.

تُستخدَم العقاقيرُ الأخرى النفسية المفعول في العلاج النفسي، بما في ذلك مضادات الذُّهان ومضادات الاكتئاب والمهدِّئات، وقد أصبحَتْ بعضُ المهدِّئات ضمن العقاقير التي يُسَاء استخدامها ويتم إدمانها، كما هو الحال بالنسبة إلى المواد الأخرى التي تخفض النشاط العصبي بالجهاز العصبي المركزي، والتي من بينها الكحولُّ (الذي له تأثيرات محفزة ومثبطة في نفس الوقت) والباربيتورات. ومن ضمن المخدرات: الهيروين والمورفين والكودين والميثادون، وتلك المواد تحاكي تأثيرَ الإندورفينات الخاصة بالدماغ، التي هي مواد كيميائية تُفرَز في حالات الضغط العصبي والإثابة، وهي تجلب متعةً كبيرةً لبعض الناس، لكنها من المواد المسبِّبة للإدمان الشديد.

تتضمَّن المنبهات: النيكوتين والكافيين والكوكايين والأمفيتامين، وأغلب تلك الأشياء تسبِّب الإدمانَ الشديد؛ أي تكون هناك حاجة لدى متعاطيها لزيادة الجرعات للحصول على نفس التأثير، كما أن انسحابها من الجسم يسبِّب أعراضًا مؤلمة ورغبةً شديدة في الحصول عليها. وعادةً ما يتمُّ تعاطي الكوكايين عن طريق الاستنشاق من خلال الأنف، لكن يمكن تحويله إلى صورة قابلة للتدخين، وهذا يعني أن تأثيره يصبح أسرعَ؛ ومن ثَمَّ يصبح أكثر قوةً ويسبِّب الإدمانَ الشديد بصورة أكبر. أما الأمفيتامينات، فهي مجموعة كبيرة تتضمَّن العديدَ من العقاقير المصمَّمة الحديثة (وهي عقاقير لها خصائص مشابِهة للعقاقير المخدرة، لكنها ذات تركيب كيميائي معدَّل للتحايل على قوانين المخدرات). ومن أمثلة تلك العقاقير: عَقَّار إم دي إم إيه، أو إكستاسي، أو عقَّار النشوة الذي يُحدِث مزيجًا من التأثيرات المحفزة والمهلوسة والعاطفية.

تُعَدُّ عقاقير الهلوسة أكثرَ العقاقير النفسية المفعول أهميةً بالنسبة إلى محاولة فهم الوعي، ومصطلح «عَقَّار الهلوسة» قد لا يكون ملائمًا تمامًا؛ لأن بعض تلك العقاقير لا تُحدِث هلاوس على الإطلاق. في واقع الأمر، ومن الناحية الفنية، إن الهلوسة الفعلية هي التي يخلط مَن يمرُّ بها بينها وبين الواقع، كما يحدث عندما يعتقد المريض بالفصام أن الأصوات التي يسمعها في رأسه تأتي من جدران غرفته. وبناءً على هذا التعريف، فإن معظم عقاقير الهلوسة تنتج «هلاوس كاذبة»؛ لأن المتعاطي يظلُّ يعرف أن أيًّا من الهلاوس التي يراها ليسَتْ حقيقيةً، ولهذا السبب تُعرَف تلك العقاقير أيضًا ﺑ «سايكيديلك» الذي يعني العقاقير المجسدة للعقل، أو ﺑ «سايكوليتيك» الذي يعني العقاقير المرخية للعقل.

يقع القِنَّب في مجموعة بمفرده، ويُعتبَر أحيانًا من العقاقير المهلوسة الصغرى، وهو مشتق من نبات القِنَّب المستخدَم منذ أكثر من ٥ آلاف عام في مجال الطب، ويعد مصدرًا للألياف المتينة المستعمَلة في صناعة الحبال والملابس، وقد استخدَمَ عددٌ كبير من فنَّاني القرن التاسع عشر القِنَّبَ في عملهم، وقد استخدَمَه الفيكتوريون باعتباره دواءً. وقد تمَّ حظْرُه في العديد من الدول في القرن العشرين، لكن مع هذا، فهو يُستخدَم الآن على نحوٍ كبيرٍ؛ إذ يتمُّ تدخينُه عادةً إما على هيئة أعشاب (الأوراق الجافة ورءوس الزهور الإناث)، وإما على هيئة حشيش (وهو مزيج صلب من الراتنج المأخوذ من النبات، إلى جانب حبوب اللقاح والأوراق أو الأزهار المسحوقة)، ويمكن أيضًا أكل الحشيش نِيئًا أو مطبوخًا أو مُذابًا في الكحول أو اللبن.

إن المكون الفعَّال الرئيسي في القِنَّب هو دلتا-٩-تتراهيدروكانابينول، لكنه يشتمل على أكثر من ٦٠ نوعًا آخَر من الكانابينويدات، ومكونات أخرى عديدة لها تأثيرات مختلفة قليلًا على الدماغ والجهاز المناعي، وربما أيضًا يتفاعل بعضها مع بعض، وأغلبها قابل للذوبان في الدهون، ويمكن أن تبقى في الجسم لعدة أيام أو حتى أسابيع. وتأثيرات القِنَّب من الصعب وصفها؛ فمن ناحية هي معقَّدة ومتغيِّرة، ومن ناحية أخرى يقول متعاطو القِنَّب إن الكلمات لا يمكنها التعبير عمَّا يحدث لهم. وبعض الناس يعانون من البارانويا عند تدخين القنَّب، ويبدو أن هذا التأثير يزيد مع زراعة أشكال مختلفة أكثر قوةً من نبات القِنَّب، لكن بالنسبة إلى معظم الناس، فإن التأثيرات بسيطة إلى حدٍّ ما، وتتضمَّن الاسترخاءَ وزيادةَ قوة الحواس، والإحساسَ بنشوة أكبر من الأحاسيس البسيطة، والميلَ إلى الضحك، وزيادةَ المتعة الجنسية، والانفتاحَ على الآخرين، والشعورَ بأن الوقت يمرُّ ببطء، وتأثيراتٍ متعدِّدةً على الذاكرة. أظهرَتِ التجاربُ أن التحفيزَ يقلُّ ويحدث تلف شديد في الذاكرة القصيرة المدى، لكن التأثيرات عادةً ما تكون مؤقَّتةً.

ربما كان من المدهش أن تأثيرات هذا العقَّار المخدِّر المستخدَم على نطاقٍ واسعٍ تبدو غامضةً جدًّا. نحن بالتأكيد ليس لدينا علم خاص بالوعي يمكنه على نحوٍ ملائم تفسير ما يحدث لوعي الشخص عندما يدخِّن القنَّب، أو تفسير السبب في شعور الكثيرين بالنشوة عند تعاطيه.

إن عقاقير الهلوسة الكبرى لها تأثيرات أكبر بكثيرٍ وعادةً ما تستمرُّ لفترة أطول بكثير، ومن الصعب التحكُّم فيها؛ الأمر الذي ربما يفسِّر السببَ في تعاطيها على نطاق أقل. ومن ضمن تلك العقاقير دي إم تي (ثنائي ميثيل تريبتامين، وهو أحد مكونات الشراب الروحي الجنوب أمريكي المسمَّى الأياواسكا)، وسيلاسيبين (الموجود في «عيش الغراب السحري»)، وميسكالين (المشتق من نبات بيوط الصبار)، والعديد من العقاقير الصناعية، بما في ذلك إل إس دي (وهو اختصار لثنائي إيثيلاميد حمض الليسرجيك)، وفينيثيلامينات وتريبتامينات متعددة. ومعظم تلك العقاقير تماثِل أحدَ النواقل العصبية الدماغية الأربعة الكبرى — الأستيل كولين والنورأدرينالين (النورإيبينيفرين) والدوبامين والسيروتونين — وتؤثِّر بالسلب على أدائها، ومن الممكن أن تكون كلها سامَّةً عند تناوُلها بجرعات عالية جدًّا، ويمكن أن تفاقم من الأمراض العقلية الموجودة بالفعل، لكنها على نحوٍ عامٍّ لا تسبِّب الإدمانَ الشديد.

ربما يُعَدُّ عَقَّارُ إل إس دي أشهرَ عقاقير الهلوسة، وقد ذاع صيته في ستينيات القرن العشرين. وهو يثير في متعاطيه آثارًا نفسية تُسمَّى ﺑ «الرحلة» التي تستمر إلى نحو من ثمان إلى عشر ساعات؛ وقد سُمِّيت بهذا الاسم لأن الساعات تبدو وكأنها لا تنتهي، وعادةً ما يشعر المتعاطي وكأنه في رحلة عظيمة عبر الحياة؛ فالألوان تبرز على نحو كبير، ويمكن للأشياء العادية أن تتخذ أشكالًا عجيبة؛ فورق الحائط يتحوَّل إلى ثعابين ملوَّنة تتلوَّى، أو تتحوَّل سيارة مارة إلى تنين بأجنحة ذي خمسين قدمًا. وتلك الرُّؤَى من الممكن أن تكون مُبهِجةً وسارَّةً للنفس، أو مخيفةً جدًّا بحيث تجعل المتعاطي في «رحلة سيئة». وهناك عادةً إحساسٌ بالخشوع مع بعض الرؤى الروحية، مع فقدانٍ بالإحساس العادي للذات. ويمكن أن يبدو المتعاطي وكأنه أصبح حيوانًا أو شخصًا آخَر، أو يتوحَّد مع الكون بالكامل. إذن، فالرحلة التي تنتج عن تعاطي عقار إل سي دي ليسَتْ رحلةً عادية يمكن أن نأخذها باستخفاف.

في عام ١٩٥٤، تعاطى ألدوس هكسلي (١٨٩٤–١٩٦٣) مؤلِّف رواية «عالم جديد وجميل»، عقَّار الميسكالين للمرة الأولى، ووصَفَ التجربةَ بأنها فتحَتْ «مغاليق الإدراك»؛ فقد بَدَتِ الأشياءُ العادية ملوَّنةً وعجيبة، وأصبح كل شيء حوله خارقًا، وبَدَا العالم مثاليًّا في وجوده، وتشابَهَ وصْفُه مع الوصف الخاص بالتجارب الروحية. وفي واقع الأمر وصَفَ بعضُ الناس تلك العقاقيرَ بأنها «عقاقير روحية»؛ أي إنها تجعلهم يُدرِكون وجودَ الرب بداخلهم.

يطرح هذا الأمر السؤال المثير الخاص بما إن كانت العقاقير يمكن أن تُحدِث تجارب دينية حقيقية. في دراسة شهيرة، أعطى الطبيب والوزير الأمريكي والتر بانكا حبات دواء لعشرين من طلاب اللاهوت في أثناء قدَّاس الجمعة العظيمة التقليدي؛ فأخذ نصفهم عقَّارًا وهميًّا وأحسوا بمشاعر دينية متوسطة فقط، لكن النصف الآخر تناوَلَ عَقَّارَ السيلاسيبين، وذكر ثمانية من بينهم أنهم مرُّوا بتجارب روحية قوية. استبعَدَ نقادٌ تلك التجاربَ وقالوا عنها إنها تقع في مرتبةٍ أدنى بعض الشيء من التجارب الروحية «الحقيقية»، لكن هذا يستتبع أن نعرف المقصودَ بالتجارب الروحية «الحقيقية».

التجارب غير العادية

ذكر عدد كبير من الناس على نحو مثير للدهشة (ربما من ٣٠ إلى ٤٠٪) ممَّنْ مرُّوا بتجارب، بدءًا من تجارب الخروج من الجسم إلى حالات الشرود والرؤى، أنهم خابروا حالات وعي متغيِّرة تلقائية مثيرة إلى حدٍّ كبير. ويُطلَق على تلك التجارب أحيانًا «التجارب البشرية الاستثنائية»، وخاصة إذا تضمَّنَتْ تغيُّرًا في إحساس الشخص بذاته أو علاقته بالعالم.

إن تجارب الخروج من الجسم هي تلك التي يبدو فيها الشخص كأنه خرج من جسمه وأخذ ينظر إلى العالم من موقعٍ خارجه. ويدَّعِي نحوٌ من ٢٠ إلى ٢٥٪ من الناس أنهم قد مروا بإحدى هذه التجارب على الأقل مرة واحدة، وتلك التجربة عادةً ما تكون قصيرة جدًّا، على الرغم من أن الناس يذكرون أحيانًا أنه يبدو لهم وكأنهم يطيرون لمسافاتٍ طويلةٍ أو يسافرون إلى عوالم أخرى. وعادةً ما تكون تلك التجارب سارَّةً، على الرغم من أنها يمكن أن تكون مخيفةً، خاصةً إذا كانَتْ مصحوبةً بشلل النوم.

لاحِظْ أن هذا التعريف لا يعني بالضرورة أن شيئًا قد ترَكَ الجسمَ بالفعل؛ إن الشخص يشعر فقط كأن هذا قد حدث. تختلف النظريات على نحو كبير حول تلك النقطة؛ على سبيل المثال: يعتقد بعض الناس أن روحهم أو وعيهم قد ترك أجسامهم، وربما قد يستمرون في الحياة حتى بعد موت أجسامهم. وطبقًا لنظرية «الإسقاط النجمي»، يتم الخروج من «جسم نجمي» غامض. وحاولَتْ تجارب عديدة اختبارَ تلك الفكرة لكن دون جدوى؛ على سبيل المثال: تمَّ تجربة وسائل عديدة لاكتشاف الجسم النجمي أو الروح، بما في ذلك أدوات مادية وآلات لقياس الوزن وحيوانات وأشخاص آخَرون، لكن لم يتم الوصول إلى أي وسيلة موثوق بها. على نحو بديل، طُلِب من الأشخاص الذين كانوا يمرون بتجارب الخروج من الجسم النظرُ إلى أشياءَ مثل أرقام أو حروف أو مناظر أو ما شابه، وعلى الرغم من أن العديد منهم ادَّعوا أنهم كانوا قادرين على رؤية تلك الأشياء، فإن وصفهم لم يكن على نحوٍ عامٍّ أدق مما هو متوقَّع لو تم هذا عرضًا؛ لا يثبت هذا أن شيئًا ما لا يترك الجسم، لكن لا يوجد بالتأكيد دليل مُقنِع أن شيئًا قد فعل هذا.

fig22
شكل ٧-٢: هل يمكن عمل تخطيط لحالات الوعي؟ يمكن أن يشبه الانتقال من حالة إلى أخرى التحرُّكَ عبر حيِّز واسع متعدِّد الأبعاد، مع وجود بعض الحالات التي من السهل الوصول إليها في حين أن أخرى بعيدة جدًّا. وقد حاوَلَ الكثيرون تطويرَ مثل هذه التخطيطات، لكن من الصعب معرفة الأبعاد ذات الصلة فيها.

تفسِّر النظرياتُ النفسية تجاربَ الخروج من الجسم فيما يتعلَّق بكيف يمكن لصورة الجسم ونموذج الواقع الخاصين بالشخص أن يتغيَّرا، ووُجِد أن الناس الذين يميلون إلى الحلم وكأنهم ينظرون إلى الأشياء من مكانٍ عالٍ، أو مَن يجيدون تخيُّلَ نقاطِ رؤيةٍ مختلفةٍ هم الأكثر قابليةً للمرور بتجارب الخروج من الجسم؛ ويمكن أن تحدث تلك التجاربُ تقريبًا في أي وقت، لكنها غالبًا ما تحدث في أثناء النوم وحالات الاسترخاء الشديد وفي لحظات الخوف أو الضغط العصبي، وقد تمَّ أيضًا إنتاجُ تلك التجارب على نحوٍ مقصودٍ من خلال التحفيز الكهربي لجزء من الفص الصدغي الأيمن للدماغ؛ وهي المنطقة التي تُنشِئ وتتحكَّم في صورتنا لجسمنا.

عندما يكون الناس قريبين من الموت، يذكرون أحيانًا أنهم شاهدوا مجموعةً من التجارب الغريبة، التي تُعرَف مجتمعةً باسم تجربة الاقتراب من الموت. وعلى الرغم من اختلاف ترتيب تلك التجارب بعض الشيء عند الناس، وأن القليل من الناس يرونها كلها، فإن التجارب الأكثر شيوعًا التي يرونها هي: اجتياز نفق أو طريق مظلم في نهايته نور ساطع أو ذهبي، ورؤية الشخص لجسمه وهو يخضع للإنعاش أو لعملية جراحية (أيْ تجربة الخروج من الجسم)، ومشاعر الفرح أو القبول أو الرضا العميق، واستعادة لقطات من الماضي أو استرجاعٍ بانوراميٍّ لأحداث الحياة، ورؤية عالَمٍ آخَر فيه موتى بالفعل أو «كائن من نور»، وأخيرًا اتخاذ قرار بالعودة إلى الحياة بدلًا من الدخول في هذا العالم الآخَر. وبعد المرور بتلك التجارب، عادةً ما يتغيَّر الناسُ مدَّعِين أنهم أصبحوا أقل أنانيةً أو ماديةً، وأقل خوفًا من الموت.

ذكر أشخاص من ثقافات وعصور مختلفة عديدة أنهم مروا بتجارب الاقتراب من الموت، ويبدو أنها متماثلة على نحو غريب في مجمل أحداثها، وتكمن الاختلافات الثقافية الأساسية هنا في التفاصيل؛ على سبيل المثال: يميل المسيحيون إلى رؤية المسيح أو بوابات من اللؤلؤ، في حين يقابل الهندوسُ الإلهَ هانومان ويُرَى اسمه مكتوبًا في كتاب عظيم. وعادةً ما يدَّعِي المؤمنون بالأديان أن اتساق التجارب يُثبِت رؤيةَ دينهم لتجربة الحياة بعد الموت، لكن هذا الاتساق يمكن تفسيرُه على نحوٍ أفضل من خلال حقيقة أن الناس من كل العصور والثقافات لديهم أدمغة متشابهة، تتفاعل بطرق مماثلة مع الضغط العصبي أو الخوف أو نقص الأكسجين أو العديد من المثيرات الأخرى التي تؤدِّي إلى إنتاج تجارب الاقتراب من الموت.

إنَّ كلَّ تلك المثيرات يمكن أن تؤدِّي إلى إفراز الإندورفينات التي تؤدِّي إلى الشعور بالسرور، ويمكن أن تُحدِث نشاطًا عصبيًّا عشوائيًّا في مناطق عديدة من الدماغ، وتعتمد تأثيرات هذا النشاط العشوائي على المكان الذي يحدث فيه هذا النشاط؛ فإذا حدث هذا النشاطُ في القشرة البصرية، فسيرى الشخص أنفاقًا وأشكالًا لولبية وأضواءً (تمامًا كما يحدث عند تعاطي عقاقير هلوسة تكون لها تأثيراتٌ عصبية مماثلة)، أما إذا حدث في الفص الصدغي، فستحدث تغيُّرات في صورة الجسم، ويمر الشخص بتجارب الخروج من الجسم، ويمكن أن يظهر سيلًا من الذكريات، ويمكن أن يؤدِّي حدوثُ هذا النشاط في أماكن أخرى إلى تكوُّن رؤًى من أنواع مختلفة، اعتمادًا على توقُّع الشخص والحالة الذهنية السابقة والمعتقدات الثقافية. ولا شك أن العديد من الأشخاص يتغيَّرون بالفعل عند المرور بتجربة الاقتراب من الموت، في الغالب للأفضل، لكن ربما يرجع هذا إلى حدوث تغيُّرات كبيرة في الدماغ، وإلى أنه يكون عليهم مواجَهة فكرة موتهم، وليس لأن روحهم قد تركت أجسامهم لفترة قصيرة.

لا يجب أن يكون الشخص قريبًا من الموت حتى يمرَّ بتجارب عميقة، والعديد من الأشخاص الطبيعيين يمرون بتجارب غريبة جدًّا في حياتهم اليومية، وغالبًا ما يُطلَق على تلك التجارب «تجاربُ دينيةٌ» إذا تضمَّنَتْ رؤيةَ ملائكة أو كيانات روحية أو آلهة، في حين يُطلَق عليها «تجاربُ روحيةٌ» إن لم تتضمَّن تلك الأشياء. لا توجد طريقة بسيطة لتعريف التجربة الروحية أو حتى وصفها، وعادة ما يقال إنها تفوق الوصفَ أو لا يمكن وصفها، وإنها تتضمَّن شعورًا بالخشوع، وإنها تنقل معرفة غير متوقَّعة أو فهمًا للكون لا يمكن التعبير عنه؛ وربما الشيء البارز في تلك التجربة هو حدوث تغيُّر في الإحساس بالذات، سواء تمثَّلَ هذا في الاقتناع الكامل بخطأ فكرةِ وجودِ ذاتٍ منفصلةٍ أم في الإحساس بالتوحُّد مع الكون في شيء واحد.

عادةً ما تحدث تلك التجارب على نحوٍ تلقائيٍّ وتكون قصيرة جدًّا، لكنْ هناك طُرُق يمكنها أن تزيد من احتمال حدوثها، أو يمكنها أن تُحدِثَ على نحوٍ تدريجيٍّ حالاتٍ ذهنيةً مماثِلةً.

التأمُّل

إن الصورة الذهنية الشائعة عن التأمُّل هي الجلوس متربعًا والدخول في حالةٍ من الاسترخاء العميق والانقطاع تمامًا عن العالم. إن بعض أنواع التأمُّل يكون على هذا النحو، لكن هناك العديد من الأنواع الأخرى، بما في ذلك التأمُّل أثناء المشي وفي حالة اليقظة والانتباه والنشاط.

كان التأمُّل في الأساس يُمارَس في سياق الأديان، وخاصة الهندوسية والبوذية، على الرغم من أن التأمُّلَ في المسيحية والصوفية والأديان الأخرى كان له أساليب مماثلة. أما اليوم، فهناك العديد من الأشكال العلمانية للتأمُّل، التي تمَّ الترويجُ لها في المقام الأول باعتبارها طرقًا للاسترخاء وتقليل الضغط العصبي، ومن أفضل تلك الأشكال التأمُّل التجاوزي.

إن أغلب أنواع التأمُّل تُمارَس أثناء الجلوس في أوضاع خاصة، مثل وضع اللوتس الكامل أو النصفي، الذي تكون فيه كلُّ قدمٍ من القدمَيْن، أو واحدة منهما فقط، موضوعةً على الفخذ المقابلة؛ لكنَّ العديدَ من الناس يتأمَّلون في أوضاعٍ أبسط باستخدام وساداتٍ مستقرةٍ، أو جالسين على مقعد منخفض مع ثني أقدامهم تحته. ولا يوجد شيء مختلف في تلك الأوضاع، فكلها لها نفس الهدف؛ أَلَا وهو توفير وضعية تساعد على الاسترخاء والانتباه في نفس الوقت. ففي التأمُّل، هناك دائمًا خطران: أن تُصاب بالنعاس وتنام، أو أن تنفعل بسبب الأفكار المشوشة أو الشعور بعدم الراحة، وتلك الأوضاع توفِّر قاعدةً ثابتةً وظهرًا مستقيمًا وتنفُّسًا جيدًا؛ وبهذا يتجنَّب المتأمِّل الخطرين السابقين.

والآن ماذا عن العقل؟ تختلف الأساليب المتاحة هنا اختلافًا كبيرًا، على الرغم من أنه يقال في بعض الأحيان إنها كلها تشترك في هدف واحد، وهو إبعاد كلِّ الأفكار عن الذهن وتدريب الانتباه، وكلاهما ليس سهلًا؛ فإذا لم تكن قد جرَّبْتَ أيًّا من تلك الأساليب، فربما ترغب في أداء التمرين التالي: النظر إلى أسفل وعدم التفكير في شيء لمدة دقيقة.

ما الذي يحدث؟ لا يمكن القيام بهذا التمرين؛ فالأفكار ستنهال على الرأس من الداخل، والانتباه سيُشتَّت بسبب أشياء تحدث في الخارج، ونادرًا ما ستكون هناك لحظةُ سكونٍ داخل العقل يتوقَّف فيها عن التفكير. ربما لا يكون هذا مفاجئًا؛ فرغم كل شيء تطوَّرت أدمغتنا لتتكيَّفَ مع العالم وتجعلنا آمنين، وليس لتتوقف عن النشاط برغبتنا. رغم ذلك، ومع التدريب المكثَّف، فمن الممكن أن يهدأ العقل ويتجنَّب كلَّ العوامل المشتِّتة للانتباه.

تستلزم كلُّ أنواع التأمُّل تعلُّمَ كيفيةِ إبعاد الأفكار غير المرغوبة عن ذهنك، وأفضل سبيل لذلك هو عدم الدخول في مواجهة معها أو التعامل معها بأي شكل، وإنما فقط أن تنحِّيها جانبًا تمامًا عن رأسك. يمكن أن تكون هذه هي الطريقة بالكامل، لكنها ليست سهلة، ولذلك تمَّ تطوير العديد من الطرق الأخرى. فالتأمُّل التركيزي يجعل العقلَ ينتبه لشيء آخَر؛ مما يعطي العقلَ شيئًا يفعله، وربما يكون هذا مانترا (كلمة أو عبارة يتمُّ تكرارها في صمتٍ)، كما هو الحال في التأمُّل التجاوزي، أو ربما يكون شيئًا مثل حجر أو وردة أو شمعة أو أيقونة دينية. إن أكثر الطرق شيوعًا في هذا الشأن هي مراقبة التنفُّس، والفكرة ببساطة هي ملاحظة الشخصِ لتنفُّسِه الطبيعي، بأن يشعر بالهواءَ وهو يدخل ويخرج، ثم يحسب عددَ مرات التنفُّس حتى تصل إلى رقم عشرة، وعندما يصل الشخص إلى رقم عشرة، يرجع إلى رقم واحد ثانيةً ويبدأ من جديد.

هناك أنواع أخرى من التأمُّل لا تحتاج إلى أيِّ وسيلة مساعدةٍ؛ فعلى سبيل المثال: في مذهب زِن البوذي، من الشائع الجلوس والعينان نصفُ مفتوحتين والنظر إلى جدار أبيض؛ إن الهدف في تلك الحالة هو «الجلوس فقط»، وهو شيء لا يمكن للكثيرين فعله. ويمكن التأمُّل مع غلق العينين أو فتحهما. والخطر في التأمُّل مع غلق العينين يكمن في الدخول في خيالات كبيرة دون إدراك الأمر أو النوم، أما عن الخطر في التأمُّل مع فتح العينين، فيتمثَّل في إمكانية التشتُّت، على الرغم من أنه من الأسهل أن تبقى منتبهًا.

ما الهدف من كل هذا؟ إن الكثير من الناس يمارسون التأمُّلَ لأنهم يعتقدون أنه سيؤدِّي إلى الاسترخاء ويساعدهم على التكيُّف مع الضغوط العصبية التي يتعرَّضون لها. في واقع الأمر، تمَّ إجراءُ آلاف التجارب للتعرُّف على تأثيرات التأمُّل، والنتائج كانت مفاجِئةً للغاية؛ فعندما تمَّ قياسُ العوامل الأساسية الدالة على الاسترخاء مثل عدد ضربات القلب أو التنفُّس أو استهلاك الأكسجين أو الاستجابة الموصلية للجلد أو نشاط الدماغ؛ وُجِد أن التأمُّل لا يؤدِّي إلى استرخاءٍ أكثر من مجرد الجلوس في هدوء والقراءة أو الاستماع للموسيقى. في الواقع، يمكن أن يؤدِّي التأمُّل إلى مزيدٍ من الانفعال؛ على سبيل المثال: عندما تستمر الأفكار غير المرغوبة في مراودة العقل، ويصارع الشخص من أجل التحكُّم في مشاعره. بالتأكيد على المدى القصير، سيبدو أن التأمُّلَ ليس حلًّا مناسبًا على الإطلاق لتخفيض الضغط العصبي، وأنه من الأفضل أن تزيد من ممارسة التمارين الرياضية بدلًا من أن تقوم بالتأمُّلِ.

لكن على المدى الطويل، تكون التأثيرات أكثر عمقًا؛ فالمتأمِّلون على المدى الطويل، أيْ هؤلاء الذين يمارسون التأمُّلَ لأعوام عديدة أو حتى عقود، يدخلون في حالات من الاسترخاء العميق، ويمكن أن ينخفض معدَّلُ التنفُّس ليصير من ٣ إلى ٤ أنفاس في الدقيقة، ويمكن أن تبطِّئ أمواج الدماغ من موجة البيتا المعتادة (التي تكون في النشاط أثناء الاستيقاظ) أو الألفا (التي تكون في أثناء الاسترخاء العادي) لموجتي الدلتا أو الثيتا الأكثر بطئًا. لكن الأشخاص الذين يمارسون التأمُّلَ لسنوات عديدة لا يفعلون ذلك باعتبارها وسيلةً للاسترخاء؛ فإن الأسباب التي تدعوهم إلى التأمُّلِ في الغالب تكون دينيةً أو روحيةً؛ يعني هذا أنهم يتأمَّلون من أجل الخلاص أو مساعدة الآخرين أو الاستبصار.

إن الأمر يكون على هذا النحو في التأمُّل البوذي، وعلى الأخص أسلوب التأمُّل المتَّبَع في مذهب زِن، وهو مذهبٌ بوذيٌّ ذو طقوس دينية قليلة، ويشاع عنه أنه يَستخدم وسائلَ قاسية لإدخال الاستبصار المباشِر في طبيعة العقل، وبعض طلاب هذا المذهب يمارسون ما يُعرَف بالتنوير الصامت؛ حيث يتعلَّمون كيفيةَ تهدئة العقل بحيث يمكنه استكشاف طبيعة الوعي على نحوٍ مباشِرٍ، في حين يستخدم آخَرون ألغازًا أو أسئلة خاصة تُسمَّى الكوان؛ وتلك الأسئلة ليست في الغالب أسئلةً يمكن حلها عقليًّا، أو حتى فهمها على أي نحو عادي، فهي أسئلة تُدخِل المتأمِّل في حالة شديدة من الشك والحيرة، يمكنه من خلالها أن يستلهم رؤًى جديدةً. وربما يكون الكوان المطلق هو: «مَن أكون؟» وهو سؤال محيِّر جدًّا يجعل المتأمِّل يبحث بعمق في التجربة المباشِرة؛ فإدراك أنه لا توجد «ذات» واضحة هو الخطوة الأولى فيما يمكن أن يكون رحلة طويلة.

في مذهب زِن، يذكر الناس العديدَ من تجارب التنوير التي يتمُّ فيها اختراقُ شيء ما، ثم يُرى العالم بطريقة جديدة، لكن تلك التجارب ربما تكون فقط تجارب مؤقتة، تمامًا مثل التجارب الروحية التلقائية. يقال إن الهدف الأسمى هو التنوير الكامل الذي تتبدَّد فيه بالكامل أوهامُ الثنائية (وهي تلك الخاصة بذات منفصلة وشخص يقوم بالفعل).

إن مثل تلك الممارسات تطرح أسئلةً مثيرةً لعلم الوعي عليه الإجابة عنها؛ فهل يمكننا دراسة كيف يتغيَّر الدماغ في تلك الحالات؛ ومن ثَمَّ فهم ما يحدث؟ وهل هناك بالفعل مراحل يتمُّ المرورُ بها أم أن الناس يختلفون في السبل التي يسلكونها؟ وهل يصبح الناس بالفعل أكثر تعاطُفًا وأقل أنانيةً بعد التأمُّل، كما يزعمون؟ والسؤال الأهم: هل أيٌّ من رُؤَاهُم التي توصَّلوا إليها حقيقية وأصلية؟ في التجارب الروحية والتأمُّل على المدى الطويل، يذكر الناسُ أنهم يتخلَّصون من وَهْم وجود ذات منفصلة، أو يرون العالم على حقيقته؛ فهل يمكن أن يكونوا على حقٍّ؟ وهل هذه نفس الأوهام التي تصارع الدراسة العلمية للوعي من أجل مواجهتها؟ كلُّ ما نستطيع قوله الآن: إن دراسة الوعي ليسَتْ متطوِّرة بالقدر الكافي للإجابة عن تلك الأسئلة، ولكننا على الأقل يمكن أن نبدأ في طرحها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤