الفصل السادس عشر

أهدي هذا الفصل إلى متجر بوكسميث في سان فرانسيسكو بحي هايت-آشبيري ذي الطابع التاريخي الذي لا يبعد عن متجر بن آند جيريز سوى بضعة مبانٍ على ناصية شارعي «هايت» و«آشبيري» بالضبط. يعرف العاملون في ذلك المتجر كيف يقيمون حفلات رائعة خاصة بالكُتَّاب. عندما كنت أعيش في سان فرانسيسكو، اعتدت الذهاب إلى هناك دومًا لسماع أحاديث بعض الكُتَّاب العظام (لا يمكنني نسيان حديث ويليام جيبسن). ويصدر المتجر أيضًا بطاقات قابلة للجمع والتبادل تشبه تلك الخاصة بلاعبي البيسبول لكل مؤلف؛ لدي بطاقتان من حفلين أُقيما لي هناك.

***

في البداية، بدت أمي مصدومة، ثم غاضبة، وأخيرًا لم يعد وجهها يعبر عن أي شيء، ولم تُبدِ أي تعبير سوى أن فغرت فاها فقط أثناء روايتي لها عن الاستجواب، وتبليلي لسروالي، والكيس الذي وُضِع على رأسي، وداريل. أعطيتها الرسالة.

«لماذا …؟»

حملت تلك الكلمة كل اتهام مضاد وجهته لنفسي ليلًا، وكل لحظة افتقرت فيها للشجاعة اللازمة لأن أخبر العالم بالسبب الحقيقي وراء ما كنت أفعله، ولماذا كنت أناضل، وما ألهمني حقًّا لتصميم شبكة إكس نت.

التقطت نفسًا، وقلت لها:

«هددوني بالزج بي في السجن إذا تحدثت عن الأمر. ولن أظل هناك لأيام، بل للأبد. وقد كنت … كنت مرعوبًا.»

ظلت أمي جالسةً معي فترة طويلة دون أن تنبس ببنت شفة، ثم قالت أخيرًا: «ماذا عن والد داريل؟»

كان سؤالها كغرز إبرة في صدري. والد داريل؟ لا بد أنه افترض موت ابنه منذ وقت طويل.

أَوَلَمْ يكن ميتًا بالفعل؟ فهل يُعقَل أن تطلق وزارة الأمن الوطني سراحك بعد اعتقالها لك دون سبب قانوني لمدة ثلاثة أشهر؟

لكن زيب خرج. لعل داريل سيخرج أيضًا. وربما يمكنني أنا وشبكة إكس نت أن نساعد داريل في أن يخرج.

أجبتها: «لم أخبره.»

بكت أمي حينذاك، ولم تكن بالشخص الذي يبكي بسهولة؛ فهذا أحد الطباع البريطانية. فجعل ذلك نشيجها المختنق أسوأ.

تمكنت أخيرًا من أن تتحدث قائلةً: «سوف تخبره. سوف تفعل.»

«سأفعل.»

«لكن علينا أولًا أن نخبر والدك.»

•••

لم يعد لأبي موعد محدد للرجوع إلى المنزل؛ فبين العملاء الذين يقدم لهم الاستشارات — الذين زاد حجم أعمالهم كثيرًا الآن حتى إن وزارة الأمن الوطني بدأت عمليات تنقيب عن البيانات على شبه الجزيرة — والمسافة الطويلة إلى بيركلي، كان من الممكن أن يعود للمنزل في أي وقت بين السادسة مساءً ومنتصف الليل.

تلك الليلة، اتصلت به أمي وأخبرته أن يحضر للمنزل حالًا. قال لها شيئًا، فما كان منها إلا أن كررت كلمة «حالًا».

وعند وصوله للمنزل، كنا قد تهيئنا في غرفة المعيشة وبيننا الرسالة على الطاولة الصغيرة.

كانت رواية ما حدث أيسر في المرة الثانية؛ فالسر لم يعد يثقل صدري كما كان من قبل. لم أُزيِّن حديثي، ولم أخفِ أي شيء. أفضيت بكل ما بداخلي.

سمعت من قبل عن راحة الإفضاء بكل ما بداخل المرء، لكنني لم أفهم قط ما يعنيه ذلك إلى أن فعلته. إن كتم سر بداخلي لوَّث روحي، فأصابني بالخوف والخزي، وجعلني أمر بكل ما كانت آنج تقول إنني سأمر به.

تسمَّر أبي في مكانه طوال الوقت أثناء تحدثي، ووجهه كالمنحوت من الصخر. عندما أعطيته الرسالة، قرأها مرتين، ثم وضعها ثانيةً بحذر على الطاولة.

هزَّ رأسه، ونهض متوجهًا ناحية الباب الأمامي.

سألته أمي في انزعاج: «إلى أين أنت ذاهب؟»

كل ما تمكن والدي من لفظه لاهثًا وبصوت متهدج: «أحتاج للتمشية قليلًا.»

حدقت أنا وأمي كلٌّ منا في الآخر في ارتباك، وانتظرنا عودته إلى المنزل. حاولت تخيل ما يدور في رأسه. لقد صار شخصًا آخر منذ وقوع التفجيرات، وعلمت من أمي أن ما غيَّره الأيام التي ظن فيها أنني قد لقيت حتفي؛ فقد ظن أن الإرهابيين قتلوا ابنه؛ ما أصابه بالجنون.

أصابه بجنون جعله يفعل أي شيء تمليه عليه وزارة الأمن الوطني، من الانتظام في صف كخروف صغير مطيع والسماح لهم بالتحكم فيه وتوجيهه.

وقد علم الآن أن تلك الوزارة هي التي ألقت بي في السجن، وتحفظت على شباب سان فرانسيسكو في سجن جوانتانامو الخليج. كان الأمر منطقيًّا تمامًا بعد أن فكرت فيه. بالطبع، كانت جزيرة «تريجر آيلاند» هي التي اعتُقِلت فيها، فما المكان الآخر الذي يبعد عن سان فرانسيسكو بعشر دقائق بالقارب؟

عندما عاد أبي، بدا أكثر غضبًا من أي وقت مضى في حياته قاطبة.

صاح فيَّ: «كان عليك أن تخبرني!»

تدخلت أمي بيني وبينه، وقالت له: «أنت تلوم الشخص الخطأ. ليس ماركوس من اختطف وأرهب.»

هزَّ رأسه، وضرب الأرض بقدمه، وقال: «إنني لا ألوم ماركوس. أعلم بالضبط من ينبغي أن ألومه؛ إنه أنا. أنا ووزارة الأمن الوطني الغبية. فلتلبسا حذاءيكما، وتأتيا بمعطفيكما.»

«إلى أين نحن ذاهبون؟»

«سنذهب لزيارة والد داريل، ثم إلى باربارا ستراتفورد.»

•••

أعلم اسم باربارا ستراتفورد من مكان ما، لكنني لا أتذكر من أين. اعتقدت أنها ربما تكون صديقة قديمة لوالديَّ، لكنني لم أستطع تحديد هويتها بالضبط.

في تلك الأثناء، توجهنا إلى منزل والد داريل. لم أشعر بالراحة قط في وجود هذا الرجل الذي كان يعمل مشغلًا للاسلكي في البحرية، ويدير منزله إدارة عسكرية. لقد عَلَّم داريل نظام مورس عندما كان صغيرًا، ما اعتبرته دومًا أمرًا رائعًا. وهو الأمر الذي جعلني أثق في خطاب زيب. لكن في مقابل الأمور الجيدة مثل نظام مورس، كان لوالد داريل نظام عسكري جنوني بدا أنه يتبعه من أجله نفسه، مثل الإصرار على طي ملاءات الأسِرَّة طية عسكرية، وحلق الذقن مرتين يوميًّا. وكانت هذه الأمور تزعج داريل كثيرًا.

لم تحب والدة داريل ذلك أيضًا؛ فغادرت المنزل عائدةً لأسرتها في مينيسوتا عندما كان داريل في العاشرة من عمره. وكان داريل يقضي إجازات الصيف وأعياد الميلاد هناك.

كنت أجلس في المقعد الخلفي بالسيارة، وكان بوسعي رؤية مؤخرة رأس أبي أثناء قيادته. كانت عضلات عنقه متوترة، وظلت تنتفض مع طحنه لأسنان فكيه.

أبقت أمي يدها على ذراعه، أما أنا فلم يكن هناك أحد للتخفيف عني. كم كنت أتمنى الاتصال بآنج، أو خولو، أو فان. لعلي سأفعل ذلك في نهاية اليوم.

قال أبي أثناء صعودنا المنعطفات الحادة لتلَّي «توين بيكس» وصولًا إلى الكوخ البسيط الذي كان يعيش فيه داريل ووالده: «لا بد أنه قد دفن ابنه في عقله.» خيم الضباب على تلَّي توين بيكس، كعادته ليلًا في سان فرانسيسكو؛ ما جعل المصابيح الأمامية للسيارة تعكس نورها علينا. وفي كل مرة انعطفنا فيها عند ناصية، رأيت أودية المدينة تمتد تحتنا، كمصابيح من الأضواء الوامضة تتبدل في السديم.

«هل هذا هو المنزل؟»

أجبت: «نعم، هذا هو.» مرت شهور منذ آخر مرة ذهبت فيها لداريل، لكنني قضيت ما يكفي من الوقت هنا على مدار الأعوام الماضية لأتعرف عليه فور رؤيته.

وقف ثلاثتنا حول السيارة لبعض الوقت في انتظار من سيقرر الذهاب لقرع جرس الباب. ما أدهشني أنني من قررت فعل ذلك.

قرعت الجرس، وانتظرنا جميعًا دقيقة حبسنا فيها أنفاسنا. قرعته مرة أخرى، كانت سيارة والد داريل أمام المنزل، ورأينا كذلك ضوءًا في غرفة المعيشة. أوشكت على قرعه للمرة الثالثة إلا أنه فُتِح.

قال والد داريل: «ماركوس؟» اختلف تمامًا عن آخر مرة رأيته فيها. كان يرتدي برنُس حمام، غير حليق الذقن، حافي القدمين، وكانت أظافر قدميه طويلة وعيناه حمراوين. زاد وزنه، وترهل جلد ذقنه تحت فكه العسكري القوي. وأصبح شعره الخفيف هشًّا وغير منتظم.

أجبته: «سيد جلوفر.» وقف والداي خلفي بالباب.

قالت أمي: «مرحبًا، رون!»

وقال أبي: «رون.»

«وأنتَ أيضًا؟ ما الخطب؟»

«هل تسمح لنا بالدخول؟»

•••

بدت غرفة المعيشة كأحد الأقسام الإخبارية التي تعرض لأطفال مُتخلًّى عنهم من قبل من يرعونهم والذين قضوا شهرًا محبوسين قبل إنقاذ الجيران لهم؛ فملأت الغرفة عبوات الطعام المجمد، وعلب الجعة وزجاجات العصير الفارغة، وأكوام الصحف وأواني حبوب الفطور المتعفنة. فاحت في المكان رائحةُ بول قطط كريهةٌ، وسحقت أقدامنا ركامًا مبعثرًا. ودون بول القطط، كانت الرائحة لا تُحتمَل مثل دورات مياه محطات الحافلات.

غطت الأريكة ملاءات وسخة، ووسادتان ملوثتان بالشحم. ووسائد الأريكة منبعجة، وتظهر عليها علامات النوم.

وقفنا جميعًا هناك لحظةً صامتين، والإحراج يطغى على كل شعور آخر لنا. بدا والد داريل وكأنه يتمنى الموت.

أبعد ببطء الملاءات عن الأريكة، وأزاح صوانيَّ الطعام المكدسة والمشحمة عن كرسيين، وحملها إلى المطبخ، وسمعنا صوت وقوعها على الأرض.

جلسنا بحذر شديد في الأماكن التي نظفها، ثم عاد وجلس معنا.

قال بصوت مبهم: «آسف، ليست لدي أية قهوة لأقدمها لكم. سيصلني المزيد من البقالة غدًا؛ لذلك فليس لدي …»

قال أبي: «رون، استمع لما سنقوله لك. لدينا شيء نريد أن نخبرك به، وهو ليس بالأمر الهين.»

جلس كالتمثال أثناء تحدثي معه، وحملق في الرسالة، وقرأها دون أن يبدو عليه أنه فهمها، ثم قرأها مرة أخرى، وأعادها إليَّ.

كان يرتعش.

«إنه …»

فقلت له: «داريل حي … إنه حي ومُعتقَل على جزيرة «تريجر آيلاند».»

وضع قبضته في فمه، وأصدر أنينًا بشعًا.

قال أبي: «لدينا صديقة تكتب في صحيفة «باي جارديان». إنها صحفية استقصائية.»

عرفت حينذاك أين سمعت ذلك الاسم. كانت عادةً صحيفة «جارديان» الأسبوعية المجانية تخسر الصحفيين العاملين بها بانتقالهم للعمل على الإنترنت والصحف اليومية الكبرى، لكن باربارا ستراتفورد ظلت هناك. أتذكَّر على نحو مبهم تناول العشاء معها عندما كنت صغيرًا.

قالت أمي: «سنذهب إليها الآن. هل تأتي معنا يا رون وتخبرها بقصة داريل؟»

وضع وجهه بين يديه، وأخذ نفسًا عميقًا. حاول أبي وضع يده على كتفيه، لكن السيد جلوفر أزاحها بعنف.

وقال: «إنني بحاجة لتنظيف نفسي. لتنتظروني قليلًا.»

نزل السيد جلوفر من الدور العلوي رجلًا آخر؛ فقد حلق ذقنه، ومشط شعره للخلف باستخدام الجِل، وارتدى زيًّا عسكريًّا تعلوه مجموعة من أوشحة المعارك على الصدر. توقف عند نهاية السلم، وأومأ إلى الزي.

قال: «ليست لدي ملابس نظيفة وأنيقة حاليًّا، وبدا هذا الزي ملائمًا في حال أرادت التقاط صور أو شيء من هذا القبيل.»

ركب هو ووالدي في المقعدين الأماميين، في حين جلست أنا في الخلف وراء السيد جلوفر. وباقترابي منه، شممت رائحة جعة تفوح منه كما لو كانت تصدر من مسام جسده.

•••

كنا في منتصف الليل عندما وصلنا إلى منزل باربارا ستراتفورد؛ فكانت تعيش خارج المدينة في «ماونتن فيو». لم ينطق أيٌّ منا بكلمة طوال سيرنا سريعًا بالسيارة على طريق ١٠١، ومرورنا بجوار مباني التكنولوجيا المتقدمة الممتدة على جانبي الطريق السريع.

كانت هذه منطقة مختلفة من الخليج عن تلك التي كنت أعيش فيها؛ إذ كانت أشبه بضواحي أمريكا التي أراها أحيانًا على شاشة التليفزيون: تملؤها الطرق الحرة والتقسيمات الفرعية التي هي عبارة عن منازل متماثلة … مدن تخلو من أي مشردين يدفعون عربات التسوق على الأرصفة … لم تكن هناك أرصفة في الأساس!

هاتفتْ أمي باربارا ستراتفورد أثناء انتظارنا نزول السيد جلوفر من الطابق العلوي. كانت الصحفية نائمة، لكن أمي وصلت إلى درجة من التوتر جعلتها تنسى تمامًا الآداب البريطانية وما يمثله إيقاظ سيدة من النوم من إحراج. فأيقظتها، وأخبرتها بتوتر أنها تريد التحدث معها بشأن أمر ما، وأنها يجب أن تقابلها شخصيًّا.

أثناء صعودنا إلى منزل باربارا ستراتفورد، أول ما ورد في ذهني المنزل في المسلسل الكوميدي «برادي بانش»، وهو منزل منخفض أمامه جدار عازل من الطوب، ومرجة مربعة نظيفة. كان نمط تنظيم الطوب بالجدار العازل تجريديًّا، وثمة هوائي تليفزيون ذو تردد فائق العلو خلفه. سرنا وصولًا للمدخل، ورأينا أن ثمة أضواء بالفعل داخل المنزل.

فتحت الصحفية الباب قبل أن نقرع الجرس. كانت في مثل سن والديَّ تقريبًا. سيدة رفيعة طويلة ذات أنف كمنقار الصقر وعينين حادتين يوجد الكثير من التجاعيد على جانبيها. كانت ترتدي بنطال جينز من الطراز السائد، حتى إنه يمكن رؤيته متاحًا في المتاجر الصغيرة في شارع فالينسيا، وبلوزة قطنية هندية فضفاضة تصل إلى فخذيها. وعلى وجهها نظارة ذات عدسات مستديرة عكست الضوء في رواق المنزل.

ابتسمت لنا ابتسامة مصطنعة.

قالت: «لقد اصطحبتِ الجميع كما أرى.»

أومأت أمي برأسها، وقالت: «ستفهمين السبب حالًا.» وظهر السيد جلوفر من خلف أبي.

«واستدعيتِ البحرية أيضًا.»

«وكل ذلك في وقت قصير.»

قدم كلٌّ منا نفسه لها. تمتعت بقبضة يد قوية وأصابع طويلة.

فُرِش منزلها على الطراز الياباني؛ إذ احتوى على عدد قليل للغاية من قطع الأثاث المتناسبة بدقة، وسلال فخارية كبيرة من الخيزران لامست السقف. هذا إلى جانب ما بدا كقطعة كبيرة صدئة من محرك ديزل فوق قاعدة رخامية مصقولة. أحببت ذلك الطراز. كانت الأرضية خشبية قديمة، مصنفرة ومطلية، لكنها غير مغطاة بالطلاء بالكامل بحيث يمكن رؤية الشقوق والحُفر تحت الطلاء. أحببت ذلك حقًّا، خاصةً عندما سرت عليه بقدميَّ اللتين تغطيهما الجوارب.

قالت: «لدي قهوة، من يريد بعضًا منها؟»

رفعنا جميعًا أيدينا. وحملقتُ في والديَّ متحديًا.

فقالت: «حسنًا.»

اختفت في غرفة أخرى، وعادت بعد قليل تحمل صينية من الخيزران الخشن عليها إبريق حافظ للحرارة سعة حوالي لتر ونصف، وستة أكواب ذات تصميم دقيق لكن تعلوها رسوم غير متقنة وغير مستوية. أعجبني ذلك أيضًا.

قالت وهي تصب القهوة وتقدمها لنا: «والآن، أسعدتني رؤيتكم جميعًا. أعتقد أن آخر مرة رأيتك فيها، يا ماركوس، كنت في السابعة تقريبًا من عمرك. وكما أتذكر، كنت متحمسًا للغاية بشأن ألعاب الفيديو الجديدة خاصتك التي عرضتها لي.»

لم أتذكر كل ذلك، لكن هذا ما كنت عليه وأنا في السابعة من عمري. خمنت أن ما كانت تتحدث عنه هو لعبة «سيجا دريمكاست».

أخرجَتْ مسجل شرائط، وإضمامة ورق صفراء، وقلمًا، وأدارت القلم. «أنا هنا لأستمع إلى كل ما ستخبرونني به، ويمكنني أن أعدكم بالحفاظ على سرية هذه المعلومات، لكن ليس بإمكاني أن أعدكم بأنني سأفعل أي شيء بها، أو أنها ستنشَر.» أسلوبها في قول ذلك جعلني أدرك أن أمي قد قدمت لنا خدمة هائلة باتصالها بتلك السيدة وإيقاظها من النوم، سواء أكانت صديقة أم لا. لا بد أنه أمر مزعج للغاية أن يكون المرء صحفيًّا استقصائيًّا مهمًّا؛ فهناك على الأرجح أعداد هائلة من الناس يرغبون في أن تتولى قضاياهم.

أومأت أمي برأسها لي. ورغم أنني كنت قد رويت القصة ثلاث مرات تلك الليلة، عُقِد لساني؛ فقد كان ذلك مختلفًا عن روايتها لوالديَّ ووالد داريل. لقد كان ذلك أشبه ببدء حركة جديدة في اللعبة.

بدأت ببطء، وشاهدت باربارا وهي تسجل الملاحظات. شربتُ كوبًا كاملًا من القهوة أثناء شرحي لألعاب الواقع البديل، وخروجي من المدرسة للعبها. استمع أبي وأمي والسيد جلوفر بتركيز لهذا الجزء. صببت لنفسي كوبًا آخر، وشربته أثناء شرحي كيف قُبِض علينا. ومع انتهائي من القصة بالكامل، كنت قد أفرغت الإبريق واشتدت حاجتي للتبول كثيرًا.

افتقر الحمام للأثاث مثل غرفة المعيشة، وكان به صابون عضوي بني اللون وقد بدت رائحته مثل رائحة الطمي النظيف. عدت إليهم، ووجدتهم يراقبونني في هدوء.

روى السيد جلوفر قصته بعد ذلك. لم يكن لديه شيء ليقوله بشأن ما حدث، لكنه أوضح أنه من المحاربين القدامى وابنه فتى صالح. وتحدث عن شعوره عند اعتقاده أن ابنه قد توفي، وعن انهيار مطلقته عندما اكتشفت الأمر ودخولها المستشفى. بكى قليلًا، دون خجل، وتدفقت الدموع على وجهه المليء بالتجاعيد لتسوِّد ياقة الزي الرسمي الذي كان يرتديه.

وعند الانتهاء، دخلت باربارا غرفة مختلفة، وجاءت حاملةً زجاجة ويسكي أيرلندي. قالت، وهي تضع أربعة أكواب صغيرة، مع عدم إحضار كوب لي: «هذه زجاجة بوشميلز معتقة لمدة خمسة عشر عامًا. أعتقد أن الآن وقت مناسب لفتحها.»

صبَّت لكلٍّ منهم كوبًا صغيرًا، ثم رفعت كوبها، وارتشفت منه لتفرغ نصفه. ونهج الباقون نهجها. شربوا ثانيةً وأنهوا أكوابهم، وأخذت هي تصب لهم.

قالت: «حسنًا، إليكم ما يمكنني قوله لكم الآن. إنني أصدقكم، ليس فقط لأنني أعرف ليليان، لكن لأن القصة تبدو صادقة، وتتماشى مع إشاعات أخرى سمعتها. لكن لا يمكنني الاعتماد على شهادتكم فقط، ومن ثم سأحقق في كل جانب من الأمر، وحياتكم ورواياتكم. وينبغي أن أعرف ما إذا كان هناك أي شيء لم تخبروني به، أي شيء يمكن استخدامه لتكذيبكم بعد الإعلان عن ذلك. إنني بحاجة لمعرفة كل شيء. وقد يستغرق الأمر أسابيع قبل أن أكون على استعداد للنشر.

عليكم أيضًا بالتفكير في سلامتكم، وسلامة داريل. إذا كان داريل شخصًا يُنفَى وجوده رسميًّا، فالضغط على وزارة الأمن الوطني يمكن أن يدفعهم لنقله إلى مكان أبعد بكثير، سوريا على سبيل المثال. ويمكنهم أيضًا فعل ما هو أسوأ من ذلك.» قالت ذلك دون أي توضيح. علمت أنها كانت تعني أنهم قد يقتلونه.

«سآخذ هذا الخطاب، وأمسحه ضوئيًّا الآن. أريد صورًا لكما الآن، ولاحقًّا … يمكننا إرسال مصور فوتوغرافي، لكنني أريد توثيق ذلك على أدق نحو ممكن الليلة.»

ذهبت معها إلى مكتبها لإجراء المسح الضوئي. توقعت أن أجد جهاز كمبيوتر حديث الطراز منخفض استهلاك الطاقة يتناسب مع الديكور، لكن ما وجدته كان مكتبًا به سرير احتياطي ومكتظًّا بأجهزة كمبيوتر شخصية حديثة جدًّا، وشاشات مسطحة كبيرة، وماسح ضوئي كبير بما فيه الكفاية لوضع فرخ كامل من ورق الصحف عليه. كانت سريعة للغاية في المسح الضوئي أيضًا. ولاحظت استخدامها لنظام التشغيل «بارانويد لينكس»، الأمر الذي استحسنته. هذه السيدة تأخذ وظيفتها على محمل الجد.

أحدثت مراوح أجهزة الكمبيوتر حاجزًا فعالًا من الضوضاء، لكنني مع ذلك أغلقت الباب واقتربت منها.

«باربارا!»

«نعم.»

«بشأن ما قلتِهِ عما يمكن استخدامه لتكذيبي.»

«نعم؟»

«ما سأخبرك به لن تخبري به أحدًا، أليس كذلك؟»

«نظريًّا. دعني أوضح لك شيئًا؛ لقد دخلت السجن مرتين لأنني لم أشِ بمصدر أخباري.»

«حسنًا، يا إلهي! السجن! حسنًا.» وأخذت نفسًا عميقًا، وقلت لها: «لقد سمعتِ عن شبكة إكس نت ومايكي.»

«نعم.»

«أنا مايكي.»

فقالت: «أوه!» شغَّلَتِ الماسح الضوئي، وقلبت الرسالة لتمسح الوجه الآخر. كانت تجري المسح بدقة وضوح غير معقولة، ١٠٠٠٠ نقطة لكل بوصة أو أكثر. وعلى الشاشة، كانت المخرجات تشبه ناتج ميكروسكوب ماسح نفقي.

«حسنًا، سيغير هذا الأمر كثيرًا.»

«نعم، أظن ذلك.»

«والداك لا يعلمان؟»

«نعم، ولا أعلم إذا كنت أرغب في أن يعلما.»

«هذا أمر عليك أن تتوصل إلى قرار بشأنه. عليَّ التفكير في ذلك. هل يمكنك زيارتي في مكتبي؟ أود التحدث معك بشأن ما يعنيه ذلك بالضبط.»

«هل لديكِ جهاز «إكس بوكس يونيفرسال»؟ يمكنني إحضار برنامج تثبيت.»

«نعم، أثق أنه يمكن ترتيب ذلك. عندما تأتي لمكتبي، أخبر موظفة الاستقبال أنك السيد براون لتتمكن من مقابلتي. يعلمون ما يعنيه ذلك. لن يُسجَّل حضورك، وستُدمَّر تلقائيًّا كلُّ الصور التي تلتقطها كاميرات الأمن في ذلك اليوم، وتُعطَّل الكاميرات حتى ترحل.»

قلت لها: «يا إلهي! تفكرين مثلما أفكر.»

ابتسمت، وربتت على كتفي بقوة وهي تقول: «إنني في خضم هذه الأمور، يا بني، منذ وقت طويل للغاية، وتمكنت خلال تلك الفترة أن أقضي خارج السجن وقتًا يفوق ما قضيته داخله؛ ولذا، فأنا وجنون الارتياب صديقان.»

•••

كنت أشبه بالزومبي في اليوم التالي بالمدرسة؛ فلم أنم سوى ثلاث ساعات فقط، ولم يفلح تناولي لثلاثة أكواب من القهوة التركية في تنشيط ذهني. تكمن مشكلة الكافيين في سهولة التعود عليه؛ ومن ثم ينبغي زيادة الجرعات للوصول إلى ما هو فوق المستوى العادي.

قضيت الليلة الماضية أفكر فيما ينبغي عليَّ فعله. كان الأمر أشبه بالجري في متاهة من الممرات الصغيرة المتعرجة، التي تتشابه جميعها ويؤدي كلٌّ منها إلى النهاية المسدودة ذاتها. عندما ذهبت إلى باربارا، كانت تلك النهاية. كانت هذه النتيجة بغض النظر عن نظرتي لها.

بانتهاء اليوم الدراسي، كان كل ما أريده هو العودة للمنزل، والدخول إلى السرير. لكن كان لدي موعد في صحيفة «باي جارديان» التي يقع مبناها مواجهًا لشاطئ الخليج. لم أرفع عينيَّ عن قدميَّ أثناء خروجي من البوابة، وعند وصولي إلى شارع ٢٤، لاحظت سير شخص ما بجواري. تعرفت على الحذاء، وتوقفت.

«آنج!»

عكسَ مظهرها حالة مماثلة لحالتي من قلة النوم وانتفاخ العينين، والتجاعيد حول جانبي فمها تعكس حزنها.

قالت: «مرحبًا! مفاجأة. انصرفتُ دون استئذان من المدرسة؛ فلم يعد بإمكاني التركيز بأي حال من الأحوال.»

«امممم.»

«اخرس، وعانقني أيها الأحمق.»

عانقتها، وغمرني شعور جيد، بل رائع. شعرت كما لو أن عضوًا بجسدي قد بُتِر وأعيد إليَّ.

«أحبك يا ماركوس يالو.»

«أحبك يا آنجيلا كارفيلي.»

قالت بصوت متقطع: «حسنًا، أعجبني ما نشرته عن سبب عدم ممارستك للتشويش، وأحترم ذلك. ماذا فعلت بشأن العثور على طريقة للتشويش عليهم دون القبض عليك؟»

«أنا في طريقي لمقابلة صحفية استقصائية ستنشر قصة دخولي السجن، وتدشيني لشبكة إكس نت، واحتجاز داريل غير القانوني من جانب وزارة الأمن الوطني في سجن سري بجزيرة «تريجر آيلاند».»

نظرت حولها، وقالت: «أوه! ألا يمكنك أن تفكر في أي شيء طموح؟»

«أترغبين في المجيء؟»

«نعم، سآتي. وأريد منك أن تشرح لي القصة بالتفصيل إذا لم تكن تمانع.»

مقارنةً بكل المرات التي رويت فيها القصة، كانت تلك المرة التي رويتها لآنج أثناء سيرنا إلى حي بوتريرو ثم شارع ١٥ هي الأسهل. أمسكت بيدي، وضغطت عليها بين الحين والآخر.

صعدنا السلالم معًا بسرعة وصولًا لمكاتب صحيفة «باي جارديان». كان قلبي يدق بعنف. وصلت لمكتب الاستقبال، وقلت للفتاة الضجرة التي كانت تقف خلفه: «أنا هنا لمقابلة باربارا ستراتفورد. اسمي السيد جرين.»

«أعتقد أنك تعني السيد براون؟»

قلت وقد تورد وجهي خجلًا: «نعم، السيد براون.»

فعلت شيئًا بالكمبيوتر أمامها، ثم قالت: «تفضلا بالجلوس، ستخرج باربارا حالًا. هل أجلب لكما أي شيء؟»

قلنا معًا: «قهوة.» من أسباب إعجابي بآنج أيضًا أننا كنا مدمنين للشيء نفسه.

أومأت موظفة الاستقبال برأسها — وقد كانت امرأة جميلة من أصول لاتينية تكبرنا بأعوام قليلة وترتدي ملابس هيبيز قديمة الطراز — وخرجت لتعود بكوبين من القهوة يحملان اسم الصحيفة.

ارتشفنا القهوة في صمت مع مشاهدة الزوار والصحفيين وهم يمرون أمامنا. وأخيرًا، خرجت باربارا لاستقبالنا. كانت ترتدي ما ارتدته الليلة السابقة. كان يليق بها. رفعت حاجبها لي عندما لاحظت إحضاري لصديقتي معي.

قلت لها: «مرحبًا! هذه …»

قالت آنج، وهي تمد يدها: «السيدة براون.» يا إلهي! نسيت أن هويتنا من المفترض أن تكون سرية. دفعتني دفعة رقيقة بمرفقها وقالت: «أعمل مع السيد جرين.»

قالت باربارا: «هيا بنا إذن.» وسارت أمامنا إلى غرفة اجتماعات ذات حوائط زجاجية طويلة وستائرها مغلقة. وضعت أمامنا صينية تحمل أطعمة عضوية كاملة تشبه بسكويت أوريو، ومسجلًا رقميًّا، وإضمامة ورق صفراء أخرى.

سألتْ: «هل ترغبان في تسجيل ذلك أيضًا؟»

لم أفكر في ذلك في الواقع. لكنني رأيت أنه قد يفيد في حال أردت تفنيد ما ستنشره باربارا. لكنني إذا لم أكن واثقًا فيها، فأنا هالك على أية حال.

قلت لها: «ما من مشكلة.»

«حسنًا، لنبدأ. اسمي، يا فتاة، باربارا ستراتفورد، وأعمل صحفية استقصائية. أعتقد أنك تعلمين سبب وجودي هنا، ولدي فضول في أن أعرف سبب وجودك أيضًا.»

قالت: «أعمل مع ماركوس على شبكة إكس نت. هل هناك حاجة لمعرفة اسمي؟»

فأجابت باربارا: «ليس الآن، يمكن أن تظل هويتك مجهولة إذا أردتِ ذلك. يا ماركوس، لقد طلبت منك أن تخبرني بهذه القصة لأنني أرغب في معرفة علاقتها بالقصة التي أخبرتني بها بشأن صديقك داريل، والرسالة التي أريتني إياها، فأعتقد أنها ستكون عاملًا مساعدًا جيدًا؛ ويمكنني القول إن ذلك كان هو السبب وراء شبكة إكس نت: الرغبة في الانتقام. لكن تحريًا للأمانة، أفضل عدم نشر هذه القصة إذا لم أكن مضطرة لذلك.

أفضل نشر قصة صادقة لطيفة عن السجن السري الذي لا يبعد كثيرًا عن مدينتنا، دون الحاجة للدخول في مناقشة بشأن ما إذا كان السجناء في ذلك السجن من النوعية التي يمكن أن تخرج من هناك لتؤسس حركة سرية تعمد لزعزعة استقرار الحكومة الفيدرالية. إنني على ثقة من قدرتك على تفهم ذلك.»

لقد تفهمته بالفعل. إذا كانت شبكة إكس نت جزءًا من القصة، فسيرى بعض الناس أن من الأجدر اعتقال هؤلاء الشباب وإلا فسيثيرون الشغب.

قلت لها: «الأمر بيدك. أعتقد أنه ينبغي لك إخبار العالم عن داريل. وعندما تفعلين ذلك، ستعلم وزارة الأمن الوطني أنني قد كشفت السر، وحينذاك سيأتون للقبض عليَّ، ولعلهم سيكتشفون بذلك أن لي علاقة بشبكة إكس نت، ويربطون بيني وبين مايكي. ما أعنيه هو أنه بمجرد نشرك لقصة داريل، فستكون هذه نهايتي بأي حال. وليست لدي مشكلة في ذلك.»

فقالت: «معك حق؛ وهل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها؟! حسنًا، اتفقنا. أريد منكما أن تخبراني بكل شيء يمكنكما إخباري به بشأن تأسيس شبكة إكس نت وتشغيلها، وأريد بعد ذلك شرحًا مفصلًا: فيمَ تستخدمانها؟ ومَن أيضًا يفعل ذلك؟ وكيف انتشرت؟ ومن صمم البرنامج؟ كل شيء.»

قالت آنج: «سيستغرق ذلك بعض الوقت.»

ردت باربارا: «لدي متسع من الوقت.» وشربَت بعض القهوة وأكلت بعضًا من بسكويت أوريو المُقلَّد. «قد تكون هذه القصة من أهم قصص الحرب على الإرهاب، وقد تكون هي التي تطيح بالحكومة. عندما تكون لديك قصة كهذه، عليك التعامل معها بحرص شديد.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤