الفصل السابع

أهدي هذا الفصل لمتجر بوكس أوف واندر بمدينة نيويورك، أقدم وأضخم متجر كتب أطفال في مانهاتن. يقع على بُعد بضعة مربعات سكنية من مكاتب «تور بوكس» في مبنى فلاتيرن. وكل مرة أذهب فيها إلى «تور بوكس»، أنسل خلسة دائمًا لزيارة بوكس أوف واندر للاطلاع على ما يزخر به من كتب أطفال جديدة وقديمة ونادرة. أعشق جمع الإصدارات النادرة لقصة «آليس في بلاد العجائب»، ولا يكف متجر بوكس أوف واندر عن إبهاري بإصدار محدود جميل لهذه القصة. ينظم المتجر كذلك عددًا هائلًا من الفعاليات للأطفال، ويتمتع بواحد من أكثر الأجواء جاذبية مقارنةً بأي متجر آخر للكتب دخلته.

***

قاداني إلى الخارج حتى وصلنا إلى ناصية الشارع حيث وقفت سيارة شرطة لا تحمل أية علامات، لكن لم يصعب على أحد في ذلك الحي اكتشاف أنها كانت سيارة شرطة؛ فالشرطة وحدها هي التي تقود سيارات «كراون فيكتوريا» كبيرة الآن بعد أن وصل سعر جالون البنزين إلى سبعة دولارات، كما أن رجال الشرطة وحدهم هم الذين يمكنهم الانتظار صفًّا ثانيًا في منتصف شارع فان نيس دون أن تَسحب سياراتهم قُطعان سيارات السحب الضارية الخاصة بالمرور، التي تجوب الأرجاء وتقوم على تطبيق قواعد الانتظار غير المفهومة بسان فرانسيسكو، وجمع الغرامات لإطلاق سراح سيارتك بعد سحبها.

امتخط الرجل الذي كان المخاط الجاف على أنفه. جلست في المقعد الخلفي برفقته. أما زميله، فجلس في المقعد الأمامي، وأخذ يكتب بإصبع واحد على كمبيوتر محمول قديم مُجدَّد بدا كما لو كان «فريد فلينستون» — الشخصية الكرتونية التي من العصر الحجري — أول مالك له.

فحص الرجل ذو المخاط بطاقة هويتي بعناية ثانيةً، وقال: «لا نريد سوى أن نطرح عليك بعض الأسئلة الروتينية.»

قلت: «هل يمكنني رؤية شارتيكما؟» كان من الواضح أنهما شرطيان، لكن لن يضر أن أجعلهما يعلمان أنني أعرف حقوقي.

لوَّح ذو المخاط بشارته أمامي سريعًا، فلم أستطع أن ألقي نظرة جيدة عليها، لكن زميله ذا البثرة الذي جلس في المقعد الأمامي أتاح لي رؤية شارته جيدًا. رأيت رقم قسمهما، وتذكرت رقم الشارة المكون من أربعة أرقام. كان سهلًا: ١٣٣٧؛ إذ يستخدمه قراصنة الكمبيوتر لكتابة «لييت»؛ أي ما يعني «الصفوة».

اتسم كلاهما بالأدب الشديد، ولم يحاول أيٌّ منهما إرهابي مثلما فعل ضباط وزارة الأمن الوطني عندما كنت رهن الاعتقال.

«هل أنا رهن الاعتقال؟»

قال ذو المخاط: «أنت رهن الاعتقال لمدة قصيرة للغاية لضمان أمنك والأمن العام.»

ناول رخصة القيادة الخاصة بي لصاحب البثرة، الذي نقل ما بها ببطء على الكمبيوتر. رأيته يخطئ في الكتابة، وكدت أصحح له، لكنني رأيت بعد ذلك أنه من الأفضل أن أظل صامتًا.

«هل من شيء تود إخباري به يا ماركوس؟ هل ينادونك مارك؟»

فأجبته: «يمكنك مناداتي ماركوس.» كان ذو المخاط — على ما يبدو — رجلًا لطيفًا، فيما عدا بالطبع اختطافه لي لأدخل سيارته.

«هل هناك أي شيء تود إخباري به يا ماركوس؟»

«مثل ماذا؟ هل أنا رهن الاعتقال؟»

فقال ذو المخاط: «لست رهن الاعتقال الآن، هل تود أن تكون كذلك؟»

فأجبته: «كلا.»

«حسنًا، نحن نراقبك منذ مغادرتك محطة بارت، وبطاقة «فاست باس» الخاصة بك تشير إلى أنك قد ركبت القطار لعدة أماكن غريبة في العديد من الأوقات غير المعتادة.»

أشعرتني كلماته بالارتياح؛ فلم يتعلق الأمر إذن بشبكة «إكس نت» على الإطلاق. لقد كانوا يراقبون استخدامي لمترو الأنفاق، وأرادوا أن يعرفوا سبب اتسامه بالغرابة مؤخرًا. يا له من غباء مطبق!

«إذن، فأنتم تتبعون جميع من يخرج من محطات بارت ولديه تاريخ رحلات غريب؟ لا بد أنكم مشغولون حقًّا.»

«ليس الجميع يا ماركوس. يصلنا تنبيه عندما يخرج أي شخص له تاريخ رحلات غير معتاد، ويساعدنا ذلك في تقييم ما إذا كنا بحاجة للتحقيق في الأمر أم لا. وفي حالتك، جئنا إليك لرغبتنا في معرفة سبب امتلاك فتى ذكي مثلك تاريخ رحلات عجيبًا كهذا.»

هكذا، وبعد أن اختفى شبح دخول السجن الذي كان يلوح أمامي، ازداد غضبي. لا يحق لهؤلاء الناس التجسس عليَّ … يا إلهي! محطة بارت ليس من حقها «مساعدتهم» في ذلك. أين أبلغت بطاقة مرور مترو الأنفاق خاصتي عن «نمط رحلاتي غير المعتاد»؟

قلت لهما: «أعتقد أنني أرغب في أن يتم اعتقالي الآن.»

رجع الرجل ذو المخاط بظهره إلى الخلف، ونظر إليَّ رافعًا أحد حاجبيه.

«حقًّا؟ وما التهمة؟»

«حسنًا، أنت تعني أن ركوب المواصلات العامة على نحو غير معتاد ليس جريمة؟»

أغمض ذو البثرة عينيه، وفركهما بإبهاميه.

تنهد ذو المخاط على نحو مصطنع، وقال: «انظر يا ماركوس، نحن نؤيدك فيما تقول. إننا نستخدم هذا النظام للقبض على المجرمين والإرهابيين وتجار المخدرات. لعلك أنت نفسك تاجر مخدرات، وبطاقة «فاست باس» وسيلة جيدة للتنقل في أرجاء المدينة دون التعرف على هويتك.»

«ما الخطأ في أن أكون مجهول الهوية؟ لقد استفاد من ذلك الرئيس توماس جيفرسن. وبالمناسبة، هل أنا رهن الاعتقال؟»

قال ذو البثرة: «لنأخذه إلى المنزل، ونتحدث مع والديه.»

قلت: «أعتقد أن هذه فكرة رائعة، فأنا موقن أنَّ والديَّ يتوقان لمعرفة أين تُنفَق أموال الضرائب التي يدفعانها …»

تماديت في حديثي. كان ذو المخاط يحاول الوصول إلى مقبض الباب، لكنه استدار نحوي، وقد برزت في وجهه أوردته الخافقة. «لماذا لا تخرس الآن ولا يزال ذلك خيارًا أمامك؟ بعد كل ما حدث في الأسبوعين الماضيين، لن يضرك كثيرًا التعاون معنا. أتعلم، لعله ينبغي أن نقبض عليك. يمكن أن تقضي يومًا أو اثنين في السجن بينما يبحث عنك محاميك. والكثير يمكن أن يحدث في ذلك الوقت … الكثير. ما رأيك؟»

لم أنطق. أصابني الدوار والغضب، وصرت مخبولًا فزعًا.

تمكنت أخيرًا من قول: «أنا آسف»، وكرهت نفسي للمرة الثانية لنطقي بها.

انتقل ذو المخاط إلى المقعد الأمامي، وأدار ذو البثرة السيارة منطلقًا في شارع ٢٤ ثم إلى حي بتريرو هيل. لقد عرفا عنواني من بطاقة هويتي.

فتحت أمي الباب عندما دقَّا الجرس، مع إبقاء السلسلة مغلقة. ألقت نظرة خاطفة من ورائه، فرأتني وقالت: «ماركوس؟! من هذان الرجلان؟»

أجاب ذو المخاط: «شرطة»، وأظهر شارته لها، مع السماح لها بإلقاء نظرة جيدة عليها دون أن يستلها سريعًا على النحو الذي فعله معي. «هل يمكننا الدخول؟»

أغلقت أمي الباب، وفتحت السلسلة، وسمحت لهما بالدخول. قاداني للداخل، ورمقت أمي ثلاثتنا بإحدى نظراتها التي أعرفها.

«ماذا يحدث؟»

أشار ذو المخاط إليَّ، وقال: «أردنا أن نطرح على ابنك بعض الأسئلة الروتينية بشأن تحركاته، لكنه رفض الرد عليها، ورأينا أنه من الأفضل إحضاره إلى هنا.»

«هل هو رهن الاعتقال؟» جاءت لهجة والدتي حادة. أحسنتِ يا والدتي العجوز!

قال ذو البثرة: «هل أنتِ مواطنة أمريكية يا سيدتي؟»

رمقته بنظرة يملؤها الغضب، وقالت بلهجة جنوبية قوية: «بالطبع! هل أنا رهن الاعتقال؟»

تبادل الشرطيان النظر أحدهما للآخر.

بادر ذو البثرة الحديث قائلًا: «يبدو أننا بدأنا بداية سيئة. لقد توصلنا إلى أن ابنك يستخدم المواصلات العامة على نحو غير معتاد، وذلك في إطار برنامج جديد وقائي لتنفيذ القانون، وعندما نحدد أشخاصًا لهم نمط رحلات غير معتاد، أو يتشابه مع شخص مثير للشبهات، نواصل التحقيق في الأمر.»

قالت أمي: «انتظر! كيف علمتم بكيفية استخدام ابني للمواصلات العامة؟»

أجابها قائلًا: «بطاقة «فاست باس»؛ فهي تتعقب الرحلات.»

فقالت والدتي وهي تطوي ذراعيها على صدرها: «فهمت.» وطيُّ والدتي لذراعيها على صدرها علامة سيئة. كان الأمر سيئًا بالفعل لعدم تقديمها الشاي لهما — عند والدتي، كان هذا يعني عدم ترحيبها بهما — لكن طيها لذراعيها كان معناه أن الأمر سينتهي نهاية سيئة لهما. في تلك اللحظة، أردت الذهاب لشراء باقة كبيرة من الورود لها.

«رفض ماركوس إخبارنا بسبب تحركاته على هذا النحو.»

«هل تعنيان أنكما تعتقدان أن ابني إرهابي بسبب نهجه في ركوب المواصلات؟»

قال ذو البثرة: «ليس الإرهابيون وحدهم من نقبض عليهم باتباع هذه الطريقة، هناك أيضًا تجار المخدرات وشباب العصابات، بل وسارقو المتاجر ممن هم بالقدر الكافي من الذكاء لارتكاب جرائمهم في حي مختلف في كل مرة.»

«أتعتقدان أن ابني تاجر مخدرات؟»

شرع ذو البثرة في الحديث: «ليس هذا ما نقوله …» فصفَّقت والدتي أمامه لإسكاته.

«ماركوس، ناولني رجاءً حقيبة الظهر خاصتك.»

ففعلت.

فتحت والدتي الحقيبة، وفتشتها، بعد أن أدارت ظهرها لنا.

«أيها الشرطيان، أستطيع أن أؤكد لكما الآن أنه ما من مخدرات أو متفجرات أو أية حُليٍّ رخيصة مسروقة في حقيبة ابني. أعتقد بذلك أننا نكون قد انتهينا مما نحن بصدده. أريد الاطلاع على رقمَيْ شارتيكما قبل أن تغادرا، من فضلكما.»

رمقها ذو المخاط بنظرة استهزاء، وقال لها: «يقاضي الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية ثلاثمائة شرطي من جهاز شرطة سان فرانسيسكو يا سيدتي؛ ومن ثَمَّ، عليكِ انتظار دورك.»

•••

أعدت لي أمي كوبًا من الشاي، ووبختني لتناولي العشاء رغم علمي بإعدادها الفلافل. حضر والدي إلى المنزل بينما كنا لا نزال على المائدة، وتناوبتُ مع أمي إخباره بما حدث. هزَّ والدي رأسه.

«إنهما يؤديان عملهما فحسب يا ليليان.» كان لا يزال يرتدي السترة الزرقاء والسروال الكاكي الذين اعتاد ارتداءهما أثناء عمله كمستشار في وادي السيليكون. استطرد حديثه قائلًا: «لم يعد العالم كما كان الأسبوع الماضي.»

أنزلت والدتي كوب الشاي الذي كانت تشربه. «درو، هذا سخف! ابنك ليس إرهابيًّا، واستخدامه لجهاز النقل العام ليس سببًا لاستجواب الشرطة له.»

خلع والدي سترته، وقال: «هذا ما نفعله دومًا في العمل، فهكذا يمكن استخدام الكمبيوتر للوصول إلى كافة الأخطاء والحالات الشاذة والنتائج. نطلب من الكمبيوتر إنشاء ملف تعريفي لسجل عادي في قاعدة البيانات، ثم نطلب منه الكشف عن السجلات الموجودة في قاعدة البيانات البعيدة تمامًا عما هو عادي. إنه جزء مما يعرف بتحليل بايزي، الذي يُستخدم منذ فترة طويلة. ودونه لا يمكننا تصفية البريد العشوائي …»

سألته: «إذن، فما تقوله هو أن الشرطة يجب أن تفعل بنا مثلما تفعل أداة تصفية البريد العشوائي؟»

لم يغضب والدي قط عند جدالي معه، لكن الليلة بدا توتره في تزايد. رغم ذلك، لم أستطع المقاومة؛ فوالدي يناصر الشرطة!

«ما أقوله هو أنه من المنطقي تمامًا أن تجري الشرطة تحقيقاتها بأن تبدأ بالتنقيب في البيانات، ثم جمع المعلومات حيث يتدخل العنصر البشري للتوصل إلى سبب الخروج عن المعتاد. ولا أرى أن جهاز الكمبيوتر يجب أن يخبر الشرطة بمن تعتقله، وإنما يساعدها فحسب في تفتيش كوم القش بحثًا عن إبرة.»

قلت: «لكن بحصولهم على كل هذا الكم من البيانات من نظام النقل، فإنهم يخلقون كوم القش. إنه كم هائل من البيانات، وما من شيء يستحق البحث عنه فيه، من وجهة نظر الشرطة. إنه مضيعة تامة للوقت.»

«أتفهم عدم رضاك عما تسبب فيه هذا النظام من إزعاج لك يا ماركوس، لكنك من بين كل الناس عليك أن تقدر خطورة الموقف. ما من ضرر وقع، أليس كذلك؟ بل إنهما أوصلاك إلى المنزل أيضًا.»

فكرت في أنهما هدداني بالسجن، لكنني لم أجد داعيًا لذكر ذلك.

«بالإضافة إلى ذلك، فإنك لم تخبرنا بعدُ أين ذهبت ليصبح لك هذا النمط غير المعتاد من التحركات.»

أخرستني هذه الكلمات.

«أعتقد أنك تثق في حُكمي، ولذلك لم تتجسس عليَّ.» كثيرًا ما كان يقول ذلك. «هل تريدني حقًّا أن أفسر كل رحلة قمت بها؟»

•••

ما إن وصلتُ إلى غرفتي حتى التقطتُ جهاز «الإكس بوكس». كنت قد ثبَّتُّ جهاز البروجيكتور بالسقف ليلقي بإضاءته على الحائط فوق سريري (لزم عليَّ إنزال اللوحة الجدارية الرائعة لإعلان موسيقى البانك روك، الذي أزلته من على أعمدة خطوط الهاتف وألصقته على ألواح كبيرة من الورق الأبيض).

قمت بتشغيل جهاز «إكس بوكس»، وشاهدته وهو يظهر على الشاشة. كنت سأرسل بريدًا إلكترونيًّا إلى فان وخولو لأخبرهما بشأن شجاري مع الشرطيين، لكن ما إن وضعت أصابعي على لوحة المفاتيح حتى تراجعت.

تسلل إلى داخلي شعور يشبه ما شعرت به عندما أدركت أنهم حوَّلوا جهاز «سالمجندي» القديم المسكين الخاص بي إلى خائن. وهذه المرة كان شعورًا بأن شبكة «إكس نت» العزيزة قد تشي بموقع كل من يستخدمها لوزارة الأمن الوطني.

والسبب في ذلك الشعور هو ما قاله والدي: «نطلب من الكمبيوتر إنشاء ملف تعريفي لسجل عادي في قاعدة البيانات، ثم نطلب منه الكشف عن السجلات الموجودة في قاعدة البيانات البعيدة تمامًا عما هو عادي.»

كانت شبكة «إكس نت» مؤمَّنة لأن مستخدميها لا يتصلون مباشرةً بالإنترنت، وإنما كانوا يتنقلون من جهاز إكس بوكس لآخر حتى يعثروا على جهاز متصل بالإنترنت، ثم يُدخِلوا ما لديهم كبيانات مُشفَّرة غير قابلة لفكِّ شفرتها. ولا يمكن لأحد أن يحدد حزم بيانات الإنترنت التي تمثل شبكة إكس نت، والأخرى التي لا تمثل سوى اتصالات صريحة للعمليات المصرفية أو التجارة الإلكترونية أو غير ذلك من الاتصالات المشفَّرة. فلا يمكن التوصل إلى من يربط شبكة إكس نت بعضها ببعض، ناهيك عمَّن يستخدمها.

لكن ماذا عن «الإحصائيات البايزية» التي تحدث عنها أبي؟ سبق لي التلاعب بهذه التحليلات من قبل. حاولت أنا وداريل في إحدى المرات إنشاء أداة تصفية بريد عشوائي أفضل خاصة بنا، وعند تصفية البريد العشوائي تحتاج للعمليات الإحصائية البايزية. توماس بايزي رياضي بريطاني عاش في القرن الثامن عشر، لم يُعِره أحد اهتمامًا إلا بعد نحو مائتي عام من وفاته، وذلك عندما أدرك علماء الكمبيوتر أن أسلوبه في تحليل الكميات الهائلة من البيانات إحصائيًّا يمكن أن يكون له فائدة مذهلة مع تلال المعلومات التي نعاصرها الآن.

إليك بعض المعلومات حول كيفية عمل الإحصائيات البايزية. لنفترض أن لديك مجموعة من رسائل البريد العشوائي، تأخذ كل كلمة في هذه الرسائل وتحصي عدد مرات ظهورها. يُعرَف هذا باسم «المدرج الإحصائي لتكرار الكلمات»، ويوضح احتمالية أن تكون أية مجموعة من الكلمات بريدًا عشوائيًّا. والآن، فلتأخذ كمًّا هائلًا من البريد الإلكتروني غير العشوائي، وتكرر ما فعلته من قبل.

انتظر حتى تصلك رسالة بريد إلكتروني جديدة، وأحصِ الكلمات التي تظهر فيها. استخدم بعد ذلك المدرج الإحصائي لتكرار الكلمات في الرسالة المُرشَّحة لحساب احتمالية انتمائها لمجموعة «البريد العشوائي» أو «البريد غير العشوائي»، وإذا اتضح أنها بريد عشوائي، فقم بتعديل المدرج الإحصائي «للبريد العشوائي» وفقًا لذلك. هناك العديد من الطرق لتحسين هذه التقنية، مثل البحث عن الكلمات في أزواج، مع التخلص من البيانات القديمة، لكن هذا هو جوهر عملها. إنها إحدى تلك الأفكار البسيطة الرائعة التي تبدو واضحة بعد سماعك عنها.

ولها العديد من التطبيقات؛ فيمكنك أن تطلب من الكمبيوتر أن يحصي الخطوط في إحدى الصور، وترى ما إذا كانت أشبه بمدرج إحصائي تكراري لخطوط «قطة» أم «كلب». ويمكن أن تكشف عن مواد إباحية، أو احتيال مصرفي، أو رسائل عدائية في منتدى إلكتروني أو ما شابه … كلها أشياء مفيدة بالطبع.

وهذا أمر سيئ فيما يتعلق بشبكة «إكس نت»؛ فإذا كنت تتجسس على الإنترنت بالكامل — وهذا بالطبع ما تفعله وزارة الأمن الوطني — فلا يمكنك تحديد من يمرر حزم بيانات «إكس نت» من خلال النظر في محتويات هذه الحزم، وذلك بفضل التشفير.

ما بإمكانك فعله حقًّا هو معرفة من يرسل أكبر نسبة معلومات مشفرة مقارنة بالآخرين؛ فجلسة العمل على الإنترنت للمتصفح العادي يكون على الأرجح ٩٥ بالمائة منها نصًّا غير مشفر، و٥ بالمائة نصًّا مُشفَّرًا؛ ومن ثَمَّ، إذا كان ٩٥ بالمائة مما يرسل به شخص ما نصًّا مُشفَّرًا، فقد تُرسِل شرطيين في نفس معرفة الشرطيين ذي المخاط وذي البثرة بالكمبيوتر لسؤالهما عما إذا كان مستخدم شبكة إكس نت تاجر مخدرات أو إرهابيًّا أم لا.

يحدث ذلك دومًا في الصين. يتوصل أحد المعارضين الأذكياء إلى فكرة بشأن الالتفاف حول «جدار الحماية العظيم» في الصين، وهو الجدار المستخدَم للرقابة على اتصالات الإنترنت في الدولة بأكملها، من خلال استخدام اتصال مُشفَّر بجهاز كمبيوتر في دولة أخرى. ولا يستطيع الحزب الشيوعي هناك تحديد ما يتصفحه المعارض على الإنترنت؛ فربما يكون موادَّ إباحية، أو إرشادات لصنع القنابل، أو رسائل جنسية من صديقته في الفلبين، أو موادَّ سياسية، أو أخبارًا جيدة عن العِلمولوجيا. ليس عليهم أن يعرفوا، كل ما عليهم معرفته هو أن نسبة الاستخدام المشفَّر للشبكة من هذا الشاب أكثر بكثير من جيرانه، عندئذٍ يرسلونه إلى أحد معسكرات العمل القسريِّ ليكون عبرة للآخرين عندما يرون ما يحدث لمن يظنون أنفسهم أذكياء.

حتى ذلك الحين، كنت على استعداد للمراهنة على أن شبكة «إكس نت» خاضعة لرقابة وزارة الأمن الوطني، لكن هذا الحال لن يدوم للأبد. وبعد الليلة، لم أكن متأكدًا من أنني أفضل حالًا من أي معارض صيني. إنني أعرِّض كل من يقومون بالدخول على تلك الشبكة للخطر؛ فالقانون لا يأْبَه بما إذا كنت ترتكب جرمًا حقًّا، ورجاله على استعداد لوضعك تحت المِجهر لمجرد أنك تتبع نمطًا سلوكيًّا غريبًا إحصائيًّا. وما كان بيدي إيقاف ذلك؛ فبعد تشغيل شبكة «إكس نت»، صارت كيانًا مستقلًّا.

عزمت على إصلاح ذلك بطريقة أخرى.

تمنيت التحدث مع خولو في هذا الشأن. كان خولو يعمل لدى إحدى شركات توفير خدمات الإنترنت تحمل اسم «بيجسبلين نت»، والتي قد وظفته وهو في سن الثانية عشرة؛ ففاقت معرفته بالإنترنت ما أعرفه بكثير. وإذا كان هناك من يعرف كيف نظل بعيدًا عن السجن، فسيكون هو.

لحسن الحظ، خططت أنا وفان وخولو للالتقاء لشرب القهوة الليلة التالية في مكاننا المفضل في حي ميشن بعد الدوام المدرسي. كان ذلك — رسميًّا — موعد الاجتماع الأسبوعي لفريق «هاراجوكو فان مادنس»، بيد أنه مع إلغاء اللعبة وغياب داريل، لم يتعدَّ الأمر كونه تجمعًا أسبوعيًّا للبكاء، تصحبه نحو ست مكالمات هاتفية ورسائل فورية يوميًّا من قبيل: «هل أنت بخير؟ هل حدث ذلك بالفعل؟» كان من الأفضل أن نجد شيئًا آخر نتحدث عنه.

•••

قالت فانيسا: «لقد فقدت صوابك. هل أنت مجنون كليةً، أم ماذا؟»

جاءت فان بزي مدرسة الفتيات الذي كانت ترتديه؛ وذلك لأنه كان من الصعب عليها أن تقطع الطريق الطويل للعودة إلى منزلها في حافلة المدرسة التي تسير بها أعلى جسر سان ماتيو ثم تعود إلى المدينة. لقد كرهت الظهور في أماكن عامة بزي المدرسة الأشبه بزي بطلة قصص المانجا المصورة «سيلور مون» المؤلَّف من تنورة بثنيات، وسترة، وجوارب تصل للركبتين. وقد كانت في حالة مزاجية سيئة منذ وصولها إلى المقهى الذي كان يعج بطلاب موسيقى الإيمو الجذابين الأكبر منها سنًّا، الذين أطلقوا ضحكات خافتة وأنظارهم مثبتة على القهوة التي يشربونها عند دخولها المقهى.

سألتُها: «ماذا تريدينني أن أفعل يا فان؟» بدأ الغضب يتملكني أنا أيضًا. لم تعد المدرسة تُحتمَل الآن بعد إلغاء اللعبة وغياب داريل. وطوال اليوم أثناء الحصص المدرسية، كنت أعزي نفسي بالتفكير في التقائي بفريقي … أو بالأصح مَن تبقى منه. أما الآن، فنحن نتشاجر.

«أريدك أن تتوقف عن المجازفة يا مايكي.» وقف حينها شعر رأسي من الهلع. كنا نستخدم، بالطبع، دومًا أسماء الفريق في اجتماعاتنا، لكن الآن وبعد أن صار اسمي مرتبطًا أيضًا باستخدامي لشبكة «إكس نت»، أفزعني سماعه على الملأ في مكان عام.

رددت بحدة: «لا تستخدمي هذا الاسم على الملأ ثانيةً.»

فهزت فان رأسها، وقالت: «هذا بالضبط ما أتحدث عنه. قد يكون مآلك السجن لما تفعله يا ماركوس، ولا يقتصر ذلك عليك وحدك، بل العديد من الناس، بعد ما حدث لداريل …»

«أفعل ذلك من أجل داريل!» أدار طلبة موسيقى الإيمو مقاعدهم للنظر إلينا، فخفضت صوتي، واستطردت: «أفعل ذلك لأن البديل هو السماح لهم بالإفلات بكل ما فعلوه.»

«هل تعتقد أن بإمكانك إيقافهم؟ لقد فقدت صوابك. إنهم الحكومة.»

فأجبت: «ولا تزال هذه بلادنا. لا يزال من حقنا فعل ذلك.»

بدت فان وقد أوشكت على البكاء. التقطتْ نفسين عميقين ونهضت، ثم قالت: «آسفة، لا يمكنني فعل ذلك، لا يمكنني مشاهدتك وأنت تفعل ذلك. إنه أشبه بمشاهدة تحطم سيارة بالتصوير البطيء. ستدمر نفسك، وحبي لك يمنعني من مشاهدة ذلك وهو يحدث.»

مالت عليَّ، عانقتني بشدة، وطبعت قبلة قوية على وجنتي اقتربت فيها من فمي، ثم قالت: «اعتنِ بنفسك يا ماركوس.» اشتعلت النار في فمي باقتراب شفتيها منه. قبَّلتْ خولو أيضًا، لكن على وجنته مباشرةً، ثم غادرت.

حدقت أنا وخولو كلٌّ منا في الآخر بعد رحيلها.

وضعت يديَّ على وجهي، وأخيرًا قلت: «اللعنة!»

ربَّت خولو على ظهري، وطلب لي كوبًا آخر من القهوة، وقال: «سيكون الحال على ما يرام.»

«اعتقدت أن فان — دون كل الناس — ستتفهم.» نصف عائلة فان تعيش في كوريا الشمالية، ولم ينسَ والداها قط العدد الكبير من ذويهم الذين يعيشون في ظل حكم ديكتاتور خَبِل، ولا يملكون الهروب إلى أمريكا مثلما فعلا هما.

هزَّ خولو كتفيه، وقال: «لعل ذلك ما أفزعها؛ فهي تعلم مدى الخطورة التي يمكن أن يصل إليها الأمر.»

علمت ما كان يتحدث عنه؛ زُجَّ باثنين من أعمام فان في السجن، ولم يظهرا ثانيةً مطلقًا.

فقلت: «نعم، أعلم.»

«لماذا لم تكن على شبكة إكس نت ليلة أمس؟»

شعرت بالامتنان لتغيير الموضوع. شرحت له الموضوع بالكامل، بما في ذلك التحليل البايزي وخوفي من عدم تمكننا من استخدام شبكة إكس نت كما اعتدنا دون التعرض للاعتقال. استمع إليَّ باهتمام.

«أفهم ما تقوله. المشكلة أنه لو تضمن اتصال الإنترنت لشخص ما قدرًا كبيرًا من التشفير، فسيُعَد غريبًا. وفي حال عدم استخدام التشفير، يصير من اليسير على الأشرار التجسس عليك.»

«نعم، حاولت طوال اليوم الوصول لحل. ربما يمكننا إبطاء الاتصال، ونشره على عدد أكبر من حسابات الأفراد …»

فأجابني: «لن يفيد ذلك. لإبطاء الاتصال بالقدر الكافي للاختفاء وسط البيانات المتداخلة، سيكون عليك في الأساس إيقاف تشغيل الشبكة، الأمر الذي لا يُعَد اختيارًا.»

قلت له: «أنت على حق، لكن ماذا بأيدينا فعله غير ذلك؟»

«ماذا إذا غيرنا تعريف كلمة «عادي»؟»

لهذا عينت شركة «بيجسبلين» خولو للعمل معها وهو في سن الثانية عشرة؛ فعندما تكون أمامه مشكلة لها حلَّان سيئان، يتوصل إلى حل ثالث مختلف تمامًا قائم على استبعاد كافة افتراضاتك. أومأت برأسي بقوة، وقلت له: «استمر، هاتِ ما عندك.»

«ماذا إذا كان مستخدم الإنترنت العادي بسان فرانسيسكو ينطوي استخدامه العادي للإنترنت على قدر أكبر من التشفير؟ إذا تمكنا من تغيير التوزيع بحيث تكون نسبة النص غير المشفر إلى النص المُشفَّر متعادلة، فسيبدو مستخدمو شبكة «إكس نت» مثل المستخدمين العاديين.»

«لكن كيف نفعل ذلك؟ لا يأبه الناس كثيرًا بشأن خصوصيتهم بقيامهم بتصفح الإنترنت من خلال رابط مُشفَّر، ولا يرون أهمية في أن يعلم المتجسِّسون ما يبحثون عنه على جوجل.»

«نعم، لكن صفحات الإنترنت تمثل نسبة صغيرة من استخدام البيانات. وإذا جعلنا الناس ينزلون دومًا بضعة ملفات مُشفَّرة ضخمة يوميًّا، فسيبلغ النص المُشفَّر الآلاف من صفحات الإنترنت.»

قلت له: «تتحدث عن شبكة مستقلة.»

فأجابني: «لقد فهمت ما أقصده.»

الشبكة المستقلة هي ما جعل شركة «بيجسبلين نت» واحدة من أكثر شركات توفير خدمات الإنترنت المستقلة نجاحًا في العالم. عندما بدأت كبرى شركات التسجيلات الموسيقية في مقاضاة عملائها لتنزيل المقاطع الموسيقية الخاصة بها، أصاب الذعر الكثير من شركات التسجيلات الموسيقية المستقلة ومن يتعاملون معها من فنانين. فكيف تجني الشركات المال بمقاضاة عملائها؟

توصلت مؤسِّسَة شركة «بيجسبلين» إلى الإجابة عن هذا السؤال؛ فعقدت اتفاقًا مع أي فنان يرغب في التعاون مع معجبيه بدلًا من محاربتهم: إذا أعطيت شركة «بيجسبلين» تصريحًا لتوزيع موسيقاك على عملائها، فسوف تمنحك نسبة من رسوم الاشتراك حسب مدى شعبية موسيقاك. إن المشكلة الكبرى للفنان المستقل ليست القرصنة، وإنما عدم الشهرة؛ بمعنى ألا يهتم أحد بما فيه الكفاية بألحانك لسرقتها.

ونجحت الفكرة؛ إذ وقَّعت المئات من شركات إنتاج الموسيقى والفنانين مع شركة «بيجسبلين». وكلما زادت الموسيقى بالموقع، زاد عدد المعجبين الذين يحصلون على خدمة الإنترنت من شركة «بيجسبلين»، وزاد مقدار المال الذي يحصل عليه الفنانون. وفي خلال عام، حصدت الشركة مائة ألف عميل جديد، وصار لديها الآن مليون عميل؛ أي أكثر من نصف عملاء الاتصالات واسعة النطاق في المدينة.

قال خولو: «عملت على تطوير كود الشبكة المستقلة لشهور الآن. كُتِبت البرامج الأصلية على نحو سريع وسيئ للغاية، ويمكن جعلها أكثر كفاءة بقليل من العمل، لكنني لم أجد الوقت فحسب. تمثلت إحدى أهم المهام في تشفير الاتصالات؛ لأن ترودي تفضل ذلك.» ترودي دو هي مؤسِّسة شركة «بيجسبلين». كانت فيما سبق أسطورة البانك روك في سان فرانسيسكو، المغنية الرئيسية في الفرقة النسوية الفوضوية «سبيدهورز»، وكان لديها ولع بشأن الخصوصية. كان بوسعي تصديق أنها تشفر ما تقدمه من خدمات موسيقية بناءً على مبادئ عامة.

«هل سيكون ذلك صعبًا؟ أعني كم سيستغرق من الوقت؟»

أجاب خولو: «حسنًا، يتوفر قدر هائل من الأكواد المشفَّرة مجانًا على الإنترنت، بالطبع.» وفعل مثلما فعل عند محاولته حل مشكلة كود معقد: شرد بذهنه، ونقر براحتيه على الطاولة، فانسكبت بعض القهوة في صحن الفنجان. شعرت برغبة في الضحك. قد يكون كل شيء مدمرًا ومخيفًا، لكن خولو سيكتب ذلك الكود.

«هل بوسعي المساعدة؟»

نظر إليَّ، وقال: «ماذا؟ أتعتقد أنني غير قادر على تدبر الأمر؟»

«ماذا؟»

«أعني أنك أنهيت العمل على شبكة إكس نت بالكامل دون أن تخبرني … دون أن تتحدث معي. اعتقدت أنك لم تحتج إلى مساعدتي في هذا الأمر.»

أخرستني كلماته، وكررت قولي: «ماذا؟» بدا خولو حانقًا حقًّا الآن. كان من الجلي أن ذلك يعتمل في صدره منذ فترة طويلة. «خولو …»

نظر نحوي، وتمكنت من رؤية غضبه الشديد. كيف لم أنتبه لذلك؟ يا إلهي! أكون مغفلًا حقًّا في بعض الأحيان. قال: «انظر يا صديقي، ليس هذا بالأمر المهم — كان يقصد بشكل واضح أنه مهم للغاية — كل ما هنالك أنك لم تطلب المساعدة قط. إنني أكره وزارة الأمن الوطني، وداريل كان صديقي أيضًا. كان بإمكاني حقًّا المساعدة في ذلك.»

شعرت بخجل شديد من نفسي، وقلت له: «اسمع يا خولو، كان ذلك غباءً مني حقًّا. لقد نفذت الأمر في الثانية صباحًا تقريبًا. كنت خبلًا حينها. إنني …» لم أتمكن من التفسير. نعم، لقد كان على حق، وهذه هي المشكلة. كانت الثانية صباحًا، لكن كان بإمكاني مع ذلك التحدث معه في الأمر في اليوم التالي أو الذي يليه. لم أفعل لأنني كنت أعلم ما كان سيقوله، كان سيقول إنه عمل محفوف بالمخاطر، وإنني بحاجة لإعادة النظر فيه. طالما تمكن خولو من تحويل ما يراودني من أفكار في الثانية صباحًا إلى كود حقيقي، لكن ما كان يتوصل إليه كان دائمًا مختلفًا بعض الشيء عما كنت أتوصل إليه. لقد أردت المشروع لنفسي، وتملكتني شخصية مايكي تمامًا.

قلت أخيرًا: «آسف، إنني آسف حقًّا، فأنت معك كل الحق. لقد فزعت فقط، وكان تصرفي أحمق. إنني بحاجة لمساعدتك حقًّا، ولا يمكنني تنفيذ هذا العمل بدونك.»

«هل تعني ما تقوله؟»

«بالطبع أعنيه. فأنت أفضل مصمم أكواد رأيته. إنك لعبقري حقًّا يا خولو، وسيشرفني أن تعينني في ذلك.»

أخذ ينقر بأصابعه أكثر، ثم قال: «إنه فقط … أنت تعلم. إنك القائد، وفان الشخص الذكي، وداريل كان … نائبك، من ينظم كل شيء ويراقب التفاصيل. أما البرمجة، فهذه كانت مهمتي؛ لذا، شعرت كما لو أنك تقول إنك لست بحاجة إليَّ.»

«يا إلهي! يا لي من أحمق! إنك أكثر من أعرفهم كفاءة — يا خولو — في فعل ذلك. إنني حقًّا، حقًّا …»

«حسنًا، لا بأس. كفى، إنني أصدقك. وضعنا الآن يُرثَى له؛ لذا يمكنك بالطبع المساعدة، وربما يمكننا أن ندفع لك أيضًا مقابل خدماتك؛ فلدي ميزانية صغيرة للمبرمِجين المتعاقِدين من الخارج.»

«حقًّا؟» لم يدفع لي أحد المال مقابل تصميم الأكواد من قبل.

«بالتأكيد، فأنت على الأرجح بالكفاءة التي تؤهلك لذلك.» ابتسم ابتسامة عريضة، ولكمني في كتفي. يتسم خولو بطبع هادئ في أغلب الأحيان؛ ولذلك أفزعني كثيرًا ما حدث بيننا منذ قليل.

دفعت ثمن القهوة، وغادرنا المقهى. اتصلت بوالديَّ، وأعلَمتهما بما كنت أفعله. أصرَّت والدة خولو على إعداد الشطائر لنا. حبسنا أنفسنا في غرفته مع جهاز الكمبيوتر الخاص به وكود الشبكة المستقلة، وبدأنا واحدةً من أعظم عمليات البرمجة في التاريخ. ما إن خلدت أسرة خولو للنوم في الحادية عشرة والنصف تقريبًا حتى تمكنَّا من اختطاف ماكينة القهوة إلى غرفته، وأخذنا نرتشف من مخزون البن السحري.

إذا لم تسبق لك برمجة كمبيوتر، يجدر بك أن تفعل، ما من شيء يضاهيها في العالم أجمع. عندما تبرمج كمبيوتر، فإنه ينفذ ما تمليه عليه بالضبط. إنه أشبه بتصميم ماكينة؛ أيًّا كانت؛ سواء أكانت سيارة، أو صنبورًا، أو مفصل باب، وذلك باستخدام العمليات الرياضية والإرشادات. إن الأمر مذهل حقًّا؛ ويمكن أن يملأ قلبك بالرهبة.

الكمبيوتر أكثر الأجهزة التي قد تستخدمها تعقيدًا على الإطلاق؛ فهو مؤلَّف من البلايين من أجهزة الترانزيستور متناهية الصِّغر التي يمكن تهيئتها لتشغيل أي برنامج قد تتخيله، لكن عندما تجلس أمام لوحة المفاتيح، وتكتب سطرًا من الكود، تنفذ هذه الأجهزة ما تمليه عليها.

معظمنا لن يتسنى له مطلقًا صناعة سيارة، أو نظام طيران، أو تصميم مبنى أو تخطيط مدينة.

فهذه ماكينات أو أشياء معقدة، وتقع خارج نطاق قدرتي وقدرتك، لكن الكمبيوتر أكثر تعقيدًا بكثير، ومع ذلك يرقص على أي نغمة تعزفها. يمكنك تعلم كتابة كود بسيط في فترة وجيزة. لتبدأ بلغة مثل بايثون، وهي اللغة التي كُتِبت لمنح غير المبرمجين وسيلة أيسر لجعل الكمبيوتر يلبي رغباتهم. عليك فعل ذلك، وإن كنت لن تمارس البرمجة إلا ليوم واحد فقط، أو لفترة وجيزة من الوقت. يمكن لأجهزة الكمبيوتر أن تتحكم فيك، أو تخفف من عبء عملك؛ لكنك إذا أردت التحكم في أجهزتك، فعليك أن تتعلم كتابة الأكواد.

أسفرت تلك الليلة عن كتابتنا الكثير من الأكواد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤