الفصل الثامن

أهدي هذا الفصل لمتجر بوردرز، ذلك العملاق العالمي لبيع الكتب الموجود في جميع مدن العالم. لن أنسى أبدًا دخول متجر بوردرز الضخم في شارع أورشارد في سنغافورة، واكتشاف رف محمَّل برواياتي! لسنوات عدة، استضاف هذا المتجر في فرعه في شارع أكسفورد بلندن أمسيات بات كاديجان الشهرية للخيال العلمي؛ حيث يقرأ المؤلفون المحليون والزائرون أعمالهم، ويتحدثون عن الخيال العلمي، ويلتقون بمعجبيهم. عندما أكون في مدينة غريبة (وهو ما يحدث كثيرًا)، وأحتاج لكتاب رائع لرحلتي التالية، دائمًا ما أدخل أحد متاجر بوردرز وأجده زاخرًا بالخيارات المذهلة. وأنا متحيز بوجه خاص لفرعه في ميدان يونيون بسان فرانسيسكو.

***

لستُ الوحيد الذي عرَّضته المدرجات الإحصائية التكرارية للمشكلات؛ فأنماط التحرك والاستخدام غير طبيعية لدى الكثير من الناس. صار النمط غير الطبيعي هو الشائع، بل إنه أصبح عمليًّا «الطبيعي أو العادي».

امتلأت شبكة «إكس نت» بهذه القصص، وكذلك الصحف ونشرات الأخبار التليفزيونية. أزواج تُكتشَف خيانتهم لزوجاتهم، وزوجات تُكتشَف خيانتهن لأزواجهن، شباب يتضح خروجهم وإقامتهم علاقات غير شرعية مع رفيقات أو رفقاء لهم، شباب لم يخبروا آباءهم بإصابتهم بالإيدز يُكتشَف ذهابهم للمستشفى للحصول على الأدوية.

هؤلاء هم من لديهم شيء يريدون إخفاءه، ليسوا مذنبين، وإنما لديهم أسرار. وهناك عدد أكبر من الناس ليس لديهم ما يخفونه على الإطلاق، لكنهم يستاءون من القبض عليهم ومساءلتهم. تخيل أن شخصًا ما حبسك في مؤخرة إحدى سيارات الشرطة، وطلب منك إثبات أنك «لست» إرهابيًّا.

لم يقتصر الأمر على المواصلات العامة فحسب. يحتفظ أغلب السائقين في منطقة الخليج ببطاقة مرور «فاستراك» في الواقي من الشمس بسياراتهم. و«فاستراك» هي «محفظة» صغيرة تعمل بالموجات اللاسلكية وتدفع الرسوم بالنيابة عنك عند عبور الجسور، مُجنِّبةً إياك عناء الوقوف في طابور لساعات في ساحات دفع رسوم المرور. وقد زودوا تكلفة الدفع نقدًا ثلاث مرات لتجاوز الجسر (وإن كانوا يتلاعبون بذلك دومًا، من خلال التصريح بأن «فاستراك» أقل تكلفة، وليس أن الدفع نقدًا — الذي يكون دافعه مجهول الهوية — أكثر تكلفة). واختفت المعارضة تمامًا عندما خُفِض عدد حارات الدفع نقدًا إلى حارة واحدة لكل جسر؛ ما ترتب عليه أن طوابير الدفع نقدًا صارت أطول.

ومن ثم، إذا كنت أحد المواطنين المحليين، أو تقود سيارة مؤجرة من وكالة محلية، فستحمل بطاقة «فاستراك». لكن ساحات دفع رسوم المرور ليست المكان الوحيد الذي تُقرَأ فيه بطاقة «فاستراك». لقد وضعت وزارة الأمن الوطني أجهزة لقراءة هذه البطاقات بجميع أنحاء المدينة؛ وعندما تتجاوزها، تسجل الوقت ورقم بطاقة هويتك لتعكس على نحو أفضل مَن ذهب، وأين، ومتى، في قاعدة بيانات تعززها «كاميرات مراقبة السرعة»، و«كاميرات تجاوز الإشارة الحمراء»، وغيرها من كاميرات رصد لوحات أرقام السيارات المنتشرة في كل مكان.

لم يفكر أحد كثيرًا في هذا الأمر. والآن، بعد أن انتبه الناس، بدأنا جميعًا في ملاحظة تفاصيل صغيرة، مثل حقيقة أن «فاستراك» لا يمكن إيقافه.

ومن ثم، إذا كنت تقود سيارة ما، فمن المرجح أن تستوقفك إحدى سيارات شرطة سان فرانسيسكو لتعرف سبب تكرار زيارتك لمتجر هوم ديبو مؤخرًا، وذهابك إلى مدينة سنوما في منتصف الليل الأسبوع الماضي.

أخذت المظاهرات البسيطة، التي اندلعت في أرجاء المدينة في عطلة نهاية الأسبوع، في التزايد؛ فخرج خمسون ألف فرد في مسيرة بشارع ماركت بعد أسبوع من هذه المراقبة. بيد أنني لم أُعِرْ ذلك اهتمامًا؛ فمن احتلوا مدينتي لم يهتموا بما أراده أهلها، إنهم جيش مظفَّر، وقد علموا شعورنا تجاه ذلك.

في صبيحة أحد الأيام، وعند نزولي لتناول الفطور في الموعد المحدد تمامًا، سمعت أبي يخبر أمي أن أكبر شركتين لسيارات الأجرة تقدم «خصمًا» لمن يستخدمون بطاقات خاصة لدفع الأجرة، والتي من المفترض أن تزيد من أمن السائقين من خلال تقليل كم النقود التي يحملونها. تساءلت عما يمكن أن تُستخدَم فيه المعلومات المتعلقة بمن استقل سيارات الأجرة والمكان الذي توجه إليه.

أدركت مدى اقترابي من الهدف. انتشر عميل الشبكة المستقلة الجديد كتحديث تلقائي مع بدء تدهور الأحوال، وأخبرني خولو أن ٨٠ بالمائة من حركة البيانات التي رآها في شركة بيجسبلين صارت الآن مُشفَّرة. ولعله بذلك يكون قد تم إنقاذ شبكة «إكس نت».

لكن أبي كان يدفعني للجنون.

أثناء تناولنا الفطور في أحد الأيام، أخبرته بشأن الشباب الذين شهدت تفتيش الشرطة لهم بشكل كامل في إحدى محطات بارت في اليوم السابق، فكان رده: «لقد أصبت بجنون الارتياب يا ماركوس.»

«هذا سخف يا أبي، إنهم لا يقبضون على أي إرهابيين، أليس كذلك؟ كل ما يفعلونه هو إرهاب الناس.»

«ربما لم يلقوا القبض على أي إرهابيين بعد، لكنهم يقبضون على الكثير بالتأكيد من المجرمين من الشوارع، ومثال على ذلك تجار المخدرات؛ فيُقال إنه قد أُلقي القبض على العشرات منهم منذ بدء هذه الإجراءات. أتذكر عندما تعرضتَ للسرقة على يد عدد من مدمني المخدرات؟ إذا لم نقبض على من يبيعون تلك المخدرات لهم، فستزداد الأمور سوءًا.» كنت قد تعرضت لهجوم العام السابق، لكن من هاجموني اتسموا بالرقي حقًّا؛ فقال لي شاب نحيف رائحته كريهة إنه يحمل سلاحًا، وطلب مني الآخر إعطاءه محفظتي. لكنهما سمحا لي بالاحتفاظ ببطاقة هويتي، وإن أخذا بطاقة السحب وبطاقة «فاست باس». رغم ذلك، أفزعني ذلك الحادث حقًّا، وجعلني أصاب بجنون الارتياب وأنظر خلفي طوال الوقت على مدى أسابيع.

قلت: «لكن معظم من يستوقفونهم لا يفعلون شيئًا خاطئًا يا أبي.» بدأت أنزعج، هل هذا رأي والدي؟! «هذا جنون. في مقابل كل شخص مذنب يلقون القبض عليه، يعاقبون الآلاف من الأبرياء. هذا ليس جيدًا.»

«الأبرياء؟ أزواج خائنون؟ تجار مخدرات؟ تدافع عن هؤلاء، لكن ماذا عن كل الأبرياء الذين لقوا حتفهم؟ إذا لم يكن لديك أي شيء تخفيه …»

«إذن، فلن يهمك إن استوقفوك دون داعٍ.» أثبتت المدرجات الإحصائية التكرارية الخاصة بوالدي أنها للأسف طبيعية حتى الآن.

أجابني: «سأعتبره واجبي، سأشعر بالفخر، وسيزيد ذلك من شعوري بالأمان.»

القول أيسر من الفعل.

•••

لم تحب فانيسا تحدثي عن هذا الموضوع، لكن فطنتها به جعلت من الصعب عليَّ إبعادها عنه لفترة طويلة. كنا نلتقي دومًا، ونتحدث عن الطقس والمدرسة وغير ذلك، ثم أنتقل بطريقة ما إلى هذا الموضوع. لم تأبه فانيسا عند حدوث ذلك — فهي لم تغضب مني ثانيةً — لكن كان بإمكاني أن أرى أن هذا يزعجها.

ومع ذلك، لم أكف.

«ثم قال أبي: «سأعتبره واجبي»، أيمكنك تصديق ذلك؟ يا إلهي! كدت أخبره بدخولي السجن سائلًا إياه إذا كان يظن أن ذلك «واجبنا»!»

كنا نجلس على النجيل في متنزه «دولوريس» بعد الدوام المدرسي، نشاهد الكلاب وهي تطارد الأطباق الطائرة.

عرجت فان على منزلها، وبدلت ملابسها لترتدي تي شيرت قديمًا لإحدى فرق موسيقى «التكنو بريجا» البرازيلية المفضلة لديها، وهي كيريوكا بروبياديو، والتي تعني الشاب المحظور المولود في ريو دي جانيرو. حصلت على ذلك التي شيرت في إحدى الحفلات التي حضرناها جميعًا قبل ذلك الحين بعامين؛ إذ هربنا حينها لخوض مغامرة مذهلة في ساحة «كاو بالاس». وقد زاد طولها نحو بوصة أو اثنتين منذ ذلك الحين؛ لذا أصبح التي شيرت ضيقًا ويكشف عن بطنها مُظهِرًا سُرَّتها الصغيرة المسطحة.

استلقت فان في الشمس التي ألقت بأشعتها الهادئة على المكان، وأغلقت عينيها خلف نظارتها الشمسية، وأصابع قدميها تهتز في حذائها الخفيف. أعرف فان منذ أمد بعيد، وعندما أفكر فيها، أرى غالبًا الفتاة الصغيرة التي أعرفها، التي ترتدي المئات من الأساور المصنوعة من أجزاء علب المشروبات الغازية وما تحدثه من قعقعة، والتي تعزف على البيانو، ولا يمكنها الرقص وإن توقفت حياتها على ذلك. لكن بجلوسها في ذلك المتنزه، رأيتها فجأة على حقيقتها.

فتاة مثيرة للغاية. كان الأمر أشبه بالنظر إلى صورة مزهريَّة، وملاحظة أنها صورة لوجهين أيضًا. كان بإمكاني رؤية أن فان لم تتغير، لكن بإمكاني أيضًا رؤية كم هي باهرة الجمال، الأمر الذي لم ألحظه قط من قبل.

علم داريل ذلك بالطبع طوال الوقت، وأعتقد أنني شعرت بالحزن عند إدراكي ذلك.

قالت فان: «لا يمكنك أن تخبر والدك، فستعرضنا جميعًا للخطر.» أغلقت عينيها وأخذ صدرها يصعد ويهبط مع أنفاسها، ما كان مشتِّتًا للانتباه على نحو محرج حقًّا.

قلت بوجه عابس: «نعم، لكن المشكلة هي أنني أعلم أنه لا يعني ما يقوله على الإطلاق. إذا ألقيتِ القبض على والدي، وأجبرتِهِ على إثبات أنه ليس متحرشًا بالأطفال، أو إرهابيًّا يتاجر في المخدرات، فسوف يجن جنونه ويصبح خارج السيطرة؛ فهو يكره الانتظار عند اتصاله للاستعلام عن فاتورة بطاقته الائتمانية. واحتجازه في مؤخرة شاحنة واستجوابه لمدة ساعة سيصيبه بتمدد في الأوعية.»

«السبب الوحيد لإفلات من يفعلون ذلك من العقاب هو أن الأفراد الطبيعيين أكثر اعتدادًا بأنفسهم من غير الطبيعيين. إذا قُبِض على الجميع، فستكون كارثة. لن يذهب أحد إلى أي مكان، وسينتظرون جميعًا استجواب الشرطة لهم. ستكون أزمة حقيقية.»

يا إلهي!

قلت لها: «فان، إنكِ عبقرية!»

فقالت: «بالطبع.» ابتسمت ابتسامة هادئة، ونظرت إليَّ بعينين شبه مغمضتين على نحو يكاد يكون رومانسيًّا.

«عن جد، يمكننا فعل هذا. يمكننا التلاعب في ملفات التعريف بسهولة، وسيصبح إلقاء القبض على الناس يسيرًا.»

جلست فان، وأزاحت شعرها عن وجهها، ونظرت إليَّ. شعرت باضطراب بسيط في معدتي، معتقدًا أنها منبهرة بي حقًّا.

قلت لها: «إنها أجهزة نسخ شرائح تحديد الهوية بالموجات اللاسلكية. من اليسير للغاية صنعها. كل ما علينا فعله هو تمرير البرنامج الثابت (الفيرموير) أمام جهاز كتابة/قراءة بثمن عشرة دولارات من متجر «راديو شاك»، وينتهي الأمر. نتجول بعد ذلك بين الناس ونبدل البطاقات بينهم عشوائيًّا، مع تبديل أكواد بطاقات «فاست باس» و«فاستراك» الخاصة بهم. سيجعل ذلك الجميع يبدون غرباء وحمقى، والجميع سيبدون مذنبين؛ ومن ثم تحدث أزمة حقيقية.»

زمَّت فان شفتيها، وأنزلت النظارة الشمسية. أدركتُ حينها أنها وصلت لحالة من الغضب حالت دون تحدثها معي.

قالت وهي تنهض: «وداعًا يا ماركوس.» وقبل أن أدرك ما يحدث، كانت تسير بعيدًا مسرعةً كما لو كانت تركض.

قلت وأنا أنهض وأركض وراءها: «فان! فان! انتظري!»

أسرعتْ في خطاها مُجبِرةً إياي على الركض للحاق بها.

قلت لها وأنا أجذبها من ذراعها: «اللعنة، فان!» أبعدتني عنها بعنف حتى كدت ألكم نفسي في وجهي.

«أنت مريض نفسيًّا يا ماركوس! ستعرض حياة كل من يستخدمون شبكة «إكس نت» التي صممتها للخطر، وفوق كل ذلك، ستحول المدينة بأسرها إلى مشتبه فيهم بتهمة الإرهاب. أليس بوسعك التوقف قبل أن تلحق الضرر بهؤلاء الناس؟»

فتحت فمي وأغلقته مرتين، ثم قلت: «المشكلة ليست فيَّ يا فان، بل فيهم. لست أنا من يقبض على الناس، ويزج بهم في السجون، ويجعلهم يختفون، وزارة الأمن الوطني هي من يفعل ذلك، وأنا أناضل لردعها.»

«كيف؟ بزيادة الأمر سوءًا؟»

«ربما يجب أن يزيد الأمر سوءًا ليتحسن بعد ذلك يا فان. أليس هذا ما قلته؟ إذا قُبِض على الجميع …»

«لم يكن هذا ما أعنيه، لم أعنِ أنه يجب إلقاء القبض على الجميع. إذا أردت الاحتجاج، فعليك بالانضمام لحركة الاحتجاجات. افعل شيئًا إيجابيًّا. ألم تتعلم أي شيء من داريل؟ أي شيء على الإطلاق؟»

أجبتها وقد بدأت أفقد أعصابي: «بالتأكيد، تعلمت. تعلمت أنه لا يمكن الوثوق في هؤلاء الناس، وأننا نعينهم على ما يفعلونه إذا لم نجابههم، وأنهم سيحولون البلد إلى سجن إذا سمحنا لهم بذلك. ماذا تعلمتِ أنتِ يا فان؟ أن تظلي خائفة دومًا، وتلتزمي الهدوء، وتطأطئي رأسك أملًا في ألَّا يلاحظك أحد؟ هل تعتقدين أن الأمور ستتحسن؟ إذا لم نفعل أي شيء، فسيكون الأمر أسوأ مما نحن عليه الآن، وسيظل يسوء ويسوء من الآن فصاعدًا. أتريدين مساعدة داريل؟ ساعديني إذن في الانتصار عليهم!»

ها هو العهد الذي قطعته على نفسي يظهر من جديد؛ وهو ألا أحرر داريل، وإنما أوقع بوزارة الأمن الوطني بالكامل. إنه ضرب من الجنون، أنا نفسي علمت ذلك. لكن هذا ما خططت لفعله، ولا شك في ذلك.

دفعتني فان بقوة بكلتا يديها. تمتعت بالقوة بفضل الألعاب الرياضية المدرسية — سلاح الشيش، واللكروس، والهوكي، وكافة ألعاب مدارس الفتيات الأخرى — وانتهى بي الأمر على مؤخرتي على أحد أرصفة سان فرانسيسكو القذرة. ابتعدتْ، ولم ألحق بها.

«ليس المهم في أنظمة الأمن كيفية عملها، وإنما كيفية تعطيلها.»

كان هذا السطر الأول في أول مشاركة لي بمدونة «أوبن ريفولت» (أي تمرد صريح)، الموقع الذي أنشأته على شبكة «إكس نت». كتبت باسم «مايكي»، وكنت متأهبًا لخوض المعركة.

«ربما يكون الهدف من الفحص الآلي هو إلقاء القبض على الإرهابيين، ولعله سيفضي إلى ذلك آجلًا أو عاجلًا، لكن المشكلة أنه يلقي القبض علينا نحن أيضًا، رغم أننا لم نرتكب أي جُرم.»

«كلما زاد عدد من يُلقَى القبض عليهم، ازداد هذا النظام ضعفًا. إذا ألقى القبض على عدد كبير جدًّا، فستكون نهايته.»

«هل الفكرة واضحة؟»

شاركت الإرشادات الخاصة بي لتصميم جهاز نسخ شرائح تحديد الهوية باستخدام الموجات اللاسلكية، وبعض النصائح للاقتراب على نحو كافٍ من الناس لقراءة بطاقاتهم ونسخها. وضعت جهاز نسخ الشرائح الخاص بي في جيب سترة سباقات السيارات الجلدية السوداء الأنيقة خاصتي ذات الجيوب المخفية، وذهبت للمدرسة. تمكنت من نسخ ست بطاقات في الطريق ما بين المنزل ومدرسة شافيز الثانوية.

أرادوا الحرب؛ فها هي الحرب إذن.

•••

في حال عزمت يومًا على ارتكاب حماقة ما كتصميم جهاز كشف آلي عن الإرهاب، فإليك درسًا في الرياضيات ينبغي لك تعلمه أولًا. عنوان الدرس هو: «إشكال النتائج الإيجابية الخاطئة»، وهو درس صعب.

لنفترض أن هناك مرضًا جديدًا اسمه «سوبر إيدز» لا يصاب به سوى واحد في المليون فقط، وطورت اختبارًا للكشف عن هذا المرض تبلغ نسبة دقته ٩٩ بالمائة؛ بمعنى أن نتيجة هذا الاختبار تكون صحيحة في ٩٩ بالمائة من الحالات (تكون النتيجة إيجابية عندما يكون الشخص الخاضع للاختبار مصابًا به، وسلبية عندما يكون سليمًا). وأخضعت مليون شخص للاختبار.

واحد من بين مليون شخص مصاب بسوبر إيدز، وواحد من بين مائة يخضعون للاختبار ستظهر نتيجته «إيجابية خاطئة» (بمعنى أن الاختبار سيشير إلى أنه مصاب بمرض «سوبر إيدز» رغم عدم إصابته به). هذا ما تعنيه الدقة البالغة ٩٩ بالمائة؛ أي إن واحدًا بالمائة خطأ.

ما نسبة واحد بالمائة من المليون؟

١٠٠٠٠٠٠ / ١٠٠ = ١٠٠٠٠

من بين مليون شخص، هناك شخص واحد مصاب بسوبر إيدز. إذا أخضعت مليون شخص عشوائيًّا للاختبار، فستجد على الأرجح حالة واحدة مصابة بمرض «سوبر إيدز». لكن اختبارك لن يحدد إصابة شخص واحد فقط بالمرض، بل عشرة آلاف شخص.

سيعمل الاختبار، الذي تبلغ نسبة دقته ٩٩ بالمائة، بعدم دقة تبلغ ٩٩٫٩٩ بالمائة.

هذا هو إشكال النتائج الإيجابية الخاطئة. عندما تحاول العثور على شيء نادر حقًّا، يلزم أن تتطابق دقة اختبارك مع ندرة الشيء الذي تبحث عنه. وإذا كنت تحاول الإشارة إلى وحدة بكسل واحدة على شاشتك، يعد القلم الرصاص حاد الطرف مؤشرًا جيدًا؛ فطرف القلم الرصاص أصغر بكثير (وأكثر دقة) من وحدات البكسل. لكن طرف القلم الرصاص لا يفيد في الإشارة إلى «ذرة» واحدة في شاشتك. ستحتاج لهذا الغرض إلى مؤشر — اختبار — يبلغ عرض طرفه ذرة واحدة أو أقل.

هذا هو إشكال النتائج الإيجابية الخاطئة، وفيما يلي كيفية تطبيقه على الإرهاب:

الإرهابيون نادرون حقًّا؛ ففي مدينة تعداد سكانها عشرون مليونًا، مثل نيويورك، قد يكون هناك إرهابي أو اثنان، وربما عشرة على الأكثر؛ أي ١٠ / ٢٠٠٠٠٠٠٠ = ٠٫٠٠٠٠٥ بالمائة؛ أي واحد على عشرين ألف جزء من المائة في المائة.

هذا نادر للغاية. لنفترض الآن أن لديك برنامجًا يمكنه البحث في جميع السجلات المصرفية، أو سجلات المرور من ساحات دفع الرسوم بالطرق، أو سجلات النقل العام، أو سجلات المكالمات الهاتفية في المدينة، والقبض على الإرهابيين في ٩٩ بالمائة من الحالات.

من بين عشرين مليون شخص، سيتعرف اختبار تبلغ دقته ٩٩ بالمائة على مائتي ألف شخص على أنهم إرهابيون، لكن عشرة منهم فقط سيكونون كذلك. للقبض على الإرهابيين حقًّا، سينبغي القبض على مائتي ألف شخص بريء والتحقيق معهم.

الجدير بالذكر أن اختبارات الكشف عن الإرهابيين لا تقترب في دقتها على الإطلاق من ٩٩ بالمائة؛ فهي تبلغ نحو ٦٠، بل وحتى ٤٠، بالمائة في بعض الأحيان.

يعني كل ذلك أن وزارة الأمن الوطني قد عرَّضت نفسها للفشل الذريع؛ فهي تحاول اكتشاف أحداث نادرة للغاية — تحديد ما إذا كان المرء إرهابيًّا — باستخدام أنظمة غير دقيقة.

ليس من الغريب إذن على الإطلاق أن نتمكن من إحداث مثل هذه الفوضى.

•••

خطوت خارج الباب الأمامي للمنزل وأنا أُصَفِّر صبيحة أحد أيام الثلاثاء بعد أسبوع من عملية «النتائج الإيجابية الخاطئة». كنت أشعر بالاستمتاع الشديد وأنا أستمع لمقطع موسيقي جديد أنزلته من شبكة «إكس نت» الليلة السابقة؛ حيث يرسل الكثيرون إلى «مايكي» هدايا رقمية صغيرة لشكره على بث الأمل في نفوسهم.

انتقلت إلى شارع ٢٣، وسلكت بحذر الطريق الضيق المكون من درجات صخرية الذي تم شقه في جانب التل، وعند نزولي الدرجات، مررت بالسيد «وينر دوج». لم أعرف اسمه الحقيقي، لكنني أراه كل يوم تقريبًا وهو يمشِّي كلابه «الوينر» الثلاثة اللاهثة أعلى الدَّرج وصولًا إلى المتنزه الصغير. والمرور بجانب السيد وينر دوج وكلابه على الدَّرج أمر مستحيل؛ فينتهي بي الحال دومًا عالقًا بسلسلة أحدها، أو داخل إحدى الحدائق الأمامية لمنزل ما، أو جاثمًا على مِصد إحدى السيارات المتوقفة بجوار حاجز على طرف الرصيف.

من الواضح أن السيد وينر دوج شخص مهم؛ فبيده ساعة فاخرة ويرتدي دومًا بذلة أنيقة. افترضت أنه يعمل في وسط المدينة.

ذلك اليوم وعند مروري بالسيد وينر دوج، قمت بتشغيل جهاز نسخ شرائح تحديد الهوية بالموجات اللاسلكية الذي كان موجودًا بالفعل في جيب سترتي الجلدية. نسخ الجهاز الأرقام الموجودة على بطاقات الائتمان الخاصة به ومفاتيح سيارته وجواز سفره والأوراق المالية فئة مائة دولار التي احتوت عليها محفظته.

بيد أن الجهاز — أثناء إجرائه لذلك — كان يُبدِّل هذه الأرقام بأرقام جديدة أُخِذت من أشخاص آخرين مررت بهم من قبل. كان الأمر أشبه بتبديل لوحات الأرقام بين مجموعة من السيارات، لكن بشكل غير مرئي وفوري. ابتسمت ابتسامة اعتذار للسيد وينر دوج، وواصلت نزول الدَّرج. توقفت عند ثلاث سيارات فترة كافية لمبادلة أرقام «فاستراك» الخاصة بها مع الأرقام المأخوذة من جميع السيارات التي مررت بها في اليوم السابق.

قد تظن أنني كنت عدوانيًّا بعض الشيء أثناء فعل ذلك، لكنني كنت حذرًا وحريصًا مقارنةً بالكثير من مستخدمي شبكة «إكس نت»؛ فتوصلت فتاتان تدرسان الهندسة الكيميائية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي إلى طريقة تصميم مادة غير ضارة من أدوات المطبخ من شأنها تشغيل أجهزة الكشف عن المتفجرات. نثرتا تلك المادة على سترات أساتذتهما وحقائبهم، مستمتعتين بما تفعلانه، ثم اختبأتا وأخذتا تراقبان أولئك الأساتذة وهم يحاولون دخول قاعات المحاضرات والمكتبات في الحرم الجامعي، فيوقفهم بعنف رجال الأمن الجدد الذين انتشروا في كل مكان.

رغب آخرون في التوصل إلى كيفية لنثر مواد على أظرف الخطابات تجعل أجهزة الكشف تشير إلى احتوائها على الجمرة الخبيثة، لكن اعتقد الجميع أنهم مجانين. ولحسن الحظ، لم يبدُ أن بإمكانهم فعل ذلك.

مررت بمستشفى سان فرانسيسكو العام، وأومأت برأسي في رضا عندما رأيت الصفوف الطويلة أمام الأبواب الأمامية. كان بها، بالطبع، نقطة تفتيش للشرطة، وكان هناك عدد كافٍ من مستخدمي شبكة «إكس نت» يعملون كأطباء مقيمين وعاملين بالكافيتريات وأية وظيفة أخرى داخل المستشفى؛ ما أسفر عن تعرض شارات الجميع للخلط والتبديل. كنت قد قرأت أن نقاط التفتيش الأمنية أضافت ساعة ليوم عمل الجميع، وهددت النقابات بالاحتجاج ما لم يتصرف المستشفى حيال ذلك.

بعد بضعة مربعات سكنية، رأيت طابورًا أطول لدخول محطة بارت. سار رجال الشرطة جيئة وذهابًا مشيرين للناس للخروج من الطابور وطالبين منهم التنحي جانبًا للاستجواب، وتفتيش الحقائب، والتفتيش الذاتي. ظلوا تُرفَع عليهم القضايا لما يفعلونه، لكن لم يبد أن ذلك يعرقل من خطاهم.

وصلت المدرسة مبكرًا بعض الشيء، وقررت السير لشارع ٢٢ لتناول القهوة. مررت بإحدى نقاط تفتيش الشرطة حيث كانوا يوقِفون السيارات للتفتيش الثانوي.

لم يختلف الحال كثيرًا في المدرسة؛ كان حراس الأمن عند أجهزة الكشف عن المعادن يتحققون من بطاقات هويتنا المدرسية، ويستبعدون الطلاب ذوي التحركات الغريبة ويستجوبونهم. ما من حاجة للقول إن تحركاتنا جميعًا كانت غريبة للغاية، وإن الحصص لم تبدأ إلا بعد ساعة أو أكثر.

سادت الفوضى الفصول. لا أعتقد أن أحدًا كان بوسعه التركيز. سمعت مصادفةً اثنين من المدرسين يتحدثان عن الوقت الطويل الذي استغرقه رجوعهما من المدرسة إلى المنزل اليوم السابق، واعتزامهما التسلل خلسة مبكرًا في ذلك اليوم.

حاولت جاهدًا منع نفسي من الضحك. إشكال النتائج الإيجابية الخاطئة يحقق النجاح للمرة الثانية!

بالتأكيد سمحوا لنا بالمغادرة مبكرًا، فتوجهت للمنزل بأن سلكت الطريق الطويل متجولًا في أرجاء حي ميشن لإلقاء نظرة على الفوضى الشديدة التي عجَّ بها. طوابير طويلة من السيارات … أناس اصطفوا حول المربعات السكنية لدخول محطات بارت … وآخرون يسبُّون عند ماكينات الصرف الآلي لعدم إخراجها المال؛ بسبب تجميد أرصدتهم للتحقق مما إذا كانوا يمارسون نشاطًا مريبًا (وهنا تكمن خطورة ربط حسابك الجاري ببطاقة «فاستراك» أو «فاست باس»!)

وصلت إلى المنزل، أعددت لنفسي شطيرة، ودخلت على شبكة «إكس نت». كان يومًا جيدًا، والناس من جميع أنحاء المدينة مبتهجين بشأن ما حققوه من نجاح. لقد أصبنا مدينة سان فرانسيسكو بالشلل، وأكدت التقارير الإخبارية ذلك، ووصفته بجنون وزارة الأمن الوطني، ملقيةً باللوم على «الأمن» الفاشل الذي من المفترض أن يحمينا من الإرهاب. وخصص قسم «الأعمال التجارية» بصحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل» صفحته الأولى بالكامل لتقدير التكلفة الاقتصادية للإجراءات الأمنية لوزارة الأمن الوطني، والناتجة عن تعطل الاجتماعات وضياع بعض ساعات العمل وغير ذلك. وأشار أحد الاقتصاديين بالصحيفة إلى أن أسبوعًا من هذا الهراء سيكلف المدينة أكثر مما تكبدته من تفجير جسر باي.

لَكَمْ أسعدتني هذه الأخبار!

أفضل ما في الأمر أن والدي عاد متأخرًا تلك الليلة … متأخرًا للغاية … لقد تأخر ثلاث ساعات. لماذا؟ لإيقاف الأمن سيارته، وتعرضه للتفتيش والاستجواب … مرتين.

تعرض لذلك مرتين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤