الفصل السابع

تأثيرات القصص الخيالية

هل القصص الخيالية مفيدة؟

(١) الحقيقة والقصص الخيالية

تساءل الناس منذ زمن اليونان القديمة على الأقل عن فائدة القصص الخيالية. رأى أفلاطون أن القصص الخيالية غير مفيدة، فمنع الشعراء من دخول مجتمعه المثالي. وكان يرى أن العالَم الذي نراه ليس إلا محض مظاهر، وشبَّهَنا نحن البشر بسجناء محبوسين في كهف مكبَّلين إلى مقعد محَدِّقين إلى جدار، ومن خلفنا نار مشتعلة، وفي المساحة بين ظهورنا وبينها أناس غادين رائحين، ولكن لا يمكننا رؤية ما يحدث حقًّا، فلا نرى سوى ظلال هؤلاء الأشخاص على الجدار، وهذه الظلال هي المظاهر، ومهمتنا وفقًا لأفلاطون هي تحطيم أغلالنا والخروج من الكهف إلى ضياء النهار.

fig21
شكل ٧-١: إحدى شرائح اختبار سايمون بارون-كوهين وآخرين (٢٠٠١) حول المشاركة الوجدانية ونظرية العقل لدى البالغين (مركز أبحاث التَّوحُّد، كامبريدج، إنجلترا) التي استخدمها ريموند مار وآخرون في دراستهم حول تأثيرات قراءة القصص الخيالية مقارنةً بقراءة الموضوعات الواقعية. هذا الاختبار — «اختبار الحالة العقلية من الأعين» — متاح على شبكة الإنترنت على: http://glennrowe.net/BaronCohen/Faces/EyesTest.aspx. الشكل الظاهر هنا هو الشريحة رقم ٣ من الاختبار على الموقع الإلكتروني.

يقول أفلاطون إن الحقيقة لا وجود لها في هذا العالم، والموجود ظلال فقط. والقصص الخيالي (الذي أسماه هو وأرسطو بالشعر) ما هو إلا نسخة من المظاهر؛ أي إنه ظل الظل؛ ومن ثَمَّ فهو يزيدنا بعدًا عن الحقيقة. وليس هذا فحسب، ولكنه يؤثر كذلك على الناس شعوريًّا، ولهذا فهو مدمِّر لرشادتنا.

أعتقد كما اعتقد أفلاطون أن الحقيقة ليست في المظاهر الخارجية، ولكنني أختلف معه بخصوص القصص الخيالية. وأقترح من خلال هذا الكتاب أن القصص الخيالية قادرة فيما يتعلق بالعالم الاجتماعي على تقريبنا من حقائق وضعنا الإنساني. ليس المقصود تلك الحقائق التي يتوصَّل إليها المرء بالتفكير التحليلي من النوع الذي انْصَبَّ عليه اهتمام أفلاطون، ولا ما يندرج ضمن الحقائق التي يسعى الفيزيائيون لاكتشافها. تقدم القصص الخيالية نوعًا خاصًّا من الحقيقة حول طبيعتنا البشرية وما يُحتَمل منا في تفاعلاتنا. وعلى الرغم من النقد اللاذع الذي يوجهه أفلاطون للقصص الخيالية، فإنه لا يعترف بأنه يستخدم أدواتها في كتاباته. فهو يستخدم استعارات مثل صورة السجناء في الكهف، ويستخدم الرمزيات (عوالم الأحلام) وكتابه «الجمهورية» يتحدث عن مدينة فاضلة.١

أما الأداة الرئيسية التي يستعين بها في مؤلَّفاته الفلسفية فهي الحوار، حيث يتجول بطله سقراط في السوق ويذهب إلى تجمعات الشُّرب (السيمبوزيوم) ليحادث الناس عن ماهية الحقيقة وطريقة الوصول إليها. ويُصوِّر هذا البحث عن الحقيقة بمهارة على هيئة قصة.

يُلمِح الناس حين يتحدثون عن الحقيقة والقصص الخيالية إلى أن القصص الخيالية معيبة لأنها متَخيَّلة. إلَّا أن هذا التضاد بين الحقيقة والخيال ليس مفيدًا على الدوام. الحقيقة الأساسية المتعلقة بالقصص الخيالية هي أنها تتناول ذوات الناس في العالم الاجتماعي. ويمكن التعبير عن هذه الحقيقة ذاتها بأسلوب جيروم برونر إذا قلنا إن القصص الخيالية تتناول نيات البشر وتقلباتها.٢ وهكذا يطرأ تساؤل حول ما إذا كانت القراءة عن هذا الموضوع والتفكير فيه في القصص القصيرة والروايات أو مشاهدته والتفكير فيه في المسرحيات من شأنه أن يُعزِّز فهمنا للناس الذين نعرفهم، وفهمنا لأنفسنا في الحياة اليومية التي نعيشها.

أعرض في هذا الفصل بعض أعمال المجموعة البحثية التي أعمل معها (مايا دجيكيك، وريموند مار، وجوردان بيترسون، وأنا)، وأعمال أشخاص آخرين في تجميع الأدلة حول ما إذا كانت القصص الخيالية تؤثر على قرائها ومشاهديها، وكيفية حدوث هذا التأثير، شاملًا ذلك أدلة حول ما إذا كانت القراءة جيدة لك، وكيف يمكن أن تكشف لنا الحقائق في إطار العالم الاجتماعي الإنساني.

(٢) تأثيرات القراءة

كان اختراع نظام الكتابة الإغريقي خطوة مهمة في تاريخ القصص الخيالي. ظلت القراءة والكتابة لما يقرب من ألفي عام بعد اختراعه من المهارات التَّخصصية، وكانت حكرًا على الكَتَبة. شرح باري باول نشأة الكتابة الإغريقية قائلًا إن مخترعها كان على الأرجح كاتبًا يتحدث ويكتب باللغة السامية الغربية، الفينيقية، ويتحدث اللغة الإغريقية كذلك. ويبدو أن ذاك الشخص استعار الحروف الفينيقية وأضاف إليها حروفًا جديدة، وطبَّقها جميعًا على أصوات التخاطب الإغريقية؛ ليُنتِج بذلك أول أبجدية مكوَّنَة من رموز تعبر تعبيرًا مباشرًا عن الأصوات الساكنة والمتحركة. وقد شكلَت اللغة الإغريقية في صورتها المكتوبة قفزة جديدة، فتحت باب تعلُّم القراءة والكتابة لقطاع سكاني أكبر.

وقد تفرَّدَت اليونان بغياب مهنة تخصصية للكتبة فيها. وكانت استثنائية كذلك في أن عملًا أدبيًّا — هو «إلياذة» هوميروس — شكَّل مرجع الثقافة. ويقترح باول أن نظام الكتابة الإغريقي قد اختُرِع بغرض تدوين النسخ الشفهية من «الإلياذة». وهكذا صارت معرفة القراءة والكتابة منذ ذلك العصر أساس التعليم ومحوره؛ فمن دونها تصعب المشاركة في العالم العصري مشاركةً تامة.

ما تأثير القدرة على القراءة والكتابة على العقل؟٣ كان كيث ستانوفيتش وريتشارد ويست هما أول من أثبت بالتجربة أن القراءة — ليس فقط قراءة القصص الخيالية، ولكن قراءة أي شيء — لها تأثيرات معرفية مهمة. وكانا في البداية بحاجة لطريقة بسيطة يستطيعان عن طريقها تقويم مقدار ما يقرؤه الناس في حيواتهم اليومية؛ لذا فقد ابتكرا «اختبار التعرف على المؤلفين»: وتستخدم فيه قائمة أسماء، بعضها أسماء مؤلفين وبعضها ليس كذلك، ويضع الشخص الخاضع للاختبار علامة على أسماء جميع المؤلفين الذين يتعرف عليهم. وتُحسَب النتيجة بجمع عدد الأسماء التي أصاب الأشخاص في اختيارها، وطرح عدد الذين ظن الشخص الخاضع للاختبار أنهم مؤلِّفون ولكنهم ليسوا كذلك. والسر في نجاح الاختبار هو أن الأشخاص المعتادين على القراءة بغزارة يغوصون في عالم الكتب، وهذا لا يقتصر على مجرد قراءة الكتب، بل يمتد كذلك إلى مناقشتها، وقراءة التعقيبات عليها، وزيارة المكتبات، وما إلى ذلك من الأنشطة. وقد وُجِد أن نتائج هذا الاختبار اتفقت إلى حدٍّ كبيرٍ مع نتائج طرق أخرى تستغرق وقتًا أطول في إجرائها مثل تدوين الأنشطة اليومية، والملاحظات السلوكية حول توقيت القراءة ومقدارها.

بعد ذلك، قاس ستانوفيتش وزملاؤه مهارات أخرى مثل المفردات، والمعلومات العامة، والتفكير اللفظي، وغيرها. وتوقَّعوا أن مستوى أداء الأشخاص لهذه المهارات سيكون أفضل كلَّما ازداد مقدار ما يقرءونه. وضبطوا في البداية (أي حذفوا أثر [انظر الفصل الثاني، التعليق الختامي رقم ٣٥]) العوامل الأخرى مثل نسبة الذكاء (الذكاء العام)، والطبقة الاجتماعية، والمستوى التعليمي، التي تساهم جميعًا في مستوى هذه المهارات. وعلى الرغم من ضبط هذه العوامل، وجدوا أنه كلما ازداد مقدار ما يقرؤه الأشخاص وفق قياس «اختبار التعرف على المؤلفين» ازدادت معارفهم وارتقت جودة هذه المعرفة. ولم تتنبأ نتائج هذا الاختبار بكل شيء، فهي لم تتنبأ على سبيل المثال بقدرات الأشخاص في التفكير اللفظي بأساليب كالقياس العقلي.

أما الكشف الأكبر الذي توصَّل إليه فريقنا البحثي (وتوصَّل إليه آخرون أيضًا) هو أن القَصص الخيالي يتعلق بمجال معرفي محدَّد نسبيًّا هو الذَّوَات في العالم الاجتماعي. ومن الاكتشافات المذهلة المتعلقة بالخبرة (التي ناقشناها في الفصل السادس) أن سائقي سيارات الأجرة المتمرِّسين في إيجاد طريقهم عبر شوارع لندن لديهم حُصَين (قرن آمون) أكبر من الطبيعي (وهو منطقة في الدماغ مسئولة عن المعرفة المكانية).٤ وقد تعلق بحثنا في الأساس بتأثير القراءة على تنمية معرفة الناس بالذوات في العالم الاجتماعي. واكتشفت مجموعتنا حتى علاقة مناطق دماغية معينة بذلك.٥
عرَضْتُ علم نفس القَصص الخيالي من حيث علاقته بالحلم الموجَّه أو بالمحاكاة. ومن استخدامات المحاكاة أنك إذا تعلَّمت التحليق بالطائرات، قد تجد أن تجربة استخدام محاكي الطيران تجربة جديرة بالاهتمام. لا شك أن التعلم على طائرة حقيقية لا غنى عنه، إلَّا أن أغلب الوقت ينقضي أثناء التحليق دون حدوث أمر جلل، بينما تواجه في محاكي الطيران قدرًا أكبر من الخبرات، وتتعلم بأمان كيفية التعامل مع المواقف الحرجة.٦ وتنتقل المهارات التي تتعلمها بهذه الطريقة إلى التحليق بطائرة حقيقية. فهل إذا استغرقنا في عوالم المحاكاة في القَصص الخيالي تنتقل المهارات التي نتعلمها فيها إلى العالم الاجتماعي اليومي؟

(٢-١) فهم الآخرين

ابتكر ريموند مار طريقة — اقتبسها من «اختبار التعرف على المؤلفين» الذي أعدَّه ستانوفيتش ووست — لمعرفة مقدار ما يقرؤه الناس من القصص الخيالية. وقد عدَّل الاختبار ليشمل أسماء مؤلفي القصص الخيالية وغيرها. وتكشف هذه الطريقة عمَّن يغلب على قراءاته القصص، ومن تغلب الأعمال الواقعية على قراءاته. استدلَّ مار وزملاؤه٧ بعد ذلك على أنه إذا كان القَصص الخيالي نوعًا من المحاكاة للذوات وتقلباتها في العالم الاجتماعي، إذًا يُفتَرَض أن يكون الناس الذين يغلب القَصص الخيالي على قراءاتهم أفضل في نظرية العقل، وأدَقَّ في ملاحظة ما يجري في التفاعلات الاجتماعية مقارنةً بغيرهم ممن تغلب الأعمال الواقعية على قراءاتهم.
استعان مار وزملاؤه باختبارين لقياس القدرات الاجتماعية. الأول كان «اختبار الحالة العقلية من الأعين» ويمكن اعتباره قياسًا للمشاركة الوجدانية أو قياسًا لنظرية العقل لدى البالغين.٨ حينما يخضع شخص للاختبار، ينظر إلى صور أعين أشخاص كما لو كان يراها عبر فتحة صندوق بريد، كما هو موضَّح في الصورة في بداية الفصل، ثم يختار حالة الشخص الظاهر في الصورة من بين أربع حالات عقلية مثل: «مزاح» و«مضطرب» و«رغبة» و«مقتنع». أما الاختبار الثاني الذي يُسمَّى «اختبار الإدراك الحسي بين الأشخاص» فيُطلَب فيه من المشاركين مشاهدة ١٥ مقطع فيديو قصيرًا لأشخاص عاديين أثناء تعامل بعضهم مع بعض، ثم الإجابة عن سؤال عن كل مقطع. وكان السؤال المتعلق بأحد المقاطع هو: «أي الطفلين وَلَدُ الشخصين البالغَين في المقطع؟ أم أن كليهما ولداهما؟ أم ليس بينهما ولد للشخصين؟»

وقد وجدنا أنه كلَّما ازدادت قراءات الأشخاص في القصص الخيالية تحسَّن أداؤهم في «اختبار الحالة العقلية من الأعين». كما ظهرت علاقة مشابهة — وإن كانت أقل قوة — بين قراءة القصص الخيالية و«اختبار الإدراك الحسي بين الأشخاص».

وقد يخطر للمرء أن هذه النتيجة ربما تعود إلى أن لبعض الناس شخصيات من نوع معين يهتم بالعالم الاجتماعي، ومن ثَمَّ فَهُم أكثر اهتمامًا بقراءة القصص الخيالية. وللتحقق من هذا الاحتمال استخدم مار وزملاؤه في تجربة ثانية «اختبار الحالة العقلية من الأعين» مرة أخرى بوصفه نتيجة، مع قياس شخصيات القُرَّاء.٩ وقد أكَّدنا في هذه التجربة الثانية النتيجة المتكررة التي تقول بأن النساء أكثر قراءة للقصص الخيالية من الرجال. كذلك، وجدنا أن الأشخاص الذين سجلوا نقاطًا عالية في سمة «الانفتاح على التجربة» والأشخاص الذين أبدوا انجذابًا للخيال الجامح كانوا يقرءون القصص الخيالية أكثر من غيرهم. ومع ذلك لم نجد أي علاقة بين السِّمَات الأخرى من سمات الشخصية، أو أي نوع آخر من الفروق الفردية، وزيادة قراءة القصص الخيالية. وكانت أهم النتائج التي توصَّلنا إليها، في هذه التجربة الثانية، أننا حين ضبطنا جميع الفروق الفردية ظلَّت النتيجة أنه كلَّما ازدادت قراءة الناس للقصص الخيالية تحسَّن أداؤهم في «اختبار الحالة العقلية من الأعين». وتدل هذه النتيجة على أن أفضل تفسير لتَمَيُّز القدرات في المشاركة الوجدانية ونظرية العقل هو نوع القراءات الغالبة لدى الناس.
الصورة النمطية للأشخاص كثيري القراءة هي أنهم وحيدون ومعزولون اجتماعيًّا. وفي هذه التجربة الثانية (التي قِسنا فيها الشخصية كذلك) نظرنا في هذه المسألة. وتوصَّلنا أن قراءة القصص الخيالية لم تكن مرتبطة بالانزواء،١٠ ولكنها كانت مرتبطة بما يُطلِق عليه علماء النفس الدعم الاجتماعي المرتفع، الوجود في دائرة من الأشخاص الذين كان المشاركون يرونهم كثيرًا، وكان بإمكان المشاركين الوصول إليهم عمليًّا ووجدانيًّا. لكن الانزواء وانخفاض الدعم المعنوي ارتبطا بغَلَبة الأعمال غير الإبداعية على القراءة. ومن ثَمَّ فيما يتعلق بدقة الصورة النمطية لانعزال هواة القراءة اجتماعيًّا، فإنها تنطبق على قُرَّاء الأعمال غير الإبداعية أكثر من قُرَّاء الأعمال الإبداعية.
رغم ذلك، فإن هذه العلاقة بين قراءة القصص الخيالية وبين القدرات الاجتماعية ليست بهذه البساطة. على سبيل المثال، في دراسة أجراها فيلي فان بير عام ٢٠٠٨ على طلاب جامعيين من قسم العلوم وآخرين من قسم الدراسات الإنسانية لقياس درجة الذكاء العاطفي،١١ ورغم تشرذُم النتائج، كان طلاب العلوم في المتوسط أذكى عاطفيًّا من طلاب الدراسات الإنسانية، وهو عكس المتوقَّع؛ يتَّهِم فان بير التدريس في أقسام الدراسات الإنسانية بتحويل انتباه الطلاب في المعتاد عن فهم البشر إلى التحليلات الفنية للتفاصيل.١٢

كذلك أجرى ريموند مار دراسة أخرى بتصميم تجريبي في إطار أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه. واستخدم مار في دراسته قصة خيالية ومقالًا واقعيًا من مجلة ذي نيويوركر، وكلَّف المشاركين بقراءة أحد العملين أو الآخر عشوائيًّا. وبعد الانتهاء من القراءة، حقَّق الأشخاص الذين قرءوا القصة الخيالية نتائج أفضل مما حقَّقه الذين قرءوا المقال غير الإبداعي في اختبار للتفكير الاجتماعي، في حين حدث العكس في اختبار للتفكير التحليلي.

كيف يمكن تفسير الارتباطات بين قراءة القصص الخيالية والقدرات الاجتماعية المتقدِّمة؟ يرى أعضاء فريقنا البحثي أن الأمر متعلق بموضوع الخبرة الذي شرحتُه في الفصل السادس؛ حيث يتناول القَصص الخيالي من حيث الأساس مشكلات الذوات أثناء إبحارها في العالم الاجتماعي. أما الأعمال الواقعية فتتناول — حسنًا — أيًّا ما يكن موضوعها؛ الجينات الوراثية الأنانية، أو طريقة إعداد يخنة البيف بورجينيون، أو ما إذا كان التغير المناخي سيُدمِّر كوكبنا. يميل قُرَّاء الأدب الإبداعي إلى اكتساب خبرة أعمق في إقامة النماذج للآخرين ولأنفسهم، وفي الإبحار في العالم الاجتماعي،١٣ بينما يميل قُرَّاء الأعمال غير الإبداعية إلى اكتساب خبرة أعمق في علم الوراثة أو الطبخ أو الدراسات البيئية أو ما يمضون أوقاتهم في قراءته أيًّا ما كان. ولعلَّ الطريقة المثلى لشرح دراسة ريموند مار التجريبية التي كلَّف فيها المشاركين بقراءة موضوعات من مجلة ذا نيويوركر هي أن القراءة هنا شكلَت عملية تحضيرية؛ أي إن قراءة نصوص القصص الخيالية تُحضِّر حالة الأشخاص العقلية للتفكير في العالم الاجتماعي، وربما يكون هذا هو سبب تميز أدائهم في اختبار التفكير الاجتماعي.

(٢-٢) تغيير ذواتنا

ولكن ماذا عن ذواتنا؟ هل يتأثر القُرَّاء في ذواتهم بما يقرءون؟ كان هذا هو السؤال الذي سَعَت لإجابته دراسة من نوع آخر قادتها مايا دجيكيك في فريقنا البحثي.١٤ كلَّفْنا المشاركين في الدراسة عشوائيًّا بقراءة إمَّا قصة قصيرة أو نسخة قائمة على أحداثها، ولكن في شكل واقعي. وقِسْنا شخصيات المشاركين باستخدام استبيان قياسي للشخصية قبل أن يقرءوا النصَّين وبعد أن فرغوا من القراءة. وقد اخترنا لدراستنا قصة أنطون تشيخوف «السيدة صاحبة الكلب الصغير» التي تحدَّثْت عنها في الفصل السادس، وتدور حول علاقة غرامية بين شخصين تصبح مشاعرهما فيها، كلٍّ تجاه الآخر، أهم من أي شيء آخر في حياتهما على غير ما توقَّعا هما الاثنان.

وتولَّت دجيكيك كتابة النسخة الواقعية من القصة على هيئة تقرير محكمة في قضية طلاق بالشخصيات نفسها، وجميع الأحداث، ومع بعضٍ من الكلمات الواردة في قصة تشيخوف. وأُلِّفت بحيث تكون مساوية لقصة تشيخوف الأصلية من حيث الطول ومستوى صعوبة القراءة تمامًا، والمهم أن قُرَّاء هذه النسخة المكتوبة بأسلوب قضائي واقعي وجدوها شائقة كالقصة الأصلية، وإن لم تكن على مستواها الفني.

وجدنا أن شخصيات المشاركين الذين قرءوا قصة تشيخوف — أو الطريقة التي رأى بها الناس ذواتهم — تغيَّرَت أكثر من شخصيات من قرءوا السرد المكتوب بأسلوب قضائي. وقد كانت هذه التغيُّرات — على بساطتها — قابلة للقياس، وكانت متباينة الاتجاهات باختلاف القُرَّاء؛ إذ تأثَّرت أنواع التغيُّر بالمشاعر التي مرَّ بها القُرَّاء أثناء القراءة.١٥
fig22
شكل ٧-٢: نتائج دراسة مايا دجيكيك وآخرين لمقارنة تغيُّر سمات الشخصية ومشاعرها نتيجة قراءة إما قصة تشيخوف القصيرة أو نسخة مكتوبة بأسلوب واقعي في شكل تقرير محكمة.
وفي رأينا أن ما حدث هو أن الاستغراق في الفن في قصة تشيخوف كان له نوعان من التأثير، نُطلِق عليهما تأثير التماهي وتأثير التسامي. والمقصود بأوَّلهما أنه أثناء قراءة المشاركين لقصة تشيخوف حدث ما نظنُّه مشاركة وجدانية مع البطلَيْن أدَّت إلى تماهي القُرَّاء معهما، وبهذا تأثَّر كلٌّ من المشاركين بهما بطريقته. أو ربما بدأ القُرَّاء مع اندماجهم العقلي في حياة هذين الشخصين وأفكارهما في مقارنة حياتهم هم وقراراتهم الشخصية بحياة الشخصيتين وقراراتهما. (أناقش نطاق قراءات هذه القصة بتوسُّع أكبر في الفصل الثامن.) أما التأثير الثاني (الذي نرى أنه من التأثيرات العامة للفن) فيتمثَّل في أن القُرَّاء — في قصة تشيخوف — تحرَّروا من أنفسهم ومن أسلوبهم المعتاد في الحياة والتفكير. وجاء تأثير الجانب الفني من القصة وكأنه فوق نطاق سيطرتهم (متسامٍ)، وهو ما ساعد على تفكيك البِنْيات المعتادة للذات.١٦

(٢-٣) أساس موضوعي للقصص الخيالية

انطلاقًا من الدراسات المتعلِّقة بارتفاع مستويات المشاركة الوجدانية ونظرية العقل لدى قُرَّاء القصص الخيالية، وإمكانية إدخال شيء من التغيير على شخصيات الأشخاص بقراءة القصص الخيالية، اتَّخَذ الفريق البحثي الذي أعمل به خطوتين على ما أعتقد في اتجاه وضع أساس موضوعي للاقتناع بأن القصص الخيالية يمكن أن تكون مفيدة لك؛ ولو احتمالًا.

منطقي أن يتبنَّى المرء — إذا كان أحد أعضاء العالم الأدبي — وجهة النظر التي ترى الفن الأدبي مهمًّا، بصرف النظر عمَّا يقوله علماء النفس. ولكننا نرى أنه في الوقت الذي تُجرى فيه أبحاث حثيثة لتقويم محتوى المناهج التعليمية، ولدراسة النتائج الصحية للعديد من النشاطات كمشاهدة التليفزيون والمشاركة في الماراثونات؛ تُعَد نتائجنا البحثية خطوات في اتجاه مهم.

ويمكن لهذه النتائج أن تبدأ في التصدي للمسلَّمات المغلوطة لدى بعض العلماء وصانعي السياسات بأن القَصص الخيالي ممتع للغاية، ولكنه في الوقت نفسه لا يتعدَّى تمضية الوقت. وإذا استطاع المزيد من الدراسات إثبات أن القَصص الخيالي قادر على تحسين فهمنا للآخرين ولأنفسنا، فإن هذا من شأنه تأكيد قيمته التي تتخطَّى مجرَّد الاستمتاع. وتشير نتائجنا البحثية إلى أن أهم الخصائص المميِّزة للقصص الخيالي هي محتواه التقليدي — الذوات وتقلباتها في العالم الاجتماعي — وهي أمور لا يسهل فهمها على نحو مباشر. ومن جهة أخرى تُناقِض نتائجنا البحثية فكرة يتبناها العديد من علماء النفس تقول بأن القَصص الخيالي لا قيمة له نظرًا لكونه عبارة عن مجموعة من الأوصاف الاعتباطية دون إجراءات لتأكيد مدى صدقيتها أو صحتها.

وتشير نتائجنا إلى أن القَصص الخيالي في العموم ليس محاولة فاشلة للتوصيف السلوكي (مقارنة بالتوصيف المأخوذ عن الدراسات النفسية المضبوطة)، لكنه مجموعة من نماذج المحاكاة العقلية. وبما أن نتائجنا التجريبية تشير إلى أن القصص الخيالي يرتبط بالفعل بمستويات قدرات اجتماعية معينة وباحتمالات تغيُّر الشخصية، فإنها تساعد على إثبات صحة إجراءات المحاكاة الخيالية.

(٣) داخل عقول الآخرين

تثير النتيجة البحثية، التي توصَّل إليها ريموند مار وزملاؤه، حول أن الأشخاص الذين تغلِب القصص الخيالية على قراءاتهم يكونون أفضل في المشاركة الوجدانية ونظرية العقل من غيرهم ممن تغلِب الأعمال الواقعية على قراءاتهم؛ تساؤلًا حول العلاقة بين القراءة ونظرية العقل في الطفولة.

تُقاس نظرية العقل في الطفولة عن طريق اختباراتٍ مشتَقَّة من الدراسة التي وَصفْتُها في الفصل الثاني عن ماكسي، والمكان الذي سيبحث فيه عن حَلْوَاه بعد تغيير مكانها في أثناء تغيبه عن الغرفة. وقد خضعَت مسألة إسهام القصص الخيالية في نظرية العقل لدى الأطفال للبحث.١٧
اختارت جوان بيسكين وجانيت آستينجتون مجموعة من كتب الأطفال المصوَّرة، وكوَّنتا منها فئتين من الكتب. في كلتا الحالتين، كانت القصص والأفعال والصور هي نفسها، ولكن القائمتين بالتجربة أدرجتا في كتب إحدى الفئتين نصًّا يحتوي على الكثير من التعبيرات التي تصف الحالة العقلية (مثل «شعرَت» و«اعتقدَت» وما شابه ذلك). بينما خلا النص الذي أُدخِل على الفئة الأخرى من التعبيرات التي تصِف الحالة العقلية. ثم وُزِّع الأطفال على إحدى المجموعتين أو الأخرى، وعلى مدار أربعة أسابيع قرأ المدرسون أو مساعدو الباحثين على الأطفال حوالي ٧٠ كتابًا من هذه الكتب. استخدم الأطفال الذين تعرضوا للكتب التي احتوت على الكثير من تعبيرات الحالة العقلية العديد من هذه التعبيرات في القصص التي أمْلَوها بأنفسهم على شخص ليكتبها، ولكن يبدو أنهم كانوا يستخدمون التعبيرات دون إدراك معانيها إدراكًا تامًّا؛ لأن الأطفال الذين كانوا في المجموعة التي استمعت للقصص التي خلت من تعبيرات الحالة العقلية كانوا أفضل في فهمهم لنظرية العقل. ويبدو أن الأطفال في هذه المجموعة الثانية تأثروا بالمسافات بين الكلمات؛ إذ كان عليهم الاعتماد على أنفسهم فعليًّا في استنباط أفكار الشخصيات ومشاعرهم؛ ومن ثم كان فهمهم لهذه الأمور أفضل.١٨
أجرت ماريسا بورتولوسي وبيتر ديكسون تجربة أخرى حول أهمية الاستنباط عند قراءة الأدب الإبداعي،١٩ حيث اكتشفا بالتعاون مع طالبة تُدعى ماريا كوتوفيتش أنه عند تكليف قُرَّاء قصة قصيرة بعنوان «المكتب» لأليس مونرو باستخراج إيحاءات الكاتبة غير المباشرة بخصوص راوي القصة المتحدِّث بلسان المتكلِّم، كان فهمهم للراوي أفضل مقارنةً بالحالة عند استبدال معلومات مباشرة عن الراوي بالتلميحات غير المباشرة. وتقترح بورتولوسي وديكسون نشأة علاقة بين الراوي والقارئ، وأننا نحن القُرَّاء نستنبط دومًا ما يعنيه الراوي أو يفكر فيه أو يشعر به مثلما نفعل في المحادثات التي نستمتع فيها بالاستنباط؛ لأنه يساهم في تعزيز علاقاتنا. وينطبق الشيء ذاته على القصص الخيالية. إن النماذج التي نقيمها للآخرين — سواء في الحياة العادية أو في القصص الخيالية — أثناء استخدام نظرية العقل تكون نماذج بنَّاءَة بالفعل؛ إذ يتعدَّى الأمر مجرَّد معلومة أو أخرى تصلنا عن الشخص.

ومرة أخرى، تكرَّرت النتائج التي توصَّل إليها فريقنا البحثي المتعلِّقة بأن قراءة القصص الخيالية لدى البالغين ترتبط بنظرية العقل؛ إذ وجد ريموند مار وجينيفر تاكيت وكريس مور أن تعرُّض الأطفال من سنِّ الرابعة إلى السادسة للقصص التي تُقرَأ عليهم وللأفلام (ولكن ليس التليفزيون) يُنبئ بمستوى نظرية العقل لديهم.

(٤) فكرة تطور الذات

تعود فكرة أننا نستطيع فهم أنفسنا من خلال القَصص الخيالي — في الغرب — إلى زمان أفلاطون وأرسطو على أقل تقدير. يقول نورمان هولاند:
يُصِّر أغلب المنَظِّرين على أن للفن والأدب وظيفتين متعارضتين إلى حدٍّ ما، ويُعبِّر هوراس في مقاله «فن الشعر» عن هاتين الوظيفتين ببساطة وبأسلوب مباشر: prodesse وdelectare. وحيث إن المقصود بكلمة delectare هو يمتع، فنحن نتوجَّه إلى الأدب بحثًا عن الاستمتاع. وعادةً ما يترجم المنظرون مصطلح هوراس الآخر prodesse إلى «يوجِّه» أو «يعلم» أو «ينور»، وهو ما يُبرِّر الاستمتاع. ولهذا «ينبغي على الشاعر أن يوجِّه أو يُمتِع أو كلاهما معًا.» (ص٣٥٤)
إلَّا أن فكرة أن الأدب قد يوجد أو ينور أضحت محل شك؛ فجانب من الدمار الذي لحِقَ بالعالم في الحرب العالمية الثانية كان جرَّاء فشل المواطنين الألمان — وهم من أعلى سكان العالم تعليمًا — في منع أمتهم من الزَّلَل في هاوية النازية.٢٠ وقد أكَّد جورج شتاينر في مقولةٍ شهيرة له: «نحن نعلم أن الواحد من هؤلاء الرجال كان يقرأ أعمال جوته أو ريلكه في المساء، ويستمع إلى معزوفات باخ وشوبرت، ثم يتوجه في الصباح إلى عمله في معسكر أوشفيتز» (ص١٥).٢١
وتعجَّب العالَم لعجز التعليم — من علوم إنسانية وأدب وفنون مرئية وموسيقية — عن تمكين الشعب الألماني من تجنُّب الزلل في ذاك المستنقع الأخلاقي الذي هُيِّئ لهم فيه أن بعض الأفراد في المجتمع صالحون للعيش، بينما البقية لا تصلُح إلَّا للإبادة. وتوجد الآن روايات تاريخية قائمة على حقائق دقيقة ومؤكَّدَة حول تبَنِّي ألمانيا للنازية.٢٢ أقنعت دعاية مؤثِّرَة استُخدمت فيها وسائل الإعلام الجديدة من إذاعة وأفلام الكثير من الناس بأن هتلر ليس مجرمًا، ولكنه شخص طيب سيقود أمتهم إلى العظمة. كذلك اتَّسَمَت النازية — إلى جانب نزوعها للعنف والقومية ومعاداة السامية — بالعدائية تجاه القيم الإنسانية في التعليم. استبدل النازيون بدءًا من عام ١٩٣٣ بفكرة الارتقاء بالذات عن طريق التعليم والقراءة ممارسات أخرى مصمَّمَة لحَثِّ أكبر عدد ممكن من الأفراد على الخضوع الطوعي، ولقمع البقية الرافضة عن طريق الخوف المبرَّر.
أشارت مارثا نوسباوم في كتابها «هشاشة الخير» إلى أن السبيل إلى تحقيق الخير بالنسبة إلى أفلاطون كان يعني عيش حياة تأمُّلٍ، والسعي نحو يقينيات المُثُل في عالم الفكر، وراء العالم الذي نحيا فيه حياتنا اليومية، بمعزِلٍ عن صدماته. وتستطرد قائلة إن الحياة اليومية على النقيض من ذلك مليئة بالحوادث، وهذا يجعل الخير فيها هشًّا؛ فأين نجد تحليلًا لهذه الحياة في تأثُّرِها بالحوادث؟ في القصص الخيالي الأدبي. تُوجِّهنا نوسباوم نحو قراءة إسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيديس، ثم تقول:

تكشف لنا التراجيديا الإغريقية عن تحطُّم أشخاص طيبين بسبب أشياء جَرَت لهم، أشياء خارج نطاق سيطرتهم … ولكن التراجيديا تكشف عن شيء أكثر تكديرًا؛ إذ تُظهر أشخاصًا طيبين يرتكبون أفعالًا شريرة هي في المعتاد بشعة بالنسبة إلى شخصياتهم والتزاماتهم الأخلاقية، بسبب ظروفٍ لا علاقة لهم بأسباب حدوثها. (ص٢٥)

أحفاد أفلاطون في عصرنا الحالي هم العلماء، وهم يجتهدون من أجل الوصول إلى حقائق مُثلى تتجاوز الإدراك البشري الفردي. لا يوجد إنسان مثقف يرغب في معارضة استنباطات مستمدة على نحو سليم من العلم التجريبي، ومنه علوم المجال النفسي. ولكن هذه الاستنباطات تكتمل كما تقول نوسباوم بما نفهمه من القصص الخيالية، بحقائقها المتصلة بالقارئ، التي تشير إلى أن الضعف هو جوهر إنسانيتنا وليس الاكتفاء بالذات الأفلاطونية؛ فبدلًا من اعتبار العالم العادي مجرد ظل لعالم آخر مثالي (كما رأى أفلاطون)، لا تقع الأحداث في الحقيقة إلَّا في عالمنا الأرضي هذا، إلَّا أن الأفعال البشرية نادرًا ما تكون مثالية، والمعرفة البشرية ليست يقينية أبدًا، وفي حياةٍ تحكمها الصدفة والنقص، فإن كل ما نفهمه يكون شَرْطيًّا. القصص الخيالي يُصوِّر الناقص والشَّرْطي.٢٣

تبدأ نوسباوم كتابها «العدالة الشِّعرية» بفكرة آدم سميث عن «المشاهد الحصيف» القادر على الولوج عقليًّا إلى محنة شخص آخر. وتقول إن هذا التماهي مع الآخرين من خلال المشاركة الوجدانية أو التعاطف يتشكل بقراءة القصص الخيالية. وتضيف أن هذه القدرة أساسية لأي مفهوم حقيقي للعدالة؛ لأن المرء يجب أن يكون قادرًا على التفكير بأنه يعاني ظروف الناس المضرورين في المجتمع، ويجب أن يكون قادرًا على التفكير في هؤلاء الأشخاص في إطار فرديتهم. فرادة كل شخص من الخيرات التي يمكن أن يقدمها لنا القصص الخيالي. وقد يُفضِّل علماء النفس النظر في هذه المسألة من خلال فكرة تناقض الفاعل-المراقِب التي تشير إلى ميلنا لرؤية الآخرين ورؤية أنفسنا من منظورين مختلفين؛ فمثلًا إذا رأيتُ شخصًا يمشي داخل غرفة، ويكاد يتعثَّر في لعبة طفل مهمَلة على الأرض، أميل إلى التفكير في أن هذا الشخص أخرق. وإذا كنت أنا أمشي داخل الغرفة نفسها وكِدْتُ أتعثَّر بالطريقة ذاتها، فسأميل إلى التفكير بأن هذا بسبب أن اللعبة يجب ألَّا تُترَك في ذلك المكان. وهذه المجموعة من الأفكار تنبثق من فريتز هايدر صاحب نظرية العزو التي تتناول محاولاتنا فهم سلوك الآخرين وسلوكنا من حيث أسبابه. يُمكِّننا القَصص الخيالي من تجاوز تناقض الفاعل-المراقب، ويتيح لنا كبار الأدباء — أمثال ويليام شكسبير، وجين أوستن، وجوستاف فلوبير، وجورج إليوت، وليو تولستوي، وفيرجينيا وولف — فهم الشخصيات الأدبية من حيث الشخصية، ومن خلال الولوج داخل الشخصية، وقد نمارس بعد ذلك هذا النوع نفسه من الفهم في الحياة العادية.

ويقول برايان ستوك في كتابه «الأخلاق من خلال الأدب» إن الغرب طالما نظر إلى القراءة — منذ زمان الأبيقوريين والرواقيين — باعتبارها عاملًا مهمًّا في تطور الذات، وكانت تشمل قراءة الأعمال القصصية، وقد كانت — حتى عام ١٤٥٥ تقريبًا، حين اخترع يوهان جوتنبرج طريقة طباعة الكتب في أوروبا — من الأنشطة التي لا يزاولها إلا قِلَّة قليلة من الأشخاص، منهم الرُّهبان. غير أن ستوك ينبهنا إلى أن القراءة منذ القِدَم، وعلى مدار العصور الوسطى، وعصر النهضة، وحتى وقتنا الحالي كانت دومًا ذات جانبين، أطلق عليهما: الجانب التزهُّدي، والجانب الجمالي. أما الأول فهو لا يشير حسب استخدام ستوك له إلى إنكار الذات، بل يعني الانشغال بالطريقة التي تؤهِّل الشخص ليكون إنسانًا أفضل من الناحية الأخلاقية وفي علاقاته مع الآخرين. وعلى العكس من ذلك يشير الجانب الجمالي إلى القراءة من أجل المتعة، بالرغم من أن هذا النوع من القراءة قد تكون له سمات تزهُّدية.

ويوضِّح ستوك أن القراءة التزهُّدية كانت هي التقليد الذي نشأ مع قُرَّاء وكُتَّاب مثل أوغسطين، وبترارك، ومونتين، وكان القارئ فيها يدخل حالة من الهدوء مع كتابه، ويعزِل العالم الخارجي بعيدًا عنه، ليستقبل الكلمات ويستوعبها، ثم يدخل بعد ذلك في مرحلة أخرى من التفكُّر والتأمُّل لتصبح المعاني جزءًا من ذاته. ويشير ستوك كذلك إلى أن هذا الأسلوب يُعَد موازيًا من نواحٍ عِدَّة لممارسات التأمل في الشرق، التي تهدف هي الأخرى بلا شك إلى الارتقاء بالنفس. وفي رأيي أن النتائج المبَيَّنة في الأقسام السابقة تُعَد جميعها امتدادًا لهذا التقليد.

(٥) هل يمكن أن يكون للقصص الخيالي تأثيرات نافعة؟

لا يشير أيٌّ مما قلتُه حتى هذه اللحظة إلى أن القَصص الخيالي كله قيِّم. يصف ريتشارد جيريج في كتابه «خوض عوالم السرد» كيف يستطيع القَصص الخيالي تمكيننا من تصديق أشياء معينة بسهولة بالغة. كان كولريدج مضلِّلًا حين قال إن ذلك الأدب الفني يتطلب «تخلِّيًا طوعيًّا عن الإنكار.» العكس هو الذي يحدث في الأغلب. افترض جيريج أن القَصص الخيالي ينقلنا إلى عوالم تخيُّليَّة، وقد يحدث في بعض الحالات أن نخطئ الحكم في بعض الحالات في تلك العوالم، وقد نصدق في بعض الأحيان أشياء غير حقيقية بسهولة بالغة. وهذا تأثير ضار.٢٤ وإخال أننا جميعًا قادرون على التفكير في الروايات والأفلام والمسرحيات المتحيزة؛ أي التي تدور حول فكرة زائفة أو تسعى للحث على احتقار البدائل. علاوة على ذلك، فالكثيرون من الناس مقتنعون بأن أنواعًا معينة من القصص الخيالية، كتلك المتمحورة حول العنف أو التي تعرض أشكالًا معينة من المحتوى الجنسي، يمكن أن تكون ذات أضرار حقيقية، خصوصًا على الشباب.٢٥
القَصص الخيالي الذي أتناوله في هذا الكتاب ليس من النوع الذي يُعتَقَد أنه مضلِّل في أغلبه أو ضار بوجه عام. ولعلَّه من الممكن إذا تأمَّلنا الأمر عكسيًّا، بدءًا من التأثيرات التي لوحِظَت بخصوص تحسُّن القدرات الاجتماعية المتعلقة بالمشاركة الوجدانية ونظرية العقل لدى قُرَّاء القصص الخيالية، أن نُبيِّن تحديدًا ما يحتمل أن يكون له تأثيرات نافعة مما يتعلق بالقصص الخيالي. ويمكن في هذا الإطار استنباط أربعة موضوعات، هي: استكشاف عقول الآخرين، وتحرِّي العلاقات، وديناميات التفاعل داخل الجماعات، ومواجهة مشكلات الذات.٢٦

(٥-١) فهم الآخرين ودخول عقولهم

ناقشت في الفصل الثاني أن الأطفال يتعاملون مع أنفسهم في أول عامين من حياتهم باعتبارهم فاعلين في العالم، ويرون الآخرين بوصفهم فاعلين هم أيضًا. ومع بلوغ سن الرابعة، ومن خلال نظرية العقل، يمكنهم استنباط ما يفكر ويشعر به الآخرون، ويدركون شيئًا عن عقولهم هم أنفسهم. يشكل الناس نماذج للآخرين (ولأنفسهم). وهم يستخدمون هذه النماذج في تفاعلاتهم مع الآخرين.

هذا النوع من النماذج أشبه بساعة اليد، التي هي بدورها نموذج لدوران الأرض، وحركة الشمس والقمر والنجوم في الكون. والغالب أن رؤية الشمس أو القمر أو النجوم تكون غير ممكنة؛ ومن ثمَّ فإن الساعة تُعَد طريقةً ملائمة لمعرفة الوقت، بل إنها أدَقُّ من أي طريقة لملاحظة تلك الأجرام السماوية ملاحظةً مباشرة. ويستطيع الأشخاص التوافق مع الآخرين عن طريق هذه الساعات التي تُحدِّد الزمن؛ أي إنهم يفعلون ذلك عن طريق نظرية العقل؛ فمن خلال النماذج التي يقيمها الناس بعضهم لبعضٍ يستطيعون إدراك ما يدور بذهن الآخرين من أفكار وما يراودهم من مشاعر.

المسائل المتعلِّقة بفهم ما يفكر به الآخرون وما يشعرون به، سواء في التعاملات المباشرة (نظرية العقل)، أو على مدار العلاقات الأطول (الشخصية)، من بين أهم الأمور في الحياة الإنسانية. وبالرغم من أننا نحن البشر نُجِيد هذين النوعين من الفهم، فهذه الإجادة لا ترقى لمستوى الإتقان. ويمكن اعتبار أن رواية «كبرياء وتحامل» تدور حول مشكلات التعرف على العقول الأخرى، التعرف عليهم من أجل حبهم، والتحبب إليهم لأننا نعرفهم.

وقد عبَّرَت جورج إليوت عن هذه المسألة قائلة: «إننا جميعًا نولَد في حالة من الغباء الأخلاقي.» فهْم أن الآخرين هم أيضًا ذوات، هو شيء علينا استكشافه، كاكتشاف دوروثِيا في رواية «ميدل مارش» أن الرجل الذي تزوجته «كان له مركز ذاتي مكافئ لا بد أن الأضواء والظلال تسقط عليه دومًا باختلاف معين» (ص٢٤٣).

في القصص الخيالي، بمدى سياقاته الاجتماعية، ومدى شخصياته، ربما يكون أملنا في الارتقاء بفهمنا بوجه عام. وهو ما عبَّر عنه بروست بقوله:

فقط من خلال الفن يمكننا الفرار من أنفسنا، والتعرف على رؤية الآخر حول العالم التي تختلف عن رؤيتنا، وتحتوي على مناظر كانت ستظل في عالم الغيب لولا الفن مثلها مثل أي شيء على القمر. (البحث عن الزمن المفقود، المجلد الثامن، ص٢٥٧-٢٥٨)

ولعل الأهم هو أن فهم الآخرين على أنهم مثلنا، ولهم أنواع المشاعر نفسها، ومن ثم الحقوق نفسها، قدم إسهامًا ضخمًا للمجتمع. بينت لين هانت أن إرساء حقوق الإنسان تأثر بقوة بالفن الأدبي. ونحن اليوم نرى أن حقوق الإنسان عالمية، ولكن هانت توضِّح كيف أن فكرة المساواة بين كل البشر في الحقوق كانت شبه غائبة عن المجتمع الأوروبي منذ ٣٠٠ عام، وكان لِزامًا اختراعها. وبنهاية القرن الثامن عشر اكتمل حدوث تغيير. تقدِّم هانت ثلاثة معالم بارزة. نقرأ في إعلان الاستقلال الأمريكي (عام ١٧٧٦): «كل البشر خُلِقوا سواسية … بحقوق راسخة لا تُسلَب، ومن هذه الحقوق الحق في الحياة، والحرية، والسعي لتحقيق السعادة.» وفي الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر عام ١٧٨٩ تقول المادة الأولى: «يولَد البشر كافةً أحرارًا وسواءً في الحقوق ويظلون كذلك.» واليوم لدينا في عصرنا الحالي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام ١٩٤٨ عقب العهد النازي، وتقول مادته الأولى: «يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق.»

لم يزل الترسيخ التام لهذه المبادئ في المجتمع عبر العالم غير متحقق، ولكن خطوات مهمة اتُّخِذت لتحقيق هذا الهدف؛ فلم يعُد الاسترقاق مقبولًا، ولم يعُد التعذيب مقبولًا ضمن الإجراءات القانونية. كما أصبحت النساء والأقليات العِرقية في العديد من البلدان كجميع الأفراد سواءً أمام القانون.

ما توصَّلَت هانت إليه هو أن اختراع فكرة الحقوق، وإعلانات الحقوق، والتغيرات في المجتمع التي لحقتها، تقوم جميعًا على عاملين؛ أولهما هو المشاركة الوجدانية التي تقوم على حدِّ قول هانت على «قدرة ذات أساس بيولوجي على استيعاب ذاتية الآخرين، والقدرة على تخيُّل أن خبراتهم الداخلية تشبه خبرات المرء الشخصية» (ص٣٩). أما العامل الآخر فهو تحريك هذه المشاركة الوجدانية نحو أولئك الذين هم خارج تجمعات الناس الاجتماعية المباشرة. ورغم أن هانت لا تعزو هذا التحريك بالكامل للفن الأدبي، فهي تستنتج أن الرواية أسهمت فيه إسهامًا جوهريًّا. تقول: «خلقت قراءة الروايات إحساسًا بالمساواة والمشاركة الوجدانية من خلال الاستغراق الشغوف في السرد» (ص٣٩). وقد أسهم العديد من الروايات في ذلك، ومن الروايات التي تُركِّز عليها هانت رواية صامويل ريتشاردسون «باميلا» (١٧٤٠) التي ألَّفها رجل وتدعو إلى التماهي التشاركي الوجداني مع امرأة تنتمي لفئة اجتماعية متواضعة. وتقتبس هانت من «باميلا» المقطع التالي:

… قبَّلني مرتين أو ثلاث مرات وكأنه سيلتهمني. وأخيرًا تمكَّنْت من الفكاك منه، وكنت على وشك الخروج من المنزل الصيفي؛ ولكنه منعني، وأغلق الباب.

كنت مستعدَّة للتخلي عن حياتي مقابل أي شيء في تلك اللحظة، وقال لي: لن أوذيكِ يا باميلا؛ لا تخشيني. فقلت له إني لن أبقى! فقال لي لن تذهبي أيتها الوقحة! هل تدركين مع مَن تتحدثين؟ ذهب مني كل خوفي، ومعه كل احترامي، وأجبته: نعم، أدرك يا سيدي، أدرك جيدًا! ولكن أليس لي أن أنسى أني خادمتك إذا نسيتَ أنت ما يليق بسَيِّد.

انتحَبْتُ وبكَيْتُ بحزن؛ فقال لي: يا لكِ من حمقاء وقحة! هل آذيتكِ؟ نعم يا سيدي، أبلغ أذية في العالم: لقد علَّمتني أن أنسى نفسي، وأنسى ما يليق بي. (ريتشاردسون، ص٢٣)

لاقت رواية «باميلا» وغيرها من الروايات في منتصف القرن الثامن عشر نجاحًا كبيرًا، وكانت موضع نقاشات مفعمة بالحماس بين جمهور متنامٍ من القُرَّاء. وهكذا، على حد قول هانت، عاش القُرَّاء من خلال القصص الخيالية مشاعر الأشخاص العاديين. ثم تستطرد قائلة: «بزغت حقوق الإنسان من تلك التربة الأوليَّة التي غُرِسَت فيها هذه المشاعر. ولم يكن ممكنًا لحقوق الإنسان أن تزدهر إلا حينما تعلَّم الناس التفكير في الآخرين باعتبارهم نُظراءهم، وباعتبارهم يماثلونهم على نحو جوهري» (ص٥٨).٢٧

(٥-٢) فهم العلاقات

الموضوع الثاني في التأثيرات النافعة المحتمَلة للأدب الإبداعي هو فهم العلاقات. وليس من قبيل المصادفة أن أغلب القصص الشائعة عبر العالم — كما بيَّن باتريك هوجان — قصص عن مشاعر الارتباط، قصص عن الحب والغضب. وليس المقصود من هذا أننا نقضي أغلب وقتنا في هذا النوع من الأحداث؛ ولكن أن هناك دائمًا حاجة لمزيد من فهم هذه المسائل. فهي حاسمة بالنسبة لأهم الأشياء لدينا، ولكن غالبًا ما تكون معانيها الضمنية أبعد من إدراكنا العقلي، وهنا يأتي دور نماذج المحاكاة (الأحلام) من النوع الذي يمكن أن تتوصل إليه عطايا القصص الخيالية.

إن فهم العلاقات في نماذج المحاكاة الخيالية يشبه النشرة الجوية أكثر مما يشبه ساعة اليد؛ إذ تكون النشرة الجوية حين نقرؤها أو نسمعها أو نشاهدها نتيجة لمحاكاة بالكمبيوتر. ينشأ الطقس عن تفاعل عمليات عدَّة. ونحن نجيد فَهْم كل عملية من هذه العمليات على حدة، فنعي مثلًا أنه عند تقابُل كُتلَة من الهواء البارد كُتلَةً من الهواء الساخن يُحتمل حدوث هطول؛ لأن الهواء البارد يُبرِّد الهواء الساخن إلى الدرجة التي يتكثَّف معها بخار مائه مكوِّنًا مطرًا أو بَرَدًا. ولكن معرفة احتمال سقوط الأمطار في اليوم التالي تتطلب تفاعل هذه العملية مع الضغط الجوي والرطوبة وتأثير الجغرافيا المحيطة وما إلى ذلك.

وفي «ملحمة جلجامش» صار جلجامش طاغية، وإنكيدو متوحش، ولا يستطيع أحدهما الارتقاء عن حالته إلَّا من خلال العلاقات. ويشير المعنى الضمني للسونيت الشكسبيرية رقم ٢٧ إلى أنه إذا كان للمرء محبوب، فينبغي أن يعرف هذا الشخص — لأن هذا جزء مما يعنيه الحب — ولكن ماذا يحدث إذا كان بعض ملامح الشخص الآخر مجهولًا؟ كذلك قد يبدو في قصة «السيدة صاحبة الكلب الصغير» لتشيخوف أن نوع العلاقة التي قد تجمع رجلًا وامرأة يقضي كلٌّ منهما إجازة وحده في مدينة ساحلية تكون متوقَّعَة تمامًا، وقد يبدو أننا نعرف كل العناصر اللازمة لهذه العلاقة، لكن تشيخوف يكشف لنا أننا ربما لا نعرف.

(٥-٣) ديناميات التفاعل في الجماعات

تأتي مسألة تصرف الناس داخل العائلات، أو في المناورات السياسية، أو حين يحصر عدد من الناس أنفسهم في إطار أي نوع آخر من الجماعات ثالثًا بين الموضوعات التي يمكن أن تكون تنويرية. تقدِّم لنا جين أوستن في الفصل الثالث من «كبرياء وتحامل» نموذجًا متمثلًا في الحفل الراقص في قاعة الاحتفالات في ميريتون؛ حيث يستمتع بعض الحاضرين في الحفل بالتفاعلات مع الآخرين مثل جين بينيت، بينما يحتقر البعض الآخر كل ما يحدث مثل دارسي. ما الذي يحدث؟ بوسعنا طرح مثل هذه التساؤلات في الروايات.

إن الأمل في القصص الخيالي، كما يقول أرسطو، لا يكْمُن في اكتشاف تاريخ ما حدث، ولكن في اكتشاف مبادئ ما هو ممكن. فنحن لا نسأل عما إذا كان دارسي قال حقًّا: «لا بأس بها»، ولكن نتساءل عما إذا كان المشهد الذي تحُثنا أوستن على تخيُّله يُبصِّرنا بطريقة تصرف الناس داخل الجماعات.

(٥-٤) مشكلات الذات

موضوع القَصص الخيالي الرابع الذي يحتمل أن يحث على تطوير الذات هو فهم الذات. فكما نستطيع إقامة نماذج للآخرين، نستطيع إقامة نماذج لأنفسنا. ولا شك أن هذا النوع من النماذج بالتحديد هو ما نُطلِق عليه «ذاتنا». وبالرغم من أننا في المجتمع الغربي نفضِّل أن نفكر في ذاتنا باعتبارها مستقلة بنفسها، وأنها هي مصدر أفكارنا ومشاعرنا وقراراتنا، فإن ذاتنا ليس مستقلة في الحقيقة كما يقول تشارلز كولي، بل إنها ذات مرتبطة بالآخرين.

في قصة «حلم ساعة» لكيت شوبان تخوض السيدة مالارد سيلًا من إدراك الذات، أنها تحرَّرت من قيود زواجها. تحرص شوبان على الإشارة إلى أن هذا لا يخص علاقة آل مالارد فقط، ولكنها مشكلة أعمُّ. تفكر السيدة مالارد في «الإرادة القوية التي تقيد إرادتها الشخصية، تلك الإرادة التي هي جزء من ذاك الإصرار الأعمى الذي يظن الرجال والنساء من خلاله بأن لديهم حقًّا في فرض إرادة شخصية على مخلوق مناظر.» ولذلك شعرت السيدة مالارد أن ذاتها شُوِّهت بفعل زواجها.

كان أشهر مفاهيم كولي هو «الذات المرآوية» (وتشير في علم الاجتماع إلى المظهر الخارجي لفكرة الظل الشكسبيرية ربما، أو المظهر الخارجي للسلوك، كالانعكاس في مرآة.) حينما صاغ كولي فكرته، أو قريبًا من ذلك، كان تشيخوف يستخدمها في النصف الآخر من العالم في قصته القصيرة «السيدة صاحبة الكلب الصغير». كتب قرب نهاية العلاقة الغرامية بين جوموف وآنا: «دنا منها، وربَّت على كتفها بحنان، وفي تلك اللحظة رأى نفسه في المرآة.» وهنا يلمح جوموف نفسه كما قد يراه الآخرون.٢٨

يأمل المرء في حياته بين الناس أن يروه بطريقة تشبه الطريقة التي يرى بها نفسه. كيف إذًا يستطيع المرء تقديم نفسه في الحياة اليومية؟ وماذا لو رأى الآخرون المرء باحتقار؟ ناقشت هذا الموضوع في الفصل الخامس في إشارة جيمس بولدوين له في مقاله «عند الصليب: خطاب من مكان ما في عقلي».

(٥-٥) اهتمامات القصص الخيالية

لا أظن أن الموضوعات الأربعة المحتَمَل نفعها التي أشرت إليها (بالأعلى) تُعرِّف ماهية القصص الخيالية. ولكني أظن رغم ذلك أن تصورًا من هذا النوع قد يساعدنا على الاقتراب من جوهر علم نفس القصص الخيالية. يُمكننا التفكير في القَصص الخيالي بوصفه مركَّزًا على موضوعات وانشغالات أساسية لحيواتنا باعتبارنا كائنات اجتماعية، مصوَّرة في شكل محاكيات تخيُّليَّة، أو أحلام يقظة.

(٦) الانتقال والإقناع واللامباشَرة

لعلَّ السرد (أسلوب القصص الخيالي) مقارنةً بالشرح (الأسلوب المميِّز للكتابة الواقعية) هو المسئول عن بعض تأثيرات قراءة القَصص الخيالي التي توصَّل إليها الباحثون. طلب ألان إنج من المشاركين في إحدى تجاربه قراءة قطعة نثرية مكوَّنة من صفحتين؛ إما من السرد وإما من الشرح. وكانت القطعتان تضمان المحتوى نفسه وبمستوًى واحد من صعوبة القراءة. وكتب المشاركون حرف «ذ» على الهامش كلَّما خطرت لهم ذكرى، وبعد القراءة كتبوا موجزًا عن كلٍّ من تلك الذكريات. ولوحِظ أن ذكريات الأشخاص الذين قرءوا القطعة السردية كانت أوضح بكثير، مقارنة بقُرَّاء قطعة الشرح. كما كان القارئ فيها يلعب دور الفاعل أو الملاحِظ في إطار مشهد تفصيلي، أكثر مما كانت مجرد تقارير لأحداث أو ذكريات دلالية. السرد، الأسلوب الأصلي للقصص الخيالي النثري، قادر على تنشيط صور واضحة.

من المصطلحات التي ظهرت للتعبير عن ظاهرة الاندماج في كتابٍ مصطلح «الانتقال». والانتقال، حسب تعريف ميلاني جرين وتيم بروك، هو حالة من الاستغراق في القصة. ويمكن أن يشمل الظاهرة التي يُسميها تشيكسينتميهاي «التدفق» (وسبقت مناقشتها في الفصل الثالث) ويُقصد بها الاندماج التام فيما يفعله المرء، وتشمل أيضًا الانتباه والتصوُّر والمشاعر.٢٩ وقد وجد جرين وبروك أن درجة انتقال القُرَّاء داخل العالم السردي تُنبئ بدرجة التوافق بين معتقدات القُرَّاء وما تحتويه القصة من معتقدات وتقويمات.٣٠ هذا هو أساس مقاربتهما للسرد باعتباره وسيلة للإقناع.٣١ وقد توصَّلَت جرين كذلك إلى أن تصنيف القصة تحت اسم الحقائق أو القصص الخيالية لا يؤثر على درجة الانتقال التي تحدث. ووجدت كذلك، بالتعاون مع بي إم مازوكو وآخرين، أن بعض الناس أكثر استعدادًا للانتقال من غيرهم، وأن السرد أكثر تأثيرًا في الحث على الانتقال والإقناع من أي جدل بلاغي بحت يحمل نفس المعلومات عن جماعة أقلية ما، وأن الدرجات العالية من الانتقال وتغير وجهات النظر والمواقف؛ تحدث بسبب قدرة النص على تحريك مشاعر المشاركة الوجدانية مع الناس الذين هم في وضع الأقلية.
وفي دراسة أجرتها تير ساترفيلد وزملاؤها حول التأثيرات الأخرى للأعمال القصصية، قدَّموا للمشاركين في تجربتهم معلومات عن الآثار التي يُحدِثها نظام كهرومائي منظَّم على أسماك السلمون في أحد الأنهار، ولكن في أحد شكلين سردي أو تعليمي، ووجدوا أن الأشخاص الذين تلقَّوا المعلومات بالشكل السردي كانوا أقْدَر على تقدير الأمور، وعلى تطبيق ما عرفوه من معلومات في صنع أحكام السياسات المعقدة.٣٢
ومن الطرق المهمة للتفكير في القَصص الخيالي أنه يصور الأدوار — الناس عُشاقًا، أو آباءً وأمهات، أو مساعدين، أو مجرمين — وهذه الأدوار قد تكون جذابة أو غير جذابة، وهي تتيح لنا تخيُّل أنفسنا فيها، وأن نشعر بالتعاطف معها،٣٣ وأن نجرب شعور أن نكون شخصيات من نوع معين. وكان هذا النوع من التفكير هو ما قاد فرانك هيكمولدر في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، التي اختار لها عنوانًا مثيرًا، هو «المختبَر الأخلاقي». طلب هيكمولدر في أطروحته من طلاب جامعيين هولنديين أن يقرءوا إما فصلًا من رواية عن الحياة الشاقة التي تعيشها امرأة جزائرية، أو مقالًا عن حقوق المرأة في الجزائر. وأبدى الطلاب الذين قرءوا القصة احتمالًا أقل لقبول الأعراف الجزائرية السائدة الخاصة بالعلاقة بين الرجال والنساء من هؤلاء الذين قرءوا المقال.٣٤
علاوة على ذلك استكشف هيكمولدر تطبيقًا عمليًّا لفكرة لعب الأدوار عن طريق شكل إبداعي يُسمى «مسرح المنتدى».٣٥ وتؤدى المسرحية في هذا القالب مرَّتين في جلسة واحدة؛ تكون المرة الأولى منهما كأي عرض مسرحي يُقدَّم على خشبة مسرح عادية، أما في المرة الثانية فيدعو أحد الممثلين — الذي يُطلَق عليه اسم «الجوكر» — المشاهدين للصعود إلى خشبة المسرح ولعب أدوار بعض الشخصيات، وهكذا، خلال العرض، يستطيع المشاهد الذي أصبح ممثلًا تجاوُز مسار يؤدي إلى أفعال تدمير ذاتي، وأن يختار بدلًا منها مسارًا بديلًا. ويستكشف المشاهدون في أدوارهم المتخيَّلة حديثًا مسارات أحداث مختلفة. وعلاوة على ذلك، يملك المشاركون من خلال المشاركة الجسدية على خشبة المسرح، خبرة أن يكونوا في مواقف مختلفة عمَّا اعتادوه، واستكشاف ماهية تلك الأدوار.

واختبر هيكمولدر تأثيرات مسرحيات المنتدى التي قُدِّمَت في إطار حملة «بالاما» التابعة لمشروع إنتر-جروث — أحد مشروعات منظمة العمل الدولية — في سريلانكا. وكان للمشروع هدف صريح: تغيير الأفكار السلبية السائدة عن العمل التجاري في المناطق الريفية في سريلانكا. وقاس هيكمولدر في تقويمه للمشروع ظاهرة الانتقال لدى كلٍّ من الأشخاص الذين شاركوا في المسرحية عند دعوة الجوكر لهم والمشاهدين الذين اكتفوا بالمشاهدة فقط، ووجد أن درجة شعور الأشخاص بالانتقال في الحالتين نبَّأ بمدى تغير معتقداتهم نحو الفوائد المحتملة للمشاركة في أي نوع من النشاط التجاري وكسب العيش منه.

fig23
شكل ٧-٣: شعار جماعة «بالاما» التابعة لمشروع إنتر-جروث التي تُقدِّم مسرحيات منتدى في سريلانكا. الشعار من تصميم مشروع النمو لمصلحة الفقراء التابع لمنظمة العمل الدولية.

الإقناع جزء أساسي من أي قرار عملي يشمل الآخرين، بدءًا من السياسة القومية وصولًا إلى اتخاذ اختيار شخصي يؤثر على الأسرة. ومن الأشياء المهمة التمييزات بين الإقناع والإكراه، وبين الإقناع الذي يحمل معلومات مفيدة، والإقناع بمعلومات مضلِّلة أو منحازة، وبين الإقناع الصريح والإقناع الخفي. يناقش باتريك هوجان في كتابه «فهم القومية» الإقناع الخفي على سبيل المثال. ويفترض أن بعض موضوعات القصص العالمية (التي سبق عرضها في الفصل الرابع) — كالنوع البطولي الذي يهزم فيه البطل عدوًّا شريرًا، أو قصص التضحية التي يلزم فيها تقديم تضحية ضخمة لإنقاذ المجتمع — يبدو أنها طالما كانت مؤثرة تأثيرًا خاصًّا في تجنيد الأفراد لخدمة نزعات قومية معينة، من دون أن يدرك هؤلاء الأفراد هذه التأثيرات تمام الإدراك.

ولا شك أن علم نفس الدعاية والإعلان ذو صلة وثيقة بعلم نفس الإقناع والتثقيف. وعلى نحو متصل بذلك، يندرج العديد من قصص الحركة والقصص الرومانسية تحت هذا التصنيف. وقد رأى روبين كولينجوود — الذي أشرت إلى كتابه «مبادئ الفن» في الفصل الخامس — الأنواع الأدبية من قبيل قصص الحركة والقصص الرومانسية على أنها ليست فنًّا؛ لأنها لا تضم أي استكشافات. فهي تتبع صيغًا معينة، ويسعى مؤلفوها لإثارة أنواع معينة من المشاعر، ومعيار نجاحها هو الترفيه؛ فهذا هو مقصدها. ولكنها لا تندرج تحت تصنيف الفن، فضلًا عن أنها — من وجهة نظري — ليست من نوعية الأعمال التي يُحتمل أن تزيد من فهمنا أنفسنا أو الآخرين، على الأقل عند التزامها بصيغة النوع الأدبي بشكلها المعهود.

إن الفن — واسمحوا لي أن أضع معيارًا هنا — لا يستقطب الناس ليؤمنوا باعتقاد معين أو يتصرفوا بطريقة معينة أو يشعروا بشعور معين. وهو ما عبَّر عنه سورين كيركجارد قائلًا:

إن التواصل بأسلوب غير مباشر يجعل من التواصل فنًّا، بمعنًى مختلف تمامًا عن معناه حينما يُفهم بالأسلوب المعتاد … إذا استوقفت رجلًا في الشارع ووقفت أمامه ساكنًا وأنت تحدِّثه، فهذا ليس بصعوبةِ أن تقول شيئًا لشخصٍ ما وهو مارٌّ بك دون أن تقف ودون أن تؤخِّر الشخص الآخر، ودون محاولة إقناعه بالسير معك في نفس طريقك، ولكن مع الإيعاز له بدلًا من ذلك بالالتزام بطريقه هو. (ص٢٤٦-٢٤٧)

وقد اكتشفت مايا دجيكيك وزملاؤها أن شخصيات الأشخاص تغيَّرَت نتيجة قراءتهم قصة تشيخوف «السيدة صاحبة الكلب الصغير»، وأن هذه التغيُّرات لم تكن جميعًا في الاتجاه نفسه؛ إذ تغيَّر كل شخص بطريقته.

إن مقصد الخطاب السياسي بوجه عام هو الإقناع بوجهة نظر أو خطة بعينها. والفن الأدبي لا يخلو من الغرض السياسي؛ فأشكاله مهيَّأة لتلائم أهدافنا الأعمق لفهم الآخرين في إطار فرديتهم، ولفهم أنفسنا. إلَّا أن هذه الأشكال — وأنا أحاول عرض الأمر بأفضل صياغة مقنِعة أقدر عليها — تندرج تحت تصنيف مختلف عن الأشكال الأخرى المصمَّمة للإقناع بمعتقدات أو أفعال معينة. ومن أمثلة الممارسات التي وصفها كيركجارد بأنها غير مباشرة نوع معين من العلاج النفسي، وأعتقد أن أحدها هو علاقة الحب. وثمَّة نوع ثالث، وهو موضوع هذا الكتاب: القصص الخيالي؛ فالقصص الخيالي فن.

في القَصص الخيالي الذي هو فن، لا يُبرمَج المرء بفعل الكاتب. بل يشرع المرء في استكشاف أشياء جديدة والشعور بها. وربما يشرع المرء في التفكير بطرق جديدة. وغالبًا ما يرغب الإنسان عندما يشعر ويفكر في أن يتحدَّث عما يشعر به أو يفكر به مع شخص آخر، وهذا هو موضوع الفصل الآتي من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤