تقديم

في تاريخ بلادنا جوانب ما زالت بعيدة عن اهتمام الباحثين الذين اقتصر اهتمامهم على الجانب السياسي وحده في تطور مصر، وأولَوا الجانب الاقتصادي بعض اهتمامهم، وأهملوا الجانب الاجتماعي فلم يحاولوا — إلا فيما ندر — التنقيب فيه وتقديم الدراسات التي تجلو ما غمض من أحداثه، وتفسر ظواهره وتعللها، لتكون دروس الماضي عبرة يستفاد منها في تطور بلادنا في الحاضر والمستقبل.

وتاريخ الحركة العمالية المصرية واحد من الموضوعات التي تستحق عن جدارة اهتمام الباحثين؛ فإذا كان العمال يشكلون اليوم ركيزة البناء الاشتراكي في عصر الثورة، فمن واجبنا أن نتتبع حركتهم وتطورها الذي يكمن فيه كثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي برزت في تاريخ مصر على مدى ما يزيد على نصف قرن من الزمان. ومن هنا وقع اختياري على تاريخ «الحركة العمالية في مصر» كموضوع لهذه الرسالة، وحددت عام ١٨٩٩م بداية لهذه الدراسة باعتباره تاريخ تأسيس أول نقابة عمالية في مصر، ووقفت بهذه الدراسة عند عام ١٩٥٢م الذي شهد وقوع ثورة ٢٣ يوليو ومولد عهد جديد، كما شهد بداية مرحلة جديدة من تاريخ الحركة العمالية المصرية.

وهناك بعض الدراسات التي وضعها الباحثون في القانون وتناولوا فيها موضوعات تمسُّ تشريع العمل، تعرضوا من خلالها للحركة العمالية، ويأتي في مقدمة هؤلاء الأستاذ الدكتور حسين خلاف الذي ألف كتابًا بعنوان «نقابات العمال في مصر، بحث في تشريع العمل المقارن» نشر في عام ١٩٤٦م وتناول فيه بالدراسة قانون الاعتراف بالنقابات مع تحليل شائق لأحوال النقابات وتكوينها الداخلي وعلاقاتها القانونية، كما كتب الدكتور أحمد زكي بدوي رسالة عن «مشاكل العمل والمنظمات العمالية في مصر» نشرت بالفرنسية في عام ١٩٤٨م، وتناول فيها تطور تشريعات العمل حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وعقد بها فصلًا ممتعًا عن تطور الحركة العمالية في مصر منذ نشأتها في مطلع القرن العشرين حتى نهاية الحرب الثانية. وألف سعد عبد السلام حبيب المحامي كتابًا عن «مشاكل العمل والعمال» مس فيه الحركة العمالية المصرية مسًّا طفيفًا. كما ألف الأستاذ إبراهيم الغطريفي كتابًا عن «تطور تشريع العمل» نشر في عام ١٩٦٥م تعرض فيه لتطور تشريعات العمل قبل الثورة وبعدها. وفيما عدا هذا نشرت مقالات متفرقة بقلم المرحوم محمد حلمي إبراهيم في مجلة التأمينات الاجتماعية في غضون عام ١٩٦٣م تناول فيها بالدراسة مرحلة نشأة الحركة النقابية في مصر، كذلك نشر بمجلة الطليعة مقالان في غضون عام ١٩٦٤م بقلم أمين عز الدين عن «نشأة الطبقة العاملة المصرية»، و«فجر الحركة النقابية» وهي دراسة رائدة في مجالها.

كذلك أصدر بعض النقابيين كتيبات تناولوا فيها جوانب من تاريخ الحركة، ويأتي في مقدمة هذه الكتيبات دراسة المرحوم سيد قنديل — الرئيس السابق للنقابة العامة لعمال الطباعة — التي نشرت تحت عنوان «نقابتي، الرسالة العمالية الأولى» وهي قريبة الشبه بالمذكرات وقد تعرض فيها لفترة مشاركته في العمل النقابي فيما بين أوائل العشرينيات ومنتصف الثلاثينيات (وهو تاريخ نشرها)، فلها من هذه الناحية أهميتها باعتباره كان شاهد عيان لما سجله من أحداث ومشاركًا في بعضها. وهناك كتيب آخر كتبه محمد يوسف المدرَّك — النقابي اليساري والسكرتير العام السابق للجنة العمال للتحرير القومي — تحدث فيه عن علاقة عمال مصر بعمال العالم، ونشر تحت عنوان «عمال مصر مع عمال العالم» (١٩٥٧م)، وترجع أهمية هذا الكتيب إلى أن كاتبه لعب دورًا بارزًا في هذا المجال خلال النصف الثاني من الأربعينيات. كما كتب اثنان من النقابيين اليساريين هما يس مصطفى ومحمد فتحي كتيبًا أسمياه «النصيحة إلى العمال في مصر» نشر عام ١٩٥٠م، أشارا فيه إلى ما بلغته أحوال العمال من السوء وناشدا العمال توحيد صفوفهم للمطالبة بحق تكوين الاتحاد العام والالتفاف حول البرنامج الذي تضمنه الكتيب، وقد أصبح هذا البرنامج فيما بعد أساسًا لبرنامج اللجنة التحضيرية للاتحاد العام لنقابات العمال في مصر (١٩٥٠-١٩٥٠م). وأخيرا أصدرت مجموعة من النقابيين اليساريين في غضون عام ١٩٦٥م كتيبًا بعنوان «الطبقة العاملة والكفاح المصري السوداني المشترك»، وقد تعرض هذا الكتيب للعلاقات التي كانت تربط الاتحاد العام للعمال بالسودان باللجنة التحضيرية للاتحاد العام لنقابات العمال في مصر، ومعظم هذه الكتيبات إن لم يكن كلها صدر لخدمة أغراض معينة سياسية كانت أم نقابية.

ودراسة موضوع كتاريخ الحركة العمالية في مصر من الصعوبة بمكان، لأن معظم أوراق النقابات ضاعت نتيجة مطاردة السلطات لها، ولأن معظم النقابات لم تستمر لفترات زمنية طويلة تسمح لها بالمحافظة على أوراقها، كما لم يكن في مصر حتى عام ١٩٤٢م نظام لتسجيل النقابات يحفظ لنا لوائحها ونظمها الأساسية وسجلاتها. وكانت السلطات عند مهاجمتها لدور النقابات والاتحادات العمالية تستولي على ما بها من أوراق، كما أن قادة النقابات كانوا يتخلصون مما قد يكون لديهم من أوراق حتى لا تُتخذ كأدلة اتهام ضدهم حين يقعون في أيدي رجال الأمن. ولا نعرف كيف كانت سلطات الأمن تتصرف فيما تستولي عليه من أوراق النقابات، وقد حاولت الاطلاع على هذه المضبوطات؛ فكتبت إلى السيد وزير الداخلية في مايو عام ١٩٦٤م طالبًا السماح لي بالاطلاع على أرشيف القسم المخصوص. كما كتبتُ إلى السيد النائب العام في نفس الوقت ملتمسًا التصريح لي بالاطلاع على ملفات تحقيقات القضايا العمالية، وكذلك كتبتُ إلى السيد وزير الثقافة والإرشاد القومي راجيًا مساعدتي في الوصول إلى أوراق النقابات من مضبوطات القسم المخصوص، ولكن لم أتلقَّ حتى الآن ردًّا على أي من تلك الطلبات.

لذلك قمت بمحاولة الاتصال بقدامَى النقابيين على أمل العثور لديهم على بعض ما يفيد البحث من أوراق، فوجدت منهم فريقين: فريقًا ما زالت تعلق بأذهانه ذكريات المطاردة والسجن والتشريد امتنع عن تقديم أية مساعدة لي، وفريقًا كان أكثر وعيًا وإدراكًا لما طرأ على مصر من تغيير شامل بعد الثورة فرحب بمساعدتي وتقديم العون لي، ولكن لم أجد لدى هذا الفريق من النقابيين إلا النزر اليسير من الأوراق التي تمكنوا من المحافظة عليها وإنقاذها من الضياع. وأهم هذه الأوراق ما وجدته لدى محمد حسن عمارة — السكرتير العام السابق لاتحاد نقابات عمال القطر المصري ١٩٣١–١٩٣٥م — وقد اشترك في قيادة معظم المنظمات العمالية التي ظهرت منذ نهاية العشرينيات حتى منتصف الخمسينيات. وعثرت لديه على بعض الأوراق الخاصة باتحاد نقابات عمال القطر المصري وحزب العمال المصري، كما سمح لي بالاطلاع على دفتر محاضر جلسات حزب العمال الاشتراكي (الذي كان سكرتيرًا عامًّا له)، وهو يقع في ١٣٣ صفحة من الحجم المتوسط ويسجل أعمال ٤٥ جلسة من جلسات مجلس الإدارة، وكذلك أطلعني على مذكراته الخاصة عن النشاط النقابي الذي ساهم فيه، وهو مخطوط يقع في حوالي ٥٠ صفحة بعنوان «٤٠ عامًا في الحركة العمالية، مذكرات نقابي مخضرم».

كذلك اتصلت بمحمد يوسف المدرَّك الذي كان له دور كبير في النشاط النقابي عامة واليساري خاصة على مرِّ الفترة ما بين منتصف الثلاثينيات وأواخر الأربعينيات، وقد عثرت لديه على بعض النشرات والأوراق التي تتعلق بمؤتمر نقابات عمال الشركات والمؤسسات الأهلية (١٩٤٤-١٩٤٥م)، ومؤتمر نقابات عمال مصر ١٩٤٥م، ولجنة العمال للتحرير القومي عام (١٩٤٤-١٩٤٥م). وقد حصلت على أعداد مجلة الضمير لسان حالة اللجنة الأخيرة من السيد محمود العسكري.

واستكمالًا لبعض النواحي التي كانت في حاجة إلى إيضاح، أجريت عدة مقابلات شخصية مع بعض الشخصيات التي اشتركت في قيادة وتوجيه الاتحادات العمالية، فتمت بيني وبين النبيل السابق عباس حليم أربع مقابلات خلال صيف عام ١٩٦٤م بقصره الكائن برمل الإسكندرية، وعثرت لديه على بعض الأوراق الخاصة وأعداد الصحف التي سجلت نشاط الاتحادات التي تزعمها. كما قابلت المرحوم حسني الشنتناوي بمنزله بالدقي في يوليو ١٩٦٤م، والأستاذ شوكت التوني المحامي بمكتبه بشارع الساحة خلال خريف عام ١٩٦٤م.

واتجهت في دراستي للحركة العمالية في مصر إلى استخدام التقسيم الزمني والتقسيم الموضوعي في نفس الوقت، فقمت بدراسة تطور النقابات في الفصول الثلاثة الأولى، وخصصت كل فصل منها لدراسة فترة زمنية ذات طابع معين في تاريخ النقابات، ثم انتقلت إلى دراسة قضايا معينة تشكل كل منها جزءًا من تاريخ الحركة العمالية، كالنضال في سبيل التشريعات العمالية، وجهود الأحزاب والمنظمات السياسية للسيطرة على الحركة العمالية وحزب العمال المصري، والتيارات اليسارية العمالية، والعلاقات الخارجية للحركة العمالية المصرية، ثم أنهيت دراستي بكلمة عن طبيعة الحركة العمالية المصرية. وقد ركزت اهتمامي على الاتجاهات العامة دون التفاصيل حتى أتمكن من إبراز مظاهر تاريخ الحركة والعوامل التي تأثر بها هذا التاريخ.

ورجعت في هذه الدراسة إلى الأوراق التي وقعت في يدي، وإلى الأبحاث والمقالات التي تعرضت لمشاكل العمل والعمال في مصر، وكذلك رجعت إلى الكتيبات التي أصدرها النقابيون، وإلى الدوريات العامة والدوريات التي قامت الاتحادات العمالية بإصدارها، كما استفدت من المؤلفات التي تعالج تطور مصر الاقتصادي والسياسي بصفة عامة.

ولا أستطيع أن أقول إنني قد غطيت كل جوانب تاريخ الحركة العمالية المصرية في هذه الدراسة، فالفترة الزمنية التي يعالجها هذا البحث طويلة، وما زالت معظم الوثائق بعيدة عن متناول أيدي الباحثين، وتجميع هذه الوثائق وإتاحة الفرصة للباحثين للاطلاع عليها سيكون — بلا ريب — نقطة انطلاق لأبحاث جديدة تجلو ما غمض من تاريخ الحركة.

وإن هذا البحث ليُدين بالكثير لكل من تفضلوا بتقديم العون لي، ولا أملك إلا إسداء الشكر إليهم عرفانًا بالجميل. وقد جاء هذا البحث ثمرة الجهود المضنية التي بذلها أستاذنا الكبير الدكتور أحمد عزت عبد الكريم معي معينًا ومرشدًا وموجهًا بسديد رأيه وغزير علمه، فأقال من عثرات القلم بالقدر الذي يجعلني أعتبر هذا العمل ثمرة من غرس يديه.

كما يسعدني أن أتقدم بالشكر الخالص إلى اللجنة التي ناقشت هذا البحث، وتشكَّلت من أستاذنا الدكتور أحمد عزت عبد الكريم رئيسًا، والأستاذ الدكتور محمد أحمد أنيس، والدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى أعضاء، لما أبدوه من ملاحظات قيمة كانت نبراسًا أمامي عند إعداد البحث للطبع، ولتفضلهم بمنحي درجة الماجستير في التاريخ الحديث بتقدير ممتاز.

وعلى الله قصد السبيل.

رءوف عباس حامد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤