الفصل الأول

نشأة الحركة العمالية (١٨٩٩–١٩١٤م)

ظهرت الحركات العمالية — بصفة عامة — كنتيجة طبيعية لنشأة النقابات العمالية ونموها وتطلعها لإيجاد حلول اقتصادية وسياسية لمشاكل الطبقة العاملة. وترجع نشأة النقابات إلى ما طرأ على علاقات الإنتاج من تغيير نتيجة وقوع الانقلاب الصناعي في القرن الثامن عشر — في إنجلترا أولًا — مما ترتب عليه من تحول أوضاع العمال تحولًا خطيرًا في مظهرها وفي نتائجها الاقتصادية والاجتماعية، فاختفى نظام الطوائف guilds وأوجدت الحاجة إلى العمال طبقتين متباينتين، إحداهما طبقة الرأسماليين، والأخرى طبقة العمال، وأصبح العمل سلعة رخيصة في سوق الصناعة، وأدى اختراع الآلات التي تدار بقوة المياه الجارية والتي تدار بقوة البخار إلى الإقلال من شأن المجهود العضلي للعامل مما مهد السبيل لدخول الأطفال والنساء ميدان العمل، فتدهورت الأجور لدرجة لم تكن تكفي لتغطية نفقات القوت الضروري، فقد فاق العرض الطلب في سوق العمل، وحشر آلاف العمال في مناطق صناعية وفي أماكن عمل لا تتوافر فيها الشروط الصحية، فلا تدخلها الشمس أو الهواء، ويقضون في العمل ساعات بلا حدود.
وعاش العمال هذه الظروف في عصر ساد فيه — حتى القرن التاسع عشر — المذهب الحر١ في الاقتصاد، ذلك المذهب الذي حمل لواءه آدم سميث واعتبر كتابه «ثروة الأمم» أساسًا له زمنًا طويلًا، وقد نادى فيه بضرورة إطلاق حرية الأفراد في مجال النشاط الاقتصادي Laissez Faire, Laissez Passer فهو يعارض تدخل الدولة في المسائل الاقتصادية لأن القوانين الطبيعية تحكم الظواهر الاقتصادية وتدخل الدولة يعوق سير هذه القوانين ويعرقله.٢
وهكذا برز إلى الوجود نظام الصناعة الحديث Factory System في ظل الاقتصاد الحر؛ حيث يقوم الانفصال التام بين العمل ورأس المال، وتنشأ علاقة العمل على أساس التعاقد الحر. وبدأت التنظيمات النقابية في الظهور لتأكيد كيان العامل الذي رفض الاستسلام للأوضاع الجديدة التي كادت تسلبه كرامته وحريته. ولذلك انحصر نشاط التنظيمات النقابية الأولى — في إنجلترا — في تأسيس «جمعيات الصداقة» التي كانت تمنح بعض المميزات والمساعدات لأعضائها في حالات العوز وفي مواجهة النكبات.

لكن سرعان ما بدَّلت هذه الجمعيات نشاطها، وبدأت تعالج المشاكل الاجتماعية المترتبة على الثورة الصناعية من جذورها محاولة انتزاع نصيب عادل للعمل من عائد التصنيع الذي حاولت الرأسمالية احتجازه استبقاء لقيمة رأس المال، وبدأت النقابات تستخدم نفس أساليب العرض والطلب للتحكم في سوق العمل «وثمنه» وهو الأجر، فما الإضراب إلا نوع من تقييد العرض للحصول على شروط أسخى أو أجر أعلى. ومن هنا تعرضت الحركة النقابية لبطش الحكومات وتنكيلها بزعمائها بالسجن والنفي والإعدام، كما استخدمت الرأسمالية ضدهم أساليب الرشوة وشراء الذمم وأعمال العصابات.

لذلك انحصرت مطالب النقابيين في البداية في الاعتراف بحق التنظيم النقابي، بمعنى الاعتراف بحقهم في المطالبة الجماعية بحقوقهم قبل الرأسمالية في ظل القانون دون أن تكون تصرفاتهم الجماعية هذه محل مخالفة طالما كانت نفس التصرفات مشروعة إذا قام بها الفرد. وبدأ العمال — من ناحية أخرى — في تلمُّس فهم حقيقة التنظيم السياسي والاجتماعي الجديد، ولذلك انحصر جزء من نشاطهم في العمل السياسي، إما للاشتراك في الحكم أو للتأثير عليه بهدف إصدار تشريعات لحماية مصالحهم أو لتوفير حياة هادئة مستقرة لهم، أو بهدف تغيير النظام الرأسمالي من أساسه كي يحلَّ محله نظام لا يقوم على استغلال طبقة لأخرى ويمنع الاحتكارات الرأسمالية، أو فرض سيطرة العمال كطبقة على الدولة.٣

طوائف الحِرف في مصر

لقد سبق ظهور الصناعة الحديثة في مصر نظام طوائف الحِرف التي كانت تعكس تنظيمًا اجتماعيًّا كانت تسير عليه فئات الشعب، فكان الأفراد الذين تجمعهم مهنة واحدة أو عمل واحد أو حتى اتجاه ديني واحد ينظمون أنفسهم في شكل طوائف لرعاية مصالحهم الذاتية، وأصبحت الطائفة في العصر العثماني هي السِّمة المميِّزة لنظام المجتمع المصري حينئذ، فكانت على قدر كبير من الأهمية حتى شبهها البعض بأنها كانت اللبنات التي أقيم منها بناء المجتمع الإسلامي وقتئذ.٤

ونتناول بالدراسة هنا طوائف الحرف باعتبارها مظهرًا من مظاهر التجمعات العمالية الأولى في مصر التي سبقت النقابات العمالية الحديثة. وقد عرفت مصر نظام طوائف الحِرف منذ نشأته في العصر الإسلامي، واستمر بها بعد سقوطها في يد العثمانيين، ولم يتأثر إلا قليلًا بعادات السادة الجدد، لأن الحكام الأتراك قنعوا بترك العادات القديمة في البلاد المفتوحة تسير سيرها الطبيعي دون تدخل منهم إلا فيما يختص بجمع المال.

وكانت بعض الطوائف تصنَّف بحسب عقيدة أفرادها، فكان أفراد الحرفة الذين يعتنقون ديانة واحدة يكوِّنون طوائف خاصة بهم، كما أن التجار كوَّنوا طوائف تبعًا للبلاد التي ينتمون إليها، ففي عام ١٨٠٢م دُعيت طوائف الحِرف بالقاهرة إلى الاشتراك في بناء دار الباشا تبعًا للقوائم التي كانت قد أعدَّتها الحملة الفرنسية، ويروي لنا الجبرتي أن الطوائف القبطية دُعيت أولًا، ثم تلتها الطوائف المسيحية الأخرى، وأخيرًا دُعيت طوائف المسلمين «فأول ما بدءوا بالنصارى الأقباط، ولما انقضت طوائف الأقباط حضر النصارى الشَّوام والأَروام، ثم طلبوا أرباب الحِرف من المسلمين.»٥ وكما كان البزَّازون من المسلمين، كانت هناك طوائف عدة تضمُّ المسلمين وحدهم، بينما كانت طائفة تجار الخمور في مجموعها تضمُّ غير المسلمين، وكانت طائفة الجلابة (تجار العبيد) تقتصر على أبناء الواحات وأسوان وإبريم، واقتصرت طائفة الصاغة كذلك على المسيحيين واليهود، كما كان معظم تجار الحمزاوي من السوريين المسيحيين على وجه الخصوص.٦
وكانت التفرقة بين الطوائف من حيث المنزلة الاجتماعية واضحة، ففي المناسبات الخاصة كمناسبة زواج ابن محمد علي (ديسمبر عام ١٨١٤م) منح الباشا شيوخ الطوائف خِلَعًا ونقودًا تبعًا لمكانة طوائفهم «على قدر الصنعة وأهلها».٧ وكانت الحرف ذات المنزلة الدنيا «الحِرف الدنيئة» تضمُّ باعة الحلوى وطهاة الأطعمة وباعة الأسماك المملحة والخمارين،٨ بينما كان التجار المتخصصون في تجارة الأقمشة والحرير وتجار الغورية ينتمون إلى الحِرف ذات المكانة العالية «الحِرف المعتبرة».٩

وقد وقعت طوائف الحِرف في القرن السابع عشر تحت سيطرة الحكومة وأصبحت أداة إدارية في يدها، وتأثر تصنيفها بالحاجات الإدارية الثابتة وبالتغييرات التي طرأت على العلاقات بين القوى المختلفة داخل الهيئات الحاكمة، فكانت كل طائفة تخضع لضابط معين وكان هؤلاء الضباط يتولَّون مَهمة حماية طوائفهم وجباية ضرائبها.

وفي القرن الثامن عشر كانت هناك ثلاث مجموعات كبيرة من الطوائف في القاهرة خضعت كلٌّ منها لإشراف ضابط معين:
  • (١)

    أمين الخردة الذي كان من حقه أن يدير دفة أمور الطوائف التابعة له ويَجبي ضرائبها. وكانت هذه الطوائف تضمُّ المُغنين والخبازين وسوق الجِمال وصباغي الحرير والحدادين وباعة الخردة.

  • (٢)

    المحتسِب وكان يتولى أمور الأسواق ويفتِّش على الموازين والمقاييس والأسعار وكانت له سلطة عليا تمتد إلى جمع الضرائب من طوائف الباعة والتجار.

  • (٣)

    المعمارباشي وكان بمثابة كبير المهندسين، وتولى الإشراف على طوائف البنَّائين وصانعي الطوب والنجارين وغيرهم من الطوائف المشتغلة بأعمال البناء وتولى جمع ضرائبهم.

وفي القرن التاسع عشر بقيت مجموعتان من هذه المجموعات الثلاث؛ فقد أُلغيت وظيفة المحتسِب بعد عصر محمد علي، وتحولت اختصاصاته إلى حكمدار الشرطة، وكوَّنت طوائف السقائين وباعة الخشب والوقود مجموعة خاصة بها في خلال ذلك القرن، وكان شيوخهم يُختارون بمعرفة المحتسِب أولًا، ثم بمعرفة حكمدار الشرطة حين ألغيت وظيفة المحتسِب. أمَّا المجموعة الأخرى التي تكوَّنت في القرن التاسع عشر فكانت تضمُّ البنَّائين وسائر طوائف المعمار، فاشتملت على الحفَّارين، وقاطعي الأحجار، وضاربي الطوب، ونحاتي الرخام والأحجار، والنجارين والنقاشين وغيرهم، وكان شيوخهم يُختارون بمعرفة محافظ القاهرة وكانت الطوائف تصنَّف على اختلافها إلى ثلاثة أنواع: طوائف أصحاب الحِرف، وطوائف التجار، وطوائف الأعمال المتعلقة بالنقل والخدمات، وكان الجميع يخضعون لنظام واحد. فلم يكن تاريخ الطوائف في القرن التاسع عشر هو تاريخ الطوائف الحِرْفية بمعناها الضيق، ولكنه كان نظامًا عامًّا يضمُّ سكان المدن بمن فيهم من الموظفين كالكَتبة وجُباة الضرائب بينما بقيت البيروقراطية الكبرى خارج النظام وكذلك العلماء، برغم أن الأزهر كان يستعمل مصطلحات الطوائف (طائفة، شيخ، نقيب).١٠
وكان للطوائف تقاليد معينة يلتزم بها أفراد الطائفة جميعًا، فكان أول عهد الصبي بالطائفة حفل «الالتحام» الذي كان يتم بحضور أعضاء الطائفة التي يريد الصبي الانضمام إليها، ويبدأ عادة بقراءة الفاتحة ويصبح في ختامه الطفل «صبيًّا» لدى «الأسطى»، وبذلك يكون قد مرَّ بأولى مراحل الالتحاق بالطائفة، وبعد فترة من التدريب يدخل الصبي المرحلة الثانية بأخذ «العهد» على مُعلمه، فيقام حفل آخر لهذا الغرض يحضره أفراد الطائفة، ويبدأ بقراءة الفاتحة، ثم يلقي المعلم على الصبي بعض الأسئلة التي يتولى الأخير الإجابة عليها، ثم يتلو القسَم ويقوم المعلم بعد ذلك بإسداء النصح إليه، وينتهي الحفل بتلاوة بعض آيات الذكر الحكيم والصلاة على النبي. وبدخول المرحلة الثالثة يقتحم الصبي «سياج» الطائفة ويصبح عاملًا أو «صنايعيًّا» أو «مشدودًا»؛ حيث يمرُّ بحفل الشد الذي يتمنطق فيه بحزام الطائفة على يد النقيب بحضور الشيخ، وفي هذا الحفل يقوم «الكبير» أي المعلم بتقريظ تلميذه أمام شيخ الطائفة مبيِّنًا مدى مهارته في إتقان الصنعة، ثم يليه «الجد» وهو كبير الكبير، ثم يقوم النقيب والطالب بعقد حلقات مع العمال من زملاء الأخير لتصفيةِ ما قد يكون بينهم وبين الطالب من منازعات، وبعد ذلك يُعقد اجتماع كبير للطائفة تولم فيه وليمة، ويُفتتح الحفل بقيام كل عضو بقراءة الفاتحة لكبيره، ويُهدي كلٌّ منهم إلى الشيخ — عودًا أخضر — ثم يقوم الطالب بمناشدة الحشد أن يطلبوا من الشيخ أن يستجيب لكبيره ويُلحِقه بحمايته ويقبله عضوًا بالطائفة، فإذا اعترض أحد الحاضرين كان على الطالب مصالحته. وبعد ذلك يشمل الصمتُ الجميع، ويقوم الطالب فيتوضأ ثم يعقد في حزامه أربعة عقَد، إحداها لكبيرِه، والثانية للجد، والثالثة للطائفة، والأخيرة لإمام العلوم (علي بن أبي طالب). ثم يَنصح الحاضرون المشدود بأن يكون عفيفًا خيِّرًا وألا يُقدِم على فعل ما يُغضب الله، وأن يتمسك بالشريعة. أمَّا الخطوة التالية لعضو الطائفة فهي ترقيته إلى مرتبة «الأسطى» أو المعلم، فيقام حفل «الإذن» أو «الإجازة» وهو المرحلة الرابعة والأخيرة لدخول الطائفة، وتُعَد بمثابة ترخيص بمزاولة تعليم الحرفة، ولكن الإجازة لم تكن لتصح إذا منحها الوالد لابنه لاحتمال وقوعه تحت تأثير عاطفة الأبوة.١١

وكان الأسطوات يمرون بأربع مراحل للترقية إلى أعلى مراتب الطائفة، فكانت المرحلة الأولى هي درجة «البيشرويش» أو «البيشرويش الصغير»، أما الثانية فكانت «النقيب الثاني» أو «النقيب الوسطاني»، وأما الثالثة فكانت مرتبة «النقيب» أو «النقيب الكبير»، وأما الأخيرة فكانت درجة «الشيخ». وكانت الترقية من مرتبة إلى أخرى تتم عن طريق حفلات شدٍّ وعهد خاصة.

وكان حق فتح حانوت لمزاولة أية حِرفة صناعية أو تجارية يسمى «الجدك»، وبرغم أن المحل نفسه لم يكن ملكًا للمعلم بل كان يدفع إيجارًا سنويًّا له، فقد كان «الجدك» نفسه نوعًا من الملكية يمكن التصرف فيه بالبيع والرهن، وينتقل بعد وفاة الأسطى إلى الورثة، ويستطيع الابن أن يحل محل أبيه في التمتع ﺑ «الجدك» إذا كان قد تلقى التدريب الكافي على الحرفة نفسها، وإلا باع الورثة «الجدك» إلى أحد أفراد الطائفة. وكان «الجدك» نوعين: نوعًا يبيح لصاحبه ممارسة المهنة في أي مكان يريد، ونوعا آخر يربط صاحبه بمكان معين، وكان النوع الأول نادرًا، وازداد ندرة مع الأيام لأن الدولة كانت تفضل أن تجمع أبناء الحرفة في مكان معين حتى يمكنها تحميلهم التزامات الطائفة متضامنين في أية ناحية من النواحي.١٢
وكان الشيخ يتمتع بسلطة واسعة على أعضاء الطائفة، فهو الذي يتولى توزيع الضرائب المفروضة على الطائفة على أعضائها، كما كان له حق توقيع العقوبات على المخالفين من أفراد الطائفة. وبرغم أن سلطته القضائية لم يؤكدها القانون، فإنها كانت محترمة من الجميع، وكانت تلك السلطة تمتد إلى الحكم بالسجن أو الغرامة أو إغلاق المحل أو حرمان المذنب من عضوية الطائفة.١٣ وقد ذكر البعض١٤ أن سلطة الشيوخ القضائية ألغيت في عهد سعيد حين حرَّمت الحكومة على شيوخ الطوائف توقيع العقوبات أو فرض الغرامات على أفرادها. وذكر البعض الآخر١٥ أن سلطة الشيوخ القضائية انتُزعت منهم بإنشاء المحاكم الأهلية (١٨٨٣م) ولكننا لم نعثر في مجموعة القوانين والقرارات المصرية على ما يشير إلى أن سعيدًا قد أصدر أمرًا أو تعليمات لتنظيم أو تحديد السلطة القضائية لشيوخ الطوائف، ولم يرِد ذكر الطوائف إلا في قانونه الخاص بالعقوبات التي تُوقع على المخالفين من القصابين والخبازين والبقالين فقط، ولم يُشر قانون عام ١٨٨٣م الخاص بتأسيس المحاكم الأهلية من قريب أو من بعيد إلى الطوائف وشيوخها.
وهناك اختلاف أساسي بين سلطة الشيوخ الإدارية وسلطتهم القضائية، فالأولى نتاج رغبة الحكومة في أن تنفَّذ تعليماتها بوساطة جميع القاطنين في المدن حين لم يكن باستطاعتها القيام بهذا العمل مباشرة حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فاستخدَمت المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية الموجودة كحلقة اتصال بينها وبين المحكومين، بينما احتفظَت لنفسها بحق استخدام القوة. ولكن حين تكون الحكومة ضعيفة فإن الشيوخ يزدادون قوة، ولما كانت تلك القوة لا سند لها من القانون فلم يكن هناك ضرورة لإلغاء سلطة الشيوخ القضائية عن طريق التشريع؛ فبقيت بأيديهم حتى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.١٦
ولما كان جانب كبير من سكان المدينة في العصر العثماني مندرجين في الطرق الصوفية وينتمون إلى الطوائف، فإنه كان ثمة علاقة بين النظامَين. ويبدو أن هذه العلاقة كانت قائمة على النطاق المحلي؛ فقد كان بعض شيوخ الطوائف يُقيمون الزوايا أو يتولَّون الإشراف عليها، كما أن طقوس الالتحاق بالطائفة شبيهة بطقوس الالتحاق بالطريقة. وليس صحيحًا أنه كان من الضروري أن تكون ثمة علاقة تربط كل طائفة بطريقة معينة، فلم يكن من الضروري أن يكون جميع أعضاء الطائفة منضمين إلى طريقة واحدة، فقد كانت هناك طوائف لغير المسلمين، وطوائف تضمُّ أناسا من المسلمين وآخرين من غير المسلمين، كما أنه كان هناك اختلاف بين النظامَين، فالطائفة نظام إداري له طابع اقتصادي، بينما الطريقة الصوفية تهدف إلى الإشباع الروحي، فهي ذات طابع ديني. وكانت الصلات بين النظامَين تقوم على مستويات مختلفة، فكان معظم الناس ينتمون إلى النظامين معًا؛ إذ إن أعضاء الطريقة كان معظمهم من أعضاء الطائفة، ولما كانت الطوائف تضمُّ معظم سكان المدينة (فيما عدا الحكام والعلماء) على ما بينهم من تباين في المستوى المادي والاجتماعي؛ فإنه لم يكن ضروريًّا أن يكون كلُّ أفراد الطوائف أعضاء في الطرق الصوفية.١٧
وساهمت طوائف الحِرف في الاحتفالات العامة والخاصة، فكانت كل طائفة تشترك في المواكب بعربة تحمل نموذجًا من صناعتها. وكان أبرز هذه الاحتفالات موكب المحمل، ووصلة الحج، واحتفال الرؤية (رؤية هلال شهر رمضان)، ووفاء النيل. واقتصر الاشتراك في كل احتفال على الطوائف المرتبطة به، فمثلًا في احتفال الرؤية كانت تشترك طوائف التجار والباعة الخاضعة لإشراف المحتسِب باعتباره المسئول عن توفير المواد الغذائية في شهر رمضان. بينما كانت الطوائف التابعة للمعمارباشي تشترك في الاحتفال بوفاء النيل؛ لأن المعمارباشي كان يرأس ذلك الاحتفال الذي كانت تمثل فيه طوائف المهن المتعلقة بالبناء.١٨ وهذه الصلة توضح لنا مدى ارتباط الطوائف بالأداة الإدارية الحكومية وخضوعها لها.
اختلفت الآراء حول عوامل انهيار نظام طوائف الحِرف، فهناك من يذهب١٩ إلى أن النظام الجديد الذي أقامه محمد علي للصناعة أدى إلى انهيار النظام القديم، فأفسح نظامُ الطائفة الطريقَ لنظام المصنع الذي يمتاز بمجموعات الأُجَراء، وتَحطَّم نظام الطائفة وفقدت من بقيت منها ما كان لها من نفوذ قديم، وفي عهد سعيد أُلغي حق الشيخ في فرض الغرامات على أعضاء الطائفة، وأخيرًا تم إلغاء ما بقي من الطوائف في عام ١٨٨٢م. ونفى مؤرخ آخر٢٠ صدور قرار بإلغاء الطوائف في عام ١٨٨٢م، ولكنه اتجه اتجاهًا خاطئًا حين ذكر أن سلطة الشيوخ القضائية قد سقطت بتأسيس المحاكم الأهلية في عام ١٨٨٣م، وأن الدكريتو الصادر في ٩ يناير عام ١٨٩٠م «بتقرير عوائد رخَصٍ على الصنائع» والذي نُصَّ فيه على ضرورة الحصول على ترخيص بمزاولة أية مهنة لم يعلِن فقط حرية الأفراد في احتراف أية مهنة، ولكنه حطَّم نظام الصِّبية بما يترتب عليه من طقوس الطائفة التقليدية وهو ما لم يشِر إليه القرار من قريب أو بعيد.

لكن ما من شك أن الطوائف كانت موجودة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأن تجربة محمد علي الصناعية لم تقضِ عليها، ولم توجه إليها ضربة قاضية. ويحق لنا أن نتساءل: كيف بقيت هذه الطوائف على الرغم من التطور الجزئي الحديث الذي طرأ على المجتمع المصري في القرن التاسع عشر، وكيف اختفت الطوائف كلية إذا لم يكن قد لحِقها الضرر من جراء قوانين سعيد وإسماعيل أو قوانين عام ١٨٨٢م أو عام ١٨٨٣م أو عام ١٨٩٠م التي لم تتضمن أية إشارة إلى الطوائف؟

لقد بدأت الطوائف تفقد استقلالها تحت الحكم العثماني لمصر بوقوعها تحت إشراف أمين الخردة والمحتسِب والمعمارباشى، ولم يغير الغزو الفرنسي كثيرًا من وضعها لأن عهد الحملة الفرنسية كان قصيرًا بالدرجة التي لم تكن تسمح لها بإدخال تغيير ملحوظ على النشاط الاقتصادي، ولذلك لجأ الفرنسيون إلى المؤسسات القديمة للاستعانة بها في حكم البلاد، وكانت طوائف الحِرف واحدةً منها، فأعطاها بونابرت أهميةً سياسية حين أشرك شيوخَها في الديوان، كما أن نشاط الطوائف في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ينفي ما ذهب إليه البعض من أن محمد علي قد وجَّه إليها ضربة قاضية، لأن عدد أفراد الطوائف ظلَّ أكثر بكثير من عدد العمال الذين التحقوا بالمصانع الجديدة، كما أن الأخيرة كانت تختصُّ بأنواعٍ من الإنتاج لم يسبق إدخالها إلى مصر، ولذلك لم يتوافر لأعضاء الطوائف المِرانُ الكافي عليها، ولكن هذا لا يعني أن مصانع محمد علي لم تضمَّ أفرادًا من طوائف الحِرف؛ ففي بعض الحالات استُفيد بالطوائف في المصانع الجديدة وخاصة طائفة البنَّائين، ولكن صناعة النسيج التي أدخلها محمد علي أدَّت إلى إلحاق الضرر بطوائف النسَّاجين في مختلِف أنحاء البلاد نتيجةَ اتباع الحكومة لنظام الاحتكار … وإذا كان التطور الذي أدخله محمد علي على وسائل الإنتاج قد أثَّر على طوائف الصناعات اليدوية، فإنه كان أقل تأثيرًا على طوائف التجار والطوائف التي كانت تعمل بالنقل والخدمات، وكان هؤلاء وأولئك يحتلُّون غالبية الطوائف ويضمون معظم أفرادها، فلم يلجأ محمد علي إلى تسخير طوائف النقل في خدمة الجيش واكتفى باستخدام الفلاحين لهذا الغرض، كما أنه اهتمَّ بصفة خاصة باحتكار التجارة الخارجية، كذلك لم تُعمِّر تجربة محمد علي طويلًا، وبذلك لم يقدَّر لها أن تغير كثيرًا من أسلوب الحياة في مجتمع المدينة، كما أن نظام الطائفة استمر في العمل في ظل حكومة محمد علي؛ فألزم الشيوخ بالإشراف على أفراد طوائفهم والتأكد من أن تعليمات الحكومة تنفَّذ على الوجه المطلوب، فلم يكن باستطاعة محمد علي أن يقيم جهازًا إداريًّا يحل محل الطوائف في وقتٍ لم يكن فيه بمصر موظفون على درجة من القدرة والكفاية تؤهلهم للحلول محل شيوخ الطوائف، وإقامة إدارة حكومية تتولى أمورها، ولهذا لم يكن باستطاعة محمد علي الاستغناء كليةً عن الطوائف.

ولا ريب أن الطوائف ظلت باقية طوال القرن التاسع عشر ما بقيت الحكومة غير قادرة على أن تُحل النظام الإداري الحديث محلها، ولذلك ظل شيوخ الطوائف يتولَّون الإشراف على نشاط الأعضاء ومراقبة تنفيذ تعليمات الحكومة، كما كانوا مسئولين عما يقع من أخطاء أفراد طوائفهم. وظل شيوخ الطوائف حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر مسئولين عن جمع الضرائب من أفراد طوائفهم، وظل رأيهم يؤخذ في الاعتبار عند فرض الضرائب حتى عام ١٨٨٠م، كما أنهم ساعدوا الحكومة في تحديد الأسعار حتى الستينيات من القرن التاسع عشر.٢١
وعلى الرغم من عدم قيام صناعةٍ حديثة لتُنافس الحِرف التقليدية؛ فإن الأخيرة تأثرت إلى حدٍّ بعيدٍ بالتغييرات التي طرأت على عادات الاستهلاك كما تأثرت بالتدفق المستمر للبضائع الأوروبية على الأسواق المصرية، وقد بدأت هذه الظاهرة في الظهور في منتصف القرن التاسع عشر، ثم أخذت في احتلال مركز الأهمية تدريجيًّا، وبينما أدَّى تدهور الحِرف التقليدية إلى اختفاء معظم طوائف الحرف اليدوية؛ فإن طوائف التجار تلقت ضربة قوية نتيجةَ التغيير الذي طرأ على النظام التجاري المصري على مرِّ القرن التاسع عشر، فمن ناحية بدأ نظام السوق ينحل تدريجيًّا لتنتشر التجارة في المدن، وليعمل الأجانب بفروع منها كانت من قبلُ وقفًا على التجار المصريين دون غيرهم، ومن ناحية أخرى تحوَّلت التجارة الخارجية تحوُّلًا كاملًا، فبعد أن كانت مصر تتَّجر بالبضائع السودانية والعربية والشرقية فكانت القاهرة مركزًا من المراكز المهمة لهذه التجارة وللتجار المصريين والسوريين والأتراك الذين يقومون بها، أصبح الاتجاه الرئيسي للتجارة الخارجية في القرن التاسع عشر هو تصدير القطن إلى أوروبا واستيراد البضائع الأوروبية المصنوعة إلى مصر، وأصبح اليونانيون والأوروبيون من الجنسيات الأخرى هم المُصدِّرين والمستوردين الرئيسيين. وزيادة على ذلك عانت طوائف التجار من الضرائب الباهظة بقدر ما عانت منها طوائف الحِرف اليدوية، بينما كان التجار الأجانب يُعفَون منها بحكم الامتيازات الأجنبية.٢٢
كما أُعيد تنظيم الإدارة المصرية حوالي نهاية القرن التاسع عشر، وأصبحت أكثر كفاءة، وأخذ عدد الموظفين المدرَّبين في الازدياد، وأصبحت الدولة — تدريجيًّا — قادرة على حكم الشعب مباشرة. وأجري في عام ١٨٩٧م أول إحصاء رسمي للسكان، ونتيجة لهذا أصبحت الدولة قادرة على العمل دون الاعتماد على الطوائف. وشيئًا فشيئًا أخذت طوائف الحِرف في الضعف وتداعى نفوذها المالي والاقتصادي، واختفت جميع الطوائف عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.٢٣

ولا يمكن أن نعتبر طوائف الحِرف بأي حال من الأحوال الأصل التاريخي لنقابات العمال الحديثة في مصر، لأن الطوائف كانت تضمُّ العمال وأصحاب الأعمال، وكان نظامها يكفل انتقال هؤلاء إلى مرتبة أولئك إذا بلغوا حدًّا معينًا من الكفاية والمقدرة وفق تقاليد الطائفة، لذلك لم يكن هناك انفصال بين العمل ورأس المال يتيح الفرصة لإبراز التناقض بينهما، كما أن العلاقة بين العامل ورب العمل كانت قائمة — في ظل نظام الطائفة — على ما يشبه العلاقة بين التلميذ وأستاذه. وإن كان هذا لا يعني — بالطبع — عدم وجود مستغلين من المراتب العالية في الطائفة، ولكن تقاليد الطائفة ونظامها كانا كفيلين بالحدِّ من نفوذ مثل هؤلاء الأفراد. كما أن نظام الطائفة يرمي إلى حماية تقاليد الصناعة أو التجارة وتحديد مواصفاتها وأسعارها وصَون حقوق أفراد الطائفة، فهو نظام إداري له طابع اقتصادي اجتماعي، بينما يقتصر عمل النقابة العمالية بالمفهوم الحديث على الدفاع عن مصالح العمال قبل أصحاب الأعمال، والنضال في سبيل الحصول على أفضل شروط التعاقد الحر، والمطالبة بالتشريعات التي تحمي العمال من جَور أصحاب الأعمال وتنظم علاقات العمل، ولذلك فهي اتحاد دائم بين العمال الذين يشتغلون في صناعة معينة بغرض الدفاع عن مصالحهم المشتركة.

ولما كان ظهور النقابات في مصر الحديثة يرجع إلى قيام نظام الصناعة الحديث حيث قام الانفصال التام بين العمل ورأس المال، وأصبحت علاقات العمل قائمة على أساس التعاقد الحر؛ فإنه يتحتَّم علينا أن نعرف كيف نشأت الصناعة الحديثة في مصر، وكيف تطورت علاقات العمل على النحو الذي مهَّد السبيل لنشوء الطبقة العاملة المصرية وظهور النقابات العمالية.

تطور الصناعة في مصر في القرن التاسع عشر

لم تكن في مصر صناعات تحويلية — في النصف الأخير من القرن الثامن عشر — تتطلب آلات ميكانيكية أو قوى محركة سوى القوى البشرية والحيوانية، وكاد يقتصر استخدام قوة الهواء في إدارة الطواحين على الإسكندرية، حيث كان يوجد منها القليل الذي جلبه الأجانب المهاجرون،٢٤ وكانت الصناعات الموجودة حينذاك تنتشر مراكزها في مختلف أنحاء البلاد، فقامت صناعة الصوف في الفيوم والقاهرة، واقتصر إنتاج الحرير على شمال الدلتا، وتركزت صناعة الأواني الفخارية في جنوب الصعيد. وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك صناعة الحصير وعصر الزيوت، والسكر الذي تركزت صناعته في الوجه القبلي، والنبيذ وماء الورد حول الفيوم.٢٥
وبرغم أن النظام الصناعي السائد — في القرن الثامن عشر — كان نظام الوحدات الإنتاجية الصغيرة التي تنتج على حسب الطلب ويزودها عملاؤها بالمواد الأولية، فقد بدأت عناصر النظام (الرأسمالي) تتسرب إلى الصناعة المصرية، فقد اعتاد كبار التجار في المدن تمويل الصناع في الريف، وتشغيلهم لحسابهم الخاص مع تزويدهم بالمواد الأولية والأدوات، ويَخرج الإنتاج طبقًا للمواصفات التي يحددونها. وكانت هناك مصانع (كبيرة) — إلى حدٍّ ما — تنتج السلع الكمالية للسوق المحلي والسوق الخارجي، ينتظم فيها العمال تحت إشراف رب العمل الذي يعمل — أحيانًا — جنبًا إلى جنب مع عماله، وكان يكتفي أحيانًا بالإشراف والتوجيه ومراقبة الصنف وتصريف الإنتاج.٢٦

أما طرق الإنتاج فكانت بدائية — إلى حدٍّ كبير — واقتصرت المصانع على استخدام قش الذرة والأرز وروث البهائم كوقود، وكانت صناعة السكر تستخدم آلات بدائية تديرها الثيران. وبقيت طرق الإنتاج في صناعة الغزل والنسيج عتيقة، بينما كانت معاصر الزيوت بدائية في أغلب الأحيان، وكان بعض المعاصر يستعمل آلات معقدة غالية الثمن.

وكان هناك ارتباط وثيق بين الزراعة والصناعة، فكان العمال يشتغلون بالغزل والنسيج في أوقات الفراغ من الفلاحة، ويُقبِلون على العمل في الصناعات الموسمية في الشتاء حين يقلُّ الطلب على العمال في الزراعة، وكان الدخل من الصناعات اليدوية التي يمارسها النساء والأطفال يؤلف جزءًا كبيرًا من دخل الأسرة.٢٧
وتطورت الصناعة تطورًا ملحوظًا في عهد محمد علي الذي بدأ في تنفيذ برنامج التصنيع عام ١٨١٦م عقب محاولته تكوين الجيش النظامي، وسار سيرًا حثيثًا بعد الفراغ من حملة الوهابيين ومن غزو السودان. فقد اقتضى ذلك النظام الاقتصادي الذي أدخله محمد علي وأحكم تطبيقه في مصر أن يحتكِر الباشا الصناعات القائمة في البلاد منذ زمن بعيد، وأن يُكثِر من إقامة منشآت صناعية جديدة حتى يحقق فكرتين: الأولى فكرة الميزان التجاري الذي يجب أن يميل في صالح دولته، والثانية فكرة الاكتفاء الذاتي. وقد ترتَّب على استقرار هاتين الفكرتين في ذهن الباشا تطبيق الاحتكار على الصناعات الصغيرة القائمة بمصر من قديم الزمن والإكثار من الصناعات الكبيرة الجديدة٢٨ التي كان للإنتاج الحربي فيها القدح المعلى، فأنشأ الترسانة لتزويد الأسطول بالسفن وقام حولها عدد من الصناعات الفرعية الملحقة. وكان إنشاء مصانع الأسلحة والذخيرة في القاهرة سببًا في إنشاء المسابك، وتوسعت صناعة الحديد لسدِّ حاجة الجيش والأسطول. وكان توسيع صناعة الغزل والنسيج ضرورة ملحَّة لازدياد حاجة القوات المحارِبة من الملابس القطنية والصوفية والأغطية. وكان الجزء الأكبر من إنتاج «فابريقة» الطرابيش بقوةٍ يخصَّص للاستعمال العسكري، كما ألحِق بها مصنع ومصبغة للعباءات اللازمة للعسكر. وكانت المدابغ تكلَّف بصنع حقائب الجنود. ولا ريب أن الإنتاج كان مرتبطًا بالطلب الحربي فيزداد معدَّله في فترات الحرب والاستعداد لها، ويتناقص معدله في أعقاب الحروب. وقد كان بعض المصانع تابعًا في إدارته مباشرة لديوان الجهادية، كما عُهد إلى كبار ضباط الجيش بإدارة الكثير من المصانع، وفي أواخر عهده تناقص عدد القوات المحاربة تناقصًا كبيرًا، واختفى الطلب الحربي فجأة، ومن ثَم أفَل نجم الصناعة وسارت في طريق الاضمحلال.٢٩
وقد سيطر محمد علي على الصناعات التي كانت قائمة حين ولِي الحكم، ففرض الضرائب على المشتغلين بها والمتَّجرين فيها بعد أن جمعهم في مكان واحد تحت إشراف مندوب الوالي الذي كان يُمدهم بالمواد الأولية بالسعر المحدد، ومن ثَم تحتكر الحكومة بيع الإنتاج بثمن تحدده مع حظر إنتاج السلعة بدون ترخيص، وفرضِ حصص معينة من الإنتاج على مشايخ القرى لشرائها، وقد تناول الجبرتي٣٠ نظام الاحتكار أو التحجير (كما كان يسميه) بإسهاب في مناسبات مختلفة، فيذكر أن «بعض المُتصدرين من نصارى الأروام أنهى إلى كتخدا بك أمر النشوق وكثرة المستعملين له والدقاقين والباعة وأنه إذا جمع دقاقيه وصُنَّاعَه في مكان واحد ويجعل عليهم مقادير ويلتزم به ويضبط رجاله ويجمع ماله وإيصاله إلى الخزينة من يكون ناظرًا وقَيمًا عليه كغيره من أقلام المكوس التي يعبِّرون عنها بالجمارك؛ فإنه يحصل من ذلك مال له صورة، فلما سمع كتخدا بك بذلك أنهاه إلى مخدومه (محمد علي)؛ فأمر في الحال بكتابة فرمان بذلك، واختار الذي جعلوه ناظرًا على ذلك خانًا بخطة بين الصورين، ونادَوا على جميع صناع النشوق وجمعوهم بذلك الخان ومنعوهم من جلوسهم بالأسواق والخطط المتفرقة، والقَيم على ذلك يشتري الدخان المعَد لذلك من تجاره بثمن معلوم حدده لا يزيد على ذلك ولا يشتريه سواه، وهو يبيعه على صناع النشوق بثمنٍ حدده ولا ينقص عنه، ومن وجده باع شيئًا من الدخان أو اشتراه أو سحَق نشوقًا خارجًا عن ذلك الخان ولو لخاصة نفسه قبضوا عليه وعاقبوه وغرَّموه مالًا وعيَّنوا معينين لجميع القرى والبلدان القِبلية والبحرية ومعهم من ذلك الدخان، فيأتون إلى القرية ويطلبون مشايخها ويعطونهم قدرًا موزونًا ويُلزمونهم بالثمن المعين بالمرسوم الذي بيدهم فإن أخذوه أو لم يأخذوه؛ فهم ملزَمون بدفع القدر المعين بالمرسوم ثم كراء طريق المعينين.» وفي عام ١٨٣٣م كانت معاصر الزيوت المختلفة تعمل لحساب الحكومة وكان لا بدَّ من الحصول على تصريح قبل إنشاء مصنع جديد، كما مُنع الفلاحون من صناعة الحُصر لحسابهم الخاص، وأبطِلت مصانع السكر الأهلية عندما شَرعت الحكومة في صنعه.٣١
وقد أدَّى نظام الاحتكار إلى تقييد حرية الصناع، وتعرضَ الصناع لِعَنت المخبرين الذين استقدمتهم الحكومة للتجسس على الصناع والتأكد من أنهم يعملون لحسابها فقط، كما تعرض الصناع لظلم رجال الإدارة وتعسفهم في استعمال السلطة، وحُرم الصناع من أرباحهم الكاملة ومن حق التصرف في ثمرة كدِّهم، مما أضعف رغبتهم في الإنتاج، وحمَل بعضهم على ترك العمل، فأضرَّ ذلك بالصناعات الصغيرة ومهَّد السبيل لاضمحلالها. كما تعرض صغار الصناع لتلاعب بعض رجال الإدارة بالموازين والمقاييس والمكاييل بالتواطؤ مع الكتبة؛ فأثرى هؤلاء على حساب أولئك الصناع. وكانت الحكومة لا تدفع المبالغ المستحَقة لأصحاب الحِرف في المواعيد المقررة فأضرَّ بهم ذلك التسويف، كذلك أدَّى نظام الاحتكار إلى قتل روح الابتكار لدى الصناع؛ إذ كانت الحكومة تمنع اتِّباع طرق جديدة للإنتاج، ولذلك لم يحدث تغيير ملموس في طرق الإنتاج البدائية في الصناعات الصغيرة، كما حال احتكار الحكومة لبعض الصناعات الصغيرة دون نموِّ الاستثمار الفردي، وكذلك أدَّى نظام الاحتكار إلى ارتفاع أسعار المنتجات الصناعية مما أدَّى إلى زيادة نفقات المعيشة والإضرار بالمستهلك.٣٢
لجأ الوالي إلى تجنيد العمال من الزراعة والمهن الحقيرة للعمل في المصانع الجديدة قسرًا، فيذكر الجبرتي٣٣ أن الباشا طلب إلى مشايخ الحارات في القاهرة أن «يجمعوا أربعة آلاف غلام من أولاد البلد ليشتغلوا تحت أيدي الصناع ويأخذوا أجرة يومية، فمنهم من يكون له القرش والقرشان والثلاثة بحسب الصناعة وما يناسبها ويرجعون إلى أهاليهم آخر النهار». كما قام الوالي بجمع المتسولين للعمل في المصانع الجديدة، وقد كانت سياسة القسر هذه تؤدي إلى إضعاف الحافز على العمل وإلى حملِ العمال على الهرب من المصانع، مؤْثِرين عليها العمل في الزراعة، لأن الفرق في معدلات الأجور بين المجالين لم يكن مغريًا، ولذلك كان يطلب من العمال تقديم كفيل يمكن الرجوع إليه إذا ما هربوا.٣٤ وكانت ترجع المساوئ البادية في معاملة العمال إلى قسوة مديري المصانع، ورجال الإدارة، الذين كانوا يختارون من بين العسكريين الذين جُبلوا على القسوة في معاملة الجند.٣٥
لقد كان محمد علي يهدف من إدخال الصناعات المختلفة الحديثة إلى اجتناء ربح عاجل، ومن ثم فإنه فقدَ اهتمامه بها عندما لم يتحقق له ما أراد، ولا سيما بعد تخفيض الجيش والأسطول، فانتفت الحاجة إلى الكثير من المصانع، فقلَّ شأنها وتناقص عدد المشتغلين بها، وبعد أن أرغِم الباشا على تسريح معظم الجند والاكتفاء بقوة عسكرية تتناسب والموارد الاقتصادية للبلاد فقدَ اهتمامه بالصناعة مما أدى إلى تدهورها.٣٦
وبعد سقوط تجربة محمد علي الصناعية لم تتَح الفرصة لإيجاد تطور صناعي جديد لعشرات السنين، فقد أغلق عباس وسعيد جزءًا من مصانع محمد علي، وباع سعيد بعض هذه المصانع، وأعطى بعضها الآخر كالتزام لأشخاصٍ بعينهم، ولكن هؤلاء لم يستطيعوا الاستمرار في إدارة هذه المصانع لوقوع عبءِ الضرائب على عاتقهم، بينما كان منافسوهم الأوروبيون يُعفَون منها.٣٧
وحاول إسماعيل أن يعيد التجربة الصناعية عن طريق إقامة المصانع وإيفاد البعثات إلى الخارج، واستطاع أن يحقق بعض النجاح، فعندما نشبت الحرب الأهلية الأمريكية عام (١٨٦١–١٨٦٥م) ازداد الطلب على القطن المصري فارتفعت أسعاره، ولم تكن طريقة حلج القطن التي يستعملها الفلاح لتكفي حلج المحصول؛ فأنشِئت تدريجيًّا محالج في أهم مدن الوجه البحري حلَّت محل العمل اليدوي والآلات البدائية التي كانت قليلة العدد بطيئة الإنتاج، وأنشأ بعض التجار الذين كانوا يحتكرون تجارة القطن في بعض المناطق محالجَ للأقطان التي تُسلَّم إليهم، وبلغ مجموع عدد المحالج بما فيها محالج الدائرة السنية مائة محلج كانت جميعها مجهزة على طريقة بلات الإنجليزية، وتتراوح قوة آلاتها ما بين ٢٠ و٥٠ حصانًا.٣٨ كما أقيم مصنعان للنسيج ببولاق كانا يستهلكان سنويًّا ٣٧٠٠ قنطار من القطن، وبلغ إنتاجها ٣٤٧٠٠ مقطع من القماش الذي كان يستخدم في أشرعة المراكب وملابس الجنود. وبلغ عدد مصانع السكر التابعة للدائرة السنية ١٧ مصنعًا، كانت تنتج ٢٣٥٠٠٠٠ قنطار من السكر سنويًّا، بالإضافة إلى خمسة مصانع أخرى حديثة كانت تنتج ٩٠٠ ألف قنطار في السنة، كما استقدم الخديوي خبيرًا إيطاليًّا في تربية دودة القز وصناعة الحرير ليتولَّى زراعة أشجار التوت في أراضيه بالبحيرة ويؤسس محلجًا في دسونس، وقد تكلف المشروع ١٥ ألف جنيه إسترليني.٣٩ وكان مصنع الطرابيش ينتج خمسين ألفًا من الطرابيش سنويًّا، كان يوزع معظمها على رجال الجيش، كما أنشأ الخديوي في عام ١٨٧٠م مصنعًا للورق بالقرب من المطبعة الأهلية ببولاق، وكان يعمل له ٢٢٠ عاملًا ينتجون ٧٠ ألف رزمة من ورق الطباعة، و١٨ طنًّا من ورق اللفِّ الذي يستعمل في مصانع السكر. وشيدت الحكومة مصنعا لصبِّ المدافع وآخر لصناعة البنادق وثالثًا لإنتاج الذخيرة. وأقيم أيضًا مصنع للطوب بقليوب كان ينتج أربعة ملايين و٧٠٠ ألف طوبة سنويًّا.٤٠ وازدهرت صناعة الجلود وصناعة الزجاج، هذا بالإضافة إلى المشروعات الصناعية الخاصة التي قامت على رأس المال الأجنبي.
لقد استطاع إسماعيل أن يحقق بعض النجاح في إحياء التجربة الصناعية التي بدأها محمد علي، ولكن الإنتاج لم يكن اقتصاديًّا ولهذا أغلِقت بعض المصانع في عام ١٨٧٥م، وبقِي فرعان من هذه الصناعات على طريق الازدهار، هما صناعة السكر التي كانت تديرها الحكومة ومحالج القطن التي أسس الأجانب معظمها.٤١
وكانت حركة التصنيع هذه بما امتازت به من إدخال الآلات البخارية الحديثة، حافزا لإبراز مواهب بعض المصريين من الشباب المشتغل بالصناعة، فيذكر محمد فريد٤٢ أنه في عام ١٨٩٣م اخترع مهندس مصري يدعى أحمد بك صبري، محركًا آليًّا يُدار بتبخُّر نفط البترول بحرارة الشرارة الكهربية، ويدير آلة رافعة للماء، وحجرًا لطحن الحبوب، وينير فانوسًا كهربيًّا في نفس الوقت «وقد حضر الخديوي (عباس حلمي الثاني) تجربة ذلك الاختراع التي تمت بنجاح. كما يذكر محمد فريد أن شابًّا مصريًّا آخر اخترع آلةً رافعة حلزونية الشكل، يديرها بهيم واحد، وتكفي لريِّ أربعة وعشرين فدانًا.»

الاستثمارات الأجنبية في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

أخذ رأس المال الأجنبي يعمل في بعض الاستثمارات الصناعية في البلاد، وخاصة بعد تأسيس المحاكم المختلطة في عام ١٨٧٦م، وقيام الضمانات التشريعية التي تؤمِّن نشاطه.٤٣ ولنشاط الاستثمارات الأجنبية أهمية خاصة في تطور الصناعة في مصر؛ فقد اتسعت نواحي استغلاله وتشعَّبت، وهيأت الفرصة لقيام نظام صناعة حديثة بالمفهوم الغربي يقوم على أساس الإنتاج الواسع، ويرتكز على مبدأ حرية العمل. وقد كانت الغلبة لهذه الاستثمارات الأجنبية في ثلاثة ميادين هي: المرافق العامة، والصناعة، والتجارة.
ففي ميدان المرافق العامة، منح سعيد عام ١٨٦٥م امتيازًا للمسيو كوردييه CORDIER — وهو مهندس فرنسي — لمدِّ مدينة الإسكندرية بالماء النقي، فأسس «الشركة الأهلية لمياه الإسكندرية» التي سجِّلت بفرنسا، واستمرت في استغلال امتيازها حتى عام ١٨٦٧م حين اشتراها الخديوي إسماعيل بثمانية ملايين وستمائة ألف فرنك، وفي عام ١٨٧٦م سلِّمت إلى الاتحاد الكبير بباريس كضمانٍ لقرض، وبيعت في عام ١٨٧٩م إلى «شركة مياه الإسكندرية»، وكانت شركة إنجليزية تكوَّنت في لندن برأس مالٍ مدفوعٍ قدره ٤٠٠ ألف جنيه إسترليني كما مُنح كوردييه امتياز مياه القاهرة عام ١٨٦٥م لمدة ٩٩ عامًا أيضًا.
وفي عام ١٨٦٠م أعطت الحكومة امتيازًا آخر لمدِّ خط الترام من الإسكندرية إلى الرملة، ثم انتقل الامتياز إلى «شركة سكك حديد الإسكندرية-الرملة»، وهي شركة إنجليزية سجِّلت بلندن برأس مالٍ قدره مائة وعشرة آلاف جنيه إسترليني.٤٤
كما مُنح مسيو ليبون LEBON عام ١٨٦٥م امتيازًا لإقامة شركةٍ لإنتاج الغاز بمدينة القاهرة، وكانت هناك صعوبات جمَّة أمام المشروع أخذتها الحكومة في الاعتبار؛ فمنحته حق احتكار هذه الصناعة لمدة ٧٥ عامًا حتى تُوسِّع الشركة نطاق خدماتها. وكان لنفس الشركة حق إنتاج الغاز بالإسكندرية أيضًا، أمَّا شركة الغاز ببورسعيد فقد كانت امتيازًا شخصيًّا مُنح لرجل فرنسي آخر قام بتحويل مؤسسته فيما بعد إلى شركة محدودة، وفي عام ١٨٩٩م اشتراها ليبون، وبذلك أصبح إنتاج وتوزيع الغاز في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد وَقفًا على ليبون وشركاه. ولم تلبث الشركة أن قامت بتوزيع الكهرباء بالإضافة إلى الغاز، وكان رأس مالها يُستغل في مصر أمَّا أرباحها فلم يكن هناك بيانٌ بها، فقد كانت تُستغل في أعمال الشركة بفرنسا، شأنها في ذلك شأن المؤسسات الأجنبية في مصر التي لم تكن إلا فروعًا لشركات في الخارج، ولذلك لم تكن هناك أرقام محددة تبين مدى نشاطها في مصر.
وبعد ذلك مرَّت الاستثمارات الأجنبية في المرافق العامة بفترة ركود من عام ١٨٧٥ إلى عام ١٨٩٤م؛ حيث لم يُمنح إلا امتياز واحد لأحد الأمريكيين لمدِّ الخط التليفوني الأول بين القاهرة والإسكندرية، ثم نقل هذا الامتياز في نفس السنة إلى «شركة التليفونات الشرقية» بلندن. وفي عام ١٨٨٣م سُمح للشركة بمدِّ خطوطها إلى بورسعيد والإسماعيلية والسويس والزقازيق والمنصورة وطنطا، وتحوَّلت خطوط الشركة بمصر إلى شركة خاصة هي «شركة تليفونات مصر» عام ١٨٨٥م. ومنذ ذلك الوقت اتسع نطاق نشاطها، فمدت خطًّا إلى أسيوط عام ١٨٨٩م، وآخر إلى الفيوم عام ١٩٠٨م، ثم تلتها خطوط أخرى إلى مختلِف الأقاليم، ولم يبلغ عام ١٩١١ نهايته حتى كانت جميع الأقاليم مرتبطة بعضها ببعض تليفونيًّا، وفي عام ١٩١٨م نُقل الامتياز إلى الحكومة.٤٥
ولم يدخل أي تطور على ميدان المرافق العامة لعدة سنوات بعد عام ١٨٨٠م، بسبب القلاقل المالية والسياسية الداخلية، ولكن تحسَّنت الأحوال نتيجة الاهتمام بالري وإلغاء السخرة مما جلب رخاءً نسبيًّا، كما ترتب على تقوية القناطر في عام ١٨٩٠م رخاءٌ اقتصادي، وزيادة ملحوظة في الدخل في أقاليم الدلتا، وكنتيجة لهذا أصبح الاهتمام بوسائل المواصلات ضروريًّا سواء السكك الحديدية أو النيل أو السكك الحديدية الضيقة، وأصبحت الحاجة ماسة إلى المزيد من المرافق العامة، ولكن الحكومة وقفت مكتوفة الأيدي.٤٦
أما عن الاستثمارات الأجنبية في التجارة والصناعة، فقد تأسست شركة مطاحن مصر برأس مال فرنسي في عام ١٨٥٧م، فقامت بإنشاء عدد من المطاحن الآلية. وفي عام ١٨٦٣م أَسس بيت باستري PASTRE المصرفي مطحنًا بطنطا، وحين تولى مسيو بلنيير BLIGNIERES وزارة الأشغال العمومية في ظل الرقابة الثنائية كوَّن شركة للأشغال العامة برأس مال فرنسي، وحين ألغيت الرقابة الثنائية بعد الاحتلال البريطاني حُلت الشركة.
وآلت مصانع السكر التي أسسها سعيد وإسماعيل إلى الفرنسيين في عام ١٨٨١م، فضُمت وحدات الإنتاج المتناثرة في شركة واحدة سميت «شركة السكر والتقطير المصرية» تأسست في عام ١٨٩٢م برأس مال مدفوع بلغ في عام ١٩٠١م أربعة وخمسين مليونًا وخمسمائة ألف فرنك، كان معظمه فرنسيًّا.٤٧

كما أدى الرخاء المفاجئ في نهاية القرن التاسع عشر إلى تأسيس عدد من شركات النقل، والبنك الأهلي المصري، وشركات الأراضي، وزاد عدد الشركات التجارية والصناعية، فأسِّست شركات جديدة وتحوَّلت المؤسسات الخاصة إلى شركات تبعًا لاتساع أعمالها.

وكان إنشاء غرفة التجارة الإنجليزية بالإسكندرية في عام ١٨٩٧م دليلًا على ازدياد المصالح الإنجليزية في مصر، وفي عام ١٨٩٩م أَعدت هذه الغرفة قائمة بالشركات التي كانت تعمل في مصر عام ١٨٩٨م فبلغ عددها ٦٧ شركة برأس مال أجنبي في معظمه، وكان مديرو هذه الشركات من الأجانب. ومثَّل المصالح الوطنية في الغرفة مجموعة من رجال البنوك اليهود بالإسكندرية والقاهرة، وبعض التجار الأجانب كان معظمهم من تجار القطن بالإسكندرية، بالإضافة إلى عدد من شركات المباني بالثغر. وبلغ عدد شركات الغرفة عند نهاية القرن ٧٨ شركة.٤٨
وكوَّنت مصانع السجاير في مصر طبقة فريدة من المستثمرين الأجانب، كما يتضح من أسماء مؤسسيها: جانا كليس وكريازي وأجاتوس وماتوسيان وسانوسيان وسيمون آزرت، وهم من اليونانيين والأرمن.٤٩

لقد فضَّل رأس المال الأجنبي اقتحام ميدان المرافق العامة مُركزًا عليه كل جهوده واستثماراته، مفضِّلًا إياه على الصناعة التي لم يولِها نفس الاهتمام وقد حال بين رأس المال المحلي وبين اقتحام ميدان التصنيع عاملان: أولهما ما ارتسم في الأذهان من إخفاق محاولات التصنيع التي قامت على النطاق الرسمي في عهد محمد علي وإسماعيل، وثانيهما الاعتقاد بأن الاستثمار الصناعي يحقق خسارة كبيرة لرأس المال بسبب ضيق السوق المحلية، ولمنافسة المنتجات الأوروبية، كما أنه لا يمكن مقارنته بالعائد الضخم الذي يعود من وراء استثمار هذه الأموال في الأراضي الزراعية. وبرغم أن الاحتلال البريطاني قام برفع بعض الضرائب الجائرة، فإن كرومر عارضَ التصنيع، وكان يرى أن قيام الصناعة في مصر أمر محال ما لم تتبعه حماية جمركية، وأخذ يدافع عن حرية التجارة متعللًا بأن مصر ستفقد جزءًا كبيرًا من دخلها من الضرائب التي تفرضها على التجار الأجانب إذا ما تحوَّلت رءوس أموالهم إلى التصنيع.

نشوء الطبقة العاملة المصرية

ترتب على تأسيس هذه الشركات والمصانع ازديادُ الطلب على الأيدي العاملة التي وفدت من الريف قاصدة المدينة حين عجزت الأرض عن توفير سبل العيش للأعداد المتزايدة من الفلاحين المعدمين، وإلى جانب هؤلاء بعض أرباب الحِرف الذين كانوا يقدمون خدماتهم لكلِّ من يستطيع الاستفادة بما لديهم من خبرات فنية بعد أن أخذ الوهن يدبُّ في نظام الطوائف في أواخر القرن التاسع عشر، ولما كانت تلك الشركات والمصانع تعمل بآلات حديثة على نظام الإنتاج الواسع LARGE SCALE PRODUCTION كانت في حاجة إلى عمال من ذوي الكفاية الفنية العالية ووجدت ضالتها المنشودة في العمال الفنيين من أبناء دول البحر المتوسط الذين ضاقوا ذرعًا بالبطالة في بلادهم فقدِموا إلى مصر سعيًا وراء الرزق في حماية الامتيازات الأجنبية.

ومن ثم كان تكوين الطبقة العاملة في مصر من هذه العناصر الثلاثة: الفلاحين الذين هجروا الريف والتحقوا بالمصانع، وأصحاب الحِرف الذين طوَّروا خبراتهم مع تقدُّم أساليب الصناعة حين ضعفت الطوائف، والعمال الفنيين الأجانب الذين قدِموا من بلاد اضطرم فيها الصراع بين رأس المال والعمل من أجل الحصول على أحسن شروط التعاقد الحر. ومن هؤلاء وأولئك كانت خميرة النضال الجماعي الذي بدت تباشيره عندما أشرف القرن التاسع عشر على نهايته.

تجاوزت الطبقة العاملة المصرية المرحلة الجنينية — إذَن — في نهاية القرن التاسع عشر، وخرجت إلى عالم الوجود … وإذا كانت تلك الطبقة قد أخذت شكلًا معينًا في ظل نظام المصانع الكبيرة التي أنشأها محمد علي، فلماذا لم تستطع تنظيم صفوفها للعمل على تحسين شروط العمل؟ ولماذا لم تتجمع في «نقابات» للدفاع عن مصالحها؟

ذهب روبرت هوكسي ROBERT HOXIE٥٠ في نظريته عن نشوء النقابات إلى أن النقابة تنشأ نتيجة للظروف الاجتماعية للعمال، فالعمال الذين يواجهون ظروفًا اجتماعية واقتصادية متشابهة، ولا يختلفون اختلافًا بيِّنًا في الميول والمهارة يضعون حلًّا موحدًا لمشاكل الحياة اليومية.
وإذا طبَّقنا هذه النظرية على عمال مصانع محمد علي، وجدنا أنهم كانوا يعيشون تحت ظروف اجتماعية واقتصادية متشابهة، فكانوا يساقون من الريف وأحياء القاهرة للعمل بالمصانع مجبرين، ويعملون تحت رياسة مديرين عسكريين عُرفوا بغلظتهم وقسوتهم، ولذلك وطَّنوا أنفسهم على التِماس سبيل الفرار كلما سنحت الفرصة لذلك، وبذلك لم يكن العمال مرتبطين بالمصانع، بل عدُّوا العمل فيها ضربًا من ضروب التجنيد العسكري، يستوي في ذلك الفلاحون وأصحاب الحِرف الذين أجبروا على ترك دكاكينهم، فلم تكن حرية العمل مكفولة؛ حيث تلعب حركات الأجور دورًا هامًّا في توجيه العمال إلى نواحي الإنتاج التي يكثُر فيها الطلب على خدماتهم. ولم تكن الأجور التي يتقاضونها ذاتَ بال. كما كان مديرو المصانع يُخفضون الأجور لضغط النفقات، كما كانوا يؤخرون للعمال أجر عدة شهور حتى يثنيهم ذلك عن التفكير في ترك العمل.٥١
واختلف عمال هذه المصانع في الميول والمهارة، فكان الفلاحون منهم تسيطر عليهم فكرة الارتباط بالأرض، ومن ثَم كانت محاولتهم الهرب إلى قراهم. وكان أصحاب الحِرف منهم يرسِّخ في أعماقهم الولاء لطوائفهم، ونعتقد أن نظام المصنع كان بدعة ليس من السهل عليهم الاقتناع بها، وهم الذين ألِفوا ما كان للطوائف من نظام وتقاليد. أما العمال الأجانب الذين استعان بهم محمد علي فكانوا قليلي العدد — نسبيًّا — وكان الباشا يتخلص منهم بمجرد اكتساب أبناء البلاد للمهارة الفنية اللازمة، بل كان التخلص منهم يتم في أغلب الأحيان قبل التأكد من قدرة المصريين على الحلول محلهم.٥٢ ومن ثَم لم يكن لهم تأثير على عمال تلك المصانع من أبناء البلاد.
فلم يكن من الممكن — إذَن — أن يخرج من وسط هذا الحشد المتنافر الذي يعيش في جو يخيِّم عليه القهر والعنف، عمل جماعي منظم يكون إرهاصًا لحركة عمالية لها غايات محددة، وأبعاد مرسومة برغم تجمعهم في أعداد كبيرة داخل المصانع، فقد بلغ عدد العمال في كل من مصنعي بولاق والخرنفش ٨٠٠ عامل، وفي ترسانة القلعة ٦٠٠ عامل، وكان يعمل بمصنع المدافع ١٥٠٠ عامل، وفي مصنع الأسلحة الصغيرة ٩٠٠ عامل، وفي مصنع الحوض المرصود ١٢٠٠ عامل، وفي ترسانة الإسكندرية ١٧٠٠ عامل، كما كانت مصانع الغزل والنسيج تضمُّ أعدادًا كبيرة نسبيًّا.٥٣

وبدَّد تدهور الصناعة في أواخر عهد محمد علي وعودة العمال الحرفيين إلى طوائفهم والفلاحين إلى قراهم، الأملَ في تنظيم هؤلاء العمال لصفوفهم، إذا ما قُيض لحركة التصنيع تلك أن تستمر إلى غاياتها المنشودة.

نشأت الطبقة العاملة إذَن في ظل المصانع والشركات الحديثة والمرافق العامة التي أقامتها رءوس الأموال الأجنبية، بالإضافة إلى عمال السكك الحديدية وهو المرفق الذي كان منذ نشأته حكوميًّا قحًّا. وتميزت أحوال العمل في تلك المؤسسات بأجورها المنخفضة، وساعات العمل الطويلة. فالأجر اليومي للعامل غير الفني لم يكن يتعدى ثلاثة قروش، بينما كان أجر الحدث في محالج القطن قرشًا واحدًا أو قرشًا ونصف قرش، وأجر العامل الفني ثمانية قروش. وكان متوسط ساعات العمل اليومية ثلاث عشرة ساعة في معظم المرافق وخاصة النقل، وهناك ما يؤكد أن ساعات العمل في محالج القطن كانت تصل إلى سبع عشرة ساعة يوميا، وقد ظل مطلب تحديد ساعات العمل بعشر ساعات مطلبًا عامًّا للعمال طوال تلك الفترة، لم تظفر به إلا فئات محدودة من عمال المرافق.٥٤ وبلغ عدد ساعات العمل اليومية في المحال التجارية ست ساعات في الصباح وتسعة في المساء، وكانت هذه تصل في بعض الأحيان إلى عشر ساعات أو إحدى عشر ساعة.٥٥ وتميزت الأجور بالتفاوت الكبير بين العمال الوطنيين والعمال الأجانب، كما استأثر الأخيرون بالأعمال والوظائف الإشرافية، ولم تسنح الفرصة للعمال المصريين لتولي هذه الأعمال حتى لو كانوا متساوين معهم في الخبرة والإنتاج، وقد لعبت هذه الظاهرة دورًا هامًّا في تاريخ الطبقة العاملة المصرية. وكانت التشريعات في تلك الفترة خلوًا من قوانين العمل التي تكفل تنظيم العلاقات بين رأس المال والعمل، وتضمن للعمال حقوقهم الأساسية مثل مكافأة نهاية الخدمة والتعويض عن إصابة العمل.

لذلك لم يكن غريبًا أن يقع عدد من الإضرابات في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كان بشيرًا بمولد الحركة العمالية المصرية. ونظرًا لندرة ما لدينا من أخبار عن تلك الإضرابات من حيث بداية ظهورها وظروفها والنتائج التي أدت إليها نظرًا لما يحيط بداية الحركة من الغموض، لذا سنعتمد في دراسة مرحلة مولد الحركة على استقراء ما نعرفه من أحداث.

ولا نعرف على وجه التحديد متى بدأ أول إضراب في تاريخ الطبقة العاملة المصرية، وقد اصطلح كل من تناولوا هذه المرحلة بالدارسة، على اعتبار إضراب لفافي السجاير في القاهرة الذي وقع عام ١٨٩٩م تاريخًا لميلاد الحركة العمالية في مصر. غير أننا نعتقد أن إضراب لفافي السجاير قد سبقته عدة إضرابات محدودة النطاق، قليلة الشأن، ولكنها ضربت في مهدها بصورة جعلت أخبارها تتوارى عن أنظارنا، لأن طول مدة إضراب لفافي السجاير (الذي استمر من ديسمبر عام ١٨٩٩ إلى فبراير ١٩٠٠م) يؤكد أن عملًا جماعيًّا كهذا لا بدَّ أن يكون مسبوقًا بتجارب صغيرة تلقي فيها العمال دروس تنظيم العمل الجماعي الأولى. فقد سجل محمد فريد.٥٦ في أحداث أبريل عام ١٨٩٤م أنه قد «وردت تلغرافات من بورسعيد تفيد اعتصام عمال نقل القمح طلبًا لزيادة الأجرة»، ثم يُذكَر أن هؤلاء العمال ضربوا مَن خرجَ على إجماعهم من زملائهم واستمر في العمل، وأن الحكومة قد تدخلت وألقِي القبض على كثير من العمال. ويعلق محمد فريد على هذا الحادث بقوله: «وهذا داء أوروبي قد سرى لمصر»، وفي هذه العبارة ما يُرجح أن الإضرابات كانت معروفة في مصر في أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر.
وإذا كان إحساس العمال بالحاجة إلى تنظيم صفوفهم في شكل نقابات قد ينشأ نتيجة تطوُّر تدريجي لعلاقة التعاقد الحر، أو قد يحدث نتيجة أزمة تمس إحدى النواحي الهامة عند العمال، بشكل يدفعهم إلى التضامن درءًا للخطر،٥٧ فإننا نعتقد أن استخدام الآلات في لف السجاير في أواخر القرن التاسع عشر، وما ترتب عليه من لجوء أصحاب المصانع إلى الاستغناء عن عدد كبير من لفافي السجاير، أو تخفيض أجورهم، كان الدافع لوقوع إضراب لفافي السجاير، يمثل تلك الصورة التي حدث بها من حيث الاتساع، فقد شمل عمال معظم مصانع السجاير بالقاهرة، وطول المدة إذ استمر أكثر من شهرين، وما أسفر عنه من تأسيس أول نقابة للعمال بمصر عام ١٨٩٩م.٥٨

فقد كان لفُّ السجاير حتى أواخر التسعينيات من القرن التاسع عشر يتم بطريقة يدوية، ويتطلب عمالًا على درجة كبيرة من الدقة والمهارة كان معظمهم من اليونانيين والأرمن بالإضافة إلى قليل من المصريين الذين برعوا في هذا العمل، وامتازت أجور من اشتغلوا في هذه المهنة بارتفاع نسبي، وحين استخدمت الآلات في لف السجاير أصبح بإمكان أي عامل يتلقى تدريبًا سريعًا أن يدير الآلة الجديدة التي كانت تنتج أضعاف الإنتاج اليدوي، مقابل أجر أقل من ذلك الذي يتقاضاه عامل اللفِّ اليدوي. ومن ثم لم تَعُد هناك حاجة للاحتفاظ باللفافين إذا لم يقبلوا تخفيض أجورهم، ومن ثَم كان انفجار إضرابهم الكبير في ديسمبر عام ١٨٩٩م.

كان العمال الأجانب من لفافي السجاير هم المحركين لهذا الإضراب بحكم خميرة العمل النقابي التي حملوها معهم من بلاد عَلا فيها غبار المعارك بين العمال ورأس المال، وقطع فيها العمل النقابي شوطًا بعيدًا من ناحية التنظيم وأساليب النضال الجماعي وبحكم وجودهم كأغلبية في تلك المصانع، واستنادهم إلى الحماية القنصلية والامتيازات الأجنبية.

وقد شمل ذلك الإضراب عددًا من «معامل السجاير» بالقاهرة، وكان المضربون يهدفون إلى الضغط على أصحاب المعامل لدفعهم إلى المفاوضة وإجابة مطالبهم، وذلك بوسيلتين: أولاهما إطالة مدة الإضراب إلى أن تشحَّ السجاير من السوق، وثانيتهما استخدام القوة لمنع أصحاب الأعمال من استخدام عمال جدد ليحلوا محلهم، فكانوا يعتَدون عليهم ويمنعونهم من دخول المصانع.٥٩ وبلغ عدد المضربين — على حسب تقدير جريدة اللواء — ٩٠٠ عامل كانوا موزعين على مختلِف المصانع.٦٠
نجح هذا الإضراب لأنه كان مفاجأة لأصحاب الأعمال مما دعاهم إلى إجابة مطالب العمال، فاجتمع القنصل اليوناني بقادة المعتصمين، ووافقوا على إنهاء اعتصامهم لقاء زيادة أجورهم، ولكن كلَّ صاحب عمل توصل إلى اتفاق خاص بعماله، مما أدى إلى تفاوت الشروط والامتيازات التي حصل عليها العمال من مصنع إلى آخر.٦١
وقد حفل العقد الأول من القرن العشرين بالإضرابات التي نظمها العمال الأجانب وقادوها، وساهم فيها العمال المصريون بنصيب يتوقف على ما كان لهم من عدد في المؤسسات التي كانت تقع فيها تلك الإضرابات، ومن هذه الإضرابات إضراب العمال الإيطاليين الذين كانوا يشتغلون في أعمال خزان أسوان (مارس ١٨٩٩م) بهدف تقليل ساعات العمل، وإضراب عمال شحن وتفريغ الفحم بجمرك الإسكندرية لرفع أجورهم وتحديد ساعات العمل، وعمال الترام المصريين بالثغر الذين جأروا بالشكوى من سيطرة الأجانب من الرؤساء وغطرستهم، وكثرة العقوبات والجزاءات، كما طالبوا بتخفيض ساعات العمل التي كانت تصل إلى ١٣ ساعة يوميًّا.٦٢
وفي ديسمبر ١٩٠٠م عاد الإيطاليون إلى الإضراب مطالبين بوقف قرار الشركة (التي كانت تتولى تنفيذ خزان أسوان) الذي نص على تخفيض الأجر من ٣٠ إلى ١٥ قرشًا في اليوم، ومحتجين على سوء المعاملة، كما أضرب عمال الترزية الأجانب والمصريون في (نوفمبر عام ١٩٠١م) مطالبين بتنظيم أجور القطعة وخفض ساعات العمل، واعتبار يوم الأحد إجازة أسبوعية بعد الظهر، وتحديد وقت للراحة والغداء، وفي يناير عام ١٩٠٢م أضرب العمال المصريون والأجانب بشركة الغزل الأهلية بالإسكندرية مطالبين بزيادة الأجور، وفي مارس عام ١٩٠٢م أضرب عمال مطبعة الكوريري إجبسيانو بالقاهرة لزيادة أجورهم، وكانت غالبيتهم من الأجانب، وفي نفس الشهر أضرب لفافو السجاير الأجانب والمصريون بالإسكندرية مطالبين بزيادة الأجور.٦٣ وفي ديسمبر عام ١٩٠٣م أضرب لفافو السجاير بالقاهرة للمرة الثانية مطالبين بزيادة الأجور، وكانت غالبيتهم من اليونانيين بالإضافة إلى قليل من العمال المصريين، وكانت نتيجة هذا الإضراب تأسيس النقابة المختلطة لعمال الدخان، التي أسسها عمال شركة ماتوسيان. وحققت تلك النقابة بعض النجاح بفضل تآزر أعضائها.٦٤

وكانت تلك الإضرابات — ولا ريب — حدثًا فريدًا في حياة الطبقة العاملة المصرية، أتاحت لها فرصة الوقوف على أساليب العمل الجماعي في مواجهة رأس المال المستحكم، من أجل تحسين ظروف العمل وشروطه. ولا شك أن ما حققته بعض تلك الإضرابات من مكاسب ضئيلة جعلهم يشعرون بمزايا اتحادهم وترابط مصالحهم.

ولا نميل إلى الأخذ بما ذهب إليه البعض٦٥ من أن اشتراك العمال المصريين جنبًا إلى جنب مع العمال الأجانب في تلك الإضرابات كان دليلًا على أن عمال العالم «إخوة لا يفرق بينهم وطن أو دين» لأن دور العمال المصريين في تلك الإضرابات كان ثانويًّا، لأنهم لم يكونوا على درجة من الدراية بأساليب العمل الجماعي تجعلهم شركاء على قدم المساواة مع العمال الأجانب، فضلًا عن نظرتهم إلى هؤلاء كفِئة متعالية ممتازة في المعاملة والأجور عن أبناء البلاد.

نشوء النقابات

لم يكن تحقيق المطالب الاقتصادية هو كل ما أسفرت عنه حركة الإضرابات، فقد لمس العمال ضرورة المحافظة على مظهر تجمعهم في شكل تنظيم دائم يجمع شملهم ويمثِّل مصالحهم، ومن ثم كان تأسيس النقابات أو «الجمعيات» (كما كانت تسمى في ذلك الحين)، فتكونت جمعية لفافي السجاير بالقاهرة في عام ١٨٩٩م، واستمرت قائمة حتى عام ١٩٠١م، وكان رئيسها يونانيًّا يدعى دكتور كريازي، وجمعية اتحاد الخياطين بالقاهرة عام ١٩٠١م وكان رئيسها دكتور بستس يونانيًّا كذلك، وتأسست في نفس السنة جمعية الحلاقين، وجمعية عمال المطابع. أما جمعيات عمال الأدوات المنزلية وعمال السجاير بالإسكندرية وكتبة المحامين بالقاهرة فقد تأسست في عام ١٩٠٢م. ويبدو أن هذه الجمعيات كانت تخضع لقيادة وتوجيه المثقفين، كما يتضح من أسماء من تولوا قيادة بعضها، وهذا دليل على أن العناصر العمالية الأجنبية التي أسست الجمعيات لم تكن قد بلورت نشاطها بالصورة التي تسمح للعمال أنفسهم بإدارة شئون منظماتهم.

وليس لدينا معلومات كافية عن الجمعيات التي تأسست في مطلع هذا القرن تعطينا صورة واضحة عن أسلوب العمل فيها، ومستوى تنظيمها، ومدى ما حققت من نجاح، ولعل فيما وصلنا من أنباء «اعتصام الخياطين»٦٦ في (٤ من نوفمبر عام ١٩٠١م) ما يلقي الضوء على أسلوب العمل النقابي في تلك الحقبة من الزمان، فقد احتشد الخياطون في أحد المقاهي، وانضم إليهم بعض أعضاء جمعية لفافي السجاير، والكثير من أعضاء الجمعيات العمالية الأخرى، فبلغ عددهم ما يربو على ١٥٠٠ عامل، ورأس الاجتماع دكتور بستس رئيس جمعية الخياطين والخواجا نقولا ديانو سكرتيرها، وأحمد أفندي علي أمين الصندوق، وتحدث رئيس جمعية لفافي السجاير في هذا الاجتماع عن واجبات العمال نحو صاحب العمل، وحقوق العامل طرف صاحب العمل، وطالب بأن يقتسم العمال الأرباح مع أصحاب الأعمال مراعاة للعدالة والذمة. وانفض الاجتماع بعد أن ألقيت عدة خطب، ثم عاد العمال إلى التجمع مرة أخرى في المساء، فساروا في مظاهرة منظمة تتقدمها فرق الموسيقى البلدية وعلم الجمعية الذي كان يحمل اسمها مكتوبًا بالعربية والإيطالية واليونانية والعبرية والأرمنية.

ونتبيَّن من دراستنا لهذا الاعتصام أن الجمعيات العمالية الأولى التي تأسست في مطلع القرن العشرين كانت على درجة لا بأس بها من التنظيم، وأنه كانت ثَمة رابطة تجمع هذه الجمعيات بدليل اشتراك لفافي السجاير وغيرهم من العمال في اعتصام الخياطين، كما أن العناصر الأجنبية كانت تكون الغالبية في هذه الجمعيات وتوجه عملها وتزودها بالأفكار التي نقلتها من مواطنها الأصلية بالقدر الذي كان من الممكن أن تستوعبه الأذهان في ذلك الحين.

وبرغم النجاح النسبي الذي حققته حركة الإضرابات في مطلع القرن العشرين، فإن السلطات — سواء كانت القنصلية أو المصرية — كانت تتدخل للقضاء على ثمار تلك الحركة ووأد تلك الجمعيات الوليدة في مهدها، فقضى عليها ولم تعمِّر طويلًا.٦٧
وكان لانتعاش الحركة الوطنية خلال العقد الأول من القرن العشرين على يد مصطفى كامل ومحمد فريد، وعلو مدها نتيجة للأحداث التي مرت بالبلاد في تلك الحقبة، وما تبعها من بثِّ روح الوطنية في نفوس أبناء البلاد، والتطلع إلى التخلص من الاحتلال الأجنبي، والارتفاع المستمر في تكاليف المعيشة إلى الحد الذي جعل البعض يوجه نداء إلى مجلس شورى القوانين مطالبين بالنظر في موجة الغلاء التي غمرت البلاد رأفة بالفقراء،٦٨ كان لهذا كله أثر كبير في تحريك الطبقة العاملة المصرية لممارسة النضال الجماعي للظفر ببعض المكاسب الاقتصادية الملحة، يشد أزرهم ما اضطرم في النفوس من حقد دفين على الأجانب والمستغلين ممثلين في أصحاب المصانع والشركات الأجنبية.
ففي ٢ من أغسطس عام ١٩٠٨م، أضرب جميع عمال السجاير مطالبين بزيادة الأجور، وخفض ساعات العمل، واحتساب الإجازة المرضية بأجر، ولكن هذا الإضراب فشل نتيجة تدخل البوليس، ثم عادوا إلى الإضراب في ١٧ من أكتوبر، وأسفر إضرابهم عن إعادة تشكيل نقابة عمال الدخان.٦٩

وقدَّم عمال شركة ترام القاهرة (في أكتوبر عام ١٩٠٨م) إلى الشركة قائمة بمطالبهم التي كانت تدور حول خفض ساعات العمل إلى ثماني ساعات بدلًا من ١٣ ساعة، وزيادة الأجور بنسبة ٤٠٪ لمواجهة تكاليف المعيشة المرتفعة، وتنظيم الغرامات والإجازات السنوية والمرضية وصرف الملابس وإعادة العمال المفصولين، كما طالبوا باعتراف الشركة باللجنة التي يشكلها العمال من أربعة مندوبين يكون من بينهم أحد المحامين لبحث شكاوى العمال في المستقبل، ومنع ضرب الموظفين (وكان معظمهم من الأجانب) للعمال، وإهانتهم وشتمهم، وفتح باب الترقي للعمال المصريين إلى وظائف المفتشين، وهي الوظائف التي كانت وَقفًا على الأجانب.

وقد فطن أمين عز الدين٧٠ إلى ما لهذه المطالب من دلالة وطنية ونقابية، فقد هدف العمال إلى تأكيد ضرورة المحافظة على كرامة العامل المصري، وعدم تعرضه للإهانة على يد رؤسائه من الأجانب، كما رمت إلى تحطيم الفوارق بين أبناء البلاد والأجانب ما داموا يخدمون مؤسسة واحدة، وعبَّروا عن مطلب العمال الذي ينحصر في الاعتراف بالتنظيم النقابي الدائم لهم.
رفضت الشركة الاستجابة لهذه المطالب، فأعلن العمال الإضراب في ١٨ من أكتوبر عام ١٩٠٨م، وطافوا بشوارع القاهرة في شكل مظاهرة تعرضت للصدام مع البوليس، وكان العمال يبيتون ليلًا ومعهم مستشارهم (محمد كامل حسين المحامي) على قضبان الترام في الشوارع حتى لا تتمكن الشركة من تسيير قطاراتها بعمال آخرين.٧١

وكان الحزب الوطني وجريدة اللواء يؤيدان العمال في مطالبهم، فقالت اللواء في عددها الصادر في ١٨ من أكتوبر عام ١٩٠٨م: «أن المتأمل في المطالب التي عرضها هؤلاء العمال على الشركة يعرف مبلغ عدلها وصوابها، فإنهم لم يفتئتوا على الشركة ولم يطلبوا منها المستحيل، وإنما طلبوا أن يُحفظ التناسب بين الحقوق والواجبات، وأن يأخذوا الكفالة الكافية لهم، وألا يُضاموا ولا يُرهقوا، وأن يكون الأمر مقصورًا على العمل، وللعمل وقت محدود. هذه الروح التي سرت في أولئك العمال فأشعرتهم أن لهم حقوقًا ضائعة وجمعت صفوفهم لطلبها بطريقة عادلة، روح تبشِّر بدخول طوائف العمال عندنا في عهد جديد من الحياة الحية والتضامن الاجتماعي».

وانتهى الأمر بالقضاء على هذا الإضراب ومحاكمة مائة وثمانية من العمال، وجهت إليهم تهمة الإخلال بالأمن والنظام وتعطيل عمل الشركة والإضرار المادي بها، وأسفرت المحاكمة عن إدانتهم. وبرغم أن العمال لم يجنوا من وراء هذا الإضراب مغنمًا اقتصاديًّا فإنه أتيحت لهم فرصة تأسيس نقابة خلَت — لأول مرة — من العنصر الأجنبي.٧٢

لم يكن عطف الحزب الوطني على إضراب عمال الترام في عام ١٩٠٨م وليد الصدفة، بل كان — في رأينا — جزءًا من مخطط عريض وضعه الحزب منذ انتقلت رياسته إلى محمد فريد، حين تُوفي مصطفى كامل ولم يمضِ على تأسيس الحزب — رسميًّا — أكثر من شهرين، وكان هذا المخطط يرمي إلى تنظيم (صفوف) الطبقة الدنيا من أبناء الشعب ممثَّلة في العمال والفلاحين، لتكون ركيزة العمل الوطني، إلى جانب المثقفين من أبناء الطبقة المتوسطة، ومن ثَم كان مشروع الحزب لتأسيس الجمعيات التعاونية الزراعية عام ١٩٠٨م، وكان يطلق عليها في ذلك الحين «نقابات التعاون»، بقصد حماية الفلاحين من المُرابين الأجانب والمصريين على السواء، و«لتعلِّم الفلاح معنى التضامن»، وما تلا ذلك من تأسيس مدارس الشعب الليلية في نفس السنة لتبصير العمال بما لهم وما عليهم، وما ترتب عليها من تأسيس «نقابة عمال الصنائع اليدوية» في أوائل عام ١٩٠٨م.

ويؤكد صحة ما تذهب إليه من أن اهتمام الحزب بتنظيم العمال كان جزءًا من مخططِه هذا، ما أبداه محمد فريد من عطف على العمال في مقالة له نشرت في جريدة الديلي نيوز في يوليو عام ١٩٠٨م٧٣ جاء فيها أنه «إلى الآن لا يوجد بمصر قوانين خاصة بحماية العمال، ولا قوانين تحدد سنهم، ولا عدد الساعات التي يجب أن يقضوها في العمل، فتجد العمال مثقلي الكواهل بلا رحمة، وخصوصًا في معامل الدخان ومعامل حلج الأقطان؛ حيث يشتغل العمال ذكورًا وإناثًا في وسَطٍ من أردأ الأوساط من الوجهة الصحية والأدبية». ونعَى على الحكومة عدم قيامها بعمل إيجابي في هذه الناحية.
ولهذا لسنا في حاجة إلى أن نقول مع بعض الباحثين٧٤ أن التقاء محمد فريد بالزعيم العمالي البريطاني كير هاردي Keir Hardie٧٥ في مؤتمر الشبيبة المصرية بجنيف (سبتمبر عام ١٩٠٩م) كان له أثر كبير في اقتناع الزعيم المصري بأهمية النقابات ودورها في العمل السياسي، وفي حركات الاستقلال الوطني، مستندين في هذا إلى خطبة ألقاها محمد فريد في المؤتمر الوطني الثاني في (٧ من يناير ١٩١٠م)، أشاد فيها بدور النقابات في النضال الوطني، وأهمية حزب العمال البريطاني، وجهود كير هاردي «وإخوانه»، ووجه الشكر إلى كير هاردي وزملائه من الإنجليز والأيرلنديين الذين حضروا المؤتمر المصري بجنيف وعضدوا الحزب الوطني في «جميع الاقتراحات والطلبات التي قررها المؤتمر المذكور».

وعندنا أن إقامة الحزب الوطني لنقابة الصنائع اليدوية — التي تمت في مطلع عام ١٩٠٨م — لم تكن نتيجة تأثير خارجي من كير هاردي أو غيره، ولكنها كانت ضرورة فرضتها ظروف النضال الوطني، رمى الحزب من ورائها إلى بثِّ روح التضامن بين طوائف العمال، وتبصيرهم بقضية بلادهم، كما أن هذا الاتجاه كان جزءًا من مخطط واسع — كما قدَّمنا — هدفه تنظيم الطبقة الدنيا التي تتكون من سواد الشعب، لتكون سندًا للطبقة المتوسطة من المثقفين الذين تصدَّوا لقيادة الحركة الوطنية، هذا ولم نجد في مذكرات محمد فريد ما يشير إلى أنه قد تحدث إلى كير هاردي أو تناقش معه في أمر من أمور النقابات سواء في مصر أو الخارج، وإذا كان الزعيم المصري قد أثنى — في الفقرة التي أوردها الكاتب من خطابه — على كير هاردي وإخوانه، فإنما كان يؤدي واجب العرفان بالجميل لأناس أيدوا المصريين في مطالبهم العادلة.

وتوافر عدد من شباب الحزب الوطني على دراسة لوائح النقابات في الخارج، وانتهت دراساتهم إلى وضع القانون الأساسي لنقابة الصنائع اليدوية الذي نشر بجريدة اللواء في عددي ١١ و١٢ من يناير عام ١٩١٠م. فحدد الغرض الذي أقيمت النقابة من أجله بالعمل على «تحسين حالة أعضائها المادية والأدبية، وترقية الصناعة، وإيجاد روابط ودية بينهم»، ولكي تحقق النقابة هذا الغرض «أنشأت قلمًا طبيًّا، وقلمًا للاستشارة القضائية، وقلمًا للإعانات المالية، وصندوقًا للتوفير والتقاعد، وإلقاء محاضرات، وإنشاء أندية، وتأسيس شركات تعاون على شراء ضروريات الحياة». وبرغم أن المادة الرابعة من ذلك القانون نصَّت على حظر المناقشة في المسائل السياسية والاجتماعية في اجتماعات النقابة، فإننا نؤيد ما ذهب إليه جمهرة الباحثين من أن هذه النقابة كانت تؤدي نشاطًا سياسيًّا مستترًا بحكم وقوعها تحت إِشراف رجال الحزب الوطني.

وقد انقسم مجلس إدارة النقابة إلى أربع لجان هي: لجنة الإسعاف الطبي، ولجنة الإسعاف المالي، ولجنة المالية وصندوق التقاعد، ولجنة الأبحاث والنشر. وكانت كل لجنة تتكون من ثلاثة أعضاء.

ويُعد قانون نقابة الصنائع اليدوية أقدم ما وصلنا من لوائح النقابات، وهو يعكس أثر العناصر السياسية المثقفة في صياغة تلك اللائحة، ويتجلَّى فيه بوضوح أثر الاطلاع على لوائح النقابات الغربية المماثلة. ويتضح من المبادئ الأساسية التي وردت بذلك القانون أن النقابة كانت ذات إطار اجتماعي، بالإضافة إلى اهتمامها بالعمل النضالي من أجل تحسين ظروف العمل.

واتخذ الحزب ناديًا للنقابة بالسبتية تجاه مدرسة عباس، وكان أول رئيس لهذه النقابة علي بك ثروت (ناظر مدرسة الصنايع بالمنصورة سابقًا)، وحفل ذلك النادي بالمحاضرات القيمة، فألقى عمر لطفي محاضرة عن «أسباب ارتقاء العمال في أوربا، وكيف يرتقي العامل في مصر»، وألقى حافظ عفيفي محاضرة عن «صحة الأطفال في فصل الصيف».

وقد انتشرت فكرة تأسيس النقابات من القاهرة إلى الأقاليم، فأنشئت نقابة بالإسكندرية وأخرى بالمنصورة وثالثة بطنطا، ويرجع الفضل في ذلك إلى رجال الحزب، وخاصة محمد فريد الذي طفق يدعو إلى «العناية بنقابات العمال وبث مبدأ التضامن بينهم، والدفاع عن حقوقهم، واستصدار القوانين الضامنة لهم عدم التكفف عند الشيخوخة، أو عقب الإصابة بما يمنعهم عن الكسب»، إذ إنه «لا مخلص للعامل من هذا الجحيم إلا النقابات، فتعالجه إذا مرض وتصرف له الأدوية مجانًا أو بثمن قليل، وإذا مات ساعدت على تربية أولاده، وإذا أصيب بما يمنعه عن الكسب رتبت له ما يقيه ذل السؤال، مقابل قليل من المال يدفعه شهريًّا».٧٦

كانت النقابة تشترط في العضو العامل أن يكون صانعًا يشتغل بالأعمال اليدوية، ولذلك كانت تضم أعضاء من مختلف المهن والحرف، وكان هناك إلى جانب الأعضاء العاملين أعضاء شرفيون ممن ساعدوا النقابة بنفوذهم أو عضدوها ماديًّا من غير العمال. وتَعتبر نقابة عمال الصنائع اليدوية التنظيم العمالي البارز في مصر طوال السنوات التي سبقت إعلان الحرب الأولى، وامتازت بطابعها المصري القح، والوطني الخالص.

ويتضح من الإحصاء التالي٧٧ مدى ما بلغته نقابة عمال الصنائع اليدوية — في القاهرة — من اتساع وانكماش على مرِّ السنين:
اسم النقابة ١٩٠٩ ١٩١٠ ١٩١٢ ١٩١٩ ١٩٢١
نجارون ١٣٠ ٣٣٥ ٣٧٨ ٩٥ ٨٣
حدادون ٢٥٠ ٦٧٠ ٧٣٩ ٢٠٩ ١٨٨
ميكانيكيون ١٠٠ ٢٨٩ ٢٧٦ ١٠٥ ٩٠
سروجيون ٨٧ ١٣٧ ٢١٨ ٩٠ ٧٧
عمال سجاير ٣٦ ١٦٧ ٥٦٠ ١١٠ ٨٥
نقاشون ٩٥ ١٣٩ ١٥٨ ١١٢ ٦٥
طباخون ١٨ ١٢١ ٩١ ٧٥ ٤
معماريون ٦٥ ٦٥ ١٩٣ ١٠٥ ٧٥
حلاقون ٤٩ ٤٥ ٧٩
حياكون ٥٨ ٩٥ ١٩٣ ١٠١ ٧٩
عمال السكة الحديد ٦٠ ٦٤ ٨٧ ١٨ ٩
حرف أخرى ٨٠ ٢٨٣ ١٩٧ ١٤٨ ٢٠٩
المجموع ٩٧٩ ٢٣٦٥ ٣١٣٩ ١٢١٣ ١٠٤٣

وواضح أن عمال المرافق العامة والنقل، ونعني بها شركات المياه والكهرباء والغاز والترام وعمال السكك الحديدية (فيما عدا ذوي المهن اليدوية منهم)، لم يكونوا ضمن أعضاء تلك النقابة التي اقتصرت على عمال المهن اليدوية، كما يتضح من اسمها، وإن اتسع ناديها لاستقبال العمال من كل حدب وصوب.

ولعل الحزب الوطني كان يرمي من وراء تأسيس نقابة الصنائع اليدوية إلى النهوض بأرباب الحِرف اليدوية والعمل على تحسين أحوالهم التي كانت قد ساءت نتيجة تدفق المصنوعات الأجنبية على الأسواق المصرية بأسعار جعلتها تجذب أنظار الناس، مما كان له أسوأ الأثر على المصنوعات اليدوية المحلية وعلى العاملين بها.

أما عمال المرافق العامة فقد بقيت لهم نقاباتهم المستقلة، وإن كنا نعتقد أنها كانت تعمل في تناسق مع نقابة الصنائع اليدوية والحزب الوطني، وأن مدارس الشعب كانت همزة الوصل بين هذه النقابات ونقابة الصنائع اليدوية.

فقد أنشِئت أول مدرسة من تلك المدارس ببولاق، وبدأت الدراسة فيها في نوفمبر عام ١٩٠٨م، والتحق بها عند تأسيسها ٦٠٠ عامل، وألقى أحمد لطفي أول درس بها، وكان موضوعه «الشئون الاجتماعية». وكان برنامج هذه المدارس يتناول تعليم القراءة والكتابة ودروس الدين وقانون الصحة والاحتياطات الصحية والعناية بتربية الأطفال والقوانين الخاصة بالمعاملات اليدوية والشئون الاجتماعية ودروس الأشياء والحساب وتاريخ مصر والتاريخ الإسلامي وجغرافية مصر ودروسًا في الأخلاق والآداب.

وتطوع الشباب وأعضاء الحزب لإلقاء الدروس على العمال، وبلغ عدد المدارس التي أنشأها عام ١٩٠٩م لتعليم الصناع مجانًا أربع مدارس في أقسام الخليفة وبولاق وشبرا والعباسية، كانت تضم كل منها نحو مائة وعشرين تلميذًا من مختلف الحرف، وانتشرت هذه المدارس في عواصم القطر، وساهم نادي المدارس العليا في تلك الحركة، فألف لجنة نشر مدارس الشعب، وتولى أعضاؤها التدريس فيها.٧٨ وحثَّ محمد فريد أعضاء الحزب على الاهتمام بهذه المدارس لأنها «من أفيد الوسائل وأنجعها لتهذيب (العامل) وتنويره» ولأن التجارب قد دلَّت «على أن العامل يكفيه زمن قليل لتحصيل ما يلزمه من الضروريات»، وطلب من الأعضاء أن يكثروا من تأسيسها في المدن والقرى ليعلموا المساكين ما لهم وما عليهم، وليخرجوهم من الظلمات إلى النور، وأوصاهم أن يشرحوا للعامل «حالة إخوانه في أوروبا، وما هم فيه من سعادة نسبية بفضل الاتحاد وبفضل التضامن».٧٩
غير أن الحكومة لم تكن لتقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا النشاط الذي أخذ يضرب جذوره في أعماق المجتمع باتجاهه إلى العمال والفلاحين، فكانت سلسلة المتاعب التي دفعت محمد فريد إلى الخروج من مصر سرًّا وتشتيت أعضاء الحزب، ثُم ما تلا ذلك من بث الفرقة بين أبناء الشعب نتيجة موجة التعصب الديني. وبقيت الحركة الوطنية حركة مثقفين أساسًا، ولم تنجح في تكوين جذور قوية لها بين الطبقة العاملة، كما لم تمتد جذورها بين الفلاحين، ولم تتابع قيادة المثقفين، المكوَّن منهم الحزب الوطني، صلاتها بالعمال٨٠ بنفس العمق والاتساع الذي كان عليه نشاطها في السنوات من عام ١٩٠٨ إلى عام ١٩١٢م.

واستمرت النقابات متناثرة ضعيفة مطاردة، حتى أعلنت الأحكام العرفية نتيجة قيام الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤م، بعد إعلان الحماية الإنجليزية على مصر، وما تلا ذلك من حظر مزاولة كل نشاط اجتماعي وسياسي، ومن ثم أغلقت دور النقابات، وتوقف النشاط النقابي.

تمكنت الطبقة العاملة — إذَن — من تحقيق وجودها — كطبقة — خلال الفترة من عام ١٨٩٩ إلى عام ١٩١٤م، واستفادت من دروس النضال الجماعي التي تلقتها على يد العمال الأجانب الذين قادوا الإضرابات المبكرة في تاريخ الحركة العمالية المصرية، فاستطاعت أن تؤسس نقابات مصرية خالصة، واتسم كفاحها في تلك الحقبة بالطابع الاقتصادي البحت من أجل تحسين ظروف العمل وشروطه، وزيادة الأجور، ثم التحمت بالحركة الوطنية، واتخذ نضالها إطارًا اجتماعيًّا يخفي مضمونًا سياسيًّا كان من الممكن أن يؤتي أكله لو هُيئت له سبل الحياة. ثم ما لبثت الحرب أن قطعت مرحلة النشوء هذه، ولكن حين وضعت الحرب أوزارها دخلت الحركة العمالية في طَور جديد.

١  وضع كناي Quesney (١٦٩٤–١٧٧٤) نواة هذا المذهب بتكوين مدرسة الطبيعيين Les physiocrates الذين قالوا بوجود نظام يحكم الحياة الاقتصادية، وقد اتصل آدم سميث ببعض الطبيعيين وبترجو Turgot بصفة خاصة وتأثر بهم (انظر: مصطفى الخشاب، النظريات والمذاهب السياسية، الطبعة الأولى، القاهرة ١٩٥٧، ص٢٠٢ وما بعدها).
٢  سعد عبد السلام حبيب، مشاكل العمل والعمال، النهضة المصرية ١٩٥١م، ص٤٢-٤٣.
٣  محمد حلمي إبراهيم، النقابات العمالية، العوامل التي أدت إلى ظهورها، (مجلة التأمينات الاجتماعية، العدد ١٦، يناير ١٩٦٣).
٤  Gibb & Bowen, Islamic Society and the West, Part 1, Oxford 1957, p. 277.
٥  الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج٣، ص٢٢٥-٢٢٦، طبعة بولاق.
٦  Gabriel Baer, Egyptian Guilds in modern times, p. 30.
٧  الجبرتي، المرجع السابق، ج٤، ص١٦٩.
٨  المصدر السابق، ج١، ص١٧٤.
٩  المصدر السابق، ج٣، ص١٤٨.
١٠  Gabriel Baer, op. cit., pp. 42–47.
١١  Ibid., pp. 50–53.
١٢  Gibb & Bowen, op. cit., p. 282.
١٣  Gabriel Baer, op. cit., p. 82.
١٤  Germain Martin, Les bazars du Caire et les petits métiers arabes, Le Caire 1910, pp. 30, 46.
١٥  Vallet, Contribution a l’etude de la condition des ouvriers de la grande industrie au Caire, Valence 1911, pp. 139-140.
١٦  Gabriel Baer, op. cit., p. 82.
١٧  Ibid., pp. 125-126.
١٨  Ibid., pp. 118–122.
١٩  Germain Martin, op. cit., pp. 45-46. Crouchley, The economic development of modern Egypt, 1st ed., p. 76.
٢٠  J. Vallet, op. cit., pp. 139-140.
٢١  Gabriel Baer, op. cit., pp. 129–133.
٢٢  Ibid., pp. 138-139.
٢٣  Ibid., p. 144.
٢٤  Girard Description de L’Egypte, Tome 17. p. 198.
٢٥  Ibid., p. 207.
٢٦  علي الجرتلي، تاريخ الصناعة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ص٢٠.
٢٧  المصدر السابق، ص٢٢.
٢٨  محمد فؤاد شكري وآخرون، بناء دولة، مصر محمد علي، ط١، القاهرة ١٩٤٨م، ص٨٠.
٢٩  الجرتلي، المرجع السابق، ص٣٦-٣٧.
٣٠  الجبرتي، عجائب الآثار، ج٤، ص٦٨، ١٧٤.
٣١  الجرتلي، المرجع السابق، ص٦٩.
٣٢  أحمد أحمد الحتة، تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، ط٢، ص١٥٦-١٥٧.
٣٣  الجبرتي، عجائب الآثار، ج٤، ص٢٩٢.
٣٤  الجرتلي، تاريخ الصناعة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ص١١٢-١١٣.
٣٥  المصدر السابق، ص١٣٨.
٣٦  المصدر السابق، ص١٧١-١٧٢.
٣٧  Gabriel Baer, Egyptian guilds in modern times, p. 137.
٣٨  جورج جندي وآخر، إسماعيل كما تصوره الوثائق الرسمية، ص١٣٧.
٣٩  المصدر السابق، ص١٧٦.
٤٠  المصدر السابق، ص١٧٤–١٧٩.
٤١  Gabriel Baer, op. cit., p. 137.
٤٢  محمد فريد، تاريخ مصر من ١٨٩١م، مخطوط مكوَّن من خمس كراسات بالإضافة إلى كراستين. مقدمة تاريخية، حصلت عليه دار الوثائق التاريخية القومية أخيرًا، الكراسة ٢، ص١٤.
٤٣  Alfred Bonne, State and economics in the Middle East, p. 261.
٤٤  Crouchley, The Investment of Foreign Capital in Egyptian Companies and Public Debt, p. 35.
٤٥  Ibid., p. 36.
٤٦  Ibid., p. 37.
٤٧  Ibid., pp. 41, 42.
٤٨  Ibid., p. 42-43.
٤٩  Alfred Bonne, State and economics in the Middle East, p. 262.
٥٠  Butler, A. D., Labor economics and institutions, p. 133.
٥١  علي الجرتلي، تاريخ الصناعة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ص١١٥–١٣٤.
٥٢  المصدر السابق، ص١٢٨.
٥٣  المصدر السابق، ص٩٣.
٥٤  أمين عز الدين، فجر الحركة النقابية في مصر، مقال بمجلة الطليعة نوفمبر عام ١٩٦٥، ص٧٥.
٥٥  Marcel Colombe, L’evolution de l’Egypte 1924–1950, p. 186.
٥٦  محمد فريد، تاريخ مصر من ١٨٩١م، مخطوط، الكراسة ٤، ص٧٩.
٥٧  Butler, A. D., Labor Economics and Institutions, p. 132.
٥٨  J. Vallet, Contribution a l’etude de la condition des ouvriers, p. 141.
٥٩  اللواء، ٦/٢ / ١٩٠٠م.
٦٠  المصدر السابق، ٧ / ١ / ١٩٠٠م.
٦١  المصدر السابق، ٢١ / ٢ / ١٩٠٠م.
٦٢  محمد حلمي إبراهيم، فجر الحركة النقابية المصرية، مجلة التأمينات الاجتماعية، العدد ١٨ مارس ١٩٦٣م.
٦٣  أمين عز الدين، فجر الحركة النقابية في مصر، مجلة الطليعة، نوفمبر عام ١٩٦٥م، ص٧٧.
٦٤  Zaki Badaoui, Les problemes du travail et les organisations ouvriers en Egypte, p. 21.
٦٥  سيد قنديل، نقابتي، الرسالة العمالية الأولى، ص١٠.
٦٦  المقطم، ٥ / ١١ / ١٩٠١م.
٦٧  M. Colombe, L’evolution de l’Egypte 1924–1950, p. 187.
٦٨  الأهرام، ٤ / ٢ / ١٩٠٧م.
٦٩  Badaoui, Les problemes du travail, p. 22.
٧٠  أمين عز الدين، فجر الحركة النقابية في مصر، مجلة الطليعة، نوفمبر ١٩٦٥م، ص٨٠.
٧١  سيد قنديل، نقابتي، الرسالة العمالية الأولى، ص١٢.
٧٢  Zaki Badaoui, op. cit., p. 22.
٧٣  عبد الرحمن الرافعي، محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية، ط٣، ص١١٠.
٧٤  أمين عز الدين، فجر الحركة النقابية في مصر، مجلة الطليعة، نوفمبر عام ١٩٦٥م، ص٨٥.
٧٥  كان كير هاردي يتزعم حزب «العمال المستقلين»، وكان اشتراكيًّا يعتقد أن الاشتراكية سوف تعمُّ أوروبا ثم تنتقل إلى سائر الأقطار، وأن الاستعمار البريطاني يجب أن يزول من مصر والهند، وأن واجب المصريين الوطني الأول هو إخراج الإنجليز، ثم إيجاد الإصلاحات الاجتماعية في المجتمع المصري (سلامة موسى، تربية سلامة موسى، ص١٦٣).
٧٦  عبد الرحمن الرافعي، محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية، ص١١٠، ٣١٨.
٧٧  مليكة عريان، مركز مصر الاقتصادي، ص٨٨.
٧٨  عبد الرحمن الرافعي، المرجع السابق، ص١٧٩.
٧٩  المصدر السابق، ص٣١١.
٨٠  شهدي عطية الشافعي، تطور الحركة الوطنية في مصر ١٨٨٢–١٩٥٦م، ص٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤