الفصل الرابع عشر

أشفقتُ من عبء البقاء وعابِهِ
ومللت من أَرْيِ الزمان وصابِه
ووجدت أحداث الليالي أولعت
بأخي الندى تثنيه عن آرابه

رأى الفارس ما رأى من تلك الداهية الدهماء والبلية الصماء، فغاب عن الصواب ووقف كمن وقع به مس من الجن، ثم انتبه إلى نفسه وجعل يفتش عمن ارتكب تلك الفعلة الشنعاء، فلم يقف له على عين ولا على أثر فعاد إلى كلبه، فوجد جرحه مميتًا والنصل مكسورًا فيه، فلما رآه الكلب جعل يبصبص بذنبه ويئن أنين الألم الشديد، ولا سيما عندما حاول أن ينزع النصل من جرحه، فاسودت الدنيا في عينيه وضاقت عليه بما رحبت، فاغرورقت عيناه بالدموع، وبكى بكاء الثكلى، ثم سمع منشدًا ينشد ويقول:

سلم أمورك للمهيمن كلَّها
واهرب إليه فذاك نعم المهربُ
وإذا بليت بنكبة فاصبر لها
من ذا رأيت مسلَّمًا لا ينكب

فالتفت وإذا بالحكيم العربي مقبل نحوه، فلما رآه الحكيم يبكي ويتوجع رثى لبلواه وعزاه على مصابه، وطلب إليه أن يسمح له بمداواة الكلب، ثم أخرج آلة من جيبه نزع بها النصل من الجرح، وذرَّ عليه ذرورًا أوقف الدم ثم ضمده وعصبه، وقال له: «إذا سمحت لي أن آخذه إلى خيمتي وأعالجه فالأرجح أنه يشفى.» فقال له: «عليك به وإذا شفي فهو لك، أما أنا فلم يبق بي حاجة إليه.» فصفق الحكيم بيديه، وإذا باثنين من عبيده دنوا منه فأمرهما أن يحملا الكلب إلى خيمته، فنظر إليه السر وليم وقال له: «الوداع يا كلبي الأمين، الوداع يا رفيقي في السراء والضراء، ليت السهم الذي أصابك أصاب قلبي وأراحني من غصص الحياة، فكنت أموت في شرفي ولا ألتحف بالعار والازدراء.» فقال له الحكيم: «وما أصابك حتى تفضل الموت على الحياة؟» فقال: «أصابني مصاب يعجز عنه طبك فدعني وشأني.» فقال الحكيم: «اشرح لي مصابك فلعلك لا تعدم مني دواءً شافيًا؛ لأن الله خلق لكل داء دواء.» فقال: «انتدبني الملك أمس إلى حراسة علمه على هذه الأكمة، فسرق العلم وكسر الرمح والأمر كما ترى.» فنظر إليه الحكيم متعجبًا من أمره وقال له: «سلاحك سليم وجسمك صحيح، وما أنت لتهرب من وجه العدو على ما سمعت من شهادة الناس فيك، فلم يبق إلا أن إحدى ربات الجمال اللواتي تعبدونهن كما تعبدون إلهكم قد أغرتك وأبعدتك عن هذا المكان.» فقال الفارس: «وإن كان الأمر كما ذكرت فما العلاج؟» فقال الحكيم:

«إذا نبا بكريمٍ موطنٌ فله
وراءه في بسيط الأرض أوطان

فرأيي أن تهرب من غضب الملك ريكارد إلى حمى السلطان صلاح الدين.»

فقال الفارس: «أتنصح لي أن أستر ذنبي بترك مذهبي؟»

فقال الحكيم: «أخطأتَ، فإن صلاح الدين لا يجبر أحدًا على ترك مذهبه، فاسمع النصح واتجر به، فإنه قادر أن يرقيك إلى أرفع المناصب، ولو علمت مقاصد هؤلاء الملوك والأمراء المتجمعين هنا ومضمون شروط الصلح التي ذهبتَ بها إلى السلطان صلاح الدين ما تأخرت عن قبول نصيحتي؛ فإنهم كلهم يترضون وجهه، وقد عرضوا عليه شروطًا للصلح لا يمكنه أن ينتظر أحسن منها، وبعضهم خاطبه سرًّا وعرض عليه أن ينضمَّ إلى جنوده ويقاتل عساكر النصارى معه. ولكن صلاح الدين لا يقبل هؤلاء الخائنين في معسكره ولا يعقد شروط الصلح إلا مع قلب الأسد، وفي نيَّتِهِ أن يسمح له ببعض مدن الساحل ويبيح له أن يبقي شرذمة من جنوده في بيت المقدس لحماية الحجاج، ويسمي نفسه حامية أورشليم، وفي نيَّتِهِ أيضًا أن يشرف واحدة من نسيبات الملك ريكارد اسمها الأميرة جوليا بضمِّها إلى حرمه.»١

فكان الحكيم يتكلم والسر وليم يسمع كلامه ولا يكترث له حتى ذكر الأميرة جوليا، فأجفل ولا إجفال الجمل، وكاد يغيب عن الصواب وقال في نفسه: «بلغت خيانة هؤلاء الملوك مبلغًا يفوق التصديق، فسوَّلت لهم نفوسهم أن يشتروا الصلح بمن وقفتُ نفسي على حبها وضحيت شرفي وحياتي على مذبحه.» ولكنه كظم الغيظ وحاول أن يستعلم من الحكيم كل ما يعلمه من أمر هذا الزواج، فقال: «وأي مسيحي يوافق على اقتران صلاح الدين بأميرة مسيحية؟»

فقال الحكيم: «ألم يبلغك أن أمراء المسلمين يتزوجون كل يوم بفتيات النصارى في الأندلس بلا ممانع ولا معارض؟ وإذا تزوج السلطان صلاح الدين ببنت عم الملك ريكارد أباح لها البقاء على دينها وممارسة فرائضه، وأنزلها المنزلة الأولى بين نسائه.»

فقال السر وليم: «معاذ الله أن يسمح الملك ريكارد لأميرة عريقة في الحسب والنسب أن تصير زوجة لصلاح الدين ولو أحلَّها فوق كل نسائه!» فقال الحكيم: «أخطأتَ، فإن فيليب ملك فرنسا وغيره من أقيالكم قد وعدونا ببذل الجهد في إتمام هذا الأمر حسمًا لهذه الحروب التي أبادت رجالهم، ورئيس صور تكفَّل بعرض الأمر على الملك ريكارد وإقناعه بالتسليم به، إلا أن صلاح الدين أخفى غرضه عن مركيز منسرَّات ورئيس الهيكليين؛ لأنه يعلم أنهما يكرهان ريكارد ولا يحبان أن يحوز هذا الشرف. والآن أنصحك أن تبادِرَ إلى صلاح الدين حالًا، وأنا أبعث معك برسالة إليه فيرفع مقامك ويكرم مثواك، ولا تظنن أنك تترك بلادك وديانتك لأن صوالح البلادين ستصير واحدة عن قريب، ولصلاح الدين منفعة من قيامك في بلاطه؛ لأنك تخبره كيف يعامل ملوككم نساءهم، فيعامل هذه الأميرة مثل معاملتهن وفقًا لما ستشترطونه عليه من الشروط. واعلم أن الله سبحانه قد فتح لصلاح الدين كنوز الدنيا وبسط على الخافقين ظله الظليل، فإذا لذت به أسبغ عليك عطاياه وحماك من الإنس والجن، فإنه هو الذي قال فيه الرشيد النابلسي:

هذا الذي كانت الأيام تنتظر
فليوفِ للهِ أقوامٌ بما نذروا

وقال فيه ابن الشحنة الموصلي:

وإني امرؤ أحببتكم لمكارمٍ
سمعت بها والأُذْن كالعين تعشق

وقال غيرها:

الله أكبر جاء القوس باريها
ورامَ أسهمَ دين الله راميها
فكم لمصر على الأمصار من شرف
باليوسفين! فهل أرض تدانيها؟!
فبابن يعقوب هزت جيدها طربًا
وبابن أيوب هزت عطفها تيها
قل للملوك تخلى عن ممالكها
فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

وإذا حننتَ إلى الوطن وأردت الرجوع إلى قومك وأهلك، فصلاح الدين يتوسط أمرك عند مولاك فيعفو عنك ويرفع شأنك.»

فتنفس الأمير الصعداء وقال للحكيم: «لو لم تكن قد شفيت خادمي والملك ريكارد من مرضهما لأوردتك حتفك حيث أنت واقف، ولكني جزاء لمعروفك أنصحك أن تخبر من يتجاسر على عرض هذا الأمير على الملك ريكارد أن يلبس خوذةً لا تفعل بها فأسه التي شقت بها باب عكاء بضربة واحدة.»

فقال الحكيم: «أراك مصرًّا على عنادك وعازمًا على تسليم نفسك للقدر المحتوم، ولكن اعلم أن شريعتنا وشريعتكم تبيحان للإنسان أن يفر من القضاء ويسعى إلى النجاة.»

فقال الفارس: «معاذ الله أن أفر من العقاب الذي أستحقه.» فقال الحكيم: «إذن أتركك إلى عنادك، وإذا أراد الله بقوم سوءًا أعمى بصائرهم عن سبل النجاة.» قال ذلك وانصرف في طريقه وهو يهز رأسه. فوقف السر وليم وجعل يتأمل في كلام الحكيم وفيما سمعه من الأمير شيركوه والناسك الذي في عين جدي عن سعي الملوك في عقد الصلح، فانكشف له سر مكنون وقال: «الآن فهمت مراد هذا الناسك الخبيث بقوله: إن الرجل غير المؤمن يُكْتَسَبُ إلى الإيمان بامرأته المؤمنة. وإذا صدقني حزري فهو قد وصف الأميرة جوليا لصلاح الدين، ثم سعى في إتمام هذا الاقتران الذي يجب أن أمنعه ما دام في رمق من الحياة.» قال ذلك ورمى الخوذة عن رأسه وأسرع إلى خيمة الملك ريكارد.

١  ذكر بعض المؤرخين أن الملك العادل أخا صلاح الدين كان عازمًا أن يقترن بأخت الملك ريكارد وينصَّب ملكًا على أورشليم، ولعل المذكور فوق هو الأصح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤