الفصل السابع عشر

وللمرء أيام تمر وقد دعت
حبالُ المنايا للفتى كلَّ مرصد
فمن لم يمت في اليوم لا بد أنه
سيعلقه حبل المنية في غد

لم تصل الملكة برنغاريا إلى خيمة زوجها حتى سمعته يقول لأرل نفيل: «قل لها أن تنتظر قليلًا.» فالتفتت إلى الأميرة جوليا وقالت لها: «اسمعي، ألم أقل لك إن الملك لا يرحب بنا الآن؟!» وحينئذ سمعن الملك يقول لواحد: «اذهب حالًا ولك عشرة دنانير إذا قطعت رأسه بضربة واحدة، ولكن راقب وجهه وشفتيه لترى هل يصفر وجهه أو ترتجف شفتاه، فإنني أحب أن أعرف كيف يموت الأبطال.» فلما سمعت الأميرة جوليا هذا الكلام قالت للملكة: «إذا كنت لا تقدرين أن تدخلي من نفسك فأنا أفتح لك الباب، وإن لم تدخلي أنت فأنا أدخل.» ثم نادت رئيس الحرس وقالت: «إن الملكة تريد أن تدخل وترى زوجها.» فأحنى لها الرئيس رأسه وقال: «يا مولاتي، يصعب علي أن أخالف أمرك ولكن الملك مشغول بأمر فيه موت وحياة.» فقالت الأميرة: «ونحن أتينا لنتكلم معه في هذا الأمر عينه.» ثم أبعدت رئيس الحرس بيمينها ورفعت سجف الخيمة بيسارها وأومأت إلى الملكة لتدخل. فوقف الرئيس حيران لا يدري ماذا يفعل، وكان الملك مضطجعًا في سريره. وأمامه السياف وهو قصير القامة غليظ الرقبة مكشوف الذراعين عليه ثوب من جلود الثيران ملطخ بالدماء، وبيده سيف طويل يلوح الموت من نصله. فلما دخلت الملكة رآها الملك فأدار وجهه عنها مغتاظًا، ورفع الدثار حتى غطى كتفيه، وكان من جلود الأسود. فاضطربت في أمرها ولكن لم يخفَ عليها كيف تسترضي زوجها، وهل يخفى ذلك على امرأة؟! فأسرعت إلى جانب سريره وانطرحت على ركبتيها ورمت الوشاح على كتفيها، فبانت غدائرها الذهبية حول وجه كالبدر، وقبضت على يده بكلتي يديها وأحنت رأسها عليها، وجعلت تقبلها وتسكب عليها العبرات.

فحلت الشمس برج الليث ساجدة
وزحزحت شفقًا غطى سنى قمر
وخضبت يده من ورد وجنتها
وأمطرت لؤلؤًا من نرجس نضر

فقال لها: «ما معنى هذا العمل يا برنغاريا؟» فقالت: «اصرف هذا الرجل (تريد به السياف) من هنا؛ لأنني ارتعبت من منظره.» فقال له الملك: «ما يوقفك هنا؟! اذهب حالًا.» فقال السياف: «ماذا يأمر الملك أن نفعل بالجثة؟» فقال: «ادفنوها دفنًا.» فخرج السياف والتفت الملك إلى الملكة وقال لها: «ثم ماذا تطلبين؟» فلم تَفُهْ بكلمة.

وكان الملك ريكارد من المشهورين بحب الجمال المستعبدين لرباته، فنظر إلى زوجته فرأى وجه ملاك منطرحًا على يده، فرقَّ لها قلبه، وأي رجل يرى وجهًا جميلًا كوجه برنغاريا منطرحًا على يده يمزج القبلات بالدموع ولا يرق له ولا ينعطف إليه؟! فقبلها في جبينها، وقال لها: «ماذا تطلبين يا مالكة فؤادي؟» فأجابته: «إني أطلب العفو يا مولاي.» فقال: «عمن تطلبين العفو؟» فقالت: «أولًا عن تجاسري على الدخول بدون أمرك.» فقال: «أتعدين دخولك تجاسرًا؟! أوَيحق للشمس أن تطلب العفو إذا دخلت أشعتها منازل الناس؟! ولكن لم يكن المحضر مناسبًا لحضورك فيه، ولا كنتُ أريد أن تخاطري بحياتك وتدخلي خيمتي وأنا مريض.» فقالت: «أراك قد شفيت من كرم المولى.» فقال: «نعم، قد شفيت وصرت قادرًا أن أخطف روح كل من لا يقول إنك أجمل امرأة في الدنيا.» فقالت: «إذن لا تبخل علي بحياة شخص واحد.» فعبس قليلًا ثم قال: «حياة من؟» فقالت: «حياة هذا الفارس الاسكتسي التعيس.» فقال لها: «إليك عنه يا امرأة، فلا بد من قتله الآن.» فقالت: «سيدي وحبيبي، إن هي إلا قطعة من الحرير فأنا أنسج لك واحدة غيرها بيدي وأرصعها بكل جوهرة من جواهري وأغسلها بدموع الشكر لكرمك.» فأوقفها عن الكلام وقال لها: «إنك لا تعلمين ما تقولين، فإن كل جواهرك وكل جواهر المشرق لا تقابل ذرة من العار الذي لحق بشرف إنكلترا، وكل دموع النساء لا تغسل العار الذي لحق بشرف زوجك، فاذهبي واعرفي قدر نفسك؛ فإننا نقضي الآن أعمالًا واجبة لا دخل للنساء فيها.» فقالت: «أسمعت يا جوليا؟! ألم أقل لك إننا نهيج غضبه؟»

فتقدمت الأميرة جوليا وقالت: «أنا نسيبتك أيها الملك، أتوسل إليك أن تصغي إلى صوت العدل، لا إلى صوت الرحمة، وصوت العدل تسمعه آذان الملوك في كل زمان ومكان.»

فقام الملك وجلس في سريره وهو يقول: «إن ابنة عمنا تتكلم كما يليق ببنات الملوك، وكما يليق بالملوك نجيبها.» وكان في منظر الأميرة جوليا من الهيبة والجلال ما يدهش كل من ينظر إليها، ولو كان ريكارد قلب الأسد. قال ذلك وتوقف عن الكلام رغمًا عنه. فقالت: «مولاي، إن هذا الفارس الذي أنت عازم أن تسفك دمه قد حارب حرب الأبطال في هذا الجهاد، ولم يتغاض عن واجباته إلا لأن شركًا قويًّا نصب له ورسالة مزورة أرسلت إليه باسم فتاة — ولماذا أخفى اسمها؟! — باسمي أنا، وأي فارس من فرساننا لا يفعل ما فعل من أجل فتاة في عروقها دم بَلنْتجنت،١ وإن لم يكن فيها شيء تفتخر به غير ذلك؟!»

فعض الملك شفتيه من شدة الغيظ وقال: «أَوَرَأيته يا جوليا؟» فقالت: «نعم رأيته، ولم آت إلى هنا لأبرر نفسي ولا لأستذنب غيري.» فقال: «وأين رأيته؟» فقالت: «في خيمة جلالة الملكة.»

فصرخ الملك قائلًا: «في خيمة الملكة؟! يا للوقاحة ويا للعار! إني قد رأيت وقاحة هذا الفارس وطموح أبصاره إلى ما يعلو عنه علوًّا كبيرًا، فغضضت الطرف وقلت هي الشمس فلا نحرمن المخلوقات من نورها. أفتقابلينه في الليل في خيمة الملكة وتتجاسرين أن تقدمي ذلك عذرًا له؟! فوتربة أجدادي لأجعلنك تندبين هذا الفعل حياتَك كلها في دير من أديرة الراهبات.»

فقالت: «مولاي، يهونُ علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراضٌ لنا وعقولُ. وأنا لم يمس شرفي بشيء، ومولاتي الملكة قادرة أن تثبت ذلك إذا شاءت، ولكنني قد سبقت فقلت إنني لم آت لأبرر نفسي ولا لأستذنب غيري، وإنما أطلب منك أن تعامل هذا الفارس بما ستطلب يومًا ما أن تعامل به في محكمة العدل الإلهي.»

فقال الملك: «أهذه جوليا بلنتجنت؟! أهذه جوليا الحكيمة النبيلة أو عشيقة تفتدي عشيقها بحياتها؟!»

فقالت: «أتدعوه عشيقي؟! نعم، يحبني، ولكنه يحبني حب البشر للآلهة ولا يطمع بأكثر. أفيحكم عليه بالموت من أجل ذلك؟! أهكذا يحكم على الأبطال الأمناء؟!» فالتفتت إليها الملكة وتوسلت إليها أن تسكت. فقالت جوليا: «لا أقدر لا أقدر؛ فإن العذراء الطاهرة لا تخاف الأسد الكاسر. لينفذ أمره في هذا الفارس، فجوليا التي يموت ذلك الفارس من أجلها تعرف كيف تبكيه وترثيه. نعم إن اقتراني به لم يكن ممكنًا ونحن في قيد الحياة؛ لما بيننا من البعد في المراتب، ولكن الموت يساوي بين الرفيع والوضيع، فاحسبوني من الآن في عداد الأموات.»

وقبل أن تتم كلامها وقبل أن يجيبها الملك بكلمة دخل راهب من الرهبان الكرمليين وانطرح على ركبتيه أمام الملك وهو يطلب منه أن يوقف الحكم. فأقسم الملك بالسيف والصولجان وقال: «قد تآمر الإنس والجان على تسفيه رأيي! فعلامَ بقي هذا الفارس حيًّا إلى الآن؟ قل لي ماذا تريد أيها الراهب؟» فقال: «قد باح لي هذا الفارس بسر خفي لا يمكنني أن أبوح به لأنني سمعته منه بالاعتراف، ولكن أُقسم لك بأعظم الأقسام إنني لو كاشفتك بهذا السر لاضطررتَ أن تحجب دمه.»

فقال الملك: «أيها الأب المحترم، أنا أحترم الكنيسة مثلك كما تشهد هذه الأسلحة، فأطلعني على هذا السر وأنا أتبصر في الأمر، وإلا فلا يمكن أن أصرف عن عزمي.» فطرح الراهب الرداء عنه، فظهر من تحته رجل أنهكه الصوم والتقشف، وقال: «قد مضى علي عشرون سنة يا مولاي وأنا أعذب جسدي وأقمعه في مغاير عين جدي من أجل ذنب واحد، فهل أكذب عليك وأهلك نفسي أو أفشي سر الاعتراف وإفشاؤه من الكبائر؟!»

فقال الملك: «أأنت ناسك عين جدي؟ أأنت الرجل الذي بعث إليه مجمع الأمراء بهذا الفارس عن غير علم مني لتخابر صلاح الدين في أمر الصلح؟ ليكن معلومًا عندك وعندهم أنني لا أتقيد بقيد الكرمليين، وإن شفاعتك بهذا الفارس تجبرني على التعجيل في سفك دمه.»

فقال الناسك: «احذر أيها الملك فإنك ستضرم نارًا تود لو قطعتَ يدك ولم تضرمها. احذر أيها الرجل العنيد.»

فصرخ الملك قائلًا: «أتشرق الشمس ولا يُقتل من أُهينَ بسببه شرفُ إنكلترا؟! ليخرجْ كل أحد من هنا وإلا فوحق …» ولم يتم كلامه حتى سمع واحدًا يقول: «قال كتابكم لا تحلفوا البتة.» وإذا بالحكيم قد دخل الخيمة وسلم وجلس أمام الملك، فقال له الملك: «أظنك جئت لترى بما نكافئك.»

فقال الحكيم: «قد جئت لأكلمك في أمر ذي بال.» فقال الملك: «هذه هي الملكة فانظر إليها لترى من شفى زوجها.» فقال الحكيم: «لا يليق بنا معاشر المشارقة أن ننظر إلى الحصينات.» فقال الملك: «لتنصرف الملكة إذن، ولتنصرف ابنة عمنا أيضًا، وأنا قد أمرت أن يؤخر الحكم إلى الظهر.» فخرجت الملكة والأميرة والجواري كأنهن مسوقات سوقًا وأتين إلى خيمة الملكة، وكانت أشدهن جزعًا وأكثرهن بكاء، وأما الأميرة جوليا فلم تسكب دمعة ولم تفه بكلمة. فقالت إحدى الجواري للأخرى: «قد ظلمناها بقولنا إنها تحبه، فليس في الأمر أكثر من أنها اغتاظت لأن هذه المصيبة أصابته بسببها.» فقالت لها الأخرى: «اسكتي فإنها من آل بلنتجنت الأنوفين الذين يتجرعون الموت ولا يشكون ضيمًا، ولكن الويل لنا فإننا قد أضرمنا هذه النار بقلة عقلنا.»

١  اسم عائلة الملك ريكارد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤