الفصل التاسع عشر

وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظُنَّ شرًّا وكن منها على وَجَلِ
وشأن صدقك عند الناس كِذْبهمُ
وهل يطابَق معوَجٌّ بمعتدل
إن كان ينجع شيء في ثباتهم
على العهود فسَبْقُ السيف للعذل

اختير رئيس أساقفة صور من بين كل الرؤساء للدخول على الملك ريكارد؛ لأنه كان رجلًا جليلًا مهيبًا، والمسألة ذات بال لا يجسر أحد أن يكلم ريكارد فيها غيره. فدخل عليه وأخبره الأخبار التي قطعت آماله من استرجاع بيت المقدس بالسيف، ومما يناله من المجد والشهرة. وبيَّن له أن صلاح الدين جمع جيوشًا لا يحصيها العد، وأن ملوك النصارى قد فترت همتهم وضعفت عزيمتهم، وفي مقدمتهم فيليب ملك فرنسا الذي عزم أن يرجع إلى بلاده حالما يرى ملك الإنكليز قد تعافى، واقتدى به أرل شمبانيا ودوق النمسا. فلا يبقى في دار الحرب إلا الملك ريكارد وبعض المتطوعة، ويبقى أيضًا مركيز منسرَّات ورئيس الهيكليين، وكل منهما يؤْثر نفسه ويود أن يبقى في البلاد وحده. فاغتاظ ريكارد في أول الأمر على جاري عادته، ولكنه رأى صدق كلام الأسقف وإخلاص نيته، ولم يخفِ عليه الأسقف أن حدته (أي حدة ريكارد) كانت من أقوى الأسباب لتفريق كلمة الصليبيين. فلما سمع ريكارد هذا الكلام لاحت على وجهه لوائح الكدر وانكساف البال، وقال لرئيس الأساقفة: «إنني لا أنكر أيها الأب المحترم حدة طبعي، ولكن أنُحرَم من الفوز في هذه الحرب المجيدة من أجل حدة إنسان واحد؟ لا وتربة أجدادي، فلأرفعن الصليب فوق أسوار أورشليم أو ترفعوه على قبري.»

فقال الأسقف: «يمكنك أن ترفعه فوق أسوار أورشليم ولا تسفك نقطة من دمائنا، فإن صلاح الدين قد وعد أن يسلمنا مدن الساحل ويبيح للجميع زيارة بيت المقدس، ويسمح لنا ببناء حصن متين فيه ويلقبك حامية أورشليم.»

فاندهش ريكارد من هذا الكلام وقال: «أيلقبني حامية أورشليم؟! هذا هو الفوز بعينه! ولكن هل تسميه فوزًا إذا نلناه مكرهين وكلمتنا متفرقة؟ وهل يبقى صلاح الدين سلطانًا على هذه البلاد؟» فقال الأسقف: «نعم، يبقى قسيمًا لك في السلطنة إذا شئت أن تصاهره.» فقال ريكارد: «بمن أصاهره؟ أأصاهره بجوليا بلنتجنت؟! أرأيتُ ذلك في حلم أم أخبرني به أحد؟» فقال الأسقف: «أظن أن الناسك أخبرك به؛ لأنه لما رأى تفرق كلمتنا حاول بكل جهده أن يصالحنا مع صلاح الدين ويجعل شروط الصلح مناسبة لنا.»

فقال ريكارد: «أيحل لنا أن نزوج نسيبتنا برجل من غير ملتنا؟» فقال الأسقف: «لا يكون ذلك إلا بسماح من الحبر الأعظم.» ثم أخذ يخبره عن مصاهرة النصارى والمسلمين في بلاد الأندلس، وعن الفوائد الجمة التي تصدر عن هذه المصاهرة، وجعل يطنب في مدح صلاح الدين، فقال ريكارد: «لو تكلم أحد قبل الآن بهذا الكلام لقطعت رأسه في الحال، أما الآن فلا أرى سببًا لامتناعي عن مصاهرة ملك عادل شجاع كريم، يكرم عدوه إذا كان باسلًا كما يكرم صديقه، على حين أرى رؤساء النصارى يلتمسون الأسباب لهجر حلفائهم، فاسمح لي أيها الأب المحترم أن أحاول مرة أخرى لمَّ شعث هؤلاء الرؤساء وجمع كلمتهم، فإن نجحتُ نجحتُ، وإلا عدنا إلى هذا الحديث، فإنني لا أحب هذه المصاهرة ولا أكرهها. والآن هيا بنا إلى مجمع الأمراء فترى اتضاع ريكارد ولين جانبه.» قال ذلك ونادى خدمه ليعينوه على لبس ثيابه، ثم مضى مع رئيس الأساقفة إلى نادي الأمراء فوجدهم مجتمعين ومنتظرين قدومه، وكانوا قد اغتنموا فرصة غيابه ونددوا بعيوبه كلها وبالغوا فيها ما أمكنهم، واتفقوا على أن لا يحتفلوا به ولا يقوموا له، ولكن لم تطأ رجله باب الخيمة التي كانوا مجتمعين فيها، حتى نهض ملك فرنسا ودوق النمسا إجلالًا له، ونهض معهم جميع الحضور وصرخوا: «ليحيَ ملك إنكلترا، ليحيَ قلب الأسد.» فتهلل وجهه وحيَّاهم بالسلام، وقال: «أيها الأمراء والرؤساء، أتوسل إليكم أن تسمحوا لي ببضع دقائق أكلمكم فيها بما يخص شخصي الحقير.» ولما قال ذلك سكت الجميع سكوتًا تامًّا فقال: «أيها الأمراء والرؤساء الكرام، أنتم تعلمون أن ريكارد الواقف أمامكم رجل حرب حادُّ الطباع، يده تسبق لسانه، ولسانه لا يعرف التبجيل، فلا تبطلوا هذا الجهاد المجيد بسبب ما ترونه منه من الخفة والنزق، ولا تتركوا هذا الشرف الأثيل بسبب ما ترونه فيه من الخطأ وحدة الطباع، وإن كنت قد أسأت إلى أحد منكم فأطلب منه المعذرة والصفح. هل أسأت إليك أيها الملك فيليب؟» قال ذلك ومد يده لملك فرنسا فأجابه: «كلا أيها الأخ، فأنا لم أعزم أن أترك هذا الجهاد إلا لأن أحوال مملكتي تضطرني إلى ذلك.» ثم مد له يده وتصافحا. فتقدم ريكارد نحو دوق النمسا، وقال: «أنت حاقد علي أيها الدوق وأنا حاقد عليك، فلنرفع الأحقاد من بيننا ونتصالح ونتصاف، ونكن يدًا واحدة في هذا الجهاد المجيد، وإن كنتَ قد أخذت علمي فردَّه إلى مكانه وأنا أعتذر إليك عما صدر مني في ساعة غيظي.» فوقف الدوق أمامه صامتًا مطرقًا إلى الأرض كأنه لا يستطيع الكلام، وحينئذ تقدم رئيس أساقفة أورشليم، وقال: «إن الدوق قد أنكر هذه التهمة بأعظم الأقسام.» فقال ريكارد: «إذن قد أخطأنا باتهامه ولذلك نلتمس منه الصفح.» قال ذلك ومد له يده لكي يصافحه، فلم يمد الدوق يده! فقال ريكارد: «أيبخل علينا الدوق بالمصافحة في هذا النادي كما بخل علينا بالمناجزة في ميدان النزال؟ ولكننا نغض الطرف عن ذلك ونعدُّ هذه الإهانة جزاء لما بدا منا في حقه ونحن في حدة الغيظ.» ثم حول وجهه عنه والتفت إلى باقي الحضور، ونادى أرل شمبانيا ومركيز منسرَّات ورئيس الهيكليين، وقال: «هل أسأت إليكم بشيء فأكفر عن ذنبي؟»

فقام مركيز منسرَّات وقال: «دعواي عليك أنك تحرمنا نحن إخوانك كل ما نستحق من الشهرة.» ثم وقف رئيس الهيكليين وقال: «إن دعواي أعظم من دعوى مركيز منسرَّات، وقد تقولون إنه لا يليق بي أن أتقدم غيري في هذا المحفل الحافل بالأمراء والرؤساء وأبين ما لنا من الشكاوى على هذا الملك، ولكن قد اشتدت الأزمة فيجب أن نبين له في حضرته ما نقوله في غيبته؛ إننا نعجب ببسالة ملك إنكلترا ونباهي بها، ولكننا نستاء جدًّا حينما نراه يغتنم كل فرصة لإظهار سيادته علينا كأننا من بعض أتباعه، فنحن من تلقاء أنفسنا نقر له بالبسالة والغيرة والثروة والقوة ونخضع له في أمور كثيرة، ولكنه إذا اضطرنا إلى ذلك اضطرارًا انحططنا في عيون رجالنا من رتبة المحالفين لهذا الملك إلى رتبة التابعين الخاضعين له، وزالت سلطتنا عنهم وثُلَّت عروشنا. وقد طلب منا أن نصدُقه الخبر، فلا أظنه يستاء إذا قام واحد مثلي قد ترك أمجاد الدنيا وكل سلطة زمنية، إلا فيما يعود إلى رفع شأن هيكل الله وأجابه إلى ما طلب، لا سيما وأن ما تكلمت به يصدِّق له كل أحد من هؤلاء الحضور.»

فثار الدم إلى رأس الملك ريكارد حينما سمع الرئيس يتكلم بهذا الكلام، فاحمرت وجنتاه وتقطب حاجباه وتطاير الشرر من عينيه، ولا سيما حينما رأى الجميع يظهرون علامات الاستحسان، فقال في نفسه: «إذا أجبته جواب الغيظ والانتقام كما يستحق خطابه أنلته مبتغاه فأثبتُّ علي دعواه.» فتربص قليلًا حتى هدأ روعه ثم رفع يده وقال: «أحقيق أن إخواننا مغتاظون منا لأجل ما يرونه فينا من حدة الطبع، ومؤاخذونا بهفواتنا التي تصدر منا، إما لشدة غيرتنا وإما لخشونة طباعنا؟ فلم يخطر على بالي أن هذه الهفوات التي تصدر مني عن غير قصد رديء تقع هذا الموقع في عيون حلفائي، فيرتدون عن هذا الجهاد المجيد بسببي ويرجعون عن أورشليم بعد أن فتحَتْ سيوفهم الطريق إليها، بل كنت واثقًا أن حسناتي تزيد على سيئاتي لأني إن كنت أول من يخرج إلى القتال فأنا آخر من يرجع عنه، وإن كنت أهتم برفع علمي على الأماكن التي نتغلب عليها فأنا أترك الغنائم كلها لغيري، وإن كنت أتشبث برأيي في إجراء أمر من الأمور، فأنا أول من يجريه بدمه ودم رجاله، وإن كنت آمر جنود غيري عند الضرورة كما آمر جنودي، فأنا أعاملهم كما أعامل جنودي حينما أقسم عليهم الأطعمة والأدوية التي لا يقدر رؤساؤهم أن يبتاعوها لهم، وإني لأخجل من تذكيركم بهذه الأمور، ولكن الشيء بالشيء يذكر فلننس الماضي ونهتم بالاستقبال، فسأردع نفسي وأخمد عنفواني حتى لا أكون عثرة في هذا الطريق المجيد الذي يجبركم دينكم وشرفكم أن تسيروا فيه، فخير لي أن أموت موتًا من أن تكون هفواتي وسقطاتي سببًا لحل هذا الارتباط المجيد وتفريق هؤلاء الأمراء العظام، والله يشهد أني عن طيب نفس أتنازل عن كل حقوقي، بل عن قيادة رجالي ونخضع جميعًا لأمر من تعينونه قائدًا علينا، وإن كنتم قد مللتم حمل السلاح وسئمتْ نفوسكم من تواصل الحروب فأبقوا معي عشرة آلاف من جنودكم، ومتى تغلبنا على مدينة صهيون لا نكتب على بابها اسم ريكارد، بل أسماء الأمراء الذين أبقوا جنودهم معه …»

فلم يتم كلامه حتى دبت الحمية في نفوس الحاضرين وتصوروا الغرض الذي جاءوا لأجله، فصرخوا قائلين: «هيا بنا قلبَ الأسد لا يقودنا غيرك في هذا الجهاد، هيا بنا إلى أورشليم، هيا بنا إلى أورشليم، هذه هي مشيئة الله.» وامتد النداء إلى الحرس ومنهم إلى الجنود وانتشر في كل المحلة، فلم تكن تسمع إلا كلمة «هيا بنا إلى أورشليم، هذه مشيئة الله.» ولم يعد أحد يتكلم في مجمع الأمراء إلا فيما يتعلق بالحرب والزحف على أورشليم حالما تنتهي الهدنة. والمخالفون لذلك لم يجسروا أن يقولوا الخلاف، ثم انفض المحفل على أن يستعدوا للحرب.

وخرج مركيز منسرَّات ورئيس الهيكليين ومشيا معًا، فقال المركيز: «طالما قلت لك إن أشراكك يقطعها ريكارد كأنها خيوط العنكبوت. انظر كيف ينقاد إليه هؤلاء المجانين ويتقلبون مع الأهواء كأنهم ريشة بمهب الرياح.» فقال المركيز: «نعم، ولكن الريح تهجع فيقف الريش ولا يتحرك.» فقال الرئيس: «وهبْ أنهم انحلوا من الآن، فالأرجح أن ريكارد يصير ملكًا على القدس ويتهادن مع صلاح الدين على الشروط التي يريدها.» فأجابه المركيز: «أتظن أن ريكارد يصاهر صلاح الدين؟ ذلك محال؛ ولذلك سعيت فيه لإغاظة الفريقين؛ لأن أخذ ريكارد للبلاد بالسلم يضر بنا مثل أخذه لها بالسيف.» فقال الرئيس: «لم تصب المحزَّ على ما فهمت من رئيس الأساقفة؛ لأن ريكارد ميال إلى المصاهرة، وكذا سرقة العلم لم تجدِ نفعًا، فإن كانت هذه جعبة حيلك فقد فرغت. ولكن أتعرف أحدًا من الخوارج؟» فقال: «كلا، ولكنني أعرف أنهم من الغلاة في الإباحية.» فقال الرئيس: «أنا أعرف واحدًا منهم قد نذر أن يريح الدنيا من هذا الملك، وهو الآن في قبضة يدي.» فقال المركيز: «نعم نعم نعم، والخطب جسيم، ولكن للضرورة أحكام.» فقال الرئيس: «قد أفشيت لك هذا السر لتكون على حذر؛ لأن هؤلاء الإنكليز سيهيجون ويموجون.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤