تعريف بالكتاب

منذ وجد الإنسان على الأرض وهو مشوق إلى تعرُّف ما في الكون المحيط به من سنن وخصائص، وكلما أمعن في المعرفة ظهرت له عظمة الكون أكثر من ذي قبل، وظهر ضعفه وتضاءل غروره. ونبي الإسلام صلوات الله عليه شبيه بالوجود. فقد جدَّ العلماء منذ أشرقت الأرض بنوره يتلمسون نواحي العظمة الإنسانية فيه، ويتلمسون مظاهر أسماء الله جلَّت قدرته في عقله وخُلقه وعلمه. ومع أنهم استطاعوا الوصول إلى شيء من المعرفة، فقد فاتهم حتى الآن كمال المعرفة؛ وأمامهم جهاد طويل، وبُعد شاسع، وطريق لا نهاية له.

والنبوة هبة الله لا تُنال بالكسب؛ لكن حكمة الله وعلمه قاضيان بأن تمنح للمستعد لها والقادر على حملها. الله أعلم حيث يجعل رسالته. ومحمد أُعِدَّ لأن يحمل الرسالة للعالم أجمعه، أحمره وأسوده، إنسه وجنه، وأعِدَّ لأن يحمل رسالة أكمل دين، ولأن يختم به الأنبياء والرسل، وليكون شمس الهداية وحده إلى أن تنفطر السماء وتنكدر النجوم، وتُبدل الأرض غير الأرض والسموات.

عصمة الأنبياء في التبليغ وأداء أمانة الوحي قضية فرغ العلماء منها؛ فليس للأنبياء فضل الاختيار في التبليغ وأداء الأمانة بعد طبعهم بخاتم النبوة واختيارهم لها. وهذا التبليغ نتيجة حتمية للنبوة لا مردَّ لها. غير أن الوحي لا يلازم الأنبياء في كل عمل يصدر عنهم وفي كل قول يبدر منهم؛ فهم عرضة للخطأ، يمتازون عن سائر البشر بأن الله لا يقرُّهم على الخطأ بعد صدوره، ويعاتبهم عليه أحيانًا.

أُمر محمد بأن يبلغ عن ربه، ولم تُبيَّنْ له الطرق التي يتبعها في التبليغ وفي حماية الدعوة، وتُرك له أن يتصرف بعقله وعمله وفطنته، كما يتصرف غيره من العلماء والعقلاء. وجاء الوحي مفصلًا قاطعًا في كل ما يخص ذات الإله ووحدته وصفاته وكيفية عبادته؛ ولم يكن كذلك فيما يخص النظم الاجتماعية للأسرة والقرية والمدينة والدولة منفردة ومرتبطة بغيرها من الدول. فهناك مجال واسع للبحث عن عظمة النبي قبل الوحي، وهناك مدى فسيح للبحث عن تلك العظمة بعد الوحي. فقد صار مبلِّغًا عن ربه داعيًا إليه، حاميًا لتلك الدعوة ولحرية الداعين، مدافعًا عنهم؛ وأصبح حاكم الأمة الإسلامية وقائد حربها ومفتيها وقاضيها ومنظِّم جميع الصلات والروابط فيها، وبينها وبين غيرها من الأمم. وقد أقام العدل في ذلك كله، وألَّف بين أمم وطوائف ما كان العقل يُسيغ إمكان التأليف بينها؛ وظهرت الحكمة والرصانة وبعد النظر وكمال الفطنة وسرعة الخاطر وقوة الحزم في كل ما صدر عنه من قول أو فعل، وتفجَّرت منه ينابيع العلم والمعرفة، وينابيع البلاغة التي يطأطئ البلغاء رءوسهم أمامها إجلالًا وهيبةً؛ وفارق الدنيا وهو راضٍ عن عمله مرضيٌّ من الله ومن المسلمين.

وكل هذه النواحي تستحق الدرس والتمحيص، وليس في مقدور شخص واحد أن يفيها حقها، بل ليس في مكنة شخص واحد أن يُوفي على الغاية في ناحية من هذه النواحي.

وسيرة محمد صلوات الله عليه وعلى آله — كسائر العظماء — أُضيفَ إليها ما ليس منها، إما عن حب وهوى وحسن قصد، وإما عن سوء قصد وحقد. غير أنها تمتاز عن سير العظماء جميعهم بأن منها شيئًا كثيرًا ضمه الوحي الإلهي وضمن حفظه القرآن المطهر، وشيئًا كثيرًا رُوي على لسان الحفاظ الثقات من المحدِّثين، وعلى هذه الأسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة، وأن يستنبط العلماء منها حِكَمَها وأسرارها ودقائقها، وأن تحلَّل التحليل العلمي النزيه، ملاحظًا في ذلك ظروف الوسط وحال البيئة ونواحيها المختلفة من عقائد ونظم وعادات.

وقد أخرج الدكتور هيكل للناس كتابه «حياة محمد» في سيرة محمد، ويسَّر لي أن أطَّلع على جزء منه قبل إتمام طبعه. والدكتور هيكل معروف لقراء اللغة العربية، غنيٌّ بآثاره فيها عن التعريف. وقد درس القانون واطلع على المنطق والفلسفة، ومكَّنته ظروفه وطبيعة عمله من الاتصال بالثقافة القديمة والثقافة الحديثة، وأوفى منهما على حظ عظيم، وناظر وجادل وهجم ودافع في المعتقدات والآراء وقواعد الاجتماع وفي السياسة وغيرها، فنضج عقله وكمل علمه واتسع اطلاعه وامتد أفقه، فأصبح ينافح عن آرائه بمنطق قويٍّ وحجج باهرة وأسلوب اختص به لا تخفى نسبته إليه. بهذه الثقافة وهذه القوة نسج الدكتور كتابه وقال في مقدمته: لست مع ذلك أحسب أني أوفيت على الغاية من البحث في حياة محمد؛ بل لعلي أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث في العربية على الطريقة الحديثة. وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكرت ما بين دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة من شبه قويٍّ. فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثًا أن تمحو من نفسك كل رأي وكل عقيدة سابقة في هذا البحث، وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية. فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كله كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها. وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر، وها هي ذي مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته.

أما أن هذه الطريقة طريقة القرآن فذلك حق لا ريب فيه، فقد جعل العقل حَكَمًا والبرهان أساس العلم، وعاب التقليد وذم المقلِّدين، وأنَّب من يتبع الظن وقال: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا وعاب تقديس ما عليه الآباء، وفرض الدعوة بالحكمة لمن يفقهها. ولم تكن معجزة محمد القاهرة إلا في القرآن، وهي معجزة عقلية. وما أبدع قول البوصيري:

لم يمتحنَّا بما تعيا العقول به
حرصًا علينا، فلم نَرْتَب ولم نَهِمِ

وأما أن هذه الطريقة حديثة، فهذا ما يُعتذَر عنه. وقد ساير الدكتور غيره من العلماء في هذا؛ ذلك لأنها طريقة القرآن كما اعترف هو، ولأنها طريقة علماء سلف المسلمين. انظر كتب الكلام تَرَهُمْ يقررون أن أول واجب على المكلف معرفة الله، فيقول آخرون: لا، إن أول واجب هو الشك. ثم إنه لا طريق للمعرفة إلا البرهان. وهو وإن كان نوعًا من أنواع القياس إلا أنه يجب أن تكون مقدماته قطعية حسية، أو منتهية إلى الحس، أو مدركة بالبداهة أو معتمدة على التجربة الكاملة أو الاستقراء التام، على ما هو معروف في المنطق. وكل خطأ يتسرب إلى إحدى المقدمات أو إلى شكل التأليف مفسد للبرهان.

وقد جرى الإمام الغزالي على الطريقة نفسها. وقد قرَّر في أحد كتبه أنه جرَّد نفسه من جميع الآراء ثم فكر وقدَّر، ورتب ووازن، وقرَّب وباعد، وعرض الأدلة وهذَّبها وحللها؛ ثم اهتدى بعد ذلك كله إلى أن الإسلام حق، وإلى ما اهتدى إليه من الآراء. وقد فعل هذا ليجافي التقليد، وليكون إيمانه إيمان المستيقن المعتمد على الدليل والبرهان، ذلك الإيمان الذي لا يختلف المسلمون في صحته ونجاة صاحبه.

وأنت واجد في كتب الكلام في مواضع كثيرة حكاية تجريد النفس عما ألفته من العقائد، ثم البحث والنظر. فطريق التجريد طريق قديم، وطريق التجربة والاستقراء طريق قديم، والتجربة والاستقراء التام وليدا الملاحظة، فليس هناك جديد عندنا، ولكن هذه الطريقة القديمة بعد أن نسيت في التطبيق العلمي والعملي في الشرق، وبعد أن نشأ التقليد وأهدر العقل، وبعد أن أبرزها الغربيون في ثوب ناضج وأفادوا منها في العلم والعمل، رجعنا نأخذها عنهم ونراها طريقة في العلم جديدة.

هذا القانون العلمي في البحث معروف قديمًا وحديثًا. والمعرفة سهلة ولكن العمل عسير. ولا يتفاوت الناس كثيرًا في معرفة القانون، ولكنهم يتفاوتون جدَّ التفاوت في تطبيق القانون.

تجريد النفس والملاحظة والتجربة والموازنة والاستنباط كلمات سهلة؛ لكن الإنسان الرازح تحت أحمال الوراثة في دمه وعقله، وأحمال البيئة في البيت والقرية والمدينة والدولة والمدرسة، وأحمال المعتقدات والمزاج والصحة والمرض والشهوات، كيف يسهل عليه تطبيق القانون؟ هذا هو موضع الداء قديمًا وحديثًا، وهو سبب تعدد المذاهب والآراء وسبب تبدلها وتنقلها من قطر إلى قطر، ومن أمة إلى أمة. والفلسفة والآداب تبدِّل ثيابها على تعاقب الأجيال كما تبدِّل النساء أزياءها، وقلَّ أن تجد فيها شيئًا يصونه حرز أو يقيه حصن؛ بل سرى التبدُّل إلى قواعد العلم التي لم تكن طوال الأجيال الماضية موضعًا للشك. ونظرية النسبية اضطرب لها العلماء وسرعان ما قام من يهدمها. والآراء في الأمراض وأسبابها وطرق علاجها وفي التغذية لا تزال مطية للتبدُّل والتحول. وهكذا إذا أنعمنا النظر لا نجد أمانًا لما أنتجه العقل وحده إلا ما كان البرهان بشروطه متوافرًا فيه. ولكن ما نسبة هذه الأشياء التي يتوافر فيها البرهان إلى غيرها مما تُمليه الظنون وتسطره الأوهام وتمجه الأذهان المريضة، وتفرضه السياسة؛ ويبدعه العلماء الذين يجدون كل اللذة في مخالفة غيرهم وإحداث هذه المذاهب والآراء! ولعل هذه الحيرة ستخفف غلواء العلماء المعتزين بالعقل وحده، وتلويهم يومًا من الأيام إلى الدخول في حمى الحق وحصن اليقين؛ وهو الوحي الصادق، وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة المطهرة.

نعود بعد هذا إلى الدكتور هيكل وكتابه.

يقول بعض علماء الكلام: إن الاطلاع على علم تشريح الأفلاك وعلم تشريح الإنسان يدل أوضح الدلالة على شمول العلم الإلهي لدقائق الوجود. وأنا أقرِّر أيضًا أن العلم والكشف عن سنن الوجود وعجائبه سيكون نصير الدين، وسيقرِّب إلى العقل الإنساني طريق فهم ما كان غامضًا مبهمًا، وما كان فوق طاقة العقل إدراكه من قبل، مصداقًا لقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

والكهربا وما نشأ عنها من المخترعات قرَّبت إلى العقل فهم إمكان تحول المادة إلى قوة وتحول القوة إلى مادة. وعلم استحضار الأرواح فسر للناس شيئًا كثيرًا مما كانوا فيه يختلفون، وأعان على فهم تجرد الروح وإمكان انفصالها وفهم ما تستطيعه من السرعة في طيِّ الأبعاد، وقد انتفع الدكتور هيكل بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء فأتى بشيء طريف.

ويطول بي القول إذا أنا عرضت لما في كتاب الدكتور هيكل من حسنات، وحسبي أن أنبه إلى تلك الحسنات إجمالًا، وسيدرك الناس جماله بأنفسهم ويستمتعون بلذة نتاج الفكر تهديه الأسانيد الصحيحة، ويهديه المنطق الدقيق وتسعده الفطرة الصادقة، وسيرون أن الدكتور كان مخلصًا الإخلاص كله للحقيقة، عامر القلب بما في الوحي المحمدي من هدى ونور، وبما في سيرة النبي من جمال وجلال وعظمة وعبرة، مطمئنًّا كلَّ الاطمئنان إلى أن هذا الدين المحمدي سينقذ البشر مما هم فيه من الحيرة، وينشلهم من ظلمة المادة ويبصِّرهم بنور الإيمان، ويوجههم إلى النور الإلهي، فيدركون به سعة رحمته التي وسعت كل شيء، وعظمة مجده الذي تسبِّح به السموات والأرض وكل شيء فيهما، وعزته التي تتضاءل أمامها الموجودات. ألا تراه يقول: «وأذهب أبعد مما تقدم فأقول: إن هذا البحث جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي نلتمسها. وإذا كانت نصرانية الغرب تستكبر أن تجد النور الجديد في الإسلام ورسوله وتلتمس هذا النور في «ثيوزوفية» الهند وفي مختلف مذاهب الشرق الأقصى، فإن رجال هذا الشرق من المسلمين واليهود والنصارى خليقون بأن يقوموا بهذه البحوث الجليلة بالنزاهة والإنصاف اللذين يكفلان وحدهما الوصول إلى الحق.

فالتفكير الإسلامي على أنه تفكير علمي على الطريقة الحديثة في صلة الإنسان بالحياة المحيطة به، هو من هذه الناحية واقعي بحت، ينقلب تفكيرًا ذاتيًّا حين يتصل الأمر بصلات الإنسان بالكون وخالق الكون.»

ويقول: «لكن طلائع القضاء على الوثنية التي تتحكم في عالمنا الحاضر وتوجه الحضارة الحاكمة فيه تبدو واضحة لكل من يتتبع سير العالم وأحداثه. فلعل هذه الطلائع تتواتر وتقوى دلالتها إذا انجلت أمام العالم تلك المسائل الروحية بالتخصص لدراسة حياة محمد وتعاليمه وعصره، والثورة الروحية التي انتشرت في العالم كأثر من آثاره.»

وهذا الاطمئنان يؤيده الواقع؛ فإن ما يُرى الآن من عناية الغرب ببحث آثار الشرق، ومن عناية علمائه بدراسة الإسلام من نواحيه المختلفة ودراسة تاريخه وأممه قديمًا وحديثًا، ومن إنصاف بعضهم للنبي، وما أيدته التجارب من أن الحق لا محالة غالب؛ كل ذلك يرشدنا إلى أن الإسلام سينشر لواءه على العالم وسيكون أشد الناس عداوة له اليوم هم أشد الناس غيرة عليه ودفاعًا عنه، وسيكون هؤلاء الغرباء عنه هم أنصاره وأهله، وكما نصره أول أمره الغرباء عن البيئة التي نشأ فيها، فسينصره آخر الأمر الغرباء عن لغته ووطنه. وقد بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء!

وإذا كان النبي خاتم الأنبياء وليس للعالم بعده هادٍ مرشد، وكان دينه أكمل دين بنص الوحي القاطع، فلا يمكن أن يقف أمره على ما هو عليه الآن، ولا بد أن يمحو نوره نور غيره كما تمحو الشمس أضواء غيرها من الكواكب.

وقد وفِّق الدكتور في تنسيق الحوادث وربط بعضها ببعض، فجاء كتابه عقدًا منضدًا وسلسلة متينة محكمة الحلقات. وقد أبدع في بيان الأسباب والأغراض والحكم بيانًا قويًّا واضحًا يجعل القارئ مطمئن النفس رضيَّ القلب يستمتع بما يقرأ ويثلج صدره ببرد اليقين، فيملك عليه أمره، ويجبره على متابعة القراءة حتى يوفي على آخر ما بيده من البحث.

وفي الكتاب بحوث قيمة ليست من السيرة، ولكنها اتصلت بها بسبب الإسهاب في بيان أغراضها.

وأختم كلمتي هذه بقول سيد الخلق صلوات الله عليه وعلى آله الأطهار ومن اتبعه: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل عليَّ غضبك، أو تُحلَّ بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.»

١٥ من فبراير ١٩٣٥
محمد مصطفى المراغي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤