الفصل الخامس والعشرون

حنين والطائف

(تألب هوازن وثقيف بإمرة مالك بن عوف – تحصينهم بمضيق وادي حنين – خروج المسلمين إلى حنين تعجبهم كثرتهم – دخول المسلمين من مضيق الوادي في عماية الصبح – ضرب هوازن وثقيف إياهم من المرتفعات وارتدادهم منهزمين – ثبات محمد إلى الموت – صياح العباس بالمسلمين كي يعودوا – عودهم إلى رسول الله ومقاتلتهم وانتصارهم – الفيء – المسير إلى الطائف – حصارها وعدم إمكان اقتحامها – تحريق نخيلها – استرحامها النبي – رجوعه عن الحصار – إسلام هوازن – حديث الشيماء – العودة إلى الجعرانة وقسمة الفيء – العمرة – العودة إلى المدينة)

***

أقام المسلمون بمكة بعد فتحهم إياها فرحين بنصر الله إياهم، مغتبطين أن لم يسفك في هذا النصر العظيم إلا الدم القليل، مسارعين إلى البيت الحرام كلما أذن بلال بالصلاة، متدافعين حول رسول الله حيث أقام وحيث ذهب. يغشى المهاجرون منهم دورهم ويتصلون بأهليهم الذين هدى الله بعد الفتح، ونفوسهم جميعًا مطمئنة إلى أن الأمر قد استقر للإسلام، وأن الجانب الأكبر من الجهاد قد كلل بالفوز والظفر. وإنهم لكذلك بعد خمسة عشر يومًا من مقامهم بأم القرى إذ ترامت إليهم أنباء أيقظت استنامتهم للغبطة! تلك أن هوازن كانت تقيم على مقربة من مكة إلى جنوبها الشرقي في جبال هناك، فلما علمت بما تم للمسلمين من فتح مكة ومن تحطيم أصنامها. خشيت أن تدور عليها الدائرة وأن يقتحم المسلمون عليها منازلها، ففكرت فيما تصنع لاتقاء هذه الكارثة الوشيكة الوقوع ولصد محمد والكف من غلواء المسلمين الذين يعملون للقضاء على استقلال قبائل شبه الجزيرة وعلى ضمها كلها في وحدة يُظلها الإسلام، لذلك جمع مالك بن عوف النصري هوازن وثقيفًا، كما اجتمعت نصر وجشم ولم يتخلف عن الاجتماع من هوازن إلا كعب وكلاب.

وكان في جشم دريد بن الصمة. وكان يومئذ شيخًا كبيرًا لا نفع منه في الحرب، ولكنما كان الانتفاع برأيه بعد الذي عركه على السنين في وقائعها. اجتمعت هذه القبائل كلها ومعها أموالها ونساؤها وأبناؤها، وتم جمعها حين نزلت سهل أوطاس. فلما سمع دريد رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاء، سأل مالك بن عوف: لم ساق مع المحاربين أموالهم ونساءهم وصغارهم؟ فلما أجابه مالك بأنه إنما أراد أن يشجع بها المحاربين، قال دريد: وهل يرد المنهزم شيء؟! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فُضِحت في أهلك ومالك. واختلف هو ومالك. وتبع الناس مالكًا، وكان شابًّا في الثلاثين من عمره، قوي الإرادة ماضي العزيمة، وتابعهم دريد ما يردُّ لهم، على رغم سابقته في الحرب، رأيًا.

وأمر مالك الناس أن ينحازوا إلى قمم حنين وعند مضيق الوادي؛ فإذا نزل المسلمون واديه فليشدوا عليهم شدة رجل واحد تضعضع صفوفهم، فيختلط حابلهم بنابلهم ويضرب بعضهم بعضًا، وتدور عليهم الهزيمة، ويزول أثر انتصارهم حين فتحوا مكة، ويبقى لقبائل حنين في بلاد العرب جميعًا فخار النصر على هذه القوة التي تريد أن تُظِل بسلطانها بلاد العرب جميعًا. وامتثلت القبائل أمر مالك وتحصنت بمضيق الوادي.

أما المسلمون فبادروا بعد أسبوعين من مقامهم بمكة وعلى رأسهم محمد في عدة وعديد لم يكن لهم من قبل بها عهد قط. ساروا في اثني عشر ألفًا من المقاتلين، منهم عشرة آلاف هم الذين غزوا مكة وفتحوها، وألفان ممن أسلم من قريش، وبينهم أبو سفيان بن حرب، وكلهم تلمع دروعهم، وفي مقدمتهم الفرسان والإبل تحمل الميرة والذخيرة. سار المسلمون في هذا الجيش الذي لم تعرف بلاد العرب من قبل مثاله، يتقدم كل قبيلة علمها وتمتلئ النفوس كلها إعجابًا بهذه الكثرة، وبأن لا غالب اليوم لها؛ حتى لقد تحدَّث بعضهم بذلك إلى بعض وجعلوا يقولون: لن نُغلب اليوم لكثرتنا. وبلغوا حنينًا والمساء يقبل، فنزلوا على أبواب واديها وأقاموا بها حتى بكرة الفجر. هنالك تحرك الجيش، وركب محمد بغلته البيضاء في مؤخرته، على حين سار خالد بن الوليد على رأس بني سليم في المقدمة، وانحدروا من مضيق حنين في واد من أودية تهامة.

وإنهم لكذلك منحطون إلى الوادي إذ شدت عليهم القبائل بإمرة مالك بن عوف شدة رجل واحد وأصلوهم وابلًا من النبال وهم جميعًا ما يزالون في عماية الفجر. إذ ذاك اختلط أمر المسلمين واضطرب، وعادوا منهزمين قد أخذ الخوف والفزع منهم كل مأخذ، حتى أطلق بعضهم ساقيه للريح، وحتى قال أبو سفيان بن حرب وعلى شفته ابتسامة المغتبط لفشل أولئك الذين انتصروا بالأمس على قريش: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قد قُتل في غزوة أحد. وقال كلدة بن حنبل: ألا بطل السحر اليوم! فرد عليه أخوه صفوان: اسكت فض الله فاك! فوالله لأن يربَّني١ رجل من قريش أحب إليَّ من أن يربَّني رجل من هوازن. تقع هذه الأحاديث والجيش يختلط حابله بنابله والنبي في المؤخرة تمر عليه القبائل واحدة بعد الأخرى مهزومة لا تلوي على شيء.

ماذا تراه يصنع؟ أفتضيع تضحيات عشرين سنة في هذه اللحظة من عماية الصبح؟ أفتنحَّى عنه ربه وتخلى عنه نصر الله إياه؟! كلا! كلا! لن يكون هذا! دون هذا تبيد أمم وتفنى أقوام! ودون هذا الموت يدخل محمد في غماره لعل في الموت لدين الله نصرًا. وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وثبت محمد مكانه، وأحاط به جماعة من المهاجرين والأنصار ومعه أهل بيته، وجعل ينادي في الناس إذ يمرون به منهزمين: أين أيها الناس؟! أين؟! لكن الناس كانوا فيما هم فيه من هول الفزع لا يسمعون إلى شيء ولا يدور بتصورهم إلا هوازن وثقيف منحدرتين من معتصمهما بالقمم تطاردانهم حتى تأتيا عليهم. ولم يخطئ تصورهم؛ فقد انحدرت هوازن من مكانها يتقدمها رجل على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، وهو كلما أدرك المسلمين طعن برمحه، وهوازن وثقيف وأنصارهما منحدرون من ورائه يطعنون، وثارت بمحمد حميته، فأراد أن يندفع ببغلته البيضاء في صدر هذا السيل الدافق من رجال العدو، وليكن بعد ذلك أمر الله. لكن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أمسك بخطام بغلته وحال دون تقدمها.

وكان العباس بن عبد المطلب رجلًا جسيمًا جَهْوَرِي الصوت قويَّه، فنادى بما أسمع الناس جميعًا من كل فج: يا معشر الأنصار الذين آووا ونصروا! يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة! إن محمدًا حيٌّ فهلموا! وكرر العباس النداء حتى تجاوبت في كل جنبات الوادي أصداؤه. وهنا كانت المعجزة: سمع أصحاب العقبة اسم العقبة فذكروا محمدًا وذكروا عهودهم وشرفهم. وسمع المهاجرون اسم محمد فذكروا تضحياتهم وذكروا شرفهم. وسمع هؤلاء وأولئك بسكينة محمد وثباته في نفر قليل من المهاجرين والأنصار، كثباته يوم أحُد، في وجه هذا العدو الزاحف، صوَّرت لهم نفوسهم ما قد ينشأ عن خذلانهم إياه من تغلب المشركين على دين الله. وكان نداء العباس أثناء ذلك ما يزال يدوِّي في آذانهم وتهتز لأصدائه أوتار قلوبهم. هنالك تصايحوا من كل صوب: لبيك لبيك! وارتدوا إلى المعركة مستبسلين.

وبدأ الطمأنينة تعاود محمدًا حين رآهم يعودون؛ فقد انحدرت هوازن من مكامنها وأصبحت وجهًا لوجه مع المسلمين في الوادي. وقد أضاء النهار وطغى النور على عماية الفجر. واجتمع حول رسول الله بضع مئات استقبلوا القبائل وصبروا لهم، وقد أخذ يزداد عددهم وتشتد بعودتهم عزائم من خارت من قبل عزائمهم، وجعل الأنصار يتصايحون: يا للأنصار! ثم تنادوا: يا للخزرج! ومحمد ينظر إلى تناحر القوم؛ حتى إذا رأى الصدام اشتد ورأى رجاله تسمو نفوسهم ويطيحون بخصومهم، نادى: الآن حمي الوطيس، إن الله لا يخلف رسوله وعده. ثم طلب إلى العباس فناوله حفنة من الحصى ألقى بها في وجوه العدو قائلًا: شاهت الوجوه. واندفع المسلمون إلى المعركة مستهينين بالموت في سبيل الله، مؤمنين بأن النصر لا محالة آت، وأن من استشهد منهم فله من النصر أكبر من نصيب من بقي. وكان البلاء شديدًا؛ حتى إن هوازن وثقيفًا ومن معهم ما لبثوا، حين رأوا كل مقاومة غير مجدية وأنهم معرضون للفناء عن آخرهم، إن فروا منهزمين لا يلوون على شيء، تاركين وراءهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم غنيمة للمسلمين الذين أحصوها يومئذ اثنين وعشرين ألفًا من الإبل وأربعين ألفًا من الشاء وأربعة آلاف أوقية من الفضة. أما الأسرى وعددهم ستة آلاف فقد نقلوا محروسين إلى وادي الجعرانة حيث أووا إلى أن يعود المسلمون من مطاردة عدوهم ومن حصار ثقيف بالطائف.

وتابع المسلمون مطاردتهم لعدوهم. وزادهم إغراءً بهذه المطاردة أن أعلن الرسول أن من قتل مشركًا فله سلبه. وأدرك ابن الدغنة جملًا عليه شجار٢ ظن به امرأة طمع في سلبها، فأناخ الجمل فإذا شيخ كبير لا يعرفه الفتى هو دريد بن الصمة. وسأل ربيعة: ما يريد به؟ قال: أقتلك وأهوى عليه بسيفه فلم يغن شيئًا. قال دريد: «بئس ما سلَّحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل ثم اضرب به، وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أضرب به الرجال. ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب والله يوم قد منعتُ فيه نساءك.» ولما رجع ربيعة إلى أمه وأخبرها خبره قالت له: «حرق الله يدك، فإنما قال ذلك ليذكرنا نعمه عليك. فوالله لقد أعتق لك ثلاث أمهات في غداة: أنا وأمي وأم أبيك» وتبع المسلمون هوازن حتى بلغوا أوطاسًا، وهناك أوقعوا بهم وهزموهم شر هزيمة، وسبوا من احتملوا من النساء والأموال وعادوا بهم إلى محمد. أما مالك بن عوف النصري فقد ثبت هنيهة ثم فر وقومه مع هوازن حتى افترق عنهم عند نخلة، ثم ولى وجهه نحو الطائف فاحتمى بها.
وكذلك كان نصر المؤمنين مؤزَّرًا، وكانت هزيمة المشركين تامة بعد ذلك الفزع الذي أصاب المسلمين في عماية الصبح، وحين شد المشركون عليهم شدة رجل واحد ضعضعت صفوفهم وخلطت حابلهم بنابلهم، كان نصر المسلمين مؤزَّرًا بفضل ثبات محمد والفئة القليلة التي أحاطت به. وفي ذلك نزل قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.٣

على أن المسلمين لم يحرزوا هذا النصر المؤزَّر رخيصًا، بل دفعوا ثمنًا غاليًا لعلهم لم يكونوا يدفعونه لولا تخاذلهم الأول وتدافعهم مهزومين، ليقول فيهم أبو سفيان: إنهم لا يردُّهم إلا البحر. دفعوا الثمن غاليًا من مهج الرجال وأرواح الأبطال الذين استشهدوا في الموقعة. ولئن لم تحص كتب السيرة كل القتلى، لقد ذكرت أن قبيلتين من المسلمين فنيتا أو كادتا، وأن النبي صلى على أرواحهم رجاء أن يدخلهم الله الجنة. لكنه كان النصر على كل حال: النصر التام تغلب فيه المسلمون على خصومهم وغنموا منهم وأسروا ما لم يغنموا ولم يأسروا من قبل. والنصر هو كل شيء في النضال أيًّا كان الثمن الذي يدفع فيه ما دام نصرًا شريفًا. لذلك اغتبط المسلمون بما جزاهم الله، وظلوا يرتقبون قسمة الفيء والعود بالغنيمة.

لكن محمدًا كان يريده نصرًا أكثر روعة وأعظم جلالًا. وإذا كان مالك بن عوف هو الذي قاد هذه الجموع، ثم احتمى بعد هزيمتها مع ثقيف بالطائف، فليحاصر المسلمون الطائف وليضيقوا عليها الحصار. وتلك كانت خطة محمد في خيبر بعد أُحد، وفي قريظة بعد الخندق. ولعله ادكر في موقفه هذا يوم ذهب إلى الطائف لسنوات قبل الهجرة يدعو أهلها إلى الإسلام، فسخروا منه وقذفه صبيانهم بالأحجار، حتى اضطر إلى الاحتماء من أذاهم بحائط٤ فيه كرم. ولعله ادكر كيف ذهب يومئذ منفردًا ضعيفًا، لا حول له ولا قوة إلا حول الله وقوَّته، وإلا هذا الإيمان العظيم الذي ملأ صدره والذي يدك الجبال. وها هو ذا الآن يذهب إلى الطائف في جمع من المسلمين لم تشهد جزيرة العرب في ماضي تاريخها جمعًا مثله.

أمر محمد أصحابه إذن أن يسيروا إلى الطائف ليحاصروا بها ثقيفًا وعلى رأسها مالك بن عوف. وكانت الطائف مدينة محصَّنة لها أبواب تغلق عليها كأكثر مدن العرب في ذلك العصر. وكان أهلها ذوي دراة بحرب الحصار، وذوي ثروة طائلة جعلت حصونهم من أمنع الحصون. وقد سار المسلمون إليها فمرُّوا في مسيرتهم بلية حيث يقوم حصن خاص لمالك بن عوف فهدموه، كما خرَّبوا أثناء مسيرتهم كذلك حائطًا لرجل من ثقيف. وبلغ المسلمون الطائف، فأمر النبي عسكره فنزل على مقربة منها، وجمع أصحابه ليفكروا فيما يصنعون. لكن ثقيفًا ما لبثت حين رأتهم من أعلى حصونها أن نالتهم بالنبل وقتلت جماعة منهم. ولم يكن من اليسير أن يقتحم المسلمون هذه الحصون المنيعة إلا أن يلجئوا إلى وسائل غير التي ألفوا حتى اليوم حين حاصروا قريظة وخيبر. أتراهم إن هم اكتفوا بالحصار يصلوا إلى تجويع ثقيف تجويعًا يحملها على التسليم؟ وإذا هم أرادوا مهاجمتها فما عسى أن تكون هذه الوسائل الجديدة التي يهاجمونها بها؟ هذه أمور تحتاج إلى التفكير وإلى الوقت. فلينسحب العسكر إذن بعيدًا عن مرمى النبل لكي لا يصيبه فيُقتل رجال من المسلمين، ثم ليفكر محمد فيما عسى أن يصنع.

وأمر عليه السلام فنقل العسكر بعيدًا عن مرمى النبل في مكان أقيم به مسجد الطائف بعد أن سلمت الطائف وأسلمت. ولم يكن من ذلك بد وقد قتلت نبال ثقيف ثمانية عشر من المسلمين، وجُرح كثيرون، بينهم أحد أبناء أبي بكر. وفي جانب من هذا المكان البعيد عن مرمى النبال ضُربت خيمتان من جلد أحمر لزوجتي النبي أم سلمة وزينب، وكانتا تسيران معه في كل هذه الوقائع منذ ترك المدينة. وبين هاتين الخيمتين كان محمد يقيم الصلاة. ولعل مسجد الطائف إنما أقيم في هذا المكان.

وأقام المسلمون ينتظرون ما الله صانع بهم وبعدوِّهم. قال أحد الأعراب للنبي: إنما ثقيف في حصنها كالثعلب في جُحره، لا سبيل إلى إخراجه منه إلا بطول المكث، فإن تركته لم يلحقك منه ضر. لكنما شق على محمد أن يعود أدراجه دون أن يصيب من ثقيف شيئًا. وكان لبني دوس (إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكة) علم بالرماية بالمنجنيق وبمهاجمة الحصون في حماية الدبابات. وكان أحد رؤسائها الطفيل قد صحب محمدًا منذ غزا خيبر؛ وكان معه عند حصار الطائف؛ فأوفده النبي إلى قومه يستنصرهم؛ فجاء بطائفة منهم ومعهم أدواتهم فبلغوا الطائف بعد أربعة أيام من حصار المسلمين إياها، ورمى المسلمون الطائف بالمنجنيق، وبعثوا إليها بالدبابات دخل تحتها نفر منهم، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه. لكن رجال الطائف كانوا من المهارة بحيث أكرهوا هؤلاء على أن يلوذوا بالفرار. فقد أحموا قطعًا من الحديد بالنار. حتى إذا انصهرت ألقوها على الدبابات فحرَّقتها، ففر جنود المسلمين من تحتها خيفة أن يحترقوا؛ فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت جماعة منهم. لم يفلح هذا المجهود إذن أيضًا، ولم يستطع المسلمون التغلب على مناعة هذه الحصون.

ماذا عساهم بعد ذلك يصنعون؟ فكر محمد في هذا وفكر طويلًا. ولكن ألم ينتصر على بني النضير ويُجلِها عن ديارها بإحراق نخيلها؟! وكروم الطائف أكبر قيمة من نخيل بني النضير، فهي كروم لها من ذيوع الاسم في بلاد العرب جمعاء ما تباهي به الطائف أخص بلاد العرب، وما جعل الطائف واحة كأنها الجنة وسط هذه الصحاري. وأمر محمد فبدأ المسلمون ينفِّذون، يقطعون ويحرِّقون الكروم التي ما يزال لها حتى اليوم مثل ما كان لها من شهرة وذيوع صوت. ورأى الثقفيون هذا وأيقنوا أن محمدًا جاد فيه، فبعثوا إليه أن يأخذه لنفسه إن شاء وأن يدعه لله وللرحم لما بينه وبينهم من قرابة. استمهل محمد رجاله. ثم نادى في ثقيف إنه مُعتِق من جاء إليه من الطائف. ففر إليه قرابة عشرين من أهلها. عرف منهم أن بالحصون من الذخيرة ما يكفي أمدًا طويلًا. هنالك رأى أن الحصار سيطول أمده، وأن جيوشه تود الرجوع لاقتسام الفيء الذي كسبوا، وأنه إن أصر على البقاء فقد ينفد صبرهم. هذا وكانت الأشهر الحرم قد آذنت ولا يجوز فيها قتال. لذلك آثر أن يرفع الحصار بعد شهر من وقوعه. وكان ذو القعدة قد هلَّ فرجع بجيشه معتمرًا، وذكر أنه متجهز إلى الطائف إذا انتهت الأشهر الحرم.

وانصرف محمد والمسلمون معه عن الطائف قافلين إلى مكة حتى نزلوا الجعرانة حيث تركوا غنائمهم وأسراهم. وهنالك نزلوا يقتسمون. وفصل الرسول الخمس لنفسه ووزع ما بقي على أصحابه. وإنهم بالجعرانة إذ جاء وفد من هوازن قد أسلموا وهم يرتجون أن يرد عليهم أموالهم ونساءهم وأبناءهم، بعد أن طال عنهم غيابهم، وبعد أن ذاقوا مرارة ما حل بهم. ولقي الوفد محمدًا، وخاطبه أحدهم قائلًا: يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللواتي كن يكفلنك. ولو أنا ملحنا٥ للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته علينا؛ وأنت خير المكفولين. ولم يخطئ هؤلاء في تذكير محمد بصلته بهم وقرابته منهم؛ فقد كانت بين السبايا امرأة تخطت الكهولة عنف عليها الجند المسلمون؛ فقالت لهم: تعلموا والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة. فلم يصدِّقوها وجاءوا بها محمدًا، فعرفها فإذا هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى. وأدناها منه وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، وخيَّرها إن أحبَّت أبقاها وإن أحبت متَّعها ورجعها إلى قومها؛ فاختارت الرجوع إلى قومها.

طبيعي وتلك صلة محمد بهؤلاء الرجال الذين أقبلوا عليه من هوازن مسلمين، أن يعطف عليهم وأن يجيبهم إلى مطلبهم؛ فقد كان ذلك دائمًا شأنه مع كل من أسدى إليه يومًا من الدهر يدًا. كان عرفان الجميل بعض شأنه، والبر بكليم القلب في جبلته. فلما سمع مقالتهم سألهم: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا! بل تردُّ علينا نساءنا وأبناءنا فهم أحب إلينا. فقال عليه السلام: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم. ونفَّذت هوازن قول النبي، فأجابهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. قال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله، وكذلك قال الأنصار. أما الأقرع بن حابس عن تميم وعيينة بن حصن فرفضا، ورفض العباس بن مرداس عن بني سليم؛ لكن بني سليم لم يقروا العباس على رفضه. هنالك قال النبي: أما من تمسك منك بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه، وكذلك رُدَّت نساءُ هوازن وأبناؤها إليها بعد أن أعلنت إسلامها.

وسأل محمد وفد هوازن عن مالك بن عوف النصري. فلما علم أنه ما يزال بالطائف مع ثقيف، طلب إليهم أن يبلغوه: أنه إن أتاه مسلمًا رد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل. ولم يبطئ مالك حين علم بوعد الرسول أن أسرج فرسه في سر من ثقيف، وأن نجا بها حتى لحق بالرسول، فأعلن إسلامه فأخذ أهله وماله ومائة من الإبل. وأوجس الناس خيفة إن أفشى محمد هذه الأعطيات لمن يفدون عليه أن تنقص من قسمتهم من الفيء، فألحوا في أن يأخذ كل فيأه وتهامسوا بذلك. فلما بلغ الهمس النبي وقف إلى جانب بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها وقال: «أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم.» وطلب إلى كلٍّ أن يرد ما غنم حتى تكون القسمة العدل، «فمن أخذ شيئًا في غير عدل ولو كان إبرة كان على أهله عارًا ونارًا وشنارًا إلى يوم القيامة.»

قال محمد هذه العبارة مغضبًا بعد أن ردُّوا إليه رداءه الذي أخذوا، وبعد أن صاح بهم: ردوا إليَّ ردائي أيها الناس. فوالله لو أن لكم بعدد شجر تهامة نعمًا لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلًا ولا جبانًا ولا كذَّابًا. ثم إنه خمس الغنيمة وأعطى من خُمسه الذين كانوا إلى أيام أشد الناس عداوة له نصيبًا على نصيبهم، فأعطى مائة من الإبل كلًّا من أبي سفيان وابنه معاوية والحارث بن الحارث بن كلدة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى والأشراف ورؤساء العشائر ممن تألف بعد فتح مكة؛ وأعطى خمسين من الإبل من كانوا دون هؤلاء شأنًا ومكانةً. وقد بلغ عدد الذين أعطاهم عشرات. وبدا محمد يومئذ غاية من السماحة والكرم مما جعل أعداء الأمس تنطلق ألسنتهم بجميل الثناء عليه. ولم يدع لأحد من هؤلاء المؤلفة قلوبهم حاجة إلا قضاها. أعطى عباس بن مرداس عددًا من الإبل لم يرضه وعاتبه على أن فضَّل عليه عيينة والأقرع وغيرهما. فقال النبي: اذهبوا به فاقطعوا عني لسانه. فأعطوه حتى رضي، وكان ذلك قطع لسانه.

على أن هذا الذي تألف به النبي قلوب من كانوا إلى أمس أعداءه، قد جعل الأنصار يتحدث بعضهم إلى بعض فيما صنع الرسول ويقول بعضهم لبعض: «لقي والله رسول الله قومه.» ورأى سعد بن عبادة أن يبلغ النبي مقالة الأنصار ويؤيدهم فيها؛ فقال له النبي: «اجمع لي قومك في هذه الحظيرة.» فجمعهم سعد وأتاهم النبي فدار الحوار الآتي:

محمد : يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟! ألم آتكم ضُلَّالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداءً فألَّف الله بين قلوبكم؟
الأنصار : بلى! الله ورسوله أمَنُّ وأفضل.
محمد : ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟!
الأنصار : بماذا نجيبك يا رسول الله ولرسوله المنُّ والفضل.
محمد : أما والله لو شئتم لقلتم فلصدَقْتُم ولصُدِّقْتُم: أتيتنا مكذَّبًا فصدَّقناك، ومخذولًا فنصرناك وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في لُعاعة٦ من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. ولو سلك الناس شِعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.

قال النبي هذه العبارات وكله تأثُّر، وكله فيض من الحب لهؤلاء الذين بايعوه ونصروه واعتزوا به وأعزُّوه، حتى بلغ من تأثره أن بكى الأنصار وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا.

وكذلك أظهر النبي رغبةً عن هذا المال الذي غنم في حنين والذي بلغ ما لم يبلغه فيء من قبل. أظهر رغبته عنه، وجعله وسيلة تُتَأَلَّف بها قلوب الذين كانوا، إلى أسابيع قليلة، مشركين ليروا في الدين الجديد سعادة الدنيا والآخرة. وإذا كان محمد قد عنَّاه أمر هذا المال في قسمته حتى لقد كاد المسلمون يتهمونه، وإذا هو كان قد أغضب الأنصار بما أعطى المؤلفة قلوبهم، فإنه قد أظهر من العدل ومن بعد النظر ومن حسن السياسة ما مكَّنه من أن يعود بهذه الألوف من العرب وكلهم راضية نفسه، مطمئن قلبه، مستعد لأن يهب حياته في سبيل الله.

وخرج الرسول من الجعرانة معتمرًا إلى مكة. فلما قضى عمرته استخلف عتَّاب بن أسيد على أم القرى، وخلف معه معاذ بن جبل ليفقِّه الناس في دينهم ويعلِّمهم القرآن، وعاد هو والأنصار والمهاجرون قافلين إلى المدينة ليقيم النبيُّ بها ريثما يرزقه الله ابنه إبراهيم، وليطمئن إلى شيء من سكينة الحياة زمنًا ثم يتجهز إلى غزوة تبوك بالشام.

١  ربه: ملكه وساسه.
٢  شجار: مركب مكشوف دون الهودج، ويقال له مشجر.
٣  سورة التوبة الآيات من ٢٥ إلى ٢٨.
٤  الحائط: البستان.
٥  أي أرضعناه.
٦  اللعاعة: الشيء اليسير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤