التَّطوُّر قَبْلَ مَذْهَب التطوُّر

إن اختلاط الأنساب بين أنواع الحيوان خاطر قديم توارثه الأقدمون من أزمنة مجهولة، وندرت أمة من أمم السلف البعيد لم تتواتر فيها الأخبار والأساطير عن التناسل بين أنواع الحيوان، أو بين الإنسان والحيوان، أو بين الإنس والجن، أو بين الإنس وأرباب الأساطير المشبهين بالإنسان. ومرد هذه الأخبار والأساطير — على الأكثر — إلى جهل الأوائل بوظائف الأعضاء، وجهلهم بالشروط الحيوية التي تلزم للحمل والولادة وإمكان التناسل بين الأزواج المستعدة للتناسل في النوع الإنساني، فضلًا عن سائر الأنواع، فكل ما يلد من نوعه صالح عندهم للتوليد من الأنواع الأخرى من الأحياء.

وقد سبق القول بالتطور وتدرج الكائنات كما سبق القول بتحول الأنواع وتناسلها، ولكن لعلة غير تلك العلة مردها — على الأرجح — إلى المفاضلة والترتيب بين الكائنات على حسب حظها من الحياة، أو من مشابهة الأحياء، ثم نشأت علوم الكيمياء والطب والزراعة، فكان للعلم عمله في التفرقة بين المواد الكيمية المعدنية والنباتية والحيوانية، واشترك الأحياء وغير الأحياء في مباحث الكيمياء، ثم جاءت في مباحث المتأخرين مقابلة الكيمياء العضوية بالكيمياء غير العضوية.

ومما يشبه القول بتطور الكائنات وتدرجها قول الفارابي في شرحه لأقوال المعلم الأول من كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة»:

إن ترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولًا أخسها، ثم الأفضل فالأفضل، إلى أن تنتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه، فأخسها المادة الأولى المشتركة، والأفضل منها الأسطقسات المعدنية، ثم النبات، ثم الحيوان غير الناطق، وليس بعد الحيوان الناطق أفضل منه.

ويذهب الفارابي على هذا الترتيب في التفرقة بين الإنسان والإنسان بمقدار حظه من القوة الناطقة، فيجيز أن يكون بعض أشباه الآدميين بالصورة الجسدية غير محاسبين، أو غير أهل للحياة الأخرى.

ويقول الكتبي١ وهو يتكلم عن طبائع القرد: «إن هذا الحيوان عند المتكلمين في الطبائع مركب من إنسان وبهيمة، وهو من تدريج الطبيعة من البهيمة إلى الإنسان.»

ويقول القزويني صاحب «عجائب المخلوقات» بعد تقسيمه الأجسام إلى نامٍ وغير نامٍ، وهو ما يقابل اليوم تقسيمها إلى العضوي وغير العضوي: إن «أول مراتب هذه الكائنات تراب، وآخرها نفس ملكية طاهرة، فإن المعادن متصلة أولها بالتراب أو الماء، وآخرها بالنبات، والنبات متصل أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره بالإنسان، والنفوس الإنسانية متصلة أولها بالحيوان وآخرها بالنفوس الملكية.»

وهذا الانتقال من المشابهة بالجسد إلى المشابهة بالنفس شبيه باحتراس النشوئيين المحدثين عند التفرقة بين الإنسان من جانبه الحيواني، والإنسان من جانبه الروحي، أو جانب القوى الأدبية الوجدانية.

ويقول إخوان الصفاء في رسالتهم العاشرة:

اعلم — يا أخي — أن أول مرتبة النباتية أو دونها مما يلي التراب هي خضراء الدمن، وآخرها وأشرفها مما يلي الحيوانية النخل؛ وذلك لأن خضراء الدمن ليست بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم يصيبها المطر فتصبح بالغداة خضراء كأنها نبت زرع وحشائش، فإذا أصابها حر الشمس نصف النهار تجف، ثم تصبح بالغد مثل ذلك من نداوة الليل وطيب النسيم، ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة لتقارب ما بينها.

وأما النخل فهو آخر مرتبة النبات مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أحواله وأفعاله مباين لأحوال النباتات وإن كان جسمًا نباتيًّا، وفي النبات نوع آخر فعله أيضًا فعل النفس الحيوانية، وإن كان جسمًا نباتيًّا، وهو الأكشوت، وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النبات، ولا له ورق كأوراقها، بل هو يلتف إلى الأشجار والزروع والبقول والحشائش ويمتص من رطوبتها، ويتغذى كما يفعل الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات.

وإن أدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة، وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة تنبت في تلك الصخور التي تكون في بعض سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة، وتنبسط يمنة ويسرة تطلب مادة تغذي بها جسمها، فإذا أحست رطوبة ولينًا انبسطت إليه، وإن أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرًا من مؤذٍ لجسمها، ومفسد لهيكلها، وليس لها سمع ولا بصر ولا شم إلا ذوق اللمس حسب.

وهكذا أكثر الديدان التي تكون في الطين في قعر البحر وعمق الأنهار؛ ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية لم تعطِ الحيوان عضوًا لا يحتاج إليه في وقت جر المنفعة أو دفع المضرة؛ لأنها لو أعطتها ما لا تحتاج إليه لكان وبالًا عليها في حفظها وبقائها: فهذا النوع حيواني نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ومن أجل أنه يتحرك بجسمه حركة اختيارية فهو حيوان، ومن أجل أنه ليس له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة، وتلك الحاسة أيضًا هي التي يشاركها النبات فيها، وذلك أن النبات له حس اللمس حسب.

ويقول ابن مسكويه — من علماء القرن الرابع والخامس للهجرة — في كتابه «تهذيب الأخلاق» بعنوان الأجسام الطبيعية: «إن الأجسام الطبيعية كلها تشترك في الحد الذي يعمها، ثم تتفاضل بقبول الآثار الشريفة والصور التي تحدث فيها، فإن الجماد منها إذا قبل صورة مقبولة عند الناس؛ صار بها أفضل من الطينة الأولى التي لا تقبل تلك الصورة، فإذا بلغ إلى أن يقبل صورة النبات صار بزيادة هذه الصورة أفضل من الجماد.

وتلك الزيادة هي الاغتذاء والنمو، والامتداد في الأقطار، واجتذاب ما يوافقه من الأرض والماء، وترك ما لا يوافقه، ونفض الفضلات التي تتولد فيه من جسمه بالصموغ، وهذه الأشياء التي ينفصل بها النبات من الجماد، وهي حال زائدة على الجسمية التي حددناها وكانت حاصلة في الجماد، وهذه الحالة الزائدة في النبات التي شرف بها على الجماد تتفاضل.

وذلك أن بعضه يفارق الجماد مفارقة يسيرة كالمرجان وأشباهه، ثم يتدرج فيها فيحصل له من هذه الزيادة شيء بعد شيء، فبعضه ينبت من غير زرع ولا بذر، ولا يحفظ نوعه بالثمر والبذر، ويكفيه في حدوثه امتزاج العناصر وهبوب الرياح وطلوع الشمس؛ فذلك هو في أفق الجمادات وقريب الحال منها، ثم تزداد هذه الفضيلة في النبات فيفضل بعضه على بعض بنظام وترتيب، حتى تظهر فيه قوة الإثمار وحفظ النوع بالبذر الذي يخلف به مثله، فتصير هذه الحالة زائدة فيه ومميزة له عن حال ما قبله.

ثم تقوى هذه الفضيلة فيه حتى يصير فضل الثالث على الثاني كفضل الثاني على الأول، ولا يزال يشرف ويفضل بعضه على بعض حتى يبلغ إلى أفقه، ويصير في أفق الحيوان، وهي كرام الشجر كالزيتون والرمان والكرم وأصناف الفواكه، إلا أنها بَعْدُ مختلطةُ القوى؛ أعني أن قوى ذكورها وإناثها غير متميزة، فهي تحمل وتلد المثل ولم تبلغ غاية أفقها الذي يتصل بأفق الحيوان، ثم تزداد وتمعن في هذا الأفق إلى أن تصير في أفق الحيوان؛ فلا تحتمل زيادة.

وذلك أنها إن قبلت زيادة يسيرة صارت حيوانًا وخرجت عن أفق النبات، فحينئذ تتميز قواها، ويحصل فيها ذكورة وأنوثة، وتقبل من فصائل الحيوان أمورًا تتميز بها عن سائر النبات والشجر؛ كالنخل الذي طالع أفق الحيوان بالخواص العشر المذكورة في مواضعها، ولم يبق بينه وبين الحيوان إلا مرتبة واحدة، وهي الاطلاع من الأرض والسعي إلى الغذاء. وقد روي في الخبر ما هو كالإشارة أو كالرمز إلى هذا المعنى، وهو قوله : «أكرموا عماتكم النخل؛ فإنها خُلقت من بقية طينة آدم.»

ويستطرد ابن مسكويه إلى ذكر الحيوان بما يشبه قول المحدثين عن أسلحة الحيوان في تنازع البقاء، فيقول: إن الحيوان «إن كان ضعيفًا لم يعطَ سلاحًا البتة، بل أُعطي آلة الهرب كشدة العدو والقدرة على الحيل التي تنجيه من مخاوفه، وأنت ترى ذلك عيانًا من الحيوان الذي أُعطي القرون التي تجري له مجرى الرماح، والذي أُعطي الأنياب والمخالب التي تجري له مجرى السكاكين والخناجر، والذي أُعطي آلة الرمي التي تجري له مجرى النبل والنشاب، والذي أُعطي الحوافز التي تجري له مجرى الدبوس والطبرزين. فأما ما لم يُعطَ سلاحًا لضعفه عن استعماله، ولقلة شجاعته ونقصان قوته الغضبية، ولأنه لو أعطيه لصار كَلًّا عليه، فقد أُعطي آلة الهرب والحيل بجودة العدو والخفة والختل والمراوغة؛ كالأرانب وأشباهها. فأما الإنسان فقد عوض من هذه الآلات كلها بأن هُدي إلى استعمالها كلها.»

ثم يتدرج إلى أقرب الحيوان إلى الإنسان، وهو «الذي يحاكي الإنسان من تلقاء نفسه، ويتشبه به من غير تعليم كالقردة وما أشبهها، ويبلغ من ذكائها أن تستكفي في التأدب بأن ترى الإنسان يعمل عملًا فتعمل مثله، من غير أن تحوج الإنسان إلى تعب بها ورياضة لها. وهذه غاية أفق الحيوان التي إن تجاوزها وقبل زيادة يسيرة خرج بها عن أفقه، وصار في أفق الإنسان الذي يقبل العقل والتمييز والنطق والآلات التي يستعملها، والصور التي تلائمها.

ولا يقف التدرج عند أفق الإنسان، بل يتفاضل الناس بين أمم لا تتميز عن القرود إلا بمرتبة يسيرة، وأمم تتزايد فيهم قوة التمييز والفهم إلى أن يصيروا إلى وسط الأقاليم، فيحدث فيهم الذكاء وسرعة الفهم والقبول للفضائل، وإلى هذا الموضع ينتهي فعل الطبيعة التي وكلها الله عز وجل بالمحسوسات، ثم يستعد بهذا القبول لاكتساب الفضائل واقتنائها بالإرادة والسعي والاجتهاد الذي ذكرناه فيما تقدم، حتى يصل إلى آخر أفقه؛ فإذا صار إلى أفقه اتصل بأول أفق الملائكة، وهذا أعلى مرتبة الإنسان.

وعندها تتأحد الموجودات ويتصل أولها بآخرها، وهو الذي يُسمى دائرة الوجود؛ لأن الدائرة هي التي قيل في حدها: إنها خط واحد يبتدئ بالحركة من نقطة وينتهي إليها بعينها. ودائرة الوجود هي المتحدة التي جعلت الكثرة وحدة، وهي التي تدل دلالة صادقة برهانية على موجدها وحكمته وقدرته ووجوده، تبارك اسمه، وتعالى جده، وتقدس ذكره».

إلى أن يقول مخاطبًا طالب المعرفة: «وحدث لك الإيمان الصحيح، وشهدت ما غاب عن غيرك من الدهماء، وبلغت أن تتدرج إلى العلوم الشريفة المكونة التي مبدؤها تعلم المنطق؛ فإنه الآلة في تقويم الفهم والعقل الغريزي، ثم الوصول به إلى معرفة الخلائق وطباعها، ثم التعلق بها والتوسع فيها، والتوصل منها إلى العلوم الإلهية، وحينئذ تستعد لقبول مواهب الله عز وجل وعطاياه؛ فيأتيك الفيض الإلهي، فتسكن عن قلق الطبيعة وحركاتها نحو الشهوات الحيوانية، وتلحظ المرتبة التي ترقيت منها أولًا من مراتب الموجودات، وعلمت أن كل مرتبة منها محتاجة إلى ما قبلها في وجودها.

وعلمت أن الإنسان لا يتم له كماله إلا بعد أن يصل إلى ما قبله، وإذا صار إنسانًا كاملًا وبلغ غاية أفقه أشرق نور الأفق الأعلى عليه، وصار إما حكيمًا تامًّا تأتيه الإلهامات فيما يتصرف فيه من المحاولات الحكمية، والتأييدات العلوية في التصويرات العقلية، وإما نبيًّا مؤيدًا يأتيه الوحي على ضروب المنازل التي تكون له عند الله تعالى ذكره، فيكون حينئذ واسطة بين الملأ الأعلى والملأ الأسفل؛ ولذلك تكثر حاجات الناس إلى المقومين والمنفعين.»

وفحوى كلام ابن مسكويه أن الترقي الطبيعي ينتهي إلى غاية وسع الطبيعة من ترقية الجسد، وإتمام حسه وأعضائه، ثم يبدأ الترقي بالعقل والخلق من أفق الحيوان إلى ما هو أعلى وأرفع وأقرب إلى الملأ الأعلى.

ولابن مسكويه بحث كهذا في كتابه «الفوز الأصغر» يبدأ فيه من البداءة، وهي ما سماه بالمركز فيقول: «إن أول أثر ظهر في عالمنا هذا من نحو المركز بعد امتزاج العناصر الأولى أثر حركة النفس في النبات، وذلك أنه تميَّز عن الجماد بالحركة والاغتذاء، وللنبات في قبول الأثر مراتب مختلفة لا تُحصى، إلا أنها مقسمة إلى ثلاث مراتب: الأولى والوسطى والأخيرة؛ ليكون الكلام عليه أظهر.» ثم ينتهي كما انتهى بكلامه في تهذيب الأخلاق إلى آخر مرتبة الحيوان، وهي «مراتب القرود وأشباهها من الحيوان الذي قارب الإنسان في خلقته الإنسانية، وليس بينها إلا اليسير الذي إذا تجاوزه صار إنسانًا».

•••

وأشار ابن خلدون إلى هذا التدرج — أو التطور — فترقى به من المعدن إلى القرد إلى الإنسان، وعلَّل اختلاف الناس بتأثير الإقليم وأحوال المعيشة على الأبدان والأخلاق.

قال: «إن عالم التكوين ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذور له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان، مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لها إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول الأفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريجه التكويني إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينتهِ إليه الفكر والروية بالفعل. وكان ذلك أول أفق الإنسان من بعده، وذلك غاية شهودنا.»

وينفي ابن خلدون أوهام القائلين بنسبة الألوان والطبائع إلى الدعوات أو اللعنات فيقول: إن «بعض النسابين ممن لا علم لهم بطبائع الكائنات توهَّم أن السودان — وهم ولد حام بن نوح — اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه، وفيما جعل الله من الرق في عقبه، ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة، وليس فيه ذكر السواد، وإنما دعا عليه أن يكون ولده عبيدًا لولد إخوته لا غير. وفي القول بنسبة السواد إلى حام علة من طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء، وفيما يتكون فيه من الحيوانات.»

ويقول في موضع آخر: «استولى الحر على أبدانهم وفي أصل تكوينهم، فكان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم، وكذلك يلحق بهم قليلًا أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته.»

ويصحح بعض المتقدمين ما لعله سبق إلى الوهم من القول بتدرج الكائنات؛ إذ يُخيل إلى الجاهلين بمعناه أنه يعني الكائنات في درجة من مراتبه المترقية، وإنما حقيقته كما قال الخازني: «إننا إذا قلنا: إن الإنسان بلغ حد الكمال وكان يومًا عجلًا، فصار حمارًا، فغدا حصانًا، فأضحى بعده قردًا، فليس معنى ذلك أنه كان يومًا عجلًا فصار حمارًا، فغدا حصانًا، فأضحى بعده قردًا حتى صار في النهاية إنسانًا.»

فليس عندهم من الضروري أن يكون كل كائن رفيع قد تنقل قبل ذلك بين أطوار الكائنات التي هي دونه، وإن كان جميع المتكلمين في أطوار الكائنات الحية لا يمنعون إمكان التسافد بين الحشرات والحيوانات المختلفة، كما جاء في كتب الحيوان جميعًا، وأسهب فيه الجاحظ على الخصوص إسهابًا سَلِمَ فيه من كثير من خرافات المتقدمين عليه واللاحقين به في هذا الباب.

وأكثرهم ترديدًا لهذه الخرافات القزويني صاحب عجائب المخلوقات، فهو حافل بالأساطير عن اختلاط أنواع الأحياء، وعن الخلائق الأسطورية التي انقرضت ولم يبق منها غير آثارها وأخبارها، وعجائب المخلوقات التي تتوافر الأحاديث عن وجودها في الأطراف النائية التي لم يصل إليها أحد غير من ضلَّ طريقه، أو جنحت به السفن من الملاحين والمغرَّرين.

وهذه الأساطير — كما قلنا في غير هذا الكتاب —٢ تنفعنا الآن أكثر مما تنفعنا حقائق تلك الكتب؛ «لأنها هي البقية الباقية لنا من تلك الأوهام التي تسلطت على العقل البشري في أزمانه الخالية، وهي المفتاح الذي ليس لدينا مفتاح سواه لخزانة المخيلة وما أكنته من تصورات الإنسان ووجدانه، وما انطبع فيها من البدائه العميقة المتغلغلة»، التي عودتنا أن تنطق بالأحاجي والألغاز، وتبهم حتى على صاحبها، وهو الذي أوجدها وصوَّرها.

وهذا الكتاب الذي نحن بصدده مكتظ بتفصيل أنواع هذه الحيوانات، وما يشاكل منها في البر والبحر؛ فمنها كلب الماء، وقنفذ الماء، وبقرة الماء، وفرس الماء، وزعموا أنها تلد من خيل الأرض، ومنها إنسان الماء، ويشبه الإنسان إلا أن له ذَنَبًا. وقد جاء شخص بواحد منه — على قول القزويني — إلى بغداد، فعرضه على الناس، وذكر أنه في بحر الشام ببعض الأوقات يطلع من الماء إلى الحاضرة إنسانٌ، وله لحية بيضاء يسمونه شيخ البحر، ويبقى أيامًا ثم ينزل، فإذا رآه الناس يستبشرون بالخصب.

وحكى أن بعض الملوك حُمل إليه إنسان مائي، فأراد الملك أن يعرف حاله، فزوجه امرأة، فجاء منها ولد يفهم كلام الأبوين، فقيل للولد: ماذا يقول أبوك؟ قال: أذناب الحيوان كلها على أسافلها، فما بال هؤلاء أذنابهم على وجوههم. ونقل عن يعقوب بن إسحاق السراج أن رجلًا ركب البحر فألقته الريح إلى جزيرة «فأتى قوم وجوههم كوجوه الكلاب، وسائر أبدانهم كأبدان الناس».

وهذه الأساطير وما شاكلها قد تدرس على أنها تعبيرات من عمل المخيلة في فهم الصورة البعيدة بزمانها أو مكانها، وقد تدرس على أنها ترجمان للوعي الباطن الذي استقر في أعماق بديهة الإنسان وغرائزه الوراثية، ولا بد أن تُدرس في جميع الأحوال لأنها مما يصح أن يعتبر «مسودات» للإدراك الإنساني تظهر في كل عصر، ولا تزال في كل عصر معلقة بين الشك واليقين، وبين الوهم والصدق في انتظار التصحيح والتنقيح.

١  محمد بن شاكر بن عبد الرحمن الكتبي الداراني، ولد في داريا من قرى دمشق وتوفي سنة ٧٦٤ وأشهر كتبه المطبوعة «فوات الوفيات».
٢  كتاب القصول للمؤلف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤