المرحلة الرأسمالية

مُقدِّمة

لم يكن الانتقال من نظام الرِّقِّ إلى المرحلة الإقطاعية انتقالًا مُفاجئًا، ولم يكن يُمثِّل ثورةً إنتاجيَّةً وعقلية بالمعنى الصحيح؛ ذلك لأن القوى المُنتِجة في نظام الإقطاع، وهي رقيق الأرض، لم تكن تختلِف كثيرًا عن العبيد في نظام الرِّقِّ القديم. كذلك فإن شكلَ الإنتاج لم يَطرأ عليه تَغيُّر أساسي؛ إذ إنه ظلَّ في أساسه زِراعيًّا، فضلًا عن أنَّ حجم الإنتاج كان محدودًا، وكانت أساليبه لا تختلِف كثيرًا في بَساطتها عن نَظيرتها في نظام الرِّق.

أمَّا الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى المرحلة الرأسمالية، فكان انتقالًا حاسِمًا بحق. فقد طرأ على شكل الإنتاج تَحوُّل أساسي، بحيث لم تعُد الزراعة هي المصدر الأساسي لثَروة المجتمع، بل حلَّت محلَّها الصناعة، التي لم يكن لها في المراحِل السابقة إلَّا دَور محدود، يُناظِر الأساليب الساذَجة التي كانت تُستخدَم في ممارسة الحِرَف اليدوية. كذلك فإن القوى الإنتاجية قد طرأ عليها تَغيُّر أساسي، يَتمثَّل في الانتقال من رقيق الأرض إلى العامل الأجير. ولعلَّ أهمَّ مظاهر هذا التغيُّر هو أن الاستِبداد الذي كان يَحلُّ على رقيق الأرض، أو حتى على العبد، كان مُنصبًّا عليه مباشرة من حيث هو «شخص»، أمَّا العامل الأجير فقد أصبح يَخضَع لنوع غير مُباشرٍ من الاستبداد، لا يَنصبُّ على شخصه، بل عليه من حيث هو ينتمي إلى «طبقة». فصاحب العمل لا يَستغلُّ هذا العامل أو ذاك على وَجه التحديد، بل هو يَستغلُّ العمَّال من حيث هم أجيرون، أي من حيث إنَّ لهم وَضعًا طبقيًّا خاصًّا.

ولقد كان من الطبيعي أن ينعكِس تأثير هذه التَّغيُّرات الحاسِمة على العادات العقلية والنَّزَعات الفكرية للإنسان في العصر الرأسمالي. ومع ذلك فإن هذه التَّغيُّرات لم تحدُث دفعةً واحدة، بل حدَثَت مُتدرِّجةً على مراحل مُتعدِّدة، يختلف تعدادُها باختلاف وِجهة النظر المُتَّبَعة في بحثها. على أننا نستطيع، بالنسبة إلى أغراض بَحثِنا، أن نَلمَح فارقًا أساسيًّا بين مَرحلتَين للرأسمالية، كانت لكلٍّ منهما خصائصها المُميِّزة (مع وجود سماتٍ هامَّة مُشتركة بينهما بطبيعة الحال)، هما: مرحلة الرأسمالية المُبكِّرة، ومرحلة الرأسمالية المُكتمِلة. وسوف ندرُس كلًّا من هاتَين المرحلَتَين من الزاوية التي يَنصبُّ عليها موضوع هذا الفصل، وأعني بها التأثير الفكري والمعنوي الذي يترتَّب على كلِّ مرحلةٍ من مراحل التطوُّر الاجتماعي.

(١) الرأسمالية المُبكرة

كانت أهمُّ المعالِم التي تُنبئ بانهِيار المرحلة الإقطاعية وبداية ظهور مرحلةٍ جديدة في التطوُّر الاجتماعي هي:
  • (١)

    ظهور فِئةٍ مُنتِجةٍ مُستقلَّة هي فئة «الصُّنَّاع» التي يُمكن أن يُعدَّ ظهورُها مرحلةً وسَطًا بين الاقتصاد الإقطاعي الذي كان زراعيًّا، ولم يكن يَعرِف إنتاجًا حِرَفِيًّا مُنظَّمًا، وبين المرحلة الصناعية المُكتمِلة في العصر الحديث. هذه الفئة لم تكن قد تحوَّلَت بعدُ إلى «طبقةٍ عاملة» بالمعنى المعروف حديثًا لهذه الكلمة، ولم تكن قد انفصلَت تمامًا عن الواقِع الذي تُنتِج فيه ومن أجله، بل كانت لا تزال لها صِلاتٌ قوية بإنتاجها وبالأغراض التي تُنتِج من أجلِها.

  • (٢)

    ظهور نَمَطٍ اقتصادي لا يَستهدِف الاستهلاك في نفس الوحدة المُنتجة، أي ظهور البوادر الأولى «للسوق»، التي ينفصِل فيها المُنتِج عن المُستهلِك. ومع ذلك فإن المَعالِم الكاملة للسُّوق، من حيث هي كِيان لا شخصي مجهول لا يعرِف العامل المُنتِج عنه شيئًا سوى أنه قوَّة تتحكم فيه دون أن يدري عنها شيئًا — هذه المعالم لم تكن قد تحدَّدَت بعدُ بوضوحٍ في هذه الفترة.

  • (٣)

    ولعلَّ أهمَّ مظاهر التحوُّل إلى المرحلة الجديدة هو ظهور التاجِر من حيث هو قوَّة رئيسية في الاقتصاد، تتحمَّل مُخاطَرة الشراء من المُنتِج لكي تبيع لمُستهلكٍ لا صِلة له بهذا المُنتِج. ومن المُعترَف به أن التجارة قد عُرفَت منذ أبعدِ العصور، ولكن دَورها في هذا العصر كان مُتميِّزًا، فقد أصبح التاجر يَعتمِد على نوعٍ جديدٍ من الثروة، لم يكن يَعرِفه العصر الإقطاعي الذي كانت ملكية الأرض فيه هي الشكل الوحيد المَعروف للثروة. هذا النوع الجديد هو رأس المال التجاري الذي أصبحَت له أهمية فعَّالة في شراء المواد والأدوات اللازمة للإنتاج، ولتخزين المنتجات، فضلًا عن أهميته في الائتمان والمُعاملات المَصرِفية.

والواقِع أن الدَّور الأكبر الذي قام به التاجر في تطوير الاقتصاد نحوَ المرحلة الرأسمالية، كان يَتمثَّل في تأكيده لأهميَّةِ المال كقوَّةٍ جديدة لها وَزنُها الفعَّال في المجال الاقتصادي. فبعدَ أن كانت الأرض، وقوة العمل التي كان يبذُلها فيها الفلَّاحون، هي المصدر الأساسي لإنتاج الثروة في المجتمع، أصبح هناك مصدر جديد لا صِلةَ له بأيِّ شكلٍ مباشر من أشكال الإنتاج (لأن المال النقدي لا يستطيع، بذاته، أن يُنتِج شيئًا). ولقد كان هذا المصدر الجديد هو الذي أعطى المرحلة الرأسمالية شكلَها المُمَيَّز، وهو نقطة البداية في تحديد المعالِم الرئيسية لهذه المرحلة الجديدة.

تأثير التَّعامُل النقدي

لكي نُدرِك قوَّة التأثير الماديِّ والمَعنويِّ الذي أحدَثَه التعامُل النقدي في العصر الرأسمالي المبكر، ينبغي علينا أن نبدأ بكلمةٍ مُوجَزة نعرِض فيها لطبيعة النقود من حيث هي قوة اقتصادية؛ فالنُّقود وَسيط يَتمُّ عن طريقه التَّبادُل، وهي وسيلة لتخزين الثروة، ومِقياسٌ للقِيمة، وإن كانت مِقياسًا مُتقلِّبًا لا يتَّسِم بالثَّبات. وقد كانت النقود تتَّخِذ في البداية شكل قِطَعٍ من المَعادن (كالذهب أو الفضة أو النُّحاس) تُوزَن عند إجراء كلِّ تعاملٍ أو صفقة، ثم صُنِعت قِطَع من المعدِن لها وَزنٌ ثابِت وسُمك معلوم، وأصبحت الحكومات ضامِنةً لها، وبهذه الوَسيلة أصبَح تبادُل السِّلع أيْسرَ بكثيرٍ مما كان عليه في نظام المُقايَضة؛ إذ إن هذا النظام الأخير يُحتِّم على الشخص الذي يريد استبدال سِلَع أن يجِد شخصًا آخَر لديه ما يُريد من السِّلَع، ويريد ما لدَيه منها، وهو شرط لا يُمكن تحقيقه في كلِّ الأحوال. ولذلك كانت النقود عامِلًا حاسِمًا في ازدهار التجارة، وفي تعميق تقسيم العمل وتَوسيع نِطاقه. وقد يَسَّرت النقود تكديس الفوائض في الثروة، وبالتالي تكوين رأس المال، وذلك لسُهولة تَخزينها وإمكان جمعها في حَيِّزٍ محدود، ولأنها لا تَفسَد كالحاصِلات الزراعية مثلًا، فضلًا عن سُهولة نقلِها من مصادر مُتعدِّدة، بحيث يُصبِح من السَّهل جمع مُدَّخرات أناسٍ كثيرين في مكانٍ واحِدٍ واستغلالِها في مشروعٍ أوسَعَ نطاقًا.

ولا يُمكن القول إنَّ هذا التَّعامُل النَّقدي قد بدأ لأول مرَّةٍ في الفترة التي نَتناوَلُها هنا بالعَرْض، إذ إنَّ بَوادِرَه الأولى قد بدأتْ منذ الحضارات القديمة، كالحضارة السُّومَرِيَّة، التي ظهرت فيها أول بدايات نظام الائتمان ودَفْع الفوائد لقاء القروض، كذلك تَضمَّن قانون حمورابي الذي يرجِع تاريخه إلى حَوالي ١٧٥٠ قبل الميلاد نُصوصًا خاصَّةً بالعقود وبالتَّعهُّدات والالْتِزامات في مجال الأعمال الاقتصادية. ولكنَّ أهمِّيَّة التَّعامُل النقدي، بوصفِه عاملًا حاسِمًا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، لم تظهَر بوضوحٍ إلَّا في العهد المُبكر للرأسمالية.

ذلك لأن مُرونةَ المال النقدي وسهولة تبادُله وتشكيله بأشكالٍ مُختلفة، أدَّت إلى تحرُّر الأفراد الذين يَملكونه من الارتِباط بالمكان الثابت الذي كان من قبلُ هو المَصدَر الوحيد للثروة، وأعني به الأرض الزراعية، وزيادة قُدرتِهم على التنقُّل من مكانٍ إلى آخر، بل من وَطنٍ إلى وَطن. وكان هذا من العوامِل الأساسيَّة التي أدَّت إلى أن تُصبِح المُدُن مركز الثِّقَل في الحياة الاقتصادية في العصر الرأسمالي، بعد أن كانت هذه الحياة تتركز من قبل في الريف. فالحضارة الرأسمالية حضارة مُدن قبل كلِّ شيء، بل إن بقايا الطبَقة الإقطاعية حين شعَرَت بالضَّعف، نظرًا إلى ثَبات دَخلِها وافتِقارِها إلى المُرونة، أخذَت في بَيع أراضيها وتحوَّلَت إلى المدينة مُستهدِفةً تحقيق مَطالِبِها فيها، وبذلك ازدادَت أهمية الريف ضآلة، وساهَم الإقطاع في هدْم نفسه بنفسه. وكلَّما تَوطَّدَت دعائم حياة الحضر، ازداد المجتمع تعلُّقًا بها، إذ يجِد في المدن خيرَ مجالٍ لتبادُل السِّلع، وكذلك لتبادُل الأفكار، ذلك لأن التبادُل التجاري كان على الدَّوام أيسرَ الطرُق لتبادُل الخِبرات والتجارب بين مُختلِف الجماعات.

وكما أدَّى التبادُل النقدي إلى زيادة المُرونة في التنقُّل المكاني، فإنه أدَّى أيضًا إلى زيادة المُرونة الاجتماعية؛ ذلك لأنَّ مكانة الفرْد لم تَعُد مُتوقِّفةً على ما يملِكه من الأرض الزراعية، أو على لقَبِه الوِراثي، بل أصبحت تتوقَّف على مِقدار ما يَستطيع تكدِيسَه من المال. والمال قِيمة اقتصادية تَجريديَّة، لا شأن لها بالأشخاص، تُعطي من يملِكها — أيًّا كانت صِفاته الأخرى — قوةً ونفوذًا في المجتمع. وحين لا يعود للعوامل الشخصية دَور في تحديد طابع المِلكية، أي حين تُصبِح المِلكيَّة ذات صِبغةٍ لا شخصية مُحايِدة، فإن الفوارِق الجامِدة بين الطبقات تبدأ في الزَّوال، ويُصبِح الانتقال من طبقةٍ اجتماعية إلى طبقةٍ أخرى أمرًا مُمكنًا، إذا توافَرَ المال اللازِم. وهكذا فبينما كانت الوِراثة والأصْل العائلي تَحُول دُون انتقال أيِّ شخصٍ من الطبقات الدُّنيا إلى الطبقة العُليا، إلَّا في أحوالٍ نادِرة، فإن مِثل هذا الانفصال أصبح الآن أمرًا مُمكِنًا، بل إنَّ الطبقة العُليا القديمة أصبحَت عاجِزةً عن الاحتفاظ بمكانتها، وأصبحَت فُرَص من لا يَنتمون إلى هذه الطبقة، في الارتقاء أكبرَ من فُرَص كِبار المُلَّاك الوارثين؛ لأن أسلوب التَّعامُل النقدي والتجاري لم يكن غريبًا بالنسبة إلى الأوَّلِين.

وحتى في الحالات التي لم يكن فيها الارتقاء إلى الطبقة العُليا مُمكنًا، كان العامل الذي يَظلُّ في الطبقة الدُّنيا أكثر تَحرُّرًا من الفلاح المُرتبِط بأرض الإقطاعي في نواحٍ مُتعدِّدة؛ ذلك لأن العامِل يتلقى أجرَه نقدًا، على حين أن الثاني يتلقَّاه — في الأغلَب — عينًا. وحين يتَّخِذ الأجرُ صِبغةَ النقد القابِل للتَّداوُل الحرِّ في أشكالٍ لا حصر لها، يستطيع العامِل أن يُنفِقه كيفما يشاء وأينما شاء، ويُصبِح له بالتالي مَزيد من الحُرِّيات، من الوِجهة النظرية على الأقل.

وهكذا يَتَّضِح لنا أن شكلَ التَّبادُل النقدي لم يَقتصِر تأثيرُه على المجال الاقتصادي البحْتِ فحسْب، بل لقد امتدَّ هذا التأثير حتى أضْفى على الحياة بأسرها طابعًا جديدًا. وسوف تزداد هذه الحقيقة وُضوحًا عندما ندرُس السِّمات المُميِّزة للعصر الرأسمالي المُبكر.

السِّمات الفكرية للمرحلة الرأسمالية المُبكرة

  • (١)

    بينما كان العصر الإقطاعي عصر ثَباتٍ وجُمود في الأفكار والعادات والقِيَم، أصبح التغيير هو شِعار العصر الرأسمالي في مَراحِله الأولى؛ فلم يكن الإنسان في ذلك العصر يؤمن بوجود أيِّ نِظامٍ راسِخٍ لا يَتغيَّر، سواء في الطبيعة وفي المُجتمَع، بل كان يعتقِد اعتقادًا جازِمًا بأن قُدرَتَه على التغيير تَسري على كلِّ شيء، وبأنه لا تُوجَد عوائق تَمنعُه من استطلاع كل المجالات وإثبات فاعلِيَّته فيها.

  • (٢)

    كان ذلك عصرًا اكتشف فيه الإنسان نفسه والعالَم المُحيط به من جديد. فبعد أن كان اللاهُوتيُّون يُوهِمونه بأن العالَم الآخر هو وَحدَه الذي ينبغي أن تتعلَّق به آمال الإنسان وتتَّجِه نحوَه جهوده، أصبح يتَّجِه بكلِّ قُواه نحوَ استطلاع آفاق العالَم الطبيعي بكلِّ تفاصيله، وتَمثَّل ذلك في حركة الكشوف الجُغرافية التي تضاعَفَت بِسببها أبعاد العالَم المعروف للإنسان، وكُشِفَت فيها قارَّاتٌ جديدة مليئة بالثَّرَوات وإمكانات الاستغلال. كما تمثَّل في عكوف العُلَماء على كشف أسرار الطبيعة بمناهج واقِعيَّةٍ وتجريبية دقيقة، وحِرصهم على مُلاحظة تفاصيلها مُلاحظةً تشريحية دقيقة وكأنهم يكتشفون العالَم المُحيط بهم لأول مرَّة.

  • (٣)
    ولم يكن من المُمكِن أن يَتمَّ هذا التحوُّل لو لم يكن الإنسان في ذلك العصر قد أصبح مُتفائلًا مُعتدًّا بنفسه وبقُواه، مؤمنًا بأهمية العمل، وبأن كلَّ جهدٍ يبذُله لا بُدَّ أن يعود عليه بمزيدٍ من النَّفع والرَّخاء. ولقد كانت تلك بالفِعل سِمةً بارِزةً من سِمات المرحلة الرأسمالية المُبكرة، مَيَّزتْها بوضوحٍ عن المرحلة الإقطاعية التي كان يَسُودها الإحساس بالتشاؤم وبالانصِراف عن العالَم وبعدَم جدوى أيِّ جُهدٍ يبذُله الإنسان في هذه الحياة. وكان للعقيدة البروتستانتيَّة التي أخذت عندئذٍ في الانتِشار في أجزاءٍ هامَّة من أوروبا — بعدَ أن ظلَّت الكاثوليكية هي المَذهَب الرَّسمي للمَسيحيَّة طوال ما يقرُب من ألفٍ وخمسمائة عام — دَور هامٌّ في وَضْع أسُسِ هذه النظرية الجديدة إلى العالَم، بل إن بعض الكُتَّاب، مثل ماكس فيبر Max Weber وتاوني Tawney يَرَون أنَّ للبروتستانتيَّة تأثيرًا مُباشرًا في ظهور الرأسمالية؛ ذلك لأن الرُّوح البروتستانتية قد أزالَت العوائق التقليدية التي كانت تقِف حائلًا في وَجه الرَّغبة في التملُّك، ولم تكتَفِ بتأكيد أنَّ دافِع الرِّبح مَشروع، بل لقد نظرَت إلى السَّعي إلى الرِّبح على أنه أمرٌ تتَّجِه إليه الإرادة الإلهية مُباشرة. وكلُّ ما يَنهى عنه الله هو التَّرَف المُفرِط والتَّبديد، أمَّا الاستِخدام الرَّشيد للثروَة من أجل تحقيق مصالح الفرد والمُجتمَع فأمرٌ تدعو إليه العقيدة الجديدة بحَماسة. كذلك كانت هذه العقيدة تُعلي من قدْر العمل الدائب، المُستمر، الشاق، سواء كان عملًا يدويًّا أم عقليًّا، وفي ذلك كانت تختلِف اختلافًا واضحًا عمَّا تدعو إليه الفلسفة اليُونانية، مُمثَّلةً في قُطبيها الكبيرَين أفلاطون وأرسطو، من احتِقارٍ للعمَل اليدَويِّ واعتقاد بأنه يَحطُّ من قدْرِ من يَشتغِل به ويَنزِع عنه إنسانيَّته. وهكذا كانت البروتستانتية تحمِل بشدَّةٍ على حياة التكاسُل والاستِرخاء، حتى بالنِّسبة إلى من تَسمَح لهم ثروَتُهم بمِثلِ هذه الحياة. وقد بلَغ الأمر بالعقيدة الجديدة إلى حدِّ أنها دَعَت إلى مُمارَسة العمل لِذاتِه، بوصفِه شيئًا يأمُر به الله، لا من أجل ما يَجلُبه من جَزاء، وكان ذلك في رأي البعض مَظهرًا من مظاهر حاجة الرأسمالية في بداية نشأتِها إلى عُمَّال يُمكن استغلالُهم اقتصاديًّا على أساسٍ من العقيدة، وهو نَوع من التَّبرير لم يَعُد ضروريًّا بعد أن اكتملَت السيطَرَة الرأسمالية في مرحلةٍ لاحِقة من تاريخها.
  • (٤)

    على أنَّ هذا العصر، في تفضيله للنَّزَعات المُتعلِّقة بالدُّنيا على الرُّوح الزاهِدة، لم يكن على الإطلاق عصرًا لا دِينيًّا، وكلُّ ما في الأمر أنه كان مُضادًّا لسُلطات الكَهَنوت والكنيسة الرسمية، بقدْر ما كانت تضَع قيودًا على نشاط الإنسان في استغلال العالَم المُحيط به. وترتَّب على ذلك أنَّ الدِّين أصبح يُنظِّم العالم الداخلي الباطِن للإنسان، أمَّا العالَم الخارجي فإنه يَترُك للإنسان حُرِّيَّةَ التصرُّف فيه، ولا يتدخَّل في أفعاله الظاهرة. وكان ذلك عاملًا ساعَدَ على إطلاق طاقات الإنسان الأوروبي بعد أن كانت أحكام الدِّين تتدخَّل حتى في أبسط ما يقوم به من أفعال، وتُنظِّم كافَّة مظاهر سلوكه وفقًا لمبدأ الزُّهد والانصِراف عن شئون الحياة.

  • (٥)

    على أنَّنا نستطيع أن نقول إنَّ أبرَزَ السِّمات التي تَميَّزَت بها المرحلة الرأسمالية المُبكرة عن المرحلة الإقطاعية السابقة عليها تَميُّزًا قاطعًا، كانت الاعتِراف بالسِّيادة المُطلَقة للعقل، والتخلِّي عن كلِّ النَّزَعات اللا عقلية التي كانت تَسُود العصر السابق. ولا شكَّ في أنَّ عُنصر التَّعامُل النقدي، الذي أشَرْنا إلى أهمِّيَّته من قبل، كان مُرتبطًا بهذا الإعلاء من شأن العقل؛ إذ إنَّ التَّعامُل النقدي يتَّسِم، كما بَيَّنَّا، بأنه تَجريدي، لا شأنَ له بالعوامِل الشخصية، وتلك بِدَورها سِمةٌ هامَّة من سِمات التفكير العقلي الذي يترُك المَحسوسات جانبًا ليَتعامَل مع المُجرَّدات، فضلًا عن أنه لا يَعمل حِسابًا للانفِعالات والمَشاعِر الشخصية، وكلَّما تمكَّن من التخلِّي عن العوامِل الذاتيَّة كان أقدَرَ على أداء وظيفته الحقَّة. وفضلًا عن ذلك فإن التَّعامُل النقدي، وما يرتبِط به من حسابات ماليَّة ومَصرِفية مُعقَّدة، يحتاج إلى تقدُّمٍ في التفكير الرياضي العقلي، ومن هنا لم يكن من المُستغرَب أن تُحرِز الرياضيات في ذلك العصر تقدُّمًا كبيرًا بالقياس إلى فترة الرُّكود التي مرَّت بها منذ انقِضاء العصر اليوناني القديم.

    ولقد كان من الضروري للتاجِر، ثم لصاحِب المصنع فيما بعد، أن ينظُر إلى كلِّ الظواهر على أنها قابلة للتنبُّؤ، وللحِساب الدقيق، بحيث يرى العالَمَ كلَّه كما لو كان مَصنعًا آليًّا ضخمًا يُمكِن حساب كلِّ ما يَجري فيه من عمليات. وكانت تلك القُدرات العقلية على حساب التفاصيل والتنبُّؤ — على أساسٍ مَدرُوس — بتطوُّرات الأحداث جُزءًا لا يتجزَّأ من تكوين رجل الأعمال الناجِح في ذلك العصر. بل لقد كانت الواقعيَّة الصارِمة صفةً لا بُدَّ منها لمِثل هذا الرَّجُل، ولم تكن الرُّوح المكيافيليَّة إلا تعبيرًا صادِقًا عن أخلاق العصر الرأسمالي الأوَّل، وعن القِيَم العقلية السائدة فيه، كما أن قصَّةً مثل «دُون كيخوته» لم تكن بِدَورها إلَّا تأكيدًا، لا يَخلو من مرارة، لانقِضاء عهد الفُرسان النُّبلاء المؤمنين بِقِيَم الشَّهامة والبطولة الفردِيَّة، وظهور عالَمٍ واقِعيٍّ صارِم يُحسَب كلُّ شيءٍ فيه بحِساب العقل المَوضوعي الدقيق.

    ولم يكن من المُمكن أن يَصمُد في المُنافَسة الحادَّة التي أصبحت تُميِّز مَيدان الأعمال الاقتصادية إلَّا من توافَرَت له صِفاتُ الذكاء الفرديِّ والمَهارة والصَّرامَة والقُدرة على التوقُّع واستِباق الحوادِث. أمَّا الصِّفات المُكتسَبة من الحَسَب والنَّسَب والمزايا الوِراثية فلم تعُد تُجدِي نفعًا. وهكذا فإن وَزْن الأمور كلِّها بِميزان العقل الدقيق، بِغضِّ النظر عن أيِّ اعتبارٍ شخصي، أصبَح هو السِّمة التي يَنبغي أن تتوافر في الإنسان كيما يَتحقَّق له النجاح.

    بل إن الحروب ذاتها قد اصطبَغَت بهذه الصِّبْغة العقلانية اللا شخصيَّة، فقد كان حلول المَدْفَع محلَّ السيف تعبيرًا رمزيًّا عن الانتقال من عصرٍ شخصي إلى عصرٍ عقلاني صارِم؛ لأن القتال بالسَّيف قِتال بين شخصٍ وآخَر، أو بين إنسانٍ وإنسان، على حين أنَّ المَدفَع يُصيبُ دُون التِحامٍ مُباشِر بين أشخاص، ولا يُميِّز في الإصابة بين إنسانٍ وآخر، بل لا يعرِف من الذي يُصيبُه. ولو أمعنَّا الفكر قليلًا لتبيَّن لنا وجود نَوع من التوازُن بين الانتقال من التعامُل العَيني بالسِّلَع إلى التَّعامُل النقدي المُجرَّد، أو من إنتاج الثروة في مَزرعةٍ يملِكها سيِّد إقطاعي إلى مَصنع يعمل فيه عُمَّال لا تربِطهم بصاحِب العمل أيَّة صِلةٍ شخصية، وبين التحوُّل الذي أشرْنا إليه في أساليب الحرب من السيف والدِّرع إلى المَدفعَ والبارود.

  • (٦)

    ولقد كان العِلم بَدورِه يقوم بدَورٍ حاسِم في تأكيد هذه النَّظرة الموضوعية إلى الأمور، بحيث يُمكِن القول إن الكشوف العِلمية الحديثة قد أرسَتِ الأساس العقلي الذي تستطيع الرأسمالية الناشئة أن ترتكز عليه. ففي نفس العصر الذي نتحدَّث عنه حدَث تَحوُّل في العِلم لا يُمكن تَجاهُل سِماته التي تُوازي سِمات التحوُّل الاقتصادي. فقد بدأت الرياضيات تقوم بدَور هام، لا في المجال العِلمي فحسْب، بل في مجال الحياة اليومية أيضًا. وإذا كُنَّا اليوم قد اعتدْنا أن نُعبِّر عن عدَدٍ لا حصرَ له من مَظاهر حياتِنا بالأرقام — كما في الإحصائيَّات التي تُحدِّد مستوى التقدُّم الاقتصادي، وفي الحسابات التي نقوم بها في حياتِنا الخاصَّة — فإن الأوروبيِّين في العصر الإقطاعي لم يكونوا يُبدون اهتمامًا بالأرقام، بل لم يكونوا يَهتمُّون حتى بتحديد أعمارهم بدِقَّة. ونستطيع أن نلمِس الفارِق بين العصرَين، وبين العقليَّتَين بوُضوح، إذا ما قارنَّا بعض العادات التي لا تزال شائعةً في الريف المِصري بعادات أهل المُدن. ففي الريف لا زلنا نَجِد بعضنا من كِبار السِّنِّ يَصعُب عليهم تحديد يوم مِيلادهم، كذلك لا يقوم الزَّمن بدَور أساسي في الحياة اليومية، وإنما تُحدَّدُ المواعيد حسب «مغرِب الشمس» أو «في العَشيَّة»، على حِين أن ساكن المدينة يعمل حسابًا للدقائق قبل الساعات، ولا يَستغني عن الدِّقَّة الكاملة في جميع مُعاملاته.

    وهكذا كان اكتِساب عادات الدِّقَّة والانضِباط من الصِّفات الضرورية في المرحلة الرأسمالية الجديدة، بل إنَّ من المُفكرين من يَذهبون إلى أن العصر الرأسمالي قد بدأ منذ اللَّحظة التي اختُرعَت فيها «الساعة»، وذلك أوَّلًا لأنَّ الساعة نموذج كامِل للآلة الدقيقة التي تُنظِّم حركاتها بنفسِها، ومِنْ ثَمَّ فهي النموذج الأوَّل لحركة التَّصنيع الآلي في العصر الرأسمالي، وثانيًا — والأهَمُّ — لأن الساعة أدَّت إلى تأكيد عادات الدِّقَّة والضبط والانتِظام، وخلَقَت عالمًا يُنظِّمُه العقل، ويَحسِب كلَّ شيءٍ فيه حسابًا دقيقًا، لا عالَمًا يخضَع لإيقاع الطبيعة الخارجية أو الطبيعة الإنسانية الداخلية في تحديد المواعيد وتنظيم الأعمال.

    ولقد كانت أعمال الدِّقَّة هذه هي أول العوامل التي أدَّت إلى قيام الثورة العِلمية الحديثة في أواخِر القرن السادس عشر، وإلى التَّوصُّل إلى أساليبَ جديدةٍ في البحث العلمي لم يكن للعصور السابقة عهْد بها. فبِفضْل هذه العادات استطاع عُلماء الفلَك مثلًا أن يقوموا بحساباتٍ دقيقة أدَّت إلى إحداث انقِلابٍ كامل في نظرة الإنسان إلى العالَم، ومثل هذا يُقال عن عِلم الطبيعة (الفيزياء)، ثم الكيمياء فيما بعد، وغيرها من العلوم الحديثة.

    ولو تأمَّلْنا مثلًا واحدًا، وهو النظرية الجديدة في علاقة الشمس بالأرض، كما توصَّل إليها كبرنيكوس في القرن السادس عشر، لاستَطَعْنا أن نُدرِك مدى التأثير المُتبادَل بين التحوُّل في نَمَط التفكير العِلمي والتحوُّل في نَمَط الإنتاج الاقتصادي؛ ذلك لأن كبرنيكوس حين أكد أنَّ الأرض هي التي تدور حول الشمس، لا العكس، لم يكن يتحدَّى بذلك تُراثًا علميًّا يرجِع إلى قرونٍ كثيرة فحسْب، بل كان يتحدَّى أيضًا اعتقادًا راسِخًا لدى الإنسان العادي، تؤيِّدُه حَواسُّه وتجربته اليومية الملموسة؛ إذ لا يبدو أنَّ هناك ما هو أكثر يقينًا بالنسبة إلى هذه التجربة من أنَّ الأرض ثابِتة وأنَّ الشمس والكواكب الأخرى هي التي تدُور حولها. ومن هنا لم تكن الثَّورة التي أحدَثَها كبرنيكوس ثورةً في مجالٍ علمي مُحدَّد فحسْب، بل كانت أيضًا ثورةً في طريقة الإنسان الحديث في النَّظر إلى الأمور، أعني أنها كانت دَعوةً إلى عدَم التقيُّد بالعوامل الشخصية والأحكام التي تُوحي بها إلينا التجربة اليومية، وتفضيلًا للعَقل الموضوعي الصارِم على الآراء الذاتية، وإعلانًا لانهيار النظرة الشخصية إلى الأمور وحلول النظرة العِلمية، المَبنيَّة على الحساب الدقيق، محلَّها. وتلك كلُّها في واقِع الأمر أمور تحقَّقت، بطريقةٍ تكاد تكون مُوازيَةً تمامًا لهذه في مجال الاقتصاد، إذ إنَّ نَمَط الاقتصاد التجاري والرأسمالي الجديد كان يتَّصِف بالقِياس إلى النَّمَط الإقطاعي الزراعي، بنفس النوع من الموضوعية ومن تَجاهُل الاعتِبارات الذاتية والشخصية، والاعتِماد على التنبُّؤ والحِساب الدقيق بِصَرْف النظر عن كلِّ رأيٍ شخصيٍّ أو شُعورٍ ذاتي.

    على أنَّ تقدُّم العِلم لم يقتصِر على الجانب النظري وحدَه، بل إن العِلم أحرَز تقدُّمًا كبيرًا في الجانب التطبيقي أيضًا. وكان هذا التقدُّم التطبيقي دليلًا على أنَّ العِلم أخذ يُمارِس وظيفته الاجتماعية على نحوٍ أكمل. وقد تمثَّلت هذه النظرة إلى العِلم بوصفِه نشاطًا يؤثِّر في المُجتمَع ويتأثَّر به، تمثَّلَت بوضوحٍ كامل في فِكر الفيلسوف الإنجليزي «فرانسس بيكن». ففي رأيه أنَّ العِلم يَجِب أن يَزيد من سعادة الحياة الإنسانية وألَّا يكون معرِفة من أجلِ المعرِفة فحسْب. وكان يرى أن المُخترِعين والعُلَماء التطبيقِيِّين هم الذين يَحتلُّون قِمَّة السُّلَّم الاجتماعي، لا الحُكَماء النظريُّون أو رجال اللاهوت. والواقِع أنَّ بيكن قد استَبَق عصر التكنولوجيا الحديثة عندما أكد أنَّ المُخترَعات المُرتكِزة على العِلم قادِرة على تغيير حياة البَشر، وعلى أن تُضفي على العالَم بأسرِه شكلًا جديدًا. وهكذا كانت لدَيه قُدرةٌ تنبُّؤية على الاستِبصار بالعالَم الذي سيأتي من بعدِه — عالَم التقدُّم التكنولوجي المُتلاحِق.

    وإذن، فعلى المُستوى النَّظري كان تقدُّم العلوم الرياضية، وزيادة دِقَّة التعبير الكَمِّي عن قوانين الطبيعة، مُرتبِطًا أوْثَقَ الارتِباط بالعصر الجديد الذي تقوم فيه الحسابات الرياضية بدَورٍ هامٍّ في مُعامَلات السُّوق. وعلى المُستوى التطبيقي انتفَع العصر الصناعي الجديد من الرياضيات التطبيقية كثيرًا في صُنع الآلات، فضلًا عن انتفاعه من العلوم الطبيعية والكيماوية في تسخير طاقاتٍ جديدة لخدمات الإنسان. وسُرعان ما اقتنع رجال الصناعة بأنَّ السبيل إلى زيادة إنتاجِهم وتحسينه والإقلال من مصروفاتهم هو اتِّباع الأساليب العِلمية، أي ما يُعرَف بأساليب الترشيد، فضلًا عن إدخال الآليَّة على نحوٍ مُتزايِد. وبالاختصار، فإن نفس الرُّوح التي كانت تَدفَع الرأسمالي إلى مَزيدٍ من الاستِثمار والنَّشاط الاقتصادي، كانت تدفَع المُكتشِف إلى ارتِياد آفاقٍ جديدة، والعالِم إلى كشْفِ قوانين جديدة، والمُخترِع إلى ابتِداع تطبيقاتٍ جديدة؛ إذ إنَّ الجميع كانوا يَسعَون إلى زيادة قوَّة الإنسان وإحكام سَيطرتِه على الطبيعة.

  • (٧)

    وأخيرًا، فلا بُدَّ لنا أن نُشير إلى سِمَةٍ أخرى هامَّة من سِمات هذا العصر، ترتَّبَتْ على التَّحوُّل الأساسي الذي طرأ على حياته الاقتصادية، هي نُموُّ النَّزعة الفردية في مجالات الأخلاق والأدَبِ والفن. وليس من الصَّعْب أن نَجِد تعليلًا لهذه الظاهرة في ضوء ظروف العصر؛ ذلك لأن الشخص الناجِح في العصر الجديد لم يكن يُدِين بنَجاحِه لأسرَتِه أو لَقَبِه الوِراثي، ولم يعُد الانتماء إلى جماعةٍ مُعيَّنة هو أساس التفوُّق، بل إنَّ كلَّ شيءٍ أصبح يتوقَّف على الجهود الخاصَّة التي يبذُلها كلُّ فرد. وكان ذلك العصر حافلًا بأمثِلَة الأشخاص العِصامِيِّين الذين تَمكَّنوا بجهودهم الخاصة من أن يَصِلوا إلى مكان الصَّدارة في المجتمع، وخاصَّةً في المجال الاقتصادي. ومن شأن هذا الاتجاه أن يَزيد من شُعور الفرد بقُدراته الخاصة، ويجعَلَه أقدَرَ على تحدِّي السلطة، بكافَّة أنواعها، بحيث لا يعود مُعتمِدًا على عامل «الانتماء» بقدْر ما يعتمِد على عامل الكفاح الفردي. وإلى هذه الظاهرة ترجِع مُختلِف مظاهر التحرُّر من السُّلطة في ذلك العصر، أعني سُلطة الفلاسفة القُدَماء (مثل أرسطو)، وسلطة رجال الدين، وسلطة الإقطاع الوِارثي، وسلطة العادات والتقاليد الاجتماعية المُرتبِطة به. وقد انعكس ذلك في مجال الفكر على شكل كثرةٍ من الاتِّجاهات الفكرية المُستقلَّة التي تَتَّسِم بقدْرٍ كبير من الخصوبة والاستقلال، على عكس اتِّجاهات العصور الوسطى التي كانت مُتقارِبة مُتجانِسة إلى حدٍّ بعيد. كما انعكس في مَيدان الأدب والفنِّ على شكل أعمال تَسعى إلى استكشاف العُمق الباطن للفرد، والاهتمام بمُشكلاته وأحاسيسه الخاصة، على خِلاف الاتجاهات السابقة التي كان الفنُّ يقتصِر فيها على خِدمة قضيَّةٍ دِينية أو سياسة مُعيَّنة دون أدنى اهتمامٍ بالعُنصر الفردي. وهكذا فإن الفنَّان أو الأديب «الفرد»، الذي يُعبِّر عن نفسه من حيث هو فرد، ويطلُب إلينا أن نَهتمَّ به على أساس أنه إنسان مُتميِّز عن كلِّ ما عَداه — قد ظهر لأول مرَّةٍ في ذلك العهْد. وربما قال البعضُ إن ظهوره كان ردَّ فعلٍ على النَّزعَة العقلانية اللا شخصيَّة المُتطرِّفة التي كان يتَّسِم بها العصر الجديد، ولكن الأرجَح أنه كان مُتمشِّيًا مع مُقتضَيات عصرٍ فُتِحَت فيه أمام الفرد آفاقٌ لا نهائية، وازداد فيه الإنسان ثقةً بنفسه وشعورًا بكِيانه، وأُزيلَت فيه الحواجز التي كانت تَحُول دُون تحقيقه لأمانِيه في النجاح والارتقاء إلى أعلى دَرَجات السُّلَّم الاجتماعي.

(٢) الرأسمالية المُكتمِلة

كانت المرحلة المُبكرة من العهد الرأسمالي مرحلة كفاحٍ ضِدَّ قوى الإقطاع المادية وقِيَمِه المعنوية. وإذا كُنَّا قد أكدْنا من قبلُ مزايا هذه المرحلة وسِماتها الإيجابية، فذلك لأنها تُمثِّل بالفعل تقدُّمًا ملموسًا بالقياس إلى المرحلة السابقة عليها. فهي قد دفَعَت بالبشرية خُطواتٍ واسعةً إلى الأمام، حين أكدت سيادة العقل على كلِّ النَّزَعات اللا عقلية المُضطرِبة الغامِضة التي كانت تَسُود في العصور الوسطى، وحين أطلَقَت طاقات الإنسان ليستكشِف الطبيعة جُغرافيًّا ويَفهمها عِلميًّا ويَستغلَّها اقتصاديًّا.

على أنَّ هذا النَّمَط الجديد من أنماط العلاقات الاجتماعية — أعني النَّمَط الرأسمالي — كان يَنطوي على عناصرَ سلبيةٍ أساسية لم تظهَر بوضوحٍ في مرحلته المُبكرة، وذلك أوَّلًا لأن جميع سِماته لم تكن قد ظهَرَت مُكتمِلةً بعد، وثانيًا لأنه كان في معركةٍ مع علاقاتٍ اجتماعية أكثر منه تَخلُّفًا بكثير. وعندما تمَّ له الانتِصار في هذه المعركة، واكتملَت خصائصه بحلول العصر الصناعي وسيادة الإنتاج الآلي، أخَذَت العناصر السلبيَّة في نَمَط الإنتاج الرأسمالي تَبرُز إلى السَّطح بوضوحٍ كامل، وظهَرَت العيوب المعنوية والفكرية للنظام الرأسمالي على نَحوٍ لا يَدَع مجالًا لأيِّ شَك.

خصائص الرأسمالية المُكتمِلَة

ولكي نُدرِك هذه العناصر السلبية يَتعيَّن علينا أن نبدأ بتحديد الطابع الذي تميَّزَت به المرحلة الرأسمالية في عهْدِ اكتِمالها.

  • (١)

    فالرأسمالية المُكتمِلة قد تحدَّدَت مَعالِمُها عندما بدأت تظهر طبقة عمالية مُتميِّزة، ترَك أفرادها الطوائف الحِرَفية القديمة التي كانت راعِيةً لهم، أو هاجَروا من الريف بلا حِماية، وأصبَحوا واقِعين وُقوعًا تامًّا تحت رحمة صاحب العمل، دون أن تكون لهم أيَّةُ فُرصةٍ للارتقاء في سُلَّم المجتمع، على عكس الصانع الحِرَفِيِّ التقليدي الذي كانت لدَيه على الأقلِّ فُرصة الارتقاء إلى مرتبة «مُتعهِّد الأعمال» (المُقاول) أو «الصانع الماهر» (المُعلِّم)، وحتى في الحالات التي لم يكن يتحقَّق فيها هذا الارتِقاء كانت هناك علاقات شخصية مَتينة تربِط الصانِع بزملائه وبصاحِب «الورشة» التي يشتغِل بها. أمَّا في ظِلِّ الرأسمالية المُكتملة فقد تحوَّل العمل من خِدمةٍ شخصية إلى سِلعةٍ لا شخصية، لا يرتبِط فيها العامل بصاحِب العمل إلا من حيث إن الأوَّل يُقدِّم قوَّة عملٍ مُعيَّنة، والثاني يدفع أجرًا مُعيَّنًا، وفيما عدا ذلك لا تقوم بين الاثنين أيَّةُ علاقة. فالعامل في هذه الحالة شخص مجهول، أو هو على الأصح «قوَّة» لها طاقة مُعيَّنة، ولا يهتمُّ صاحِب العمل على الإطلاق بالشخص أو الإنسان الذي يبذُل هذه القوة، بل إن العلاقة بينهما تُصبح تجريديَّة تمامًا، ولا تَصطبغ بأية صِبغةٍ إنسانية. وهكذا فإنَّ التَّوسُّع في استِخدام الآلات في العصر الصناعي قد تولَّدَت عنه نزعة آلية عامة، أثَّرَت في تقدير قِيمة الإنسان ذاته، فأصبح العامل مُجرَّد ترسٍ في آلة الإنتاج الضخمة المُعقَّدة، قابل للاستبدال، شأنُه شأنُ أي جُزء أصمَّ في أية آلة.

  • (٢)

    وفي مُقابِل ذلك تراكَم رأس المال وازدادت الثروات ضخامةً في أيدي أصحاب الأعمال، الذين أصبحوا يَلجئون إلى التخطيط الدقيق ويعملون على ترشيد الإنتاج بحثًا عن أفضل الوسائل التي تكفُل تحقيق أقصى قدْرٍ من الرِّبح وأعظمِ قدْرٍ من الإنتاج.

السَّمات المعنوية للرأسمالي

والواقِع أن الطريقة التي أصبَح أصحاب الأعمال ينظُرون بها إلى عالَم الاقتصاد كانت طريقةً مُتميِّزة عن كلِّ ما عَداها، ولا يُمكن فَهمُها إلَّا في ضوء العصر الجديد؛ ذلك لأن المِحور الذي كان يدُور حولَه النشاط الاقتصادي من قبلُ كان على الدَّوام هو الإنسان، بلَحمِه ودَمِه، وبحاجاته ومَطالِبه، أمَّا في عصر الرأسمالية المُكتمِلة فقد حلَّت محلَّ الإنسان تَجريدات لا شأن لها به، كالعمل والسُّوق والرِّبح. وعلى حِين أنَّ الإنسان ظلَّ، بمعنًى ما، مِقياسَ كلِّ شيءٍ حتى في العصر الرأسمالي المُبكر، فإن البحث عن الرِّبح والسَّعي إلى التَّوسُّع في الأعمال الاقتصادية أصبح الآن هو الغاية القُصوى. بل إنَّ الأعمال — كما لاحَظ بعض الكُتَّاب — قد أصبح لها وجودٌ مُستقلٌّ حتى عن أصحابها أنفسهم. فمِن المُمكن أن يكون أصحاب شركة مُعيَّنة أشخاصًا غيرَ مَوثوقٍ بهم، أو ذَوي سُمعةٍ سيئة، ومع ذلك يَظلُّ اسم شركتهم أو الناتِج الذي يُنتِجونه يَحوز ثِقةَ العُملاء وإعجابهم، أي أنَّه يُصبِح شيئًا مُستقلًّا عن أصحابه، ويُصبِح للأعمال الاقتصادية وجود مَوضوعي لا صِلةَ له بالإنسان الموجود من وَرائها، وتتحوَّل إلى كِيانٍ قائم بذاته. وكلُّ ما يَهتمُّ به صاحِب العمل هو أن يزيد هذا الكِيان المُستقل صحةً ونموًّا وازدِهارًا.

إن من الشائع أن يُوصَف الرأسماليُّ بأنه شخصٌ لا همَّ له سوى أن يحصُل على مزيدٍ من الربح. ومن المؤكد أن هذا الوَصْف صحيح إلى حدٍّ بعيد، ولكن يَنبغي أن نكون على شيءٍ من الحذَر حين نتحدَّث عن سَعي الرأسمالي إلى الرِّبح. فالهدَف الأكبر للرأسمالي هو أن تتوسَّع أعماله وتزداد نُموًّا، وليس الرِّبحُ إلَّا وسيلةً لتحقيق هذه الغاية. وهنا قد يكون من المُفيد أن نُفرِّق بين لفظَين يُستخدَمان في الأغلب بمَعنيَين مُترادِفَين، هما الكسْب والربح. فالكَسْب هو البحث عن مزيدٍ من الأموال لكي يَنتفِع بها الشخص ذاته، أو من يُحيطون به، في حياته. أمَّا الربح فهو البحثُ عن مالٍ أكثر يُخَصَّص أساسًا للعمل نفسه، ولتوسيع نِطاق الصناعة أو التجارة. بهذا المعنى يكون الكَسْب شخصيًّا عينيًّا، والرِّبح لا شخصيًّا مُجرَّدًا. وقد لا يكون من الخطأ أن نقول — في ضوء هذه التَّفرِقة — إن كبار الرأسماليين يَبحثُون عن الرِّبح قبل الكسْب، بدليل أنَّ الكثيرين منهم لا يعيشون، حتى وهُم في قِمَّة النجاح، حياةً شديدة التَّرَف، بل إنَّ بعضَهم قد يَصِل به الاستِغراق في أعماله إلى حدِّ إهمال حياته الشَّخصية ومُمارسة نَوعٍ خاصٍّ من الزُّهد (وإن كان التَّرَف الشديد، بطبيعة الحال، موجودًا بدَوره لدى كثيرٍ من الرأسماليين)؛ ذلك لأن الموضوع الرئيسي لاهتمام أمثال هؤلاء الرأسماليين هو نجاح الأعمال ذاتها.

ولا يُمكن القول إنَّ هناك نُقطةً يَتوقَّف عندَها هذا النجاح، فكلُّ تَوسُّع يجلُب رغبةً في مَزيدٍ من التوسُّع، بحيث كان «فيرنر زومبارت Werner Sombart» على حَقٍّ حين قال إنَّ نشاط صاحِب العمل الرأسمالي يتطلَّع نحوَ غايةٍ لا نهائية؛ ففي الماضي، عندما كانت حاجات الجماعة هي التي تتحكَّم في النشاط الاقتصادي، كانت هناك حدود طبيعية، لا يُمكِن أن يَتعدَّاها هذا النشاط. أمَّا عندما تُصبح الغاية هي أن تزدَهِر الأعمال، لا أن تُلبَّى حاجات الجماعة، فلا يُمكن أن تكون مثلُ هذه الحدود مَوجودة، ويَستحيل أن يَصِل صاحب العمل الرأسمالي إلى نُقطةٍ يُمكن أن يتوقَّف عندَها ويقول: كفى! وحتى لو وقفَتْ أيَّةُ عوائق في وَجْه نشاطه، فإنه يبدأ في تجربة جوانِبَ أخرى من النشاط تكون فُرَص التوسُّع أمامها أعظم، وبذلك يَمتدُّ توسُّعه طولًا وعرضًا، أو انتشارًا وعُمقًا، ويَستحيل تَصوُّر هذا النشاط مُتوقِّفًا؛ لأن التوقُّف معناه الاختِناق والتَّدهوُر والانحِدار.

وحين بحث «زومبارت» عن قِيَمٍ للحياة الكامِنة من وراء هذا السعي الجُنوني إلى التوسُّع، رأى أنَّ هذه القِيَم أشبَه ما تكون بقِيَم الطفولة. فرجُل الأعمال في نظرِه طِفل كبير، وذلك في سَعيِه إلى الضخامة، مِثلَما يُريد الطفل أن يكون كبير الجسم، بحيث يكون الحَجْم المُجرَّد هدفًا في ذاته، ويَخلِط بين الضخامة وبين ارتفاع المكانة أو العَظَمة. كذلك فإن رجل الأعمال طِفل في سَعيه إلى السُّرعة، واختِصار الزمن في كلِّ شيء، وفي بحثِه عن التجديد المُستمر، مِثلما يرغَبُ الطفل في تجديد لُعَبِه وملابسه تجديدًا دائمًا، وفي رَغبته في الشُّعور بمزيدٍ من القوة، عن طريق توسيع أعماله واستخدام ألوف الناس الذين يتوقَّف مصيرهم على كلمةٍ منه.

على أنَّنا سوف نَتبيَّن بعد قليلٍ أن هذا الوَصفَ إذا كان ينطبِق على وَجهٍ من أوجُه النشاط الرأسمالي، فإنه لا ينطبق أبدًا على بقيَّة أوجُه النشاط التي يَتبدَّى فيها الرأسمالي أبعدَ ما يكون عن الطفل الكبير، ويَتَّخِذ صُورًا لا صِلةَ لها على الإطلاق ببراءة الطفولة وسذاجَتها.

والذي يُهمُّنا الآن هو أن نُلاحِظ التحوُّل الأساسي الذي طرأ على الرأسمالية، وعلى شخصية الرأسمالي، منذ مرحلتها المُبكرة حتى مرحلتها المُكتمِلة. فقد بدأت الرأسمالية، في عهدها الأوَّل، تشقُّ طريقها بفضل رُوح المُغامَرة والبحث عن الجديد والكشف عن المجهول، وكانت الأعمال الاقتصادية الناشئة في ذلك العهد تسعى إلى تحقيق أكبر قدْرٍ من إشباع الحاجات الاستهلاكية للإنسان. أمَّا عندما اكتملَت خصائص الرأسمالية فقد انعدَمَت رُوح المُغامَرة، وأصبح رأس المال «جبانًا» على حدِّ التعبير الشائع، وتحوَّلَت المُنافسة التي كانت من أبرَز سِماتها في البداية إلى احتِكارٍ يعمل على تخفيف حدَّة التنافُس أو تنظيمه أو إزالته لصالِح أصحاب الأعمال وضِدَّ مصالح المُستهلِكين. وبدلًا من أن تعمل الرأسمالية على إشباع الحاجات الحقيقية للإنسان، فإنها أخذَت تخلُق لدَيه عادات زائفة لا هدَف لها سوى أنها تؤدِّي إلى فتح بابٍ جديد للرِّبح، ولكن على حساب الاستِخدام الرشيد لموارد المُجتمَع.

وعلى حين أنَّ الرأسماليين كانوا في أول عهدهم أشخاصًا يتَّسِمون بِصِفات النشاط والمُثابَرَة وتقديس العمل — أيًّا كانت عُيوبهم الأخرى — لأنهم كانوا عِصاميِّين يتوَلَّون إدارة أعمالهم بأنفسهم، أو يَبتدِعون الأفكار الجديدة التي تكفُل نجاح أعمالهم، فإن الكثيرين منهم أصبحوا في المرحلة اللاحِقة أشخاصًا تأصَّلَت فيهم عادات التَّرَف المُفرِط، والتفنُّن في التبذير الماجِن. وكانت هذه الصِّفات الأخيرة أوضَحَ ظهورًا لدى الرأسماليين الذين انفصلوا عن عملية الإنتاج، ولم يعودوا يرتبِطون بمصانعهم أو يعرفون شيئًا عما يَتمُّ فيها، بل يَعهَدون بها إلى مُديرين أكفاء، ويكتَفون هم بما يَنالونه من أرباح.

وبالمِثل، فإن الطبقة الرأسمالية أو البورجوازية التي كانت في أول عهدِها تُحارب امتِيازات الأشراف والإقطاعيين، أخذت تُكرِّس جهودها للمُحافظة على نفوذها عندما تحقَّقَت لها السَّيطَرة. بل إنَّ الطبقة الجديدة كانت في بعض الأحيان تتداخَل مع طبَقة النُّبلاء الزراعيِّين القديمة بالمُصاهرة، وتُحاوِل مُحاكاة العادات الأرستقراطية العتيقة. وبِعبارةٍ أخرى، فإن الرأسماليين عندما أصبَحوا هُم أصحاب المصالح الحقيقية القائمة، أخذوا يتَّجِهون إلى المُحافَظة على مصالحهم، وبعد أن كانوا في البداية يَستخدِمون «العقل» قوَّةً ثورية، أخذوا يَستعينون به في تبرير الأوضاع القائمة بطريقةٍ يَغلِبُ عليها الطابع المُحافظ. والواقع أنَّ هذا التَّحوُّل كان أمرًا تقتضيه نفس رُوح المُرونة والحركيَّة التي كان يتَّسِم بها المجتمع الرأسمالي، فهذه المُرونة ذاتها كانت تُحتِّم أن تتحوَّل العناصر التَّقدُّمية في الطبقة البورجوازية، بمُضيِّ الوقت، إلى أسلوبٍ مُحافظٍ في التفكير والحياة، ثم تظهَر طبقةٌ جديدة أكثر نشاطًا وابتِكارًا، لتحتلَّ مكانة الطبَقة التي أصبحَت مُحافِظة، ثم تتحوَّل هذه الجديدة بدَورِها إلى الطابع المُحافِظ، وهكذا. ولكن هذا الطابع المُحافِظ أصبح هو الطابع المُميِّز للرأسمالية منذ اللَّحظة التي ظهَرَت فيها طبقةٌ عامِلة واعِية تُهدِّد مصالح الرأسماليِّين، أي منذ القرن التاسع عشر.

الأوجه السلبية في المرحلة الرأسمالية

ليس من الصعب أن نُدرك أن التحوُّل الذي طرأ على الرأسمالية، وعلى الطبقة البورجوازية، من قُوَّةٍ تَقدُّمية تعمل على مُحاربة امتيازات الإقطاعيين الوِراثية، وتؤكد انتصار العقل المُنظَّم الواضح على الأفكار اللاعقلية الصُّوفية الغامِضة التي سادت العصر الوسيط، إلى قوَّة رجعية لا تَستهدِف سوى المُحافظة على مصالِحها التي تزداد على الدَّوام توسُّعًا وانتشارًا؛ هذا التحوُّل يُمثِّل في ذاته وجهًا سلبيًّا إلى أبعد حدٍّ في النظام الرأسمالي؛ ذلك لأنه يدلُّ على أن النظام لم يكن تقدميًّا إلَّا في مرحلته المُبكرة، وعلى أنَّ من شأن هذا النظام أن يتحوَّل إلى الرجعية بِمجرَّد أن تتحدَّد معالِمه وتكتمل خصائصه.

على أن هذا ليس الوَجه السلبيَّ الوحيد للرأسمالية، بل إن عناصر الضَّعف والهَدْم تتغلغَل في صميم بناء هذا النظام، وتجعل تَجاوُزَه أمرًا مَحتومًا. وسوف نقتصر هنا على ذِكر بعض الجوانب السلبية المُرتبطة بالموضوع الذي نُعالجه في هذا الفصل، وهو الوجه الفكري والمعنوي لمُختلِف النُّظم الاقتصادية.

  • (١)
    أول هذه الجوانب هو اللاأخلاقية. وربما بدا للبعض أنَّ صِفة اللاأخلاقية لا تَصدُق صدقًا تامًّا على المُجتمع الرأسمالي؛ لأن لهذا المجتمع نَمَطه الأخلاقي. وبالفعل يبدو هذا الحُكم الأخير صائبًا للوَهلة الأولى؛ ذلك لأن الرأسمالية قد ولَّدت مذاهبها الأخلاقية الخاصَّة، مثل مذهب المَنفعة Utilitarianism في إنجلترا، والبرجماتية Pragmatism في الولايات المُتحدة. ولكن الواقع أنَّ كلًّا من هذين المذهبين الأخلاقيَّين إنما كان تعبيرًا عن الطابع العَملي لعصر التصنيع، وعن نوعٍ من الأخلاق يقوم بحساب كلِّ فعلٍ تبَعًا لمِقدار المنفعة المُترتِّبة عليه، أو لمدى نجاحه العملي، بغضِّ النظر عن أية قِيمة كامنة في هذا الفعل. ومن هنا كانت هذه الاتجاهات في الأخلاق تعبيرًا صادقًا عن أشدِّ نزَعات المجتمع الرأسمالي تطرُّفًا. وحقيقة الأمر في موقف هذا المجتمع من الأخلاق هو أنه لا يأخُذ منها إلا بالقدْر الذي يكفي لمُساعدة النظام القائم على المُضيِّ في طريقه بنجاح. فنحن نجِد بالفعل، لدى كثيرٍ من الرأسماليين، قدرًا مُعيَّنًا من الفضائل، كالأمانة والانضِباط والدِّقَّة ومُراعاة المواعيد، ولكن هذه الفضائل لا تكتسب قِيمتها إلَّا لأنها تُفيد الرأسمالي وتُحقِّق مصالحه، فقد تبيَّن له بطول التجربة أنَّ من مصلحته أن يكون في مُعاملاته أمينًا دقيقًا، وأن يُسدِّد دُيونه في مواعيدها، وأن يكون نظام حياته مُنضبطًا. ومعنى ذلك أنَّ كلَّ هذه الفضائل ليست مقصودة لذاتها، بل إنه يُراعيها لما فيها من المنفعة. وأبلَغُ دليلٍ على ذلك أنه إذا كان من المُمكن تحقيق نفس المنفعة عن طريق مُجرَّد التظاهر بالأمانة، فإن الرأسمالي لا يتردَّد في سلوك هذا السبيل.

    ويتَّضِح تجاهُل الرأسمالية للأخلاق في أساليب الدِّعاية والإعلان التي أصبحت جُزءًا لا يتجزَّأ من هذا النظام، فالمبدأ السائد في مَيدان الإعلان هو زيادة البيع أيًّا كانت الوسائل المؤدِّية إلى تحقيق هذه الغاية. وهكذا يلجأ المُعلن إلى الصُّراخ والتهويل أمام عُملائه، ويَجذِب أنظارهم بلافِتات صارِخة، ويعمَد إلى الشهادات الكاذِبة، والمنطق المغلوط، ويلجأ إلى أحدَث أساليب عِلم النفس ليَبُثَّ في نفوس الناس إيحاءً واقتناعًا لا أساس له، ولا يتورَّع في سبيل ذلك عن أن يُفسِد أذواق الناس ويَسلُبهم القُدرة على الحكم الموضوعي السليم. فالإعلان لا يتجاهل أصول الأخلاق واحترام الآخرين فحسْب، بل إنه يَتنافى في كثيرٍ من الأحيان مع أبسط مُقتضيات الرُّوح الجمالية.

    وأخيرًا، فإن طبيعة المُنافسة الرأسمالية تُشكِل في حدِّ ذاتها دليلًا بالِغًا على مدى اللاأخلاقية الكامنة في هذا النظام. ففي تعامُل الرأسمالِيِّين بعضهم مع بعض لا يتورَّع أحدُهم عن اتِّباع كلِّ الأساليب من أجل سحْق الآخر، ولا يقِف أيُّ وازِعٍ في وَجه رغبتِه في التوسُّع. ومن أشهر الأمثلة في هذا الصَّدَد «جون روكفلر»، مُؤسِّس أُسرة الرأسماليين الأمريكيين المشهورة، الذي قال إنه على استِعداد لدَفْع مليون دولار كمُرتَّب لأيِّ مُوظف تتوافر فيه صِفات مُعيَّنة، أهمُّها ألَّا يكون لدَيه أيُّ نوع من تأنيب الضمير، وأن يكون على استعدادٍ لسَحْق ألوف الضحايا دُون أن تَطرُف له عين.

  • (٢)

    لا يستطيع أحد أن يُنكر أنَّ الحضارة الرأسمالية قد أحرَزَت انتصارات ومكاسِب لم تتوصَّل إليها أية حضارة سابقة؛ فقد عرفت كيف تُسيطِر على العالم المادِّي كمًّا وكيفًا، وتُسخِّر الطبيعة لخِدمة الإنسان، ووفَّرت للناس سِلعًا وخدماتٍ على نِطاقٍ لم يُعرَف له من قبلُ نظير، وكافحت الأمراض والكوارِث الطبيعية بكفاءة نادِرة، وأبدَعَت عددًا هائلًا من روائع الفنِّ والفِكر والأدب، وتمكَّنَت من إحراز تقدُّمٍ هائل في المَيدان العِلمي، بفضل تطبيق مبدأ تقسيم العمل، الذي أحرَز نجاحًا كبيرًا في المَيدان الاقتصادي، على النشاط الذي نبذُله من أجل معرفة العالَم الطبيعي والمجتمع بطريقةٍ عقلية.

    ولكن، على الرَّغم من هذا النجاح في شتَّى الميادين، فقد كانت هناك نُقطة ضَعفٍ كبرى للنظام الرأسمالي، هي ارتباطه الوثيق بالحرب. فليس يكفي أن يُقال إنَّ هذا النظام عاجِز عن منْع الحرب، أو أنَّ الحرب مرض يُصيب جِسم الرأسمالية بسبب انتِقال العدوى إليه من مصدرٍ خارجي، بل إن الحرب تنتمي إلى صميم بنائها وتركيبها الباطِن. والواقِع أنَّ الرأسمالية بما تُثيره من حروبٍ لا تنقطِع، تُهدِّد بالقضاء على ما أنجزَتْه هي ذاتها، وما أنجزَتْه كلُّ الحضارات السابقة، من تقدُّم. وهكذا فإن القوَّة الكبرى التي اكتَسبها العالم خلال المرحلة الرأسمالية، هي التي تُهدِّد بالقضاء على ما أنجزَتْه هي ذاتها، وفي هذا النُّزوع إلى تحطيم الذات يَكمُن الضعف الأكبر للرأسمالية، وتناقُضها القاتل. وقد أصبحت مظاهر تقدُّم الرأسمالية في الآوِنة الأخيرة هي ذاتها مَظهر فَنائها، إذ إنَّ هذا التقدُّم بلَغ قِمَّته في أسلحة الدَّمار الشامل، التي تُهدِّد العالَم في كلِّ لحظةٍ بالهَلاك.

    ولسنا نَودُّ أن نَخوض في تفاصيل العلاقة بين النظام الرأسْمَالي وبين الحرب؛ إذ إنَّ هذا البحث خارجٌ عن نِطاق مُهمَّتنا في هذا الفصل، وإنما الذي نودُّ أن نُشير إليه هو الآثار المعنوية المُخرِّبة التي تُحدِثها حالة الحرب أو حالة التهديد المُستمرِّ بقِيام الحرب. وحسبُنا أن نُشير إلى تلك الأنانية المُفرِطة وبلادَة الحسِّ الزائدة، التي تُثيرها الحروب المُستمرَّة في نفوس أفراد الشعب التي تُمارِس هذه الحروب. ومن المعروف أنَّ الاستِعمار مُرتبِط ارتباطًا وَثيقًا بالرأسمالية، وأنه — في صُورته المُباشرة وغير المُباشرة، أو التقليدية والجديدة — هو السبب الأوَّل لظاهِرة الحرب في العالَم المُعاصر. ولسنا في حاجةٍ إلى الوُقوف طويلًا عند تأثير الاستعمار في الشعوب التي تُعاني من وَيْلاته؛ لأننا في هذه المنطقة من العالَم نعرِف الكثير، من تجربتنا المُباشرة، عن هذا الموضوع. ولكن للمشكلة وجهًا آخر، هو أن الاستعمار يُولِّد في الشعوب التي تُمارِسه نوعًا من الأنانية يجعلُها لا تعبأ بالفَقر والظُّلم والاضطِهاد والقتْل الجماعي الذي يلحَق بالشعوب الواقِعة تحت قبضتها، بل وتسعى في كثيرٍ من الأحيان إلى تبرير السلوك الاستِعماري الشائن والدِّفاع عنه كما لو كان أمرًا مشروعًا. وهذا لا يمنَع بطبيعة الحال من ظهور جَبَهاتٍ داخلية تُعارض الاستعمار داخل الدول الاستِعمارية ذاتها، وهي ظاهرة مُشرِقة تمثَّلت بوضوحٍ في فرنسا خلال حرب التحرير الجزائرية، وتتكرَّر حاليًّا في الولايات المتحدة على صورة مُعارَضةٍ شعبية واسِعة النِّطاق ضِدَّ حرب فيتنام.

    ومن خلال ظاهرة الحرب نستطيع أن نُعلِّل كثيرًا من مظاهر الانحلال الفكري والمعنوي التي انتابت العالَم الرأسمالي منذ القرن التاسع عشر، والتي ظهرَت واضحة بوجهٍ خاصٍّ خلال القرن العشرين. فقد انتشرَت في ذلك العالم فلسفات اليأس والتشاؤم، والاتجاهات التي تؤكد أنَّ المصير المَحتوم للحضارة الغربية هو التدهوُر والانحِلال. وبينما كانت الرأسمالية في بداية عهدِها مُتفائلةً مؤمنة بقُدرة الإنسان على التقدُّم المُستمر، نراها في مرحلة اكتِمالها تعود مرةً أخرى إلى روح التشاؤم المُظلِم التي حارَبتْها في البداية، وتَشيع فيها الأفكار التي تضَع الإنسان في طريقٍ مسدود لا مَخرَج منه.

    وقد شاعت في القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية بوجهٍ خاص، اتجاهات في الفكر والفنِّ والأدب تجمَعُها كلها صِفةٌ هي تلك التي اصطُلِح على تَسمِيتها «باللامعقول». وليس من الصعب أن نُدرك الروابط التي تَجمع بين هذه الاتجاهات، بما فيها مِن زَعمٍ بأنَّ كلَّ ما في الحياة عبَث غير مفهوم، وبأن العالَم والتطوُّر والتاريخ لا يسير نحوَ أيَّةِ غاية معقولة، بل كلُّ شيءٍ فيه يفتقِر إلى العقل ويَستحيل فَهْم سببه أو الغاية منه، وبين حالة اليأس التي تَنتاب الإنسان في المجتمع الرأسمالي، وشُعوره بأنَّ كلَّ جهدٍ يبذُله عبَث لا طائل وراءه. والأهمُّ من ذلك كلِّه، إحساسُه بالخطر يُهدِّد كِيانه في كلِّ لحظةٍ من جرَّاء حربَين عالميَّتين راحت ضحيَّتهما ملايين الناس، فضلًا عن عشرات الحروب «الصغيرة» التي أزهَقَت أرواحًا كثيرةً وسبَّبَت دمارًا هائلًا. في مثل هذا المجتمع الذي تحلُّ عليه الحرب كما لو كانت لعنةً لا يملك منها خلاصًا، يكون من الطبيعي أن تُصبِح الاتجاهات الفكرية والفنية السائدة هي اتجاهات تؤكد عجْز العقل وسيادة التشاؤم وحَتميَّة التدهوُر والانحِلال.

    ولقد ترتَّب على ذلك تزييفٌ لطبيعة الحياة في المجتمع الحديث، وقَع فيه عددٌ غير قليلٍ من كبار مُفكري المجتمعات الرأسمالية، فأدانوا التقدُّم التكنولوجي ذاته، ونظروا إليه كما لو كان هو أصل الشُّرور التي تُعانيها البشرية، وتَحسَّروا على «عهد ما قبل التصنيع»، الذي كانت فيه البشرية بريئة من آثام الصناعة وأطماعها. والخطأ الأكبر الذي وقَع فيه هؤلاء المُفكرون هو أنهم ظنُّوا أنَّ الشرور الناجِمة عن تنظيمٍ مُعيَّن للمجتمع الصناعي، هو التنظيم الرأسمالي، تَسري على كلِّ شكلٍ من أشكال هذا المجتمع، أو هي جُزء لا يتجزَّأ من طبيعة عصر التقدُّم التكنولوجي ذاته، ومن هنا كانت حَملتُهم على التصنيع، واعتقادهم بأن الحروب والأزمات وانعِدام الأمان كامِنة في طبيعة المُجتمَع الصناعي ذاته، مع أنَّ هذه الشرور لا ترجِع، في الواقع، إلَّا إلى أسلوب الحياة الرأسمالي في هذا المجتمع.

  • (٣)

    وإذا كانت الحروب انحِرافًا شاملًا في السُّلوك على المستوى الدولي، فإن المرحلة الرأسمالية قد شهِدَت أنواعًا أخرى من الانحِرافات على المُستويات المحلية، أهمُّها بالطبع هو الإجرام، الذي أصبح مُشكلة قومية بالنسبة إلى بلدٍ كالولايات المتحدة، حيث تزداد مُعدَّلات الجريمة ارتفاعًا عامًا بعد عام. ولا يُمكن بالطبع أن يَزعُم أحد أن ظاهرة الإجرام وَليدَة النظام الرأسمالي، إذ إنَّ الظاهرة ذاتها قديمة قِدَم المجتمع الإنساني، ولكن الكثيرين يؤمنون بأن الاتِّساع الهائل في نطاق الجريمة قد تَولَّد عن المجتمع الرأسمالي عندما بلَغَ أقصى دَرَجات نُموِّه، ويُدلِّلون على ذلك بأن أكثر الدول الرأسمالية تقدُّمًا، وهي الولايات المُتحدة، هي التي تنتشِر فيها الجريمة بأعلى النِّسَب، وبأشدِّ أنواع التنظيم والتدبير إتقانًا.

    وليس من الصعب أن يجِد المرء رابطة بين الارتفاع الشديد في مُعدَّل الجرائم، وبين تقدُّم الدول في سُلَّم التنظيم الرأسمالي؛ ذلك لأن أسلوب العمل الرأسمالي، حين يصِل إلى أشدِّ حالاته تطرُّفًا، يُثير في النفوس أطماعًا لا حدود لها. وحين يجِد المنحرفون أنَّ طريق الثراء مسدود أمامهم، فإنهم يعملون على تحقيق غاياتهم بأيسَرِ الطُّرُق وأسهَلِها، وهي الجريمة. ومن هنا رأى البعض أنَّ ظاهرة الجريمة يُمكن أن تُعدَّ في مثل هذا المجتمع وسيلةً خاصَّة مُنحرِفة من وسائل إعادة توزيع ثروة المجتمع.

    ولا جِدال في أن المجتمع الرأسمالي المتقدِّم، في الولايات المتحدة، يعرِف أنواعًا أخرى من الجرائم غير المُرتبِطة بالمسائل الاقتصادية، كجرائم القتل والتعذيب والاغتِصاب، إلخ … ولكن هذه الجرائم بدَورها ترتبِط «بمعنويات» النظام الرأسمالي، إذ إنَّ تمجيد هذا النظام للعُنف والْتِجاءَه الدائم إلى الحروب واستِخفافه بالجوانب الإنسانية للحياة، لا بُدَّ أن يخلُق مناخًا نفسيًّا عامًّا تزدَهِر فيه أعمال العنف التي لا يكاد المرء يجِد لها سببًا أو مُبرِّرًا معقولًا.

  • (٤)

    وأخيرًا، فقد انتشر في المُجتمعات الرأسمالية في الآوِنة الأخيرة مَظهر آخَر من مظاهر الانحِراف، هو إدمان المُخدِّرات، وأصبحت هذه الظاهرة تُهدِّد كِيان عددٍ كبير من شباب هذه المجتمعات. وأقرب تفسيرات ظاهرة الإدمان هذه إلى المَنطق السليم، هو أنها ظاهرة هُروبيَّة، فالمُدمِن شخص هارب من واقِعٍ لا يُطيقه. وهذا الواقِع هو بطبيعة الحال واقِع العُنف والحرب والمنافسة المَريرة التي لا ترحم. وبطبيعة الحال فإن هناك أنواعًا أخرى من الهُروب قد تكون أقلَّ ضررًا من إدمان المُخدِّرات، ولكن الوَطأة الشديدة لنظام الحياة السائد هي التي تدفَع الكثيرين إلى السير في هذا الطريق الانتِحاري. وهكذا فإن نفس النظام الذي بدأ بتمجيد العقل وإعلاء شأنه قد انتهى به الأمر إلى الهُروب من العقل، أو إلى العجْز عن مُواجهة ذاته بصِدقٍ وصراحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤