مفاجأة … على الرصيف المقابل

كانت الطائرة التي تُقِل الشياطين تُعلن عن قرب وصولها إلى مطار «أورلي» الذي يقع في شمال العاصمة الفرنسية. الْتقت أعين الشياطين الأربعة عندما سمعوا اسم مطار «أورلي»؛ فهذا المطار بالذات يعرفونه أكثر من أي مطار في العالم؛ فمعظم مغامراتهم في أوروبا كانت تمر ﺑ «باريس»، ودائمًا عندما يصلون إلى «باريس» ينزلون في هذا المطار، وهم يُحبونه لأنه أقل ازدحامًا من مطار «شارل ديجول» الكبير.

كان الوقت عند الغروب، وبدأت الأضواء تلمع في ممرات الطائرات بجوار كتلة الضوء التي يسبح فيها مبنى المطار نفسه، وعندما لامست عجلات الطائرة أرض المطار، اهتزَّ الركَّاب في مقاعدهم. كانوا جميعًا يشعرون بالسعادة؛ فها هم أخيرًا ينزلون إلى الأرض بعد ساعات الطيران. شيئًا فشيئًا، أخذت الطائرة تُقلِّل من سرعتها حتى وقفت أمام مبنى المطار.

نزل الركَّاب بسرعة. كان الشياطين يحملون حقائبهم «الهاندباج»؛ ولذلك لم يتعطَّلوا كثيرًا. كان الجو بديعًا في هذا الوقت من السنة، بل إنه يُعتبر أحلى أوقات «باريس»؛ ففي هذا الوقت، حوالي شهر مايو، يكون الجو قريبًا من جو مصر في الربيع.

خرجوا من المطار. كان الرصيف أمامهم يمتلئ بسيارات تاكسي، اتجهوا إلى واحدة منها، وقال «أحمد»: أوتيل «باريس»، شارع «سان ميشيل».

هزَّ السائقُ رأسَه، ثم انطلق التاكسي يُقِل الأربعة؛ «أحمد»، و«فهد» و«خالد»، و«قيس». كانت أعينهم تصافح الأشياء والأماكن فتُثير فيهم ذكريات كثيرة، وعندما اقتربوا من ميدان «الكونكورد» حيث تقف المسلة المصرية، صاح «قيس» مبتسمًا: هذه مسلة «إلهام»!

ابتسم الآخرون، ودخل التاكسي شارع «الشانزليزيه» المتسع، فقال «خالد»: شارعي الجميل! وعندما مرُّوا من تحت قوس النصر، قال «أحمد»: إن نابليون ليس معنا لعله يحلم بقوسه الآن!

ضحكوا جميعًا … بينما كان التاكسي يدخل شارع «سان ميشيل». إن الشياطين يعرفون هذا الشارع خطوةً خطوة، ويعرفون جميع الفنادق فيه، لكنهم لا ينزلون في فندق واحد مرتَين متتاليتَين، إنهم دائمًا يغيِّرون أماكنهم حتى لا يلفتون نظر أحد، غير أن هذه هي المرة الثالثة التي ينزلون فيها في أوتيل «باريس» الصغير، لكنَّ أحدًا لا يعرفهم؛ فهي مرات متباعدة جدًّا. إن أوتيل «باريس» لا يتميَّز بشيء ما سوى أنه صغير، ولا يلفت النظر، بجوار أنه يقع على الشارع مباشرة، وهو يتكوَّن من ثلاثة طوابق يشغل كل طابق خمس حُجرات، وهي حُجرات ليست متسعةً تمامًا؛ فكل حجرة في الطابق الثاني بالذات تضم سريرَين صغيرَين، ودائمًا — وربما بالصدفة — ينزل الشياطين في الطابق الثاني، ودائمًا يحتلُّون حجرتَين متجاورتَين، ودائمًا تُطِل الحجرتان على الشارع. يُغطِّي السُّلم الخشبي للأوتيل نوع من السجاد الأحمر الذي غيَّرت لونه الأيام، والذي ينزل فيه يعرف دائمًا الداخلين والخارجين حتى لو كان في حجرته؛ نتيجة الصوت الذي يصدر عن السُّلم كلما مرَّ عليه أحد، ويبتسم الشياطين كثيرًا؛ لأنهم يتبارون في معرفة وزن الشخص المار على السُّلم دون أن يروه.

دخلوا مكتب الاستقبال الصغير الذي يقَع على يمين الداخل من باب الأوتيل، وكانت صاحبته «مدام ماريان» مشغولةً في كتابة حساباتها في دفتر ضخم، فرفعت وجهها العجوز الطيب، ثم ظهرت ابتسامة وهي تُصلح من وضع نظارتها الطبية، ونظرت لهم طويلًا، ثم قالت: حجرتان على الشارع!

ابتسم الشياطين، ولم ينطِق أحدهم بكلمة؛ فقد قالت بسرعة: أظن أنني رأيتكم هنا قبل الآن، وسوف تنزلون في نفس الحجرتَين! وأصلحَت وضع نظارتها، ثم قالت: أذكر أن فتاةً صغيرةً كانت معكم. ابتسم الشياطين ولم يُعلِّق أحدهم؛ فقد طلبت جوازات السفر لتُثبِّت أسماءهم في دفتر الأوتيل، ثم قدَّمت لهم مفتاحَين لحجرتَين متجاورتَين.

لم يشعروا بالدهشة عندما تصرَّفت «مدام ماريان» هذا التصرُّف؛ فإن «أحمد» بالذات يذكر أن «ريما» قد عقدت معها صداقةً ذات مغامرة، وقد أُعجَبت بها مدام «ماريان».

أخذوا طريقهم إلى الطابق الثاني. كان السُّلم يُصدر أصواتًا جعلتهم يبتسمون، وعندما دخلوا أول حجرة، قال «أحمد»: نفس الحجرة، إنني أتفاءل بها؛ فقد انتهت مغامرتنا أيامها بنجاح.

انضمَّ «فهد» إلى «خالد»، وانصرف «أحمد» و«قيس» إلى الحجرة الأخرى المجاورة، وكانت تُطل على الشارع هي الأخرى. أبدلوا ثيابهم، والتقَوا في الصالة الواسعة التي تقع عند مدخل الأوتيل، كان لا يزال أمامهم وقت طويل قبل أن يتحرَّكوا إلى ملهى «النجمة»؛ فقبل أن يتركوا المقر السري وصلهم تقرير سريع عن «كوزان»، كان من بين معلوماته أنه يسهر كثيرًا في ملهى «النجمة».

كانت خطة الشياطين ألَّا يتصلوا به في البداية، إنهم سوف يضعونه تحت المراقبة عدة أيام قبل أن يخطوا خطوتهم الثانية. وهكذا، جلسوا في الصالة الواسعة، ذات الشُّرفة الزجاجية المُطلة على الشارع. كانت الخطوات قد بدأت تَقل؛ فاليوم الثلاثاء، منتصف الأسبوع، وفي «باريس» يعود أهلها إلى بيوتهم مبكرين، تمامًا كما يستيقظون مبكرين؛ فأيام الأسبوع الخمس عمل كلها، ويوما السبت والأحد ينطلقون إلى الريف الفرنسي.

كان الشياطين يرقبون شارع «سان ميشيل» الذي بدأ يهدأ، ولم يكن هناك ما يقولونه الآن. ألقى «أحمد» نظرةً سريعةً على الصالة، كان بعض الروَّاد متناثرين في أرجائها؛ واحدٌ وحدَه، أو اثنان معًا … وهكذا ولم يكن يصدر أي صوت من أي اتجاه؛ فحتى الذين يتكلَّمون كانوا يتكلَّمون بصوت منخفض، غير مسموع.

نظر «خالد» في ساعة يده، ثم قال: أمامنا أكثر من ساعة يمكن أن نقضيها كعادتنا في جولة حُرة، خصوصًا ونحن قريبون من الملهى!

في لحظة واحدة كانوا يقفون معًا، ثم أخذوا طريقهم إلى الخارج. إن الاتجاه إلى اليمين، ثم الشمال، يؤدِّي إلى ملهى «النجمة» بعد مسيرة حوالي ربع ساعة؛ ولذلك فقد اتجهوا إلى الاتجاه المخالف، وكانت معظم المحالِّ التجارية قد أغلقت أبوابها، غير أن الفترينات كانت متروكةً للعرض، ولم تكُن الإضاءة في الشوارع عالية، كانت الأضواء خافتةً نوعًا ما، ظلُّوا يتحدَّثون في أشياء كثيرة، تذكَّروا أول مرة جاءوا فيها إلى «باريس» وتذكَّروا آخر مرة، وتذكَّروا طويلًا «جان فال»، وما كان يفعله عندما يَصِلُون «باريس». كانت حالة ذكريات قد سيطرت عليهم.

فجأةً توقَّف «أحمد» عن السير وهو يمسك يد «خالد» الذي التفت إليه، كانت الدهشة تملأ وجه «أحمد» وهو ينظر إلى الرصيف المقابل، ونظر «خالد» بسرعة، ثم اتسعت عيناه، فقال «أحمد»: إنني لا أُصدِّق!

كان بقية الشياطين يُوجِّهون أنظارهم في الاتجاه نفسه، قال «قيس»: المؤكَّد أنه لا يعرفنا، هل ننتقل إلى هناك؟

لم يَرُد أحد بسرعة، غير أن «أحمد» قال بعد لحظة: ينبغي أن يذهب اثنان، ويُراقب اثنان. وقبل أن ينطق أحد بكلمة قال: سوف أذهب أنا و«قيس»، عليكما بمراقبتنا!

أسرع «أحمد» و«قيس» مبتعدَين في اتجاه إشارة المرور؛ حتى يمكن أن يجتازا الشارع. كانت الإشارة حمراء، والسيارات تأتي مُسرعةً وكأنها في حالة سِباق. ظلَّ الاثنان يركِّزان نظرهما على الرجل الواقف هناك.

قال «قيس»: لا أظن أننا واقعان في خداع البصر!

قال «أحمد»: إن الأوصاف، بل والصورة التي رأيناها في المقر السري، هي نفسها ذلك الرجل الواقف هناك!

قال «قيس»: هل يمكن أن يكون هو «لوكاتس»؟!

تغيَّرت الإشارة إلى اللون الأخضر. كانا يقفان عند الخطوط البيضاء التي تشير إلى المرور. أسرعا في عبورهما وكانا لا يزالان يُراقبان ذلك الذي يقف هناك، أو «لوكاتس» المزعوم. أصبحا على الرصيف الآخر حيث لا يزال الرجل يقف أمام أحد المقاهي الصغيرة المنتشرة. كان يُدخِّن في شرود … ترك مكانه، ثم اقترب من المقهى، وجلس على أول كرسي قابله، فاقترب «أحمد» و«قيس» منه، ثم جلسا هما الآخران، جاءهما الجرسون فطلبا قهوةً باللبن.

في الوقت نفسه، وأمام المقهى تمامًا، وعلى الرصيف الآخر، كان يقف «خالد» و«فهد»، همس «أحمد»: ينبغي أن نراقبه حتى النهاية، وهذه مسألة تحتاج إلى وقت. ينبغي أن نُنفِّذ الطريقة «ل»! هزَّ «قيس» رأسه مُوافِقًا، ثم قام من مكانه وانصرف.

ظلَّ «أحمد» يراقب الرجل الذي كان لا يزال يُدخِّن شاردًا دون أن ينظر في اتجاه الشياطين. عاد «قيس» بعد قليل، لكنه لم يجلِس بجوار «أحمد»؛ فقد استمرَّ في طريقه حتى مرَّ خلف الرجل، ولمس ياقة جاكت الرجل في هدوء لا يستطيع أن يحسه، ثم استمرَّ مرةً أخرى في طريقه.

كان الجرسون قد أحضر القهوة، وأخذ «أحمد» يشربها في هدوء، ثم فجأةً ابتسم؛ لقد عرف أن «قيس» قد نفَّذ المهمَّة بنجاح. وعاد «قيس» بعد قليل، ثم جلس يحتسي قهوته هو الآخر وهمس: كل شيء على ما يرام.

قال «أحمد»: نعم، إن جهاز الاستقبال معي يتلقَّى الإشارات!

كان «قيس» قد ثبَّت جهاز إرسال دقيق جدًّا في ياقة الرجل.

الآن يستطيع الشياطين أن ينصرفوا دون أن يفقدوا أثر الرجل، وانتهيا من شرب القهوة، فدفعا الحساب، ثم قاما … كان «فهد» و«خالد» لا يزالان يقفان هناك، غير أنهما أحسَّا بالدهشة عندما شاهدا «أحمد» و«قيس» ينصرفان، قال «خالد»: لا بد أنهما قد وصلا إلى نتيجة ما! …

لم يكَد ينتهي من جملته حتى علا صوت فرملة سيارة، وتَجَمَّع الناس، همس «فهد»: إنهما لا يظهران!

أسرعا إلى حيث تجمَّع الناس، لكنهما لم يكادا يقتربان حتى كان الناس قد انفضُّوا سريعًا، وبسرعةٍ أقبلت سيارة إسعاف. كان هناك رجل مُمدَّد على الأرض، وظهر «أحمد» و«قيس»، فقال «خالد»: الحمد لله، لم يحدث شيء.

عندما اقتربا قال «أحمد»: إن الإصابة ليست شديدة، إن الرجل فقط متقدِّم في السن، غير أنه المخطئ.

كان «فهد» و«خالد» ينظران إلى «أحمد» و«قيس» في انتظار أن يقولا شيئًا. ألقى «أحمد» نظرةً إلى الرصيف الآخر حيث كان الرجل لا يزال جالسًا، سأل «خالد»: ماذا حدث؟ وقبل أن يُجيب «أحمد» كان الرجل قد وقف، ثم انصرف.

همس «فهد»: لقد انصرف «لوكاتس». فابتسم «أحمد» وهو يقول: إنه يتحرَّك تحت أعيننا.

ونظر في ساعة يده، ثم قال: لقد أوشك موعد «كوزان»، ينبغي أن أعود إلى الأوتيل سريعًا!

تحرَّكوا في اتجاه الأوتيل الذي لم يكُن يبتعد كثيرًا. دخل «فهد» أوَّلًا، وعندما لم يرَ مدام «ماريان»، ابتسم الشياطين الذين دخلوا بسرعة، واتجهوا إلى حيث توجد حجرتَيهما. في دقائق كان «أحمد» أمام المرآة ويضع أمامه أدوات الماكياج؛ إن عليه أن يتحوَّل إلى شخصية أخرى حتى لا يعرفه «كوزان». قال «قيس»: ينبغي أن يكون أحدنا معك؛ فأنت لا تضمن الظروف! فكَّر «أحمد» قليلًا، ثم قال: لا بأس، فليكن «خالد»، وعليك بمتابعة «لوكاتس».

أسرع «خالد» يضع ماكياجه هو الآخر، لقد أصبح «أحمد» عجوزًا مُتقدِّمًا في السن، وأصبح «خالد» شابًّا ذا شارب أنيق، ولحية رقيقة، وأخرج «فهد» من حقيبته عصًا صغيرة، ثم جذبها، فخرجت منها أخرى ثم ثالثة، حتى أصبحت عصًا طويلة، أمسكها «أحمد» وبدا كعجوز متهالك.

ضحك الشياطين وهم يخرجون من حجرتَيهما، وأسرع «قيس» و«فهد» بالانصراف، في حين كان «أحمد» يمشي بخطًا بطيئة ومعه «خالد»، فبديا وكأنهما والد وولده، وعندما مرَّا أمام مكتب مدام «ماريان» لم ينظرا تجاهها، وإن كانت هي قد نظرت إليهما في دهشة، غير أنها لم تنطِق بكلمة، واستمرَّا في طريقهما حتى خرجا.

كان «قيس» و«فهد» يقفان بعيدَين قليلًا عن الأوتيل، فاتجه «أحمد» و«خالد» إليهما حتى وصلا، فقال «أحمد» بصوت واهن: الآن أستودعكما الله يا أبنائي!

ابتسموا جميعًا، وأخذ «أحمد» و«خالد» طريقهما إلى حيث يوجد ملهى «النجمة» حيث تبدأ المهمَّة الثانية، مراقبة «كوزان».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤