إدريس بك راغب

الرئيس الأعظم للمحفل الأكبر الوطني المصري، ورئيس أعظم محافل أفريقية الشمالية لدرجة الأساتذة المعلمين

«إدريس بك راغب»، وقبل الكلام عن ترجمتهِ نتكلم عن والدهِ. هو المرحوم «إسماعيل باشا راغب»، وكان قد هاجر مع والدهِ من موره إلى مصر في حروب اليونان مع الدولة، وترك في بلدهِ «بتراس» أموالًا وافرةً وأملاكًا واسعةً؛ لأنه كان من ذوي البيوتات فيها وأهل الشأن بين أهلها، ولما وصل إلى مصر تحت أعباء الهجرة والغربة رآه رجل من أهل الفراسة ومعه ابنه «إسماعيل راغب» صبيًّا تلوح عليهِ مخايل النجابة، فأشار عليهِ أن يُدخله في المدرسة الأميريَّة بأبي زعبل ففعل، فما لبث أن فاق أقرانه ودخل في معيَّة «محمد علي باشا» كاتبًا، فقرَّبه «محمد علي» لِمَا رآه فيهِ من الذكاءِ والأمانة، وقد دخل عليهِ يومًا ليختم منه أوراقًا، فدخل على عقبهِ المرحوم «سامي باشا» رئيس الديوان الخديوي في ذلك الوقت، ووقف فسأله «محمد علي» عما عنده فمجمج في كلامهِ كأنه ينتظر خروج ذلك الكاتب ليعرض ما لديهِ، فقال له «محمد علي»:

أَوَيُكْتَمُ عن هذا سِرٌّ؟ اعرض ما عندك، فهذا كابني.

نقل هذه الحكاية المرحوم «راغب باشا» في وصف حكمة «محمد علي» في تربية حاشيتهِ، ومما يذكر له من الشجاعة وقوة القلب أنه كان كاتبًا لمجلسٍ رئيسُه «إبراهيم باشا» ذاك الأسد الأغلب، فتقدمت في المجلس دعوى أقر المجلس فيها على قتل رجل، فعارض المرحوم «راغب باشا» فيها معارضة أغضبت المرحوم «إبراهيم باشا»، فقال له: أوافقك على نظر الدعوى مرةً ثانيةً، فإن كانت معارضتك على غير حقٍّ قتلتك مع الرجل، فقال: يا أفندينا إن الأعضاءَ رأوا رأيك فهم لا يتحوَّلون عنه، وإنما أرجو من أفندينا أن ينظرها وحده وله الحكم بعد ذلك. ولما قرأ «إبراهيم باشا» أوراق الدعوى ظهر له صحة ما قال «راغب باشا»، فاعترف بخطأ ما رآه المجلس، وصواب ما رآه «راغب باشا»، وهذا مقام لا تتقدم فيهِ قدم في ذلك الزمان، والموت بين الشفة والسيف. ولما تولى «عباس باشا» الأول غضب على المورليَّة جميعًا فانزوى «راغب باشا» في أبعاديتهِ مدة حكومة المشار إليهِ. وقد قصده مرارًا بالسوءِ وأحاطه بالجواسيس، ولكن الله سلمه. وفي ولاية المرحوم «سعيد باشا» كان هو القائم بإدارة الأمور فصار ناظرًا على الجهاديَّة والخارجيَّة، وناظرًا على الخزينة التي هي الماليَّة، وكان لا يعيش له أولاد، ولما رُزق بإدريس بك نصح الأطباءُ لوالدهِ أن يخففوا من الإفراط في التحرُّز والوقاية التي كانت سببًا لمرض الماضين، وكان المرحوم «سعيد باشا» يبعث بالتلغراف إلى مصر وهو في الإسكندرية يسأل كل يوم عن صحة المولود ويبشر بنفسهِ وزيره بصحة ولده.

ولمَّا تولى «إسماعيل باشا» الخديوي الأسبق قلَّده وظيفة باشمعاون، وكانت تلك الوظيفة بمكان رئاسة الوزارة، فكان بيدهِ الحل والعقد في جميع الأمور، وقد زاره الخديوي مرارًا في بيتهِ ولم يسبق هذا لغيره. ومن مآثرهِ أنه لما كان ناظرًا على الماليَّة أحسن عليهِ الخديوي «إسماعيل» بثلاثين ألف جنيه فاعتذر عن أخذها لحالة الماليَّة، ويقول الخبيرون إنه لو كان «إسماعيل باشا» تبع نصائحه لم يحصل ما حصل من ارتكاب الديون وغيرها.

وقد أُصيب بالشلل في شِقِّهِ؛ وسبب ذلك أن رجلًا فرنسويًّا من أقارب «موسيو دلونكل» الشهير جاءَ إلى مصر وعرض عليهِ قرضًا، فأخذ يخابره في شروط القرض و«إسماعيل» باشا يحذره أن لا يعتمد على كلام الرجل وهو يعارضه في ذلك، وفي آخر الأمر لما تبين المرحوم «راغب باشا» صدق فراسة «إسماعيل باشا» الخديوي في الرجل المذكور وغلطه في الاعتماد عليهِ لم يقدر أن يتحمل ذلك على مهارتهِ فأصيب بالشلل فتداركه الأطباءُ، وقد بقي في جسمهِ أثر المرض ظاهرًا إلى أن توفي، ولم يمنعه هذا من مباشرة الوظائف المهمة في الحكومة.

وقد صار رئيس الوزارة في مدة «عرابي» في عهد الخديوي «توفيق» أيضًا، وكان له عناية عظيمة في تربية ابنهِ ووحيدهِ «إدريس بك» فكان يدخله في أشغال الحكومة وهو في العاشرة من عمرهِ ويشاوره مشاورة امتحان وتدريب في كثير من المُعْضِلَات، وما زال معه على ذلك حتى توفي، وقد صرف جميع ما في طاقتهِ في تعليمهِ وتهذيبهِ وتثقيفهِ، وكان له بمنزلة المعلم في أوقات فراغهِ من الدرس، وإنك لتجد ذلك ظاهرًا في أخلاق «إدريس بك»، فإنه جمع من محاسن الأخلاق ومكارم الشِّيَمِ ما يدلك على أنه تخرَّج على فيلسوف حكيم، وقد جاءَ له بأفاضل المعلمين والأساتذة فهو يعرف اللغة الفرنسويَّة والإنكليزيَّة والتركيَّة والعربيَّة والعلوم الرياضية، وله فيها تآليف ومقالات شتى كما سنذكره فيما يلي.

ومع أنه تربى في مهد النعيم، ونشأ في الحلية، فهو قوي الحجة، مبين البرهان، مُتَخَوْشِنٌ في نفسهِ وسط تلك النعم. ومع أنه مالك لهذه الثروة الواسعة فهو محتقر للغنى، لا يمكن لمن ينتقد أحواله وأطواره أن يجد في طياته شائبة افتخار بما لديهِ من وافر المال، ومع أنه واسع المعارف، طويل الباع في العلوم الرياضية، فلا يجد خليطه أدنى دعوى للعلم. أمَّا الأخلاق ومحاسنها فهو من الأفراد المعدودين في التاريخ في باب الحلم، ولا يغلط واصفه إن قال إنه لم يُرَ غضبانًا أو قائلًا هُجرًا، أو شاتمًا خادمًا، وله في الحزم في أشغالهِ والكرم في عطاياه آيات للسائلين.

وُلد «إدريس بك» يوم الأربعاء في ٢١ أغسطس سنة ١٨٦٢م فتربى في مهد العز كما تقدم، ورأى أساتذته منه تلميذًا نجيبًا يميل طبعًا إلى العلوم، ولا تكاد تخفى عليهِ من دروسهِ خفية؛ فارتفعت منزلته عندهم ولم تطل المدة حتى ظهرت ثمار اجتهادهِ يانعة، فأحرز ثقة أساتذتهِ بهِ، ونال درجة عالية في العلوم الرياضية، وكان على صغر سنهِ سمير الكتب، وجليس التآليف، ولم يخلُ منزله يومًا من العلماء الأعلام الذين كانوا يفدون عليه.

وكان يراسل جريدة المقتطف في أثناء طبعها في مدينة بيروت، وله بها الرسائل الرياضية والمقالات العلمية التي تدل على طول باعهِ وتضلعهِ من العلوم، وقد اختاره المجمع العلمي الشرقي عضو شرف فيهِ.

وفي شهر ذي القعدة سنة ١٢٩٧ﻫ الموافق شهر أكتوبر سنة ١٨٧٩م اقترن بذات العصمة والعفاف السيدة «نظله» كريمة خالهِ المرحوم «عبد الله باشا عزت الأرنئُوطي».

وفي شهر رمضان سنة ١٣٠٢ﻫ/يونيو سنة ١٨٨٤م توفي إلى رحمتهِ تعالى «إسماعيل راغب باشا» والد صاحب هذه الترجمة، ففقدت البلاد المصرية بوفاتهِ ركنًا من أعظم أركانها، وحزنت عليهِ حُزنًا شديدًا، وفي ذلك الوقت أظهر «إدريس بك» من الحزم والعزم ما أطلق ألسنة الخلق عمومًا بالثناءِ عليه وعلى آدابهِ. وقد أنعم عليهِ المغفور له توفيق باشا خديوي مصر بالرتبة الثانية في ٢٣ يوليو سنة ١٨٨٥م/٢٠ شوال سنة ١٣٠٢ﻫ؛ إظهارًا لالتفاتهِ السامي إليهِ وتشجيعًا له على اقتفاءِ خطوات أبيهِ في خدمة الحكومة والوطن بالصدق والأمانة فَسَرَّ هذا الإنعام كل من عرف حُسن شمائل المنعَم عليهِ وأمَّلوا له زيادة الارتقاءِ في مدارج العلاءِ.

وفي هذه السنة (١٨٨٥م) رزقه الله ولدًا سماه «أحمد نصرت»، فأقام لأجلهِ ليالي الذكر ووزَّع مع حضرة حرمهِ الفاضلة الإحسان على المستحقين، وشكروا الله على هذه البركة.

وسنة ١٨٨٦م رُزق ابنةً سماها «فطنت» هانم، وعمل لها العقيقة كما عمل لأخيها قبلها.

وإذ كانت العشيرة الماسونيَّة هي الجمعيَّة المثلى التي جمعت نخبة أفاضل البلاد وعيون أعيانها، وكان يتقاطر إلى الانتظام في سلكها كل ذي نفس أبيَّة وسجيَّة زكيَّة، ولما رأى صاحب الترجمة ما لهذه الجمعية الشريفة من الأعمال الحميدة قدم طلبه إلى محفل كوكب الشرق نمرة ١٣٥٥ التابع لمحفل إنكلترا الأكبر، فقبل في الدرجة الأولى في ٢٣ ديسمبر سنة ١٨٨٧م، وكان رئيس ذلك المحفل وأعضاؤُه يثقون به لما رأوه فيهِ من دماثة الأخلاق وكريم السجايا، فَرَقَّوْه إلى الدرجة الثانية في ١٠ فبراير سنة ١٨٨٨م فزاد حبه للماسونيَّة وزاد حبهم له.

وترقى لدرجة الأستاذ في ٢٩ مارس سنة ١٨٨٨م، فكان قدوة حسنة لإخوانهِ، ورُزق في هذه السنة ولدًا سماه «مُحمَّد عزت».

وسنة ١٨٨٩م انتُخِب بإجماع الآراءِ منبهًا أول لمحفل كوكب الشرق.

وفي ١٤ يناير سنة ١٨٨٩م أرسل عطوفة ناظر الحقانيَّة إفادة إلى سعادتهِ يكلفه قبول منصب نائب قاضٍ في المحكمة الأهلية فلبى الدعوة لخدمة وطنهِ العزيز، ولم تطل مدة قيامه في هذه الوظيفة حتى صدرت إرادة سمو الأمير بتعيينه قاضيًا في محكمة مصر الأهلية، وكان من جملة آثارهِ فيها أنه كشف مخبآت قضية «مصطفى باشا الخازندار» الشهيرة، وأظهر بواطنها.

وفي ٢٦ يناير سنة ١٨٨٩م أحرز درجة أستاذ معلم في محفل مصر نمرة ٣١١، وهو محفل إنكليزي تابع للشرق الإنكليزي، وفي ٦ مارس سنة ١٨٨٩م أسس محفل الهلال نمرة ٣٠، وفي ٨ مايو سنة ١٨٨٩م ترقى إلى درجة العقد الملوكي في مقام البلور نمرة ١٠٦٨، وفي أواخر سنة ١٨٨٩م أجمعت الآراءُ على انتخابهِ رئيسًا لمحفل كوكب الشرق، وفي ٢٦ ديسمبر سنة ١٨٨٩م عُين منبهًا أول أعظم للمحفل الأكبر المصري.

وفي ١٠ يناير سنة ١٨٩٠م تولى رئاسة محفل كوكب الشرق الموقر، وقد زرتُ المحفل في أثناءِ رئاستهِ فألفيته زاهرًا زاهيًا بهِ، ورُزق في هذه السنة ولدًا سماه «إسماعيل راغب».

ويوم الجمعة مساءً في ١٢ ديسمبر سنة ١٨٩٠م اجتمع المحفل الأكبر المصري وقرر اجتماعه الماسوني في ٩ يناير سنة ١٨٩١م لانتخاب موظفيه، وكان المغفور له «توفيق باشا» خديوي مصري رئيسًا أعظم للمحفل الأكبر المصري، ولما كثرت أشغال المحافل وزاد عدد طالبي الانضمام إليها رغب سموه إلى الإخوان العاملين أن يُعفوه من الرئاسة العمليَّة، وأن ينتخبوا غيره من الأفاضل أصحاب الوجاهة والعلم، وفي ٩ يناير سنة ١٨٩١م اجتمع المحفل الأكبر المصري في الدار الماسونيَّة بحضور جمهور من الإخوان، وبعد إجراءِ الرسوم المعتادة انتخبوا «إدريس بك» رئيسًا أعظم فسرَّ كل الإخوان في القطر المصري من هذا الانتخاب.

ويوم الجمعة ٢٣ يناير سنة ١٨٩١م أرسل سمو «توفيق باشا» نائبه في الرئاسة العظمى سعادة «حسين فخري باشا» ناظر الحقانيَّة المصرية في تلك السنة، فعقد اجتماعًا في المحفل الأكبر المصري وثبَّت الموظفين وأجلس «إدريس بك» على كرسي الرئاسة العظمى، فاستلم الأشغال بين تهليل الإخوان وسرورهم، وحينئذٍ انتُخب سمو الخديوي «توفيق باشا» رئيس شرف مؤبدًا للمحفل الأكبر المصري، و«فخري باشا» رئيس شرف أيضًا، وبلغ سموَّه ما تمَّ، فسُرَّ وأهدى إلى المحفل الأكبر مبلغ مائة جنيه تنشيطًا له على أعمالهِ الخيرية، وأُعلنت المحافل الوطنية والمتحابة والمشارق السامية والمجالس العليا الماسونيَّة في سائر أنحاء المسكونة بهذا الانتخاب فَسُرَّ الجميع بذلك وأرسلوا رسائل التهاني تترى.

وفي ٢٣ مارس سنة ١٨٩١م نال الدرجة الثامنة عشرة من شرق إيطاليا الأعظم.

وفي ٢٩ أبريل سنة ١٨٩١م اجتمع المحفل الأكبر المصري برئاستهِ وبحضور جماعة من الإخوان العظام، وكان المحفل الأكبر مديونًا بستة عشر ألف جنيه فاتفقوا على تسويتهِ وأقنعوا أصحاب الدَّين بقبول ألف وأربعمائة جنيه تُدفع نقدًا ويتخلَّص المحفل من كل ديونهِ، ورأى أعضاءُ المحفل الأكبر تعسُّر الواسطة لوفاء ذلك الدين فلجئوا إلى أستاذهم الأعظم «إدريس بك»، فكان من باكورة أعمالهِ أنه دفع المبلغ من مالهِ الخاص، فأصبح المحفل الأكبر المصري حرًّا في أعمالهِ وماليتهِ.

وفي ١ مايو سنة ١٨٩١ أُلحق بمحفل نور الشرق التابع لشرق إيطاليا الأعظم، فمنحه في ٥ مايو سنة ١٨٩١م الدرجة الثلاثين، ثم دخل في المجلس المصري الأعلى وأخذ فيهِ درجتي ٣١ و٣٢.

وفي ٣ يوليو سنة ١٨٩١م أحرز الدرجة السادسة والتسعين في الطريقة المنفيسيَّة مكافأةً على ما أتاه من الخدم الجليلة للهيئة الاجتماعية عمومًا والماسونيَّة خصوصًا، ولما كان المجلس الأعلى لدرجة ٣٣ لا يعترف بهذه الطريقة تنازل عن هذه الدرجة.

وفي ٢٩ سبتمبر سنة ١٨٩١م ترقى إلى الدرجة الثالثة والثلاثين، وهي أرفع الدرجات الماسونيَّة في الطريقة الاسكوتلندية للبنائين الأحرار القدماء المقبولين.

ويوم الخميس ٨ أكتوبر سنة ١٨٩١م مساءً احتفل المحفل الأكبر بُعَيْدَ تأسيسهِ وتثبيت الرئاسة العظمى لسعادة «إدريس بك»، فكان هذا الاحتفال جامعًا كل أسباب المسرات. وقد توارد إليهِ الإخوان أعضاء جميع المحافل، وازدان صدر الحفلة بحضور كثير من الرؤساء ومندوبي المشارق العظمى المتحابة والمحافل الكبرى والمجالس السامية التي لها علائق وِدَاديَّة وَصِلاتٌ حبيَّة بالمحفل الأكبر، فكان هذا الاحتفال باهرًا زاهرًا لم يسبق له نظير في الهيئة الماسونيَّة المصرية؛ لأنه جمع دواعي الأنس ومجالي الابتهاج، وكان الإخوان على سرر الصفاءِ متقابلين تعلو أساريرَ وجوههم أماراتُ البِشْرِ وإشارات الابتهاج؛ لأنهم علموا أن هذا اليوم تذكار عظيم لظهور شأنهم في عالم البناية الحرة وبزوغ كوكب سعدهم في أفق الماسونيَّة.

وفي ١٧ نوفمبر سنة ١٨٩١م أسس مقام كوكب الشرق نمرة ١٣٥٥.

وفي ٣ يناير سنة ١٨٩٢م أسس محفل الإخلاص للأساتذة المعلمين نمرة ٤٤٠، وقد نال النياشين الرئيسة من كل المحافل التي قام عليها رئيسًا، وهي: الهلال، وكوكب الشرق، ومقام كوكب الشرق، ومقام البلور، ومحفل الإخلاص.

وفي يوم الخميس الساعة السابعة وربع مساءً في ٧ يناير سنة ١٨٩٢م توفي إلى رحمة الله «توفيق باشا» خديوي مصر في مدينة حلوان، فحزنت عليهِ الأمة المصرية عمومًا، والماسون خصوصًا حزنًا شديدًا، ومشى الماسون جميعًا في مشهدهِ. وعلى إثر وفاته كتب سعادة «إدريس بك» رسالة تعزية لحضرة صاحبة الدولة والعصمة حرم المغفور له بالنيابة عن الجمعية الماسونيَّة وتوجه بها إلى سراي القبة وقدمها إلى دولتها فقبلتها أكرم قبول من هذه الجمعية الشريفة، وسألت «إدريس بك» إبلاغ سلامها وشكرها الجزيل إلى أعضاء المحفل الأكبر الموقر وسائر إخوان العشيرة الماسونيَّة في القطر المصري.

وعمل له صاحب الترجمة تذكارًا ليوم الأربعين من وفاتهِ لم يسبق له نظير في البلاد المصرية اجتمع فيهِ أكثر من ألف أخ ماسوني بملابسهم الرسمية برئاسة «إدريس بك»، فَتُلِيَتْ فيهِ الخطب والمراثي.

وفي ١٢ يناير سنة ١٨٩٣م أسس المقام الأكبر المصري لدرجة العقد الملوكي، وعُين رئيسًا أول أعظم له، وانتُخب كاتب هذه الترجمة سكرتيرًا أعظم له، وفي ٣ فبراير سنة ١٨٩٣م أسس محفل السفينة الملوكيَّة نمرة ٤٤٠ (المارك).

ورُزق في هذه السنة ابنةً سماها «عطيت هانم».

وفي هذه السنة (١٨٩٣م) طبع القانون الماسوني للمحفل الأكبر بعدما نُقِّح وأُضيف إليهِ تكملات مهمة، وابتدأ بطبع كتب الدرجات الرمزية الثلاث ثم طبع شروحها كل درجة بكتاب على حدة، وكذلك درجة المارك والعقد الملوكي ومحفل الأساتذة المعلمين، وكتب التعليم وغيرها، ولم يقتصر على هذا، بل جعل جلسات المحفل الأكبر غاية في الانتظام ووطَّد اتحاده مع المشارق السامية ونظَّم اجتماع لجنتهِ المستديمة.

وفي شهر أكتوبر سنة ١٨٩٤م/ربيع أول سنة ١٣١٢ﻫ أنعم عليهِ جلالة شاه إيران بنيشان شيرخورشيد (الشمس والأسد) من الدرجة الثانية على إحسانهِ إلى الحجاج الإيرانيين وغيرهم.

ورُزق في هذه السنة ابنةً سماها «أمينة هانم».

وفي هذه السنة (١٨٩٤م) طُبع كتابه المسمى «طيب النفس لمعرفة الأوقات الخمس»، وقدمه لأعتاب سمو «عباس باشا حلمي» خديوي مصر، ورفع منه كتابًا إلى عظمة السلطان «عبد الحميد خان» وآخر لجلالة شاه إيران، وقد قرظه حضرة المشير الهمام ذي الدولة والفخار الغازي «أحمد باشا مختار» بالتركيَّة فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم

مؤلف عزتلو إدريس بك أفندي شو كتاب فوائد نصابك محتو ياتيله اشتغال ايتمكي نه أبي بولمش على الخصوص عمومه عوامي، وخصوصه حسابي برطرزده مختصر ومفيد تفسير مسائله كير شمكله برابر تطبيقاتنه دها زياده اهميت ويره رك بر طاقم دستور لري حل ومتعدد جد وللري املايه قدر صرف همت ايلمش حقاكه پك كوزل ياپمشدر كنديسنه تشكر له برابر دها بونك كبي نيجه اثار مفيده نشرينه موفق اولمسني الطاف سبحانيه دون تمنى ايلرم.

غازي
أحمد مختار
في ١٥ جمادى الثاني سنة ١٣١٢ﻫ
وقرظه حضرة العالم المحقق سعادتلو «إسماعيل باشا الفلكي» ناظر مدرسة المهندسخانة والرصدخانة سابقًا، فقال:

إن أبهى ما تزدان بهِ الطروس، وترتاح إليه النفوس، حمد من اطلع في سماء العلوم هلالًا يفيض نوره على العالمين، ويهدي بضوئهِ المسترشدين، والصلاة والسلام على قطب دائرة الوفاءِ، وصحابتهِ الذين أظهروا أسرار العلم من زوايا الخفاءِ. وبعد؛ فقد سرحت الفكر في رياض هذا المؤَلَّف العزيز المثال، وأمعنت النظر في غررهِ التي لم ينسج لها على منوال، فوجدت أن مؤلفه الفاضل قد جمع فيهِ من الفوائد ما لا يدخل تحت عد حاسب، ولا يقوم بحصرهِ قلم كاتب. أظهر مكنونات كانت مودعة في زوايا النسيان، فأزال حجابها حتى تراءَت للعيان، ومثَّل علم المواقيت أحسن تمثيل، بما لم يُعهَد له مثيل، فسهَّل على كلٍّ معرفة الميقات، فلا غرابة أن عددناه له من أعظم الحسنات، فكم ترك الأول للآخر، من عظيم المحاسن وشريف المآثر، نعم فهو نتيجة فكر رشيد، وعقل سديد، ورياضي له ذكر بين مشاهير الرجال، وله في أفئدة معاصريهِ جزيل الآمال، فنفع الله بهِ وطنه، وأدام عليه من مدرار علومهِ ما يجعل أهل العصر الحاضر يرفعون له ألوية الشكر، ويقدمون إليهِ عظيم الثناء، وأكثر الله من أمثالهِ بين ظَهرانَينا لتقدم المعارف والعلوم.

وقرظه حضرة العالم الفاضل عزتلو أحمد بك ذهني ناظر مدرسة المهندسخانة الخديويَّة فقال:

ما أبدعته أفكار الحكماء الأوائل، وجالت في ميادين اختراعه جياد أقلام الأفاضل، ورصدت كواكب إدراكهِ نفس «إقليدوس»، ودارت على محور الإمعان دائرة أنظار «بطليموس»، بأعظم مما أنتجته أفكار من قسم على صحيح تصوُّرهِ جمع المعارف والآداب، واطَّرحت دون بلوغ شأوه أقوال النبلاء في زوايا الانقلاب، همامٌ لم تدوَّن قاعدة في فنٍّ إلا وله بها الإلمام الشافي، والرأي السديد الوافي، ولا سيما علم الرياضة الذي غدا به كالرياض اليانعة، وغدت شموس أفكارهِ في بروج مطالعهِ ساطعة، كيف لا وهو المولى الذي يشار إليهِ بالبنان، ويشهد له بإحراز قصبات السبق في مضمار الرهان، ويقصر عنه في حلبتهِ كل عالم وكاتب، السريُّ اللوذعيُّ «إدريس بك راغب»، فقد طالما بذل النفس والنفيس لنفع بلادهِ وأبناءِ وطنهِ، وغمرهم من بحار علومه بما تركهم مشمولين بمننهِ.

ومما صار عنوانًا على تالد فضلهِ وطريفهِ، وشاهدًا عدلًا على رائق معناه ولطيفهِ، كتابه الذي بزغت في سماءِ الانتفاع أنوار أهلَّتهِ، وجلَّ عن الحساب تعداد منفعتهِ، حيث كان هداية للناسك إلى سواءِ السبيل، وحسمًا للنزاع وإبطالًا للقال والقيل، فلا غروَ أن تسابقت نفوس الأدباء طرًّا إلى اقتنائهِ، فهو الحريُّ بأن يبذل العاقل روحه ومدَّخر مالهِ في الحصول عليهِ وشرائهِ، ولقد سرحت ذهني في رياض سطور طروسهِ، وأجَلْتُ الأفكار في استجلاءِ مطالع شموسهِ، فإذا بهِ كتاب غدا قطبًا لدائرة أفكار الفضلاء، وشمس أفهام الألباء، كتاب قد أجزل الأنام منافعه، وهل تنكر الشمس في الرابعة، ولا يفوتك أن اسمه وافق مسماه، ونفح مسك طيبهِ وشذاه، فلا جرم أن كان راحة النفس في معرفة الأوقات الخمس، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وبجزيل فوائد فرائدهِ فليتنافس المتنافسون.

وقرَّظه جناب العلَّامة الفاضل الدكتور «فارس نمر» منشئ المقتطف والمقطم فقال:

تصفحت كتاب «طيب النفس بمعرفة الأوقات الخمس»، فإذا هو مِثل سائر ما نفثه يراع العالم الرياضي الكاتب سعادة «إدريس بك راغب» كتابٌ كلامه قلَّ ودلَّ، وبحثه عميق، ومعناه دقيق، ومنهجه منهج أرباب العلم والتحقيق، ولقد طال بحث الأئمة المتقدمين في توقيت الصلوات وكثرت كتب العلماء المحدثين في تعيين جميع الأوقات، ولكني لم أعثر بكتابٍ استوفى تحقيق المتقدمين واستقصى تدقيق المتأخرين قبل هذا الكتاب المستطاب الذي راعى في تعيين أوقات الصلوات الخمس فرق انكسار شعاع الشمس في الهواءِ محسوبًا على اختلاف ضغط الجلد، وتفاوت درجة حرارتهِ وانخفاض أفق الناظر، فجاءَ كتابًا يُعيِّن بهِ المصلي أوقات صلواتهِ ويستعين به العالم على حساب أوقاته، لا زال مؤَلفه الفاضل ينفع الشرق بعملهِ ومعارفهِ وينفح أهله بفضلهِ وعوارفهِ.

فارس نمر
مصر في ١ يناير سنة ١٨٩٥م

وفي سنة ١٨٩٥م نال درجة النخل والصدف، وتعيَّن عضو شرف في جمعية أبطال الماسونيَّة القدماءِ في مدينة شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية.

وفي شهر مايو سنة ١٨٩٥م عينته الحكومة المصرية مديرًا للقليوبية، فأصلح شئونها ورتب أمورها، وساوى بين القوي والضعيف، وفي غضون إقامتهِ في بنها قاعدة مديرية القليوبية أُنشئَ محفل ماسوني باسم بنها، وأُنْشِئَ مقام عقد ملوكي أيضًا تابع له، وذلك بعنايته واهتمامهِ.

وفي ١٢ يناير سنة ١٨٩٦م/٢٧ رجب سنة ١٣١٣ﻫ أُنعم عليهِ بالرتبة الثانية المتمايزة. وفي هذه السنة ١٨٩٦م رُزق ولدًا سماه «عبد الله»، وكان يوزع الخيرات على المحتاجين، ويقيم الأذكار والمبرات عند ولادة كل ولدٍ من أولادهِ كما تقدم.

وظلَّ في مديرية القليوبية إلى سنة ١٨٩٧م فاسْتُعْفِيَ من وظيفتهِ لخلاف حصل بينه وبين بعض أولي الأمر، وقد أجمعت الجرائد المصرية على اختلاف مشاربها على مدح همتهِ وشهامتهِ. وفي أول فبراير سنة ١٨٩٧م أُنعم عليهِ بالنيشان العثماني الثالث، في ٢٧ شعبان سنة ١٣١٤ﻫ.

وفي سبتمبر ١٨٩٧م (هذه السنة) عيَّنه سمو البرنس «أوف ويلس» ولي عهد مملكة بريطانيا العظمى ورئيس المحافل الإنكليزية رئيسًا أعظم على محافل أفريقية الشمالية لدرجة الأساتذة المعلمين.

وفي جلسة ٣٠ سبتمبر سنة ١٨٩٧م للمحفل الأكبر المصري أُعيد انتخابه بإجماع الآراءِ رئيسًا أعظم لسنة ١٨٩٨م بناءً على فضلهِ وأهليتهِ وتثبت في ٨ أكتوبر سنة ١٨٩٧م، وقد أينعت الماسونيَّة أيام رئاستهِ العظمى ونجحت نجاحًا يذكر حتى صار عدد المحافل المصرية أربعة وخمسين محفلًا منها محفلان تأسسا على اسم سعادتهِ وهما: محفل إدريس نمرة ٤٣، ومحفل راغب نمرة ٥١، ولا تزال الماسونيَّة في تقدم مستمر.

وقد أجمعت القلوب على حبهِ وإعلاءِ منزلتهِ، وبَعُدَ صيته في الآفاق فتواردت عليهِ مدائح الشعراءِ من كل صوب حتى لو طبعت كلها لملأت مجلدات من الكتب، ولا أبالغ إذا قلتُ: إنه لا يتم مشروع خيري في مصر أو أمر مفيد يعود عليها بنفع عميم إلا كان له فيهِ يد بيضاء. وكم من مرةٍ رأيناه مرأى العين يجود على المحتاجين ولا يردُّ سائلًا قصده لسبب الفاقة والفقر! هذه الجمعيات الخيرية على اختلاف نزعاتها تؤيد كلامنا، وهذه الأفراد والبيوت التي أخنى عليها الدهر من أي طائفةٍ كانت قد خصص لها مرتبات شهرية أو أسبوعية تتقاضاها من إحسانهِ حتى أصبح الجميع يترنمون بحمدهِ والثناءِ عليهِ وكلٌّ يخبر بما ناله داعيًا من صميم الفؤاد وسائلًا مهندس الكون الأعظم أن يبقيه للإنسانية ذخرًا وللشرق والشرقيين فخرًا.

هذا ملخص ترجمة أول أستاذ أعظم عامل في الماسونيَّة الشرقية الرمزية العربية، قَرَن العلم بالعمل، وأضاف إلى الفضيلة المعرفة، وإلي المعرفة الاتضاع، وإلي الاتضاع الإخاءَ وإلى الإخاءِ المحبة وإلي الكُلِّ الاستقامة، فظهرت لكل ذي ذوق سليم صفاته الغراءُ ومزاياه، حفظه الله ذخرًا للقطر وأهلهِ وأبقاه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤