أنا الشعبْ

قصة للأستاذ محمد فريد أبو حديد

أو قُلْ إنهما قصتان تمضيان في طريقين مختلفين وتنتهيان إلى غايتين مختلفتين أيضًا، ولكن بينهما تشابهًا قويًّا، إحداهما تنبئ بسعادة اثنين، والأخرى تنبئ بسعادة شعب بأسره.

إحدى هاتين القصتين إنسانية بالمعنى الدقيق الصادق لهذه الكلمة، والأخرى سياسية لا تخلو من المغامرات والمقامرات، ومما تستتبعه السياسة عادةً من الاضطراب واختلاط الأمور.

والأستاذ فريد أبو حديد قاصٌّ بارع ما في ذلك شك، يعرف براعته مَن قرأ قصصه «زنوبيا» و«أزهار الشوك» و«الوعاء المرمري»، واستحضر الساعات العذاب التي أنفقها وهو يقرأ هذه الكتب الرائعة التي تستهوي القلوب وتستأثر بالألباب، فهذه القصة الأخيرة لا تقدِّمه إلينا لأننا نعرفه منذ زمن بعيد، وهي لا تنبئنا من أمره بشيء جديد، ولا تحدثنا عن ناحية طريفة من نواحي فنه الذي يمتاز بالصدق والدقة والإتقان.

فهو في هذه القصة كما عرفناه في غيرها متقن للتصوير، محسن لاستقصاء خصال الأشخاص الذين يصوِّرهم والبحث عن أسرارها، والنفوذ من مشكلاتها المعقدة أشد التعقيد. وهو كعهدنا به باحث عن خبايا النفوس، نفَّاذ إلى دخائلها، لا يحب العجلة ولا يطمئن إلى السرعة، وإنما يطيل الوقوف عند ما يريد درسه من شئون الأفراد والجماعات حتى يشفي نفسه ويشفي قارئه من كل حاجة إلى الاستطلاع. ولفظه — كما عرفناه دائمًا — جزل رصين تشيع فيه عذوبة محبَّبة إلى النفس، لولا هنات تلقاك هنا وهناك ليست بذات بال، ولولا لوازم لا يكاد يبرأ منها شأنه في ذلك شأن كثير من الكتَّاب تلحُّ عليهم ألوان من التعبير فلا يستطيعون منها فكاكًا.

وقد قلتُ إن هذه القصة توشك أن تكون قصتين تجري أحداث إحداهما في مدينة بعينها من مدن الأقاليم هي دمنهور، ولا تكاد تخرج من هذه المدينة إلا حين يسافر بطل القصة إلى القاهرة، فيصحبه حبه الذي لا يريد عنه انصرافًا، ولا يريد هو منه خلاصًا؛ لأنه لا يعيش إلا به، ولا يعيش إلا له كما يقول.

وهذه القصة الإقليمية هي القصة الإنسانية حقًّا؛ لأنها تصور حياة طائفة من الناس في سرها وجهرها، وفي استقامتها والتوائها، وفي خيرها وشرها، وفي حبها وبغضها وتذبذُبها بين الحب والبغض، كما تصوِّر كيد الناس للناس، ومكر الناس بالناس، ووفاء الناس للناس، وكم تصوِّر صفو الحب حين يكون بين الأم وابنها، وبين الأخت وأخيها، وصدق الحب وحياءه واستخفاءه وإنكاره لنفسه وإن أبدت عنه الظروف حين يكون بين عاشقين يملك كل منهما لنفسه كأحسن ما يملك الإنسان نفسه، ويضبط شعوره كأحسن ما يكون ضبط الشعور.

وقد اختلفت بهما طرق الحياة فأتيح لأحدهما الثراء والسعة والنعيم، وكُتِب على أحدهما الآخَر العسر والضيق وفُرِض عليه الجد في كسب القوت. فأحدهما محب يستحيي أن يظهر ذات نفسه لأنه مترف موفور، والآخَر محب يأنف أن يظهر ذات نفسه لأنه معسر أبيٌّ. وهذا التفاوت بين المحبين، وهذا الحياء، وهذه الكبرياء، كل هذه الخصال هي التي تتيح للحب أن ينمو ويذكو ويملأ قلوب العاشقين رضًى وسخطًا وحزنًا وسرورًا، ويثير فيهما لوعة أي لوعة في أكثر الأحيان، وسعادة أي سعادة في أحيان أخرى، ويتيح لأحداث القصة أن تتصل وتجري في نسق مستقيم لا عوج فيه.

فبطل القصة فتًى من دمنهور قد فقد أباه وهو تلميذ في المدرسة الثانوية، فاضطربت عليه الأمور أشد الاضطراب حتى زهدته في الدرس، وصرفته عنه آخِر الأمر، واضطرته ظروف الحياة إلى أن يلتمس العمل ليكسب لنفسه ولأمه القوت، وهو يحاول فلا تغني عنه المحاولة شيئًا، ثم تشير عليه أمه أن يلجأ إلى رجل من أغنياء المدينة وأصحاب التجارة الواسعة فيها، كانت بينه وبين أبيه مودة وما زالت هذه المودة باقية بين أسرته وأسرة الفتى، ولا يكاد الفتى يلقى هذا الصديق القديم لأبيه حتى يحسن لقاءه ويكلفه العمل في محلجه، ثم يصطفيه ويختصه بكثير من الرعاية والحب. ولهذا الرجل ابنة في أول الشباب عرفها الفتى منذ كانا طفلين، ونما بينهما حب نقي، ولكنه حب شديد الحياء لا يكشف عن نفسه لصاحبيه إلا في أناة شديدة ومهل بطيء، فإذا كشف عن نفسه لهما استحيا كل واحد منهما أن يحدِّث به صاحبه، واستحيا كل واحد منهما أن يُعرِب عنه لأحد من الناس. وأمور القصة تضطرب بين العسر واليسر وبين الشدة واللين، ويكثر فيها الكيد والمكر والعبث، وتختلف فيها الخطوب والثقال، وما أريد أن ألخِّصها لك، لا لأن في تلخيصها شيئًا من العسر، بل لأني حريص على أن تقرأها وتستكشف ما فيها من روائع التصوير، وبراعة في تحليل النفوس والأعمال التي تصدر عنها.

وقد كاد للفتى بعضُ زملائه فأقصاه هذا التاجر عن عمله، ولكنه حفظ له كثيرًا من المودة والعطف، والفتى مضطرب في شئون الحياة يحاول التجارة اليسيرة فيواتيه الحظ لأن رفيقًا من رفاقه البائسين في المدينة قد أعانه فأحسن معونته، والكاتب يصور لنا هذا الرفيق أبرع تصوير وأصدقه وأعظمه استهواءً لنفس القارئ.

وفي أثناء هذا الكد والجد تنشأ القصة الثانية؛ فقد اتصل الفتى بالسياسة من طريق الانتخابات والترويج لأحد المتنافسين فيها والتعرُّض لما كان يملأ الانتخابات من كيد يكيده بعض الخصوم لبعض، ومن عبث يعبثه السلطان بالذين يروجون لمَن يخاصم السلطان.

واتصال الفتى بالسياسة من هذه الطريق يُظهِره على ذات نفسه ويكشف له عن حقيقة أمره؛ فيستكشف أولًا أنه كاتب يحاول القصص فيجيده ويبرع فيه، ويستكشف ثانيًا أنه خطيب يحسن إثارة الجماعات وإلهابها، ويستكشف بعد ذلك أن له مُثلًا عليا في السياسة، وأنه مؤثر لها أشد الإيثار، مخلص لها أعظم الإخلاص، مؤمن بها إيمانًا لا يسعى إليه الشك ولا تنال منه الخطوب، صادق اللهجة إذا أعرب عن رأيه، قادر على أن ينقله إلى سامعيه وإلى قارئيه، لا يجد في ذلك مشقة ولا عسرًا، وإنما هو طبيعة له قد ركِّبت فيه وجعلته رجل جهاد ونضال لا يعرف ضعفًا ولا خوفًا، ولا يهاب الهول مهما عظم ومهما يكن مصدره.

وليس الفتى في حقيقة الأمر هو الذي استكشف هذه الناحية من نواحي نفسه، وإنما استكشفها صديق حميم له لم يلبث أن وصل أسبابه بأسباب صحيفة من صحف القاهرة، ثم لم تلبث الصحيفة أن دعته إلى المشاركة في تحريرها، فانتقل إلى القاهرة ومعه حبه ذاك، ومن ورائه أمه وأخته تعيشان في دمنهور من سعيه العسير الرضي والسعيد الشقي في القاهرة.

ولا ألخص لك هذه القصة الثانية أيضًا وإن كان تلخيصها يسيرًا؛ لا لأني أريد أن تستكشفها بنفسك، بل لأنك تعرفها حق المعرفة، وأي القراء في مصر لا يعرف حياة الصحفيين وما يعرض لهم من الخطوب حين يصدقون أنفسهم وقرَّاءهم، ويخلصون لآرائهم ومذاهبهم، ويجادلون السلطان عن هذه الآراء والمذاهب، ويعارضون الحكومة في عنفٍ لا يعرف اللين وصرامةٍ لا تعرف السماح.

كل القرَّاء عرف ما كان الصحفيون الصادقون يتعرضون له قبل الثورة من إلحاح النيابة في التحقيق، ومن السجن الاحتياطي الذي يتصل ويسرف في الطول، ومن الإغراء والاضطهاد حين لا يجدي الإغراء، وما كانت الصحف تتعرض له من المصادرة وما يتبعها من الخسارة المالية، وقد صوَّر الكاتب هذا كله، ولكنه فيما أرى لم يُنبِئنا بشيء لم نكن نعرفه، وإنما أعاد إلينا شيئًا ألفناه فطال إلفنا له وضقنا به أشد الضيق. وقد أحسن الكاتب تصوير حياته في السجن حتى بلغ إثارة الألم في نفوسنا، ولكنه على ذلك قد سبق إلى تصوير السجن وحياة الكتَّاب فيه، وإلى تصوير السجن المصري نفسه وحياة الكتَّاب المصريين فيه، سبقه إلى ذلك مَن ذاق الحياة في السجن دون أن يحتاج إلى خيال أو إلى افتنان؛ لأن الحياة في السجن المصري — ولا سيما حين تُفرَض على كاتب لأنه أعرب مخلصًا عن ذات نفسه — أقوى وأشد نكرًا من أن تحتاج إلى تجاوز الحقيقة إلى الخيال.

ولست أدري أصوَّرتُ الكتابَ حق تصويره حين قلتُ إنه يعرض علينا قصتين؟ فقد يُخَيَّل إليَّ أن فيه قصة ثالثة ليست عظيمة الخطر ولا كثيرة التفصيل، ولكنها قصة على كل حال، فيها فتاة وفيها شيء يوشك أن يكون فتونًا، وفيها بعد ذلك مفاجأة حين يقدم ذلك الرفيق البائس القديم الذي أصبح بفضل الكيد من أهل اليسار، حين يقدم ذلك الرفيق إلى القاهرة ليزور صديقه القديم في سجنه، فيلقى تلك الفتاة ويحبها ويدخل بحبها في مغامرة أخرى ليست بذات بالٍ، وإن احتاج الكاتب إلى أن يبلغ بنا غايتها.

وبطل القصة بل بطل القصتين يشقى بقصتيه معًا، ويشقى بحبه الذي لا يعرف له غاية ولا يرى السبيل إلى إرضائه، وإنْ مُدَّتْ له الأسباب إلى هذا الإرضاء لأنه يكبر نفسه عن أن يطمح إلى فتاة مترفة ليس له من ترفها نصيب، يخشى أن يُتَّهَم بالطمع في مال الفتاة إنْ سمت نفسه إليها، وإنْ كان حبها يحرق قلبها تحريقًا، والفتاة تحبه ويصدها الحياء عن أن تستجيب لهذا الحب؛ لأنها لا تستطيع أن تبدأ بالخطوة الأولى، ولو قد أرادت لما أُتِيح لها ذلك؛ فقد خطبها إلى أبيها فتًى من أبناء الباشوات، وقَبِل أبوها الخطبة وأذعنت هي لأمر أبويها، واستيأس العاشقان من إرضاء حبهما ذاك البائس الذي كُتِب عليه الحرمان. صاحبنا شقي بهذا الحب كما شقي العذريون بحبهم من قبلُ، وهو شقي بقصته الثانية، فجهاده في السياسة يدفعه من تحقيق إلى تحقيق، وينقله من سجن إلى سجن، ويمتحنه بكثير من الخطوب في نفسه وفي الزملاء، ولكن لكل قصة غاية يجب أن تنتهي إليها، ولكل مشكلة حلًّا يجب أن تصير إليه من طريق أو من أخرى.

وقد وُفِّق الكاتب كل التوفيق إلى حل القصة الأولى، قصة الحب في غير مشقة ولا تكلُّف، بل في براعة أي براعة، وفي صدق أي صدق، وفي إفادة لقرَّائه كأحسن ما تكون الإفادة للقرَّاء؛ لأنه درس بيئة حبه ذاك أحسن درس وأعمقه، وأعطانا من الذين يضطربون في هذه البيئة صورًا تملؤها الحياة، ويفيض منها النشاط، وتظهر لنا حقائقهم قوية أخَّاذة فيها الرائع وفيها المروع. فهذا الغلام البائس الذي ألحَّ عليه البؤس حتى أدركه الهزال وبلغ منه الجهد، وانتهى به إلى شحوب مخيف عُرِف به بين الناس، وكانوا يسمونه حمادة الأصفر، والذي يعيش من السؤال وتكفُّف الناس، والذي اختلط في نفسه الخير والشر، والسخط والرضى، والحزن والسرور، حتى أصبح صورة مزعجة للبؤس المضطرب الذي لا يعرف ما يأتي وما يدع، والذي لا يؤمن بنفسه ولا يؤمن بغيره، وإنما هو أشبه شيء بالثمامة التي تعبث بها الرياح فتوجهها إلى حيث تشاء. وهذا الفتى قانع بالقليل حين يتاح له القليل، فإذا أدركته سعة أو مسَّه جناح نعمة أسرع إلى لذته فاندفع إليها وأسرف فيها، ويجب أن تكون لذته حقيرة مثله، بائسة مثله، فهو لا يتتبع إلا أحقر الحانات، ولا يشرب إلا أرخص الخمر وأفتكها بالنفوس والأجسام.

وهو لا يحفل بنفسه ولا بجسمه، كما أنه لا يحفل بالأخلاق ولا بالأوضاع الاجتماعية؛ لأنه يحس أن الجماعة قد نبذته نبذًا، فهو ليس منها وهي ليست منه في قليل ولا في كثير؛ فَلْيختلس حياته، وَلْيختلس ما يتاح له فيها من متاع، وَلْيسلك إلى اختلاس الحياة ومتاعها كل سبيل، ولا عليه أن تكون سُبُله معوجَّة أو مستقيمة، وأن تثير سيرته رضى الناس أو سخطهم، وهو على ذلك كله ليس خلوًّا من كل خير، فيه هذا الخير المادي الذي يتيح له شيئًا من النجح في التجارة حين تمد له أسبابها، فينفع نفسه وينفع صديقه بطل القصة. يربح هو قليلًا من المال ينفقه في لذَّاته ومتعته الساقطة، ويربح صديقه مالًا لا بأس به يرغبه في التجارة ويغريه بها، لولا أنه مريض بالكتابة والسياسة جميعًا، فيصرفه مرضه هذا عما كان جديرًا أن يغنيه ويدنيه من إرضاء حبه ذاك. وذلك الفتى الآخَر الذي يعمل مع بطل القصة في المحلج، والذي يظهر عليه الرفق والتلطف وسماحة النفس وسجاحة الخلق، ومن وراء هذا كله أثرة منكرة وكيد خبيث ومكر بعيد الغور، فهو وادع حين تلقاه وحين تقول له وتسمع منه، وهو شيطان مريد حين تنأى عنه يكيد لك الكيد، ويمكر بك المكر البغيض، ويسعى بك عند الرؤساء، ويفسد عليك الأمر كله بين الناس. وهذا الصديق الحميم الذي يعمل معلمًا في إحدى المدارس، والذي تصفو نفسه إلى أقصى غايات الصفاء، ويخلص وده للصديق حتى يبلغ الإيثار، ويصدق نصحه للصديق أيضًا حتى يصبح له مرشدًا وهاديًا إلى ما ينفعه ويرضيه، ونائيًا به عما يسوءه ويؤذيه. وهذه الأمة البرة الحنون التي تعيش لابنها ولا تؤثر به شيئًا، وترضى عن كل ما يعمله، وتشفق عليه من أيسر الأشياء حتى من النصح الذي لا يلائم هواه. وهذه الأخت الناشئة ذات النفس السمحة والروح العذب والدعابة الحلوة، والتي تحسن الإخلاص لأخيها وأمها وكل مَن تحب، تجد في ذلك كل الجد وإن لم تُظهِره إلا في صورة الفكاهة والمزاح.

كل هؤلاء الأشخاص صوَّرهم الكاتب أبدع تصوير وأبرعه وأصدقه، حتى أصبح كل واحد منهم درسًا في الحياة يعلِّم الناس أين يكون الخير والشر، وأين يكون الكرم واللؤم، وأين يكون النصح والخداع.

وذلك التاجر الماهر في التجارة أعظم المهارة وأبعدها مدى، الماكر في المعاملة أنفذ المكر وأبلغه، ذلك الذي لا ينظر إلى المال إلا نظرة الجد الصارم الذي لا مزاح معه، ولا يبلغ منه الصدق والصراحة شيئًا، وابنته الحسناء الوادعة ذات الخفر الذي لا نكاد نعرفه إلا عند أولئك الحسان اللاتي كان العذريون يهيمون بهن، ويتحدثون عنهن في ذلك الشعر الخالد الذي لا يُنسَى، والتي تحسن حفظ الود وتعرف كيف تصونه في أعماق نفسها، ولا تكاد تبدي عنه إلا حين تضطر إلى ذلك اضطرارًا.

هؤلاء كلهم هم الأشخاص الذين يضطرون في تلك البيئة الإقليمية التي صوَّرها لنا الكاتب فأحسن تصويرها. وعَرْضُ هؤلاء الأشخاص كما قرأتَه الآن يكفي لينبئك كيف انتهت قصة الحب إلى غايتها. تاجر ماهر ماكر في شئون المال وفي جمعه، ولكنه ساذج فيما وراء ذلك، ومن حوله أصحاب الكيد والمكر وأصحاب المطامع والمنافع، وهو بعد ذلك سريع الاستجابة حين تدعوه اللذة، فأي غرابة في أن يطمع أحد الباشوات في ماله الكثير، فيسعى في الإصهار إليه، وأيُّ غرابة في أن يجيبه التاجر إلى ما يريد، ثم أيُّ غرابة في أن يكيد له الكائدون ليظهروا بعض ما خفي من أمره حين كان يستجيب لهواه، وفي أن يثقل عليه خوف الفضيحة فيقضي عليه الموت المفاجئ الذي يعجله عن أيسر التفكير والتدبير!

والأمور تمضي بعد ذلك في يُسْر إلى غايتها؛ فقد يصبح الباشا مدبرًا لأمور الأسرة بعد أن فقدت عائلها، مؤثرًا نفسه وابنه بخير ما ترك الفقيد، معرضًا هذه الأسرة إلى ضياع الثروة كلها أو أكثرها. ولا بد من أن يصبح بكل القصة منقذًا لهذه الأسرة البائسة، وهو ينقذها مستجيبًا لحبه الخالص من كل غرض، المبرأ من كل طمع، ويلقى آخِر الأمر جزاء هذا الصدق والنصح والإخلاص، فيصير الأمر بينه وبين حبيبته إلى خير ما يحبان.

على هذا النحو من الدقة والصدق ومن البراعة واليسر، تمضي هذه القصة الإنسانية الرائعة، وعلى هذا النحو تنتهي إلى غايتها لا يظهر فيها تكلُّف، ولا يبدو فيها جهد على كثرة ما أنفق المؤلف فيها من الجهد. حب صادق يجيبه حب صادق مثله، وتقوم من دونه العقاب التي يعقدها الكيد، ولكن النصح والإخلاص والجد النقي من كل شائبة، كل ذلك يذلِّل هذه العقبات، بل يمحوها ويتيح للحب أن ينتصر، وللمثل العليا أن تفوز.

ولا كذلك القصة الثانية؛ فالكاتب يعرف كيف يبدؤها، فليس غريبًا أن يستكشف فتًى في نفسه القدرة على الكتابة، أو أن يستكشف غيره له ذلك فيمضي فيما يُسِّرَ له، وليس غريبًا أن تستخفه السياسة فيستجيب لها مخلصًا صادقًا كما كان مخلصًا صادقًا في الحب، وليس غريبًا آخِر الأمر أن يلقى من أهوال السياسة وخطوبها ما يلقى أمثاله من المخلصين الصادقين في تلك الأيام الشداد، وإنما الغريب حقًّا هو انتهاء القصة إلى غايتها على هذا النحو الذي انتهت إليه، فهي تبلغ غايتها فجاءة وعن غير إرادة من الكاتب، أو استعداد لإتمام قصته، وهو يعترف بذلك اعترافًا فيه كثير من السذاجة. فالثورة هي التي أتمت هذه القصة السياسية، وكانت خليقة أن تمضي إلى غير مدى دون أن تُنبِئنا بشيء جديد أو تُظهِرنا على شيء غير مألوف.

والثورة قد فجأت الكاتب كما فجأت كثيرًا غيره من الناس، حتى ظن أنها كرامة من كرامات الحسين رحمه الله؛ لأن داره كانت قريبة من مسجد الحسين، وكان كثيرًا ما يصلي في هذا المسجد، وكان لا يمر به إلا قرأ الفاتحة، وواضح جدًّا أن الكاتب لم يؤمن في ذات نفسه بهذه الكرامة، ولكن الثورة فاجأته وطالت به القصة فلم يحاول للثورة تعليلًا، وهذا هو التقصير الذي نأخذه به ونعاتبه فيه.

فالأستاذ فريد أبو حديد ليس من عامة الناس ولا هو من أوساطهم، وإنما هو من أولي العقل والثقافة والفطنة والرأي، وهو من غير شك كان يقدِّر كما كان يقدِّر أمثاله أن حياة مصر في آخِر العهد الماضي لم تكن طبيعية، وأن اتصالها كما كانت لم يكن ميسورًا ولا معقولًا ولا ممكنًا، وكل الذين أتيح لهم مثل ما أتيح للكاتب الأديب من الذكاء والفطنة والثقافة كانوا يقدِّرون أن تلك الحياة لا تستطيع أن تتصل، ولا أن تجري على ذلك النحو الذي كانت تجري عليه، وكانوا ينتظرون حدثًا خطيرًا ذا بال يغيِّر حياتهم ويردها إلى طريق أدنى إلى الاستقامة، وأقرب إلى القصد، وإن لم يكونوا يعرفون كيف يأتي هذا الحدث.

لم تكن الثورة مفاجئة إذن لأولي الفطنة والذكاء والنظر البعيد، وإنما كانت متوقَّعَة مترقَّبَة، وكان كثير من الناس يتعجلونها ويتحرقون شوقًا إليها. وكنتُ أحب للكاتب الأديب أن يعنى في قصته السياسية هذه بالأحداث الخفية التي كانت تجري في أعماق الشعب وتهيِّئه للثورة إن أتيحت له أسبابها، وتهيِّئه لتقبُّل الثورة والابتهاج بها إنْ شب نارَها القادرون عليها.

كنتُ أحب أن يصوِّر لنا بؤس الجماعات وضيقها بهذا البؤس وطموحها إلى الخروج منه، كما صوَّر لنا بؤس حماده الأصغر، وما ورَّطه فيه هذا البؤس من النكر والفساد.

وكنتُ أحب أن يصوِّر لنا سعة الهوة وعمقها بين الحاكمين والمحكومين، حتى كان كل فريق من هذين الفريقين يمضي ممعنًا في طريق غير التي كان الفريق الآخَر يمضي فيها، بحيث لم يكن من الممكن أن يلتقيا.

وكنت أحب أن يصوِّر تردد الحكَّام وضغطهم واضطرابهم بين هذه الأهواء الكثيرة التي كانت تعبث بالنفوس، واختلاط الأمر واضطرابه على الموظفين الذين كانوا يدبرون المرافق العامة ضائقين بتدبيرها زاهدين في هذا التدبير، يطمع فريق منها فيسرف في الطمع حتى تصبح مناصبهم وسيلة لا غاية، وتيأس كثرتهم فيلح عليها اليأس حتى تنظر إلى العمل نظرة الماقت له، النافر منه الذي يراه وسيلة إلى المرتب الذي يأخذه في آخِر الشهر، ولو قد عني الأستاذ فريد أبو حديد بتصوير هذه العلل والآفات التي أفسدت حياة المصريين قبل أن تشب الثورة، لعرف أنه كان يعمل لهذه الثورة ويهيِّئ لها ويعجِّل وقوعها، وينتظر هذا الوقوع كما ينتظر الساعون إلى غاية من الغايات أن يصلوا إلى غايتهم ويتعجلون الوصول إليها، فإذا بلغوها ولم يروا ولم يظنوا أنه كرامة من كرامات الحسين أو غيره من الأولياء الصالحين.

ولستُ أخفي على الكاتب الأديب أني كنت أجد نوعين مختلفين أشد الاختلاف من الشعور حين كنت أقرأ قصته هذه، أحدهما: شعور الغبطة والرضى والشوق الشديد إلى المضي في القراءة، والآخَر: شعور الفتور والسأم والشوق إلى أن أرى الكاتب قد ضاق بمدينة القاهرة، واشتاق إلى مدينته تلك، أو دعاه أي داعٍ للعودة إلى دمنهور في قطار الليل، أو في قطار النهار؛ لأني كنتُ أحب أشد الحب أن أعيش معه في دمنهور، حيث أشخاصه أولئك الذين تكشف حياتهم لي عن شيء جديد كلما مضيتُ في القراءة. وكنتُ أجد كثيرًا من السأم في أن أعيش معه في القاهرة لسبب يسير، وهو أني عشت معه في القاهرة أوقاتًا طوالًا، وبلوت هذه الحياة التي يصوِّرها حتى سئمتها وضقت بها. عرفت تحقيق النيابة، وشهود المحاكم، وما يلقاه الصحفيون من الشر في ذات أنفسهم وفي نفوس زملائهم، وعرفت النذر الظاهرة والخفية التي تسعى إلى الصحفيين الصادقين لتنغص عليهم الأيام، وتؤرق عليهم الليالي.

عرفت هذه الحياة فلم أكن في حاجة إلى أن تعاد عليَّ قصتها، ولم أعرف حياة أولئك الأشخاص في دمنهور، فكنتُ إلى معرفتها مشوقًا وبها مشغوفًا. ومهما يكن من شيء فإن انتهاء هذه القصة ينبئنا بشيء نترقبه ونتعجله، ونرجو أن يكون أشقى لنفوسنا وأرضى لعقولنا على ما في هذه القصة من متاع ورضى، فالأستاذ فريد أبو حديد ينبئنا بأن انتهاء قصته هذه إنما هو ابتداء لقصة أخرى.

فمتى يتاح لنا أن نقرأ هذه القصة الأخرى؟ عسى أن يكون ذلك قريبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤