مِنْ تاريخ الشِّعر العَربي

هذا كتاب في تاريخ الأدب العربي، قرأته كما تعوَّدْتُ أن أقرأ أمثاله من الكتب التي تعرض للأدب العربي وغيره من الآداب الأخرى، ولكني لم أقرأه بعقلي وحده كما تعوَّدْتُ أن أقرأ كتب التاريخ الأدبي، وإنما قرأته بعقلي وقلبي وشعوري، وبهذه العواطف الكثيرة المختلفة التي تثور في نفس الشيوخ حين يستحضرون أطرافًا من حياتهم في عصر من عصور شبابهم الأول.

عواطف هذا الحنين إلى شيء لا سبيل إليه، أو إلى أشياء لا سبيل إليها، وعواطف هذا الحب لما لا سبيل إلى بلوغه ولا مطمع في تحقيقه، وعواطف هذا الحزن على هذا الحرمان الذي لا سبيل إلى استدراكه ولا إلى اتِّقَاء ما يثيره في النفس من المضض واللوعة والأسى.

ثم عواطف الأنس بتلك الآمال العِذَاب التي طالما تعلَّقَتْ بها النفس واثقة مطمئنة، والتي صدقت ولم تكذب، وتحققت ولم تخب، فملأت القلب غبطة وبهجة وسرورًا، وأعانت على العمل والجد والكد والنشاط، وأتاحت لكثير من المنى أن تحقق ثم انفضت، وانقضت أيامها فأصبحت وكأنها حلم رائع رائق مضى مع تلك الليلة الجميلة التي أثارته وأثارت الرضى به، ثم مضت إلى غير رجعة ومضى معها حلمها ذلك السعيد.

نعم، هذا كتاب يتجه إلى العقل لأنه يؤرِّخ عصرًا من عصور الشعر العربي القديم، ولكنه بالقياس إليَّ وإلى نفر من رفاقي في ذلك الجيل الذي مضى، يتجه إلى القلب أيضًا؛ لأنه قطعة من شبابنا، ولأنه يصوِّر لونًا من ألوان تلك الحياة التي كنَّا نحياها في أول هذا القرن، والتي لا يحياها الشباب الآن بعد أن تغيَّرت الحياة المصرية وذهبت معالم تلك الحياة القريبة البعيدة، وأصبحنا لا نستطيع أن نستحضرها إلا بالذكرى، حينما تتيح لنا الحياة الحاضرة وأعمالها وأثقالها أن نخلو إلى نفوسنا ونفرغ لذكرياتنا، وما أقل ما تُتَاح لنا الخلوة إلى النفوس، وما أندر ما يُتَاح لنا هذا الفراغ إلى الذكريات!

نعم، وهذا الكتاب لا يتجه إلى هذه الناحية وحدها من نواحي قلوبنا وحياتنا في أول الشباب، وإنما يتجه إلى ناحية أخرى هي ناحية الحب الرفيع النقي الكريم، الذي لا تشوبه نقيصة ولا تتعلق به آفة من هذه الآفات التي تتعلق بحب الإنسان للإنسان فتفسده، أو تشيع فيه ما يحزن ويسوء. ذلك هو حب الشباب الطامح الطامع المتطلع للأستاذ الذي يرضي الطموح والطمع والتطلع، ويُخرِج النفوس عن أطوارها، ويرفعها إلى حيث تستطيع نفوس الشباب أن ترقى إليه من منازل الإكبار والإعجاب والثقة والاتصال بالمثل العليا، لا يصدها عن ذلك صادٌّ، ولا يردها عنه رادٌّ، ولا يحول بينها وبينه حائل من تلك المعوقات التي تملأ حياة الشباب على اختلافها وتبايُن أشكالها وألوانها.

هذا كتاب في تاريخ الأدب العربي سمعناه في أول شبابنا في تلك الجامعة المصرية القديمة، من أستاذنا الإيطالي العظيم كارلو نالينو منذ أربعة وأربعين عامًا.

في ذلك الوقت كنتُ طالبًا في الأزهر، أقيم في ذلك الحي الذي وصفته في كتاب الأيام، والذي زرته منذ حين لأحدث به عهدًا، ولأُظهِر عليه صديقًا لي من أساتذة مدريد ترجَمَ كتابَ الأيام وشاقه هذا الحي فأراد أن يراه، فلم نَكَدْ نلم حين ارتفع الضحى من ذلك اليوم، حتى رأيت هذين البيتين يترددان في نفسي:

يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ
أَقَوْتَ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ
وَقَفْتُ عَلَيْهَا أَصِيلًا كَيْ أُسَائِلَهَا
عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ

نعم، أشهد لقد أقوت، ولقد طال عليها سالف الأمد، ولقد سألتها فلم تُجِبْ، ولم أَجِدْ فيها أحدًا يستطيع أن يجيب، وما أذهب في هذا مذهب المجاز، وإنما هو مذهب الحق الذي يستطيع الناس جميعًا أن يروه إذا ذهبوا إلى هذا الحي، ورأوا فيه تلك الأطلال التي عبث بها الزمان، وأهملها الإنسان، وخلَّى بينها وبين البلى والخراب.

كنتُ أعيش في هذا الحي أخرج منه مُصبِحًا إلى الأزهر، فأسمع فيه دروس الأدب من الأستاذ العظيم السيد علي المرصفي، وأخرج منه مع المساء إلى الجامعة المصرية فأسمع فيها دروس الأدب من الأستاذ العظيم كارلو نالينو، وكانت دروس الأدب تلك التي كنتُ أسمعها في الأزهر حين يرتفع الضحى تردني إلى حياة الطلاب القدماء الذين كانوا يختلفون إلى العلماء في مساجد البصرة والكوفة وبغداد.

وكانت دروس الأدب التي كنتُ أسمعها في الجامعة حين يُقبِل المساء، تدفعني إلى حياة الطلاب الذين يختلفون إلى الجامعات في روما وباريس وغيرهما من المدن الجامعية الأوروبية الكبرى، فكنت أعيش مع الماضي البعيد وجه النهار، وأعيش مع الحاضر الأوروبي الحديث آخِر النهار، وتشغلني خطوب الحياة المصرية الراكدة الممضة بين ذينك الوقتين، وكان الرفاق يجدون من هذه الحياة مثل ما كنتُ أَجِدُ، ويسعدون حين يعودون إلى الماضي، ويسعدون حين يدفعون إلى الحياة الغربية التي كانوا يتطلعون إليها، ويشقون بين ذلك بالركود والجمود.

ويجب أن يتصور القرَّاء من الشباب المعاصرين حياة أولئك الشيوخ الشباب من طلاب الأزهر في أول القرن، حياتهم المادية وحياتهم العقلية أيضًا، وأن يقدروا ما كان يملأ قلوب بعضهم من الرضى والغبطة، وهذا الغرور الحلو البريء الذي كان يمازج نفوسهم تلك الغضة المتواضعة، حين كانوا يدفعون من حي الأزهر إلى حي قصر النيل، وحين كانوا يتحلقون مصبحين حول أعمدة الأزهر متربعين على الحُصُر البالية، ثم يجلسون إذا كان المساء إلى أساتذتهم في غرفات الجامعة لا يتربعون على الحُصُر، وإنما يجلسون على الكراسي إلى تلك الموائد الصغار، وحين كانوا يسمعون من شيوخهم وجه النهار أحاديث الفقه والنحو كما كانت تُلقَى في تلك الأوقات، وبأيديهم ملازمهم تلك العتيقة يتبعون فيها ما يقرأ الشيوخ عليهم من الكتب، ويسمعون لما يُلقِي عليهم الشيوخ من التأويل والتعليل والتحليل، فيفهمون قليلًا ويعجزون عن فهم كثير مما كانوا يسمعون. فإذا كان المساء جلسوا إلى أساتذتهم أولئك من الأوروبيين، فسمعوا منهم أحاديث لا عهد لهم بمثلها، تُلقَى عليهم باللغة العربية الفصحى مع شيء من التواء الألسنة بهذه اللغة، فتقع تلك الأحاديث من آذانهم موقع الغرابة، ومن قلوبهم موقع الماء من ذي الغُلَّة الصادي.

فإذا خَلَوا إلى أنفسهم بعد ذلك وازنوا بين ما يسمعون وما يرون أول النهار، وما يسمعون وما يرون آخِر النهار، فأثارت هذه الموازنة في نفوسهم عواطف وأهواء وميولًا أقل ما تُوصَف به أنها كانت تصوِّر لهم هذه الآماد البعيدة إلى أقصى غايات البُعْد بين قديم سقيم سئموه وضاقوا به، وبين جديد أحبوه وتهالكوا عليه.

ووازنوا كذلك بين شيوخهم أولئك الذين كانوا لا يعربون إلا حين يقرءون في الكتب، فإذا تكلموا غرقوا وأغرقوا طلَّابهم في اللغة العامية إلى أذقانهم أو إلى آذانهم، وبين أساتذتهم أولئك الأوروبيين الذين كانوا يعربون حين يقرءون، وحين يفسِّرون، وحين يخوضون معهم فيما شاء الله من ألوان الحديث. وكانوا يسألون أنفسهم: كيف أُتِيح لهؤلاء الأوروبيين ما أُتِيح لهم من العلم بأسرار اللغة العربية ودقائق آدابها؟ وكيف لم يُتَحْ هذا النوع من العلم لشيوخهم أولئك الأجِلَّاء؟

وكانت هذه الموازنات تثير في قلوبهم فنونًا من التمرد، وتدفع نفوسهم إلى ضروب من الثورة والجموح، وكان هذا كله يعرِّضهم لكثير من الشر، وحسبك أنهم كانوا مقسَّمين بين الأزهر القديم والجامعة الجديدة.

وكان هذا يجعل حياتهم قلقًا كلها، وأي شيء أجدى على النفوس الشابة من هذا القلق الخصب الذي هو الأساس المتين لكل تطوُّر منتِج في الحياة العقلية والمادية جميعًا؟ وما أظن حياة الشباب المطربشين الذين كانوا يختلفون إلى الجامعة إلا مُشبِهة من كثير من الوجوه لحياة زملائهم المعمَّمين.

من أجل هذا كله يستطيع القارئ المعاصر أن يقدِّر ما كان للجامعة المصرية القديمة من أثر بعيد فيما طرأ من تغيُّر خصب على حياة ذلك الجيل من أجيال الشباب.

أما أنا، فقد سجَّلْتُ غير مرة — وأسجِّل الآن — أني مدين بحياتي العقلية كلها لهذين الأستاذين العظيمين: سيد علي المرصفي الذي كنتُ أسمع دروسه وجه النهار، وكارلو نالينو الذي كنتُ أسمع دروسه آخِر النهار.

أحدهما علَّمَني كيف أقرأ النص العربي القديم، وكيف أفهمه، وكيف أتمثله في نفسي، وكيف أحاول محاكاته، وعلَّمَني أحدهما الآخَر كيف أستنبط الحقائق من ذلك النص، وكيف أُلَائِم بينها، وكيف أصوغها آخِر الأمر عِلْمًا يقرؤه الناس فيفهمونه ويجدون فيه شيئًا ذا بال.

وكل ما أتيح لي بعد هذين الأستاذين العظيمين من الدرس والتحصيل في مصر وفي خارج مصر، فهو قد أقيم على هذا الأساس الذي تلقَّيْتُه منهما في ذلك الطور الأول من أطوار الشباب. بفضلهما لم أحسَّ الغربة حين أمعنت في قراءة كتب الأدب القديم، وحين اختلفت إلى الأساتذة الأوروبيين في جامعة باريس، وحين أمعنت في قراءة كتب الأدب الحديث.

فلا غرابة إذن في أن تكون حياتي كلها برًّا بهذين الأستاذين؛ إكبارًا لهما واعترافًا بفضلهما، وشُكْرًا لما أهْدَيَا إليَّ من معروف، وما أسْدَيَا إليَّ من جميل. وشهد الله ما قرأتُ في كتاب ولا حديث، ولا حاولتُ كتابةً في الأدب، إلا ذكرت أحدهما أو كليهما، وأرسلتُ إليهما من أعماق نفسي تحية الحب والإعجاب والشكر والوفاء.

والذين يقرءون هذا الكتاب الذي أقدِّمه اليوم إلى القرَّاء المتأدبين، يحسن بهم أن يقرءوا ما كان يُدرَّس لشبابنا في ذلك الوقت من أدب في معاهدنا ومدارسنا على اختلافها، ليقدروا الفرق الهائل بين ما كان الأستاذ نالينو يُلقِي علينا في الجامعة، وبين ما كان يُلقَى علينا في المعاهد والمدارس، وأثر هذا الفرق في تطوُّر حياتنا العقلية، وفي تطوُّر تصوُّرنا للأدب العربي قراءةً وفهمًا وإنتاجًا.

فلأول مرة درس لنا الأدب العربي درسًا منظًّمًا وأُلقِيَ في روعنا أن الشعر العربي لا يختلف باختلاف فنونه التقليدية مدحًا ورثاءً ووصفًا وهجاءً ونسيبًا وتشبيبًا فحسب، وإنما يختلف باختلاف موضوعاته التي قيل فيها، وظروفه التي أحاطت به حين قيل، والمؤثرات المختلفة التي أثرت في قائليه وفي سامعيه أيضًا. ولأول مرة ألقِيَ في روعنا ما كان للسياسة من آثار دقيقة عميقة في نشأة فنونٍ مختلفةٍ من الشعر العربي في العصر الإسلامي، أيام الخلفاء الراشدين وأيام بني أمية.

ولأول مرة ألقي في روعنا الفرق بين الشعر التقليدي وبين الشعر الذي استحدثته السياسة الإسلامية في العراق، وبين النسيب التقليدي القديم والغزل الذي استحدثه النظام الاجتماعي الإسلامي في الحجاز، وبين الغزل المحقق الذي نشأ في حواضر الحجاز، والغزل العذري النقي الذي نشأ في البادية العربية في الحجاز ونجد والعراق.

ولأول مرة عرفنا أن من الممكن أن ندرس الأدب العربي على أساس من الموازنة بينه وبين الآداب القديمة الكبرى، وأن الحياة الإنسانية تتشابه وتتقارب مهما تختلف ظروفها، ومهما يتنوع ما اختلف عليها من الخطوب.

ولأول مرة علمنا كيف نحقِّق هذه الموازنة بين أدبنا القديم والآداب القديمة الأخرى، مُلائِمين بين ما ينبغي أن نلائم بينه، ومخالفين بين ما ينبغي أن نخالف بينه من الظواهر المتباينة التي يذخر بها التاريخ، والتي تؤثر في حياة الناس.

ثم لأول مرة تعلمنا أن الأدب مرآة لحياة العصر الذي ينتج فيه؛ لأنه إما أن يكون صدى من أصدائها، وإما أن يكون دافعًا من دوافعها، فهو متصل بها على كل حال، وهو مصوِّر لها على كل حال، ولا سبيل إلى درسه وفقهه إلا إذا درست الحياة التي سبقته فأثرت في إنشائه، والتي عاصرته فتأثَّرَتْ به وأثَّرَتْ فيه، والتي جاءت في إثر عصره فتلقَّتْ نتائجه وتأثَّرَتْ بها. فللأدب مظهران إذن: مظهره الفردي؛ لأنه لا يستطيع أن يبرأ من الصلة بينه وبين الأديب الذي أنتجه، ومظهره الاجتماعي؛ لأن هذا الأديب نفسه ليس إلا فردًا من جماعة، فحياته لا تُتصوَّر ولا تُفهَم ولا تُحقَّق إلا على أنه متأثر بالجماعة التي يعيش فيها، هو في نفسه ظاهرة اجتماعية، فلا يمكن أن يكون أدبه إلا ظاهرة اجتماعية.

كل هذا سمعناه وفهمناه في تلك الدروس التي كان الأستاذ نالينو يُلقِيها علينا، حين كان هذا القرن في العاشرة من عمره، وكل هذا كان جديدًا بالقياس إلينا في تلك الأيام، وبالقياس إلى الأزهريين هنا بنوع خاص، فمن الطبيعي أن يُحدِث في نفوسنا أعمق الآثار وأبعدها مدًى، وأن يطبع حياتنا العقلية بطابع النقد الحديث.

وليس من شك في أن حقائق التاريخ الأدبي العربي قد تغيَّرَتْ منذ ذلك الوقت في كثير من أنحائها، وفي كثير من تفصيلها كذلك.

وليس من شك أيضًا في أن العلماء المصريين كان لهم أعظم الأثر فيما حدث من هذا التغيُّر، فهم قد تعمَّقوا دراسة الأدب أثناء هذه الأربعين سنة الأخيرة، فاستكشفوا أشياء لم تكن معروفة في حياة الأدب العربي أثناء القرون الأولى للهجرة، وهم قد نشروا آثارًا قديمة لم تكن قد خضعت لبحث العلماء؛ فيسَّرُوا للباحثين دَرْسها وفقهها واستكشاف ما كانت تُخفِي من الحقائق، وهم بعد ذلك قد كسبوا بالدراسات الأدبية المصرية منزلةً لها قيمتها الخطرة في الدراسات العالمية لأدبنا العربي القديم.

كل هذا شيء ليس فيه شك، ودلائله تُلمَس بالأيدي في هذه الكتب القديمة التي نُشِرت، وفي هذه الكتب الجديدة التي أُلِّفَتْ، وفي الدروس الأدبية التي تُلقَى في جامعاتنا ومعاهدنا المختلفة، وفي إنتاجنا الأدبي الخالص الذي شُغِلتْ بدرسه وعُنِيت بفقهه ونقله إلى اللغات المختلفة البيئاتُ العلميةُ في غربي أوروبا وشرقها، وفي شمال أمريكا وجنوبها. ولكن هناك شيئًا ليس أقل من هذا ثبوتًا واستقرارًا ووضوحًا، وهو أن دروس الأستاذ نالينو في الجامعة المصرية القديمة كانت هي الموجِّه الأول لنهضتها العلمية في دراسة الأدب مباشرةً أو بالواسطة؛ وجَّهَتْ تلاميذ الأستاذ الذين سمعوا منه فبحثوا وتعمَّقوا وأحسنوا الفقه، ثم وجَّهَتْ أجيالًا من الشباب سمعوا على هؤلاء الطلاب حين أصبحوا أساتذة، وقرءوا لهم حين أصبحوا مؤلِّفين.

وكذلك مضى المذهب الحديث في تاريخ الأدب بين الأجيال المتعاقبة من الدارسين والباحثين، وما أعرف للأستاذ نالينو نظيرًا في التوجيه العميق للنهضة المصرية، إلا زميله الأستاذ سانتلانا الذي أَحْدَثَ في مصر نهضةً خطيرة في دراسة الفلسفة الإسلامية، وفي فهم الصلة بين هذه الفلسفة وبين الفلسفة اليونانية القديمة. وقد أُتِيح للأستاذ نالينو من البر به بعد وفاته ما أرجو أن يُتَاح لزميله، والفضل في نشر هذا الكتاب يرجع قبل كل شيء وقبل كل إنسان إلى ابنته الكريمة الآنسة ماريا نالينو، فهي التي حفظت آثار والدها العظيم، وجَدَّتْ في إعدادها للنشر، وظفرت بالمعونة على نشر هذه الآثار في إيطاليا، فأهدت للعلم والعلماء كنوزًا لا سبيل إلى تقويمها، ولا إلى استقصاء آثارها الخطيرة فيما أنتج الباحثون من الشرقيين والغربيين، وما سينتجون من الدراسات الأدبية العربية على اختلاف موضوعاتها.

وأعَدَّتْ هذه الدروس للنشر كما تركها الأستاذ، لم تغيِّر فيها شيئًا وإنما وفَّتْ لأبيها أصدق الوفاء وأجدره بالإكبار والإجلال، ووجدَتْ من دار المعارف للطبع والنشر معونةً صادقة على إذاعة هذا الكتاب؛ فكان للدار وللأستاذة ماريا نالينو فضلٌ أي فضل؛ لأنهما بنشر هذا الكتاب قد برَّتَا بأستاذ جدير بالبر، وهيَّأَتَا لشباب المصريين والشرقيين أن يعرفوا أصول نهضتنا الأدبية المعاصرة.

فلهما على جهدهما الخالص لخدمة العلم الشكر أجمل ما يكون الشكر، والثناء أصدق ما يكون الثناء.

أما أنا فلم أُمْلِ هذه الصفحات إلا لأسجِّل برِّي بأستاذي العظيم، وشكري لابنته الكريمة ولدار المعارف على ما أتاحَتَا لي من أن أرى لونًا من ألوان حياتي في طور من أطوار الشباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤