الرَّبْوة المَنْسِيَّة

قصة للكاتب الجزائري مولود معمري

صاحب هذا الكتاب أخ لنا من أهل الجزائر لا أعرفه، ولا أكاد أحقِّق اسمه الذي يحمله كتابه هذا مكتوبًا باللغة الفرنسية.

ولو قد كان من أصل عربي لأمكن أن يرد اسمه من التحريف الفرنسي إلى طبيعته العربية الأولى، ولكنه نشأ في قبيلة من قبائل البربر، فتأثَّر اسمه بلغته الأولى، وكُتِب بالأحرف الفرنسية مولود ماميري، وعسى أن يكون أصله مولود معمري. وتعيش الفصيلة التي ينتمي إليها الكاتب على ربوة تقوم من دونها جبال شاهقة تحول بينها، وبين السهل الذي يسكنه العرب.

وهي كغيرها من الفصائل تتخذ الإسلام دينًا، ولكنه على تأصُّله فيها، وبعد عهدها به منذ القرون الطويلة، قد انحرف إلى شيء من الوثنية التي يسرع بها الجهل المتصل بكثير من طبقات الدهماء؛ فأفرادها يقدِّسون الأولياء تقديسًا يوشك أن يبلغ العبادة، وهم يقربون إليهم الضحايا في أيام بعينها من العام، ويحملون إليهم الهدايا، ويتوسلون إليهم بفنون من الدعاء، ويتخذونهم وسطاء بينهم وبين الله، وهم وسطاء أقوياء يملكون دفع الأذى وكشف الضر، كما يملكون تحقيق الآمال وإجابة المطالب، وقبورهم مشهودة دائمًا قد وُضِعت مراسم لزيارتها في بيوتها التي قامت من حولها، كما وُضِعت مراسم للانصراف عنها بعد الزيارة وبعد رفع الحاجات إليها.

وفي عبادتها أو التقرب إليها من طريق الذِّكْر أمور أقل ما توصف به أنها تنافي المألوف من أمور الدين حتى في البيئات الشرقية الجاهلة … فتدخين الحشيش — مثلًا — مقدمة من مقدمات الذِّكْر، والذِّكْر نفسه رقص أو شيء يشبه الرقص، وعلى هذا اللون من ألوان الدين والاعتقاد قامت لهؤلاء الناس عادات وسنن تأثَّروا بها في تصوُّرهم للأشياء، وحكمهم عليها وتفكيرهم فيها وتقديرهم لها. وهم على ذلك يؤدون الصلوات لأوقاتها، ويصومون حين يُظلهم شهر الصوم، ويقرِّون في أعماق نفوسهم ما يقر المسلمون من أصول الإسلام الصحيح، ثم هم بعد هذا كله ينظرون إلى الطبيعة من حولهم نظرةً خاصةً، ويبثون فيها شيئًا من الحياة، ويضيفون إليها شيئًا من الإرادة أيضًا، ويجرون بين عناصرها ضروبًا من الصلاة تذكِّر بالوثنية في بعض البيئات القديمة.

والربوة التي تعيش عليها هذه الفصيلة من فصائل البربر قليلة الصلة بغيرها من الناس، تكاد تعيش في عزلة لولا أن ضرورة الحياة تفرض عليها الشعور بأنها تخضع لسلطان بعيد مختلط، هو سلطان الحكومة التي تأتلف من الفرنسيين الذين يسودون ويدبِّرون الأمر، ومن القادة المواطنين الذين يتوسَّطون بين هؤلاء السادة ورعاياهم وساطة فيها كثير من الاستعلاء، وفيها كثير من الفساد أيضًا. هم في قصورهم أو دورهم أشبه بالأولياء في قبورهم؛ للأولياء الوساطة بين الناس وبين الله، وللقادة الوساطة بين الناس وبين السادة الفرنسيين.

يُقدَّم القربان إلى أولئك كما يُقدَّم إلى هؤلاء، وتُرفَع الحاجات والمطالب والمظالم إلى أولئك كما تُرفَع إلى هؤلاء، ويُتَّقَى الشر ويُرجَى الخير من أولئك ومن هؤلاء. وكذلك تجري أمور هؤلاء الناس في شيء من الطمأنينة الغريبة التي يمازجها كثير من الخوف، وكثير من الحب والبغض؛ فهم يخافون الأولياء والقادة جميعًا، ولكنهم يحبون الأولياء ويبغضون القادة، وهم يذعنون للفرنسيين كما يذعن الإنسان للقضاء المحتوم الذي لا حيلة له فيه، لا يعرفون كيف جاءوا إليهم، ولا يعرفون كيف يخلصون منهم، فهم راضون لأنهم لا يملكون إلا الرضى. هذه هي البيئة التي نشأ فيها الكاتب، والتي صوَّرها في كتابه أجمل تصوير وأروعه، وهو يكتب باللغة الفرنسية، وكتابه رائع أشد الروعة وأقصاها بحيث يمكن أن يُعَدَّ من خير ما أخرج في الأدب الفرنسي أثناء هذه الأعوام الأخيرة، وإنْ كنتُ لا أعرف أنه ظفر بجائزة من هذه الجوائز الكثيرة التي تُمنَح في فرنسا لكتب لا ترقى إلى منزلة هذا الكتاب روعة وجمالًا.

والكاتب معلم في إحدى المدارس الفرنسية بمدينة الجزائر، وأكبر الظن أنه لا يحسن العربية ولا يكتب بها، وآية ذلك رسالته تلك التي قدَّم بها كتابه إليَّ منذ شهور.

وإن مما يؤلم حقًّا أن يصدر مثل هذا الكتاب الرائع الممتاز في بلد كالجزائر، للعربية فيه المنزلة الأولى بالقياس إلى أهله، ولكني لم أتلَقَّ من هذا البلد كتابًا بلغة أهله يقارب هذا الكتاب جودةً وإتقانًا وامتيازًا. وأكاد أعتقد أن اللغة العربية في الجزائر لم يُتَحْ لها بعدُ أن تكون لغة الأدب بالقياس إلى الذين يتكلَّمونها؛ لأن العناية بها لا تكاد تُذكَر، وهذا أقل ما يُنتظَر من الاستعمار، وإن كان الفرنسيون يرون استعمارهم للجزائر نعمةً لم يحسن الجزائريون شكرها إلى الآن، وما أحسب أنهم سيحسنون شكرها في يوم من الأيام.

وكيف السبيل إلى أن تشكر نعمةً تعلِّم الناسَ لغةً غير لغتهم حتى يمتازوا فيها، ويتصرفوا بها خيرًا من تصرُّف كثير من أهلها، وتجهلهم لغة آبائهم وأمهاتهم حتى لا يكتبوا بها أيسر الرسائل وأهونها شأنًا!

ولكن أنسيت أني أكتب اليوم في الأدب لا في السياسة، فَلْأَعُدْ إلى هذا الكتاب الذي سمَّاه صاحبه «الربوة المنسية»، ولو كان أمر تَسْمِيَته إليَّ لَسَمَّيْتُه «خطيبة الليل»؛ لما سترى بعد حين.

وفي الكتاب خصلتان كل واحدة منهما تكفي لتبلغ بالكتاب منزلة ممتازة من الجودة والإتقان، فكيف وقد اجتمعتا أحسن اجتماع، والتأمتا أدق التئام، وائتلفت منهما موسيقى حلوة مرة ترضي القلب والذوق معًا.

فالكتاب دراسة اجتماعية عميقة دقيقة مفصَّلة مستقصاة تصوِّر أهل هذه الربوة في عزلتهم تلك، وقد فرغوا لأنفسهم واعتمدوا عليها، فلم يكادوا يذكرون أحدًا غيرهم من الناس، وهم يجهلون ما وراء الجبال التي تقوم دونهم، لا يعرفونهم إلا حين يضطرون إلى ذلك اضطرارًا، وما أقل ما يضطرون إليه، وهم لا يشعرون بالحكومة إلا حين تجبي منهم الضرائب على ما تثمر لهم الأرض، وما يكسبون من المال، وحين تدفعهم الحاجة الملحة إلى أن يؤدوا إلى القائد البعيد شيئًا من الرشوة لقضاء مأرب من المآرب، والعروض التجارية التي يحتاجون إليها، وهي قليلة تأتيهم من وراء الجبل، وربما سعى بعضهم إليها ليجلبها، ولكنهم لا يحفلون بذلك ولا يلتفتون إليه، إنما هم فارغون لما تعوَّدوا أن يفرغوا له من حياتهم تلك التي تشبه الإقطاع الهين السهل.

جماعة من الأغنياء يملكون الأرض أو أكثرها، وآخَرون من الفقراء يعملون لهم في هذه الأرض ويرعون لهم قطعانهم، وأولئك وهؤلاء إخوة متحابون ليس فيهم تسلُّط ولا كبرياء، وإنما هو التعاون الرفيق في ظل هذا العُرْف المقرَّر الذي قسم بينهم حظوظهم قسمة جرى بها القضاء كما يجري بكثير من الأشياء، فما ينبغي أن ينكره أحد أو يعترض عليه إلا بمقدار ما يكون من الضيق بالعاصفة حين تثور، أو البرد حين يسقط على الأرض ويتكاثف، ويضطر الناس إلى أن يلزموا دورهم أيامًا تقصر أو تطول، أو القيظ حين يشتد اتقاده، حتى يجعل بعض ساعات النهار قاسية لا تطاق. وهم في حياتهم هذه الوادعة المطمئنة لا يشقون إلا بما يعرض للناس من الشقاء حين تلمُّ العلة أو يطرق الموت. ولا يكادون ينكرون من أمرهم إلا هذا الخلاف اليسير الذي يكون بين الشيوخ المحافظين، الذين ألفوا حياتهم الموروثة وعُرْفهم المحفوظ. وهؤلاء الشباب الذين اختلفوا إلى المدارس الفرنسية فالتوت ألسنتهم برطانة يعرفونها ولا يحبونها، وجعلوا يأخذون عن معلميهم وأساتذتهم وبيئتهم تلك المدرسية بعضَ التقاليد الأجنبية التي تفسد عليهم شيئًا غير قليل من تفكيرهم وتقديرهم، وتغيِّر آراءَهم في بعض العادات والمقدَّسات، ومع ذلك فقد أذعن الشيوخ لما ليس بدٌّ من الإذعان له، فقبلوا الشباب على علاتهم، واضطر الشباب أيضًا إلى شيء من الإذعان فخضعوا للعادات والعُرْف ينكرونها في قلوبهم، ويعرفونها في سيرتهم، ولا يحاولون تغييرها إلا في كثير جدًّا من التردد والاستحياء، ثم هم مع ذلك لا يبلغون من محاولاتهم هذه أو لا يكادون يبلغون منها شيئًا.

حياة تمضي مطردة يسيرة لا أَمْت فيها ولا عوج، لولا أن القضاء يفجأ الناس بين حين وحين بما لا يقدرون، فهذه نذر الحرب لا تكاد تبلغهم وتدعوهم إلى شيء من الرويَّة والتفكير والاحتياط، حتى تتبعها أنباء الحرب مسرِعة، وإذا الخوف يستقر في قلوبهم، وإذا القلق يسيطر على سيرتهم كلها، ثم لا يلبث البريد أن يُمطِر الدورَ بوابلٍ من الرسائل موجَّهة كلها إلى الشباب تأمرهم أن يسرعوا إلى أماكنهم من الجيش.

فصوِّرْ لنفسك وَقْع هذه الرسائل في نفوس الآباء والأمهات، هؤلاء الذين يُكرَهون على فراق أبنائهم في غير حاجة منهم إلى هذا الفراق، وما شأنهم هم بهذه الحرب التي يثيرها الروم فيما بينهم — والروم عندهم هم الأوروبيون — لا يستشيرونهم ولا يستأمرونهم، وليس لهم فيها أرب قريب أو بعيد! ثم هم يصلون نارها، وأي نار! يصلاها أبناؤهم هيِّنَة أول الأمر حين يذهبون إلى مواقفهم من الجيش، فينفقون وقتًا ما في التدريب، ثم يُقذَف بهم بعد ذلك إلى ما وراء البحر هناك، حيث لا يستطيع أحد أن يعرف من أمرهم ولا من مصيرهم شيئًا، وإنما هي صور الموت المنكرة بشعة متوثبة قد فغرت أفواهها، وبسطت أيديها الطوال القوية لتخطف الشباب، وتزدردهم ازدرادًا في غير رفق ولا لين.

وهؤلاء الآباء والأمهات لا يجهرون بشيء من هذا، وإنما يجمجمون به ويردِّدونه في ضمائرهم ترديدًا ملِحًّا أليمًا، وهم على ذلك يتجلَّدون تجمُّلًا وتكرُّمًا فيما بينهم، ويتجلدون حبًّا لأبنائهم ورعايةً لهم، كذلك يكظمون الغيظ ويحبسون العَبَرات، حتى إذا خلوا إلى أنفسهم ساعة من نهار أو ليل أرسلوها على سجاياها، فشكوا وألحُّوا في الشكاة، وبكى النساء وأمعنَّ في البكاء، ثم خرجوا بعد ذلك كرامًا لا يظهر عليهم إلَّا حزن وقور.

والشباب قد عرفوا من شئون الحرب الماضية القريبة ما يبغض إليهم هذه الحرب الجديدة، وينفرهم منها نفورًا شديدًا. في نفوسهم القلق، وفي نفوس كثير منهم اليأس، ولكنهم كآبائهم يتجلدون؛ يرفقون بهؤلاء الشيوخ من جهة، ويكرهون أن يظهر عليهم الفَرَق والضعف من جهة أخرى، فقد ينبغي أن يكونوا رجالًا وأن يكبروا في نفوس رفاقهم، وفيما بينهم وبين ضمائرهم أيضًا.

الشباب إذن يتأهَّبون للسفر، والشيوخ يهيِّئون لهم أسبابه، ثم تأتي الليلة التي سيسافرون من غدها، فسَلْ عن القلوب الواجفة والنفوس الخائفة، وعن الحسرات المكظومة والعبرات المكتومة، وهذه الليلة تقصر حتى كأنها ساعة، وتطول حتى كأنها ليالٍ طويلة يقصِّرها الحرص على البقاء بين الأهل والصديق، وفي ظلال الوطن الحبيب، ويطوِّلها توقُّع الهول الذي ستنكشف عنه ساعات الفراق، ثم تأتي هذه الساعة قبل أن تشرق الشمس، فيخرج الشباب في غير فرح ولا مرح، تشيعهم صيحات الأمهات والأخوات والزوجات، ودعوات الآباء الذين يعرفون كيف يحتفظون بالأناة والجد، ويدَّخِرون لأنفسهم كنوز الحزن والقلق والخوف. والحرب لا تأخذ من هؤلاء الناس أبناءهم وحدهم، وإنما تأخذ معهم الدعة والأمل والرضى، وهي لا تجلب لهم الخوف والحزن وحدهما، وإنما تجلب لهم معهما مصاعب الحياة من كل لون. فما أكثر ما تستولي الحكومة على بعض ما يملكون من أداة وحيوان، وما تخرج لهم الأرض من ثمرات! وما أقل ما يُجلَب إليهم من حاجاتهم! وما تكاد الحرب تنفق الأسابيع الأولى من حياتها المنكرة، حتى يكون الغلاء الذي يجعل حياة الفقراء وأوساط الناس عسرًا كلها وضيقًا.

غير أن الحرب في أول أطوارها لا تصيب الناس بشرِّها كله، فما تلبث الهزيمة أن تلم بالفرنسيين وتستقر في بلادهم، وتظهر آثارها في الجزائر وقد سُرِّح الجيش وعاد كثير من هؤلاء الشباب إلى أهلهم وأوطانهم موفورين، واستأنفوا حياتهم كما كانوا يحيونها من قبلُ، ولكن فيها ضيقًا وعسرًا وضروبًا من المصاعب، وألوانًا من الشدائد الثقال.

والشيوخ راضون بعودة أبنائهم إليهم، والشباب راضون باستئناف حياتهم على ما فيها من عسر وضيق، ولكن الحرب تستأنف بعد شيء من الوقت؛ فهؤلاء الأمريكيون قد احتلوا الجزائر وأخذوا في طرد الألمان من شمال أفريقيا، والفرنسيون يريدون أن يشاركوا في الحرب والانتصار، فيُدعَى هؤلاء الشباب إلى مواطنهم من الجيش مرة أخرى، ويستأنفون حياتهم تلك القاسية المرة التي ذاقوها منذ حين.

هذه هي الصورة الاجتماعية التي يصوِّرها لنا الكاتب في كتابه، وقد أوجزتها إيجازًا شديدًا وتركت خير ما فيها مما يسخط ويرضي، ومما يحزن ويسر، فإني لا أفصِّل الكتاب وإنما ألخِّصه وأترك لمَن شاء واستطاع من القرَّاء أن يقرأه كاملًا. وأنا بعدُ لم ألمَّ إلا بالخصلة الاجتماعية لهذا الكتاب، وقد قلت إن في الكتاب خصلة أخرى رائعة أشد الروعة، وهي هذه التي تتصل بحياة جماعة من الفتيان، فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين أنفسهم من جهة أخرى، وهم فتية تختلف حظوظهم من الغنى والفقر، ولكنهم على ذلك متقاربون أشد التقارب تجمع بينهم قبيلتهم، وتجمع بينهم سنهم، ويجمع بينهم اشتراكهم في جد الشباب ولعبه. هم ينسون ما بينهم من الفروق حين يلتقون ليلعبوا أو يسمروا، أو يأخذوا فيما شاء الله أن يأخذوا فيه من فنون الشباب حين يُتَاح لهم الفراغ، وهم جميعًا ينعمون بالحب حين يكون في نفوسهم أملٌ يداعبونه ويجدون اللذة في مداعبته، والتحدُّث فيه، وينعمون كذلك حين تتاح لهم بعض لذَّاته النقية البريئة يختطفونها اختطافًا، فتكون لهم متاعًا وذخرًا، ثم هم جميعًا يشقون بالحب حين تتحول آماله إلى يأس مهلك لا راحة منه، ولا سبيل إلى إتقائه، أو حين تحقق آماله فتملأ القلوب رضى وغبطة، وتملأ الحياة سعادة وهناءة وإشراقًا، ثم لا يلبث الحرمان أن يمسَّها بجناحه البغيض، فتتحول يأسًا مظلمًا ينتهي بأصحابه إلى الموت.

هذا قد أحب صاحبته أشد الحب، ولم يشك في أن حبه هذا منتهٍ إلى غايته من اجتماع الشمل وتحقُّق الأمل، ولكن أسرة الفتاة يغرُّها غنى فتًى آخَر، فتؤثر الإصهار إليه وترضاه لابنتها زوجًا، والفتاة تحب صاحبها القديم، ولكنها خاضعة لعُرْف القبيلة وتقاليدها، فهي تكظم حبها وتكتم شقاءها به وتمنح زوجها من الوفاء والإخلاص، والنصح والصدق في العشرة، وحسن الرعاية لحقوقه ومصالحه ما ينبغي للمرأة الحرة الكريمة أن تختص به زوجها.

ولكن القلوب ليست بأيدي أصحابها يصرفونها كما يحبون، وإنما هي بأيدي هذه العواطف الثائرة الجامحة التي تملك عليها أمرها كله وتدبرها كما تشاء.

فلا أقل من أن تملك هذه المرأة أمر نفسها في قوة وحزم ومضاء، فلا تفرط في حق زوجها، ولا تستجيب لهذه العواطف الجامحة حين تدعوها إلى بعض ما تريد. فَلْتظهِر سعادة وأمنًا ورضًى، وَلْتضمِر شقاءً وخوفًا وحزنًا، وَلْتُخْفِ ما تضمر على الناس جميعًا، وعلى هذا المحب القديم خاصةً؛ فما ينبغي أن يظهر منها على ضعف، ولا أن يجد إلى الطمع فيها سبيلًا، وهي تراه مولهًا مدلهًا مفتونًا قد أخرجه الحب عن طوره ودفعه إلى ألوان من التصرف الغريب، وهي تبتهج بما ترى وتُظهِر مع ذلك قسوةً لا حدَّ لها.

وهذا فتًى آخَر يحب صاحبته، ويكلف بها أشد الكلف، يفطن لحبه قبل أن تفطن له صاحبته؛ فهي مشغولة عنه وعن الرفاق جميعًا بمحب لها آخَر شديد الأثرة، شديد الغيرة، يريد أن تكون له وحده لا يشاركه فيها شريك من قرب ولا من بُعْد، وهذا المحب الأَثِر الغيران الذي لا يحب هذه الفتاة وحدها، وإنما يحب معها فتيات أخريات كثيرات قد بسط عليهن سلطانًا قاسيًا صارمًا، فهن خالصات له لا ينبغي أن يشغلهن شاغل. وهذا المحب القاسي هو الليل، الليل الذي ألف عشيقاته من فتيات الأنهار والغابات يسعين إليه مصطحبات منذ تجنح الشمس إلى الغروب حتى تئوب إلى مشرقها مع الصبح، وصاحبتنا تسعى معهن إلى الليل وتخلص له معهن من كل شيء ومن كل إنسان، فإذا أقبل النهار عادت إلى رفاقها تشاركهم فيما يأخذون فيه من لعب أو حديث. وقد أتيح لهذا الفتى أن يستخلص حبيبته من عاشقها ذلك الغريب المخيف، وأن يتخذها لنفسه زوجًا، فهو ناعم سعيد، وهي ليست أقل منه سعادة ونعيمًا لولا هذه الحرب التي تفرِّق بينهما مرتين، ولولا أم الفتى هذه التي لم تزوِّج ابنها لتسعد بنعيمه ورضاه، وإنما زوَّجته لينجب لها الولد الذي يحفظ اسم الأسرة من الضياع، ويحفظ ثروة الأسرة من أن تنتقل إلى الغرباء.

والأم تنتظر الولد فيطول انتظارها، حتى إذا أدركها اليأس ضاقت بهذه الزوجة السعيدة وأرادت أن يطلقها ابنها، وأن يتخذ مكانها زوجة ولودًا، ولكن الفتى يأبى ويمعن في الإباء، والأم تلحُّ وتمعن في الإلحاح، والفتى يلتمس الحيل على اختلافها ليتاح له الولد، وإذا هو ينسى ما تعلَّم في المدارس والجامعة، ويطلب الولد عند القديسين كما يطلبه من عجائز القبيلة دون أن يبلغ شيئًا. والزوجة الشابة محزونة قد استحالت سعادتها شقاءً، وأمنها خوفًا وإشفاقًا، والوالد الشيخ حائر بين زوجه تلك التي تلحُّ، وابنه الذي يحب، ولكنه ينتهز غيبة ابنه فيحمل الزوجة الشابة إلى أهلها، ويضطر الفتى إلى فراقها. والفتى من أجل ذلك يمضي إلى الحرب حين يُدعَى إليها في المرة الثانية، مطمئنًا إليها، قد كره الحياة وأنكر كل شيء فيها. وهو يشارك في بعض المواقع ويحسن البلاء، ويعود مع بعض رفاقه في إجازة قصيرة ليرى القرية ومَن فيها، وليلم بزوجته تلك التي أُكرِه على فراقها، وقد تلقَّى منها كتابًا تتحدث فيه عن حبها اليائس وبؤسها المقيم، وتذكر له فيما تذكر أنها لم تكد تبلغ أهلها حتى أحست الحمل، فهي تنتظر الولد إذن بعد حين.

وقد سلك الفتية طريقهم إلى قريتهم في يوم عاصف يسقط فيه الثلج فيكسو قمم الجبال، ثم ينحدر فيغطي السفوح. وما تكاد السيارة تسلك طريقها بالفتية إلى القرية حتى يتبيَّنوا أن العاصفة قد أخذت عليهم طريقهم بما ألقت فيها من ثلج، وبما صدعت من صخور الجبال، فيعودون أدراجهم ينتظرون هدوء العاصفة، إلا الفتى هذا المشغوف بلقاء زوجته تلك المطلَّقة بغير حق، فهو يخالف رفاقه ويزمع أن يبلغ القرية ماشيًا وأن يقتحم الهول في سبيل ذلك، وهو يلمح زوجته تلك خطيبة الليل تتراءى له من بعيد تدعوه دعاء المحب مرة، وتزجره زجر اللائمة مرة أخرى، وهو يستجيب لها ويمضي أمامه يغالب العاصفة والبرد والثلج والجبل، ويُخَيَّل إليه أنه من قريته غير بعيد، ولكنه لا يجد القوة على المضي أمامه، قد أنهكه هذا الصراع المر، فيجلس ليأخذ نصيبًا من راحة ولكنها جلسة لا يقوم منها؛ فقد انتهى به الإعياء إلى أقصاه، وكان الموت ينتظره في ذلك العطف من أعطاف الجبل، فتلقَّاه رفيقًا به عطوفًا عليه.

وفتية آخرون وشيوخ آخرون أيضًا يصوِّر لنا الكاتب حياتهم على هذا النحو من التصوير الدقيق، الذي يصدر عن شعور صادق وحس رقيق وعواطف قوية قد تبلغ القوة بها طورًا من الحدة في كثير من الأحيان، ولكنها حدة لا تلبث أن تثوب إلى شيء من الهدوء والاعتدال. والحرمان المتصل أو الحرمان الطارئ هو الفكرة المصاحبة للكتاب منذ يبدأ إلى أن ينتهي، وهو حرمان يتصل بالنفوس في أكثر الأحيان، ولكنه ربما يتصل بالمال أيضًا، فينغص حياة سعيدة كانت خليقة أن تمضي في سعادتها، وأن تتيح لأهلها النعيم وتنشئ مَن رزقوا من الولد في ثراء وخفض، ولكن الحرب قد جاءت فيما جاءت به بكثير من الكوارث التي تفقر بعض الأغنياء، وتغني بعض الفقراء، وتقلب حياة بعض الأسر ظهرًا لبطن، فيشقى بذلك قوم كانوا خليقين أن ينعموا، ويسرف قوم آخرون في سعادة كان يمكن أن ينعموا بها في شيء من التوسُّط والقصد والاعتدال.

وفي الكتاب كآبة هادئة تصحبه كما يصحبه الحرمان، ليست كآبة يأس وسخط وثورة، وإنما هي كآبة رضى بالقضاء، وإذعان للخطوب، وانتظار لما يمكن أن يأتي بما يُخرِج هذه الربوة من هذا النسيان الذي يغمرها، ومن هذا الإهمال الذي يعرِّضها لكثير من الخطوب، ولعل الزمان أن يتيح لهم حياة يشاركون فيها مؤثرين لا متأثرين فحسب، وعاملين منتجين لا مذعنين خاضعين لما يلمُّ بهم من الصروف.

ما أشد إعجابي بهذا الكتاب الذي لا أنكر من أمره شيئًا إلا أنه لم يُكتَب بالعربية! وكان خليقًا أن يُكتَب بها، ولكن هذا عيب لا يُؤخَذ به الكاتب، وإنما يُؤخَذ به الاستعمار، وما أكثر ما يُؤخَذ به الاستعمار من العيوب والذنوب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤