الفصل الحادي عشر

وفيه يتبنى أهل كويكندن قرارًا بطوليًّا.

***

رأينا الحالة البائسة التي وصل إليها أهل كويكندن؛ فكانت عقولهم كالسكارى، ولم يعد أحدهم يعرف نفسه أو يميزها؛ فأصبح أكثر المواطنين المسالمين مشاكسين. ولو نظرت إليهم بازدراء، فسوف يتحدَّونك في مبارزة على الفور. وأطلق بعضهم العنان لشواربهم، وكان العديد منهم — الأكثر عدائية — يبرمونها.

ولما أصبح هذا حالهم، أصبحت إدارة البلدة والحفاظ على النظام في الشوارع مهامَّ صعبة؛ لأن الحكومة لم تكن مدرَّبة على التعامل مع مثل هذه الأمور. وأصبح العمدة — المبجل فان تريكاس الذي رأيناه شديد الهدوء، شديد الكسل، غير قادر على التوصل إلى أي قرار — صعب المراس. وضجَّ منزله بصوته الحاد، وصار يتخذ عشرين قرارًا في اليوم، ويوبخ مسئولي البلدة، وينفذ بنفسه لوائح إدارته.

آه، يا له من تغيير! قصر العمدة الهادئ اللطيف، ذلك المنزل الفلمنجي الجميل، أين ذهب هدوءه السابق؟ ويا للتغييرات التي طرأت على منزله! فقد أصبحت السيدة فان تريكاس سليطة اللسان، غريبة الأطوار، فظَّة. كان زوجها ينجح أحيانًا في حجب صوتها من خلال التحدث بصوت أعلى منه، ولكن لم يكن يستطيع إسكاتها. وكان المزاج العدواني للسيدة المبجَّلة يُحفزه أي شيء. لم يَسِرْ شيء على ما يُرام، كان الخدم يزعجونها كل لحظة، وكانت تاتانمانس شقيقة زوجها، التي لم تكن أقل منها انفعالًا، تردُّ عليها ردودًا حادَّة. وبطبيعة الحال، كان السيد فان تريكاس يدعم لوتشيه، خادمته، كما هو الحال في جميع الأسر الكريمة، مما كان يثير سخط الزوجة دائمًا، والتي دائمًا ما كانت تتشاجر مع زوجها، وتجادله وتفتعل معه الشجارات.

صاح العمدة البائس قائلًا: «ما الذي حدَث لنا بحق السماء؟ ما هذه النار التي تلتهمنا؟ هل مسنا الشيطان؟ آه، يا مدام فان تريكاس، سينتهي الأمر بموتي قبلك، ومن ثم ستتحطم كل تقاليد الأسرة!»

لعل القارئ لم ينسَ العرف الغريب الذي من خلاله سيصبح فان تريكاس أرملًا ويتزوج مرة أخرى، حتى لا يكسر تسلسل النسب.

في الوقت نفسه، أوجدت هذه النزعة التي سيطرت على جميع العقول آثارًا غريبة أخرى جديرة بالملاحظة؛ فهذه الإثارة — التي لا نعرف لها سببًا حتى الآن — أحدثت تغييرات فسيولوجية غير متوقعة؛ فكشفت المواهب — التي لم تكن معروفة حتى هذه اللحظة — عن نفسها، واكتُشفت القدرات والجَدارات فجأة. فأظهر الفنانون — الذين كانوا عاديين من قبلُ — قدراتٍ جديدة، وظهر السياسيون والمؤلفون، وأثبت الخطباء أنهم على قدر أصعب المناقشات، وألهبوا حماس الجمهور عند الردِّ على كل سؤال؛ هذا الجمهور الذي كان على استعدادٍ تام للإثارة. وانتقلت هذه الحركة من جلسات المجلس إلى الاجتماعات السياسية العامة، وأُسِّس نادٍ في كويكندن، وصدرت عشرون صحيفة — «كويكندن سيجنال»، و«كويكندن إمبارشيال»، و«كويكندن راديكال» وما إلى ذلك — وكتبت بأسلوب حماسي وأثارت تساؤلات شديدة الأهمية.

لكنك ربما تسأل: ماذا عن …؟ فيما يتعلق بكل شيء، ولا شيء؛ فيما يتعلق ببرج أودينارد، الذي كان في طريقه للانهيار، ورغب البعض في هدمه، ورغب آخرون في ترميمه؛ فيما يتعلق بلوائح الشرطة الصادرة عن المجلس، والتي هدد بعض المواطنين المتعنتين بمقاومتها؛ وفيما يتعلق بكسح المزاريب، وإصلاح الصرف الصحي، وما إلى ذلك. كما لم يقتصر الخطباء الغاضبون في نقدهم على الإدارة الداخلية للبلدة؛ بل ذهبوا إلى بعيد، بدافع من التيار السائد، وكتبوا مقالات لدفع مواطنيهم نحو ويلات الحرب.

كان لدى كويكندن، على مدى ثمانمائة أو تسعمائة سنة سبب وجيه للحرب، لكنها كانت حريصة على إخماده تمامًا، وكان يبدو أن هناك احتمالية بأنه سيضمر ويتلاشى، ولن يظل قائمًا.

وفيما يلي ما أدى إلى نشوب الحرب.

ليس معروفًا عمومًا أن كويكندن تقع بجوار بلدة فيرجامِن الصغيرة في هذه الزاوية الدافئة من إقليم فلاندر، وأن أراضي هاتين البلدتين متجاورة.

حسنًا، في عام ١١٨٥، وقبل وقت من رحيل الكونت بالدوين إلى الحروب الصليبية، تجرأت بقرة من فيرجامِن — دعنا نُشِرْ إلى أنها ليست بقرة مملوكة لمواطن، ولكنها كانت ملكية عامة للبلدة — ودخلت إلى مرعى على أراضي كويكندن. كان هذا الحيوان لم يملأ فمه إلا ثلاث مرات وحسب، ولكن هذا الهجوم، أو الانتهاك، أو الجريمة — أيًّا كان ما تسميه — قد ارتُكب وأُدين على النحو الواجب؛ إذ كان القضاة في ذلك الوقت قد بدأوا بالفعل في معرفة كيفية التدوين.

قال ناتاليس فان تريكاس، وهو السلف الثاني والثلاثون للعمدة المذكور في هذه القصة: «سننتقم في اللحظة المناسبة، ولن يخسر أهل فيرجامِن شيئًا جراء الانتظار.»

أصبح أهل فيرجامِن في حذر، وانتظروا، دون أدنى شك، أن تتلاشى ذكرى الجريمة بمرور الوقت. وبالفعل ظلت علاقاتهم مع جيرانهم في كويكندن طيبة لعدة قرون.

ولكنهم لم يضعوا في الحسبان أي احتمال آخر، ولا هذا الوباء الغريب، الذي غيَّر جذريًّا شخصية سكان كويكندن، وأثار انتقامهم الخامل.

كان الخطيب المفوَّه المولع بالحرب شوت في نادي شارع مونسترليه هو مَن أثارَ فجأةً هذا الموضوع لدى سامعيه، ملهبًا مشاعرهم بالتعبيرات والاستعارات التي تُستخدم في مثل هذه المناسبات. وأعاد إلى الأذهان الجريمة، والإهانة التي لحقت بكويكندن، والتي لا يمكن أن تقبلها أمة «غيورة على حقوقها» كما حدث سابقًا، وأوضح أن الإهانة لا تزال قائمة، والجرح لا يزال ينزف، وتحدَّث عن هز شعب فيرجامِن لرءوسهم في ازدراء، في إشارة إلى مدى الازدراء الذي ينظرون به إلى شعب كويكندن، وناشد أبناء بلدته، الذين أيدوا، ربما دون وعي، هذه الإهانة الفتاكة لقرون طويلة. وناشد «أبناء البلدة القديمة» بأن يجعلوا هدفهم الأوحد هو الحصول على تعويض ضخم. وأخيرًا، وجَّه نداءً إلى «جميع الطاقات الحية في الأمة!»

استُقبلت هذه الكلمات — التي كانت جديدة على آذان أهل كويكندن — بحماسٍ قد لا يمكن وصفه، ولكن يمكن تخمينه؛ فقد نهض جميع المستمعين، ورفعوا أيديهم مطالِبين بالحرب بصيحات عالية. لم يحقق المحامي شوت نجاحًا من هذا القبيل في السابق، علمًا بأن انتصاراته السابقة لم تكن قليلة.

إن كان العمدة، والمستشار، وجميع الأعيان الحاضرين في هذا الاجتماع التاريخي، سيحاولون مقاومة هذه الثورة الشعبية، فإن محاولتهم كانت ستذهب أدراج الرياح، إضافة إلى ذلك، لم يكن لديهم الرغبة في هذا، وصاحوا بصوت عالٍ، إن لم يكن أعلى من البقية:

«إلى الحدود! إلى الحدود!»

ولما كانت الحدود على بُعد ثلاثة كيلومترات من أسوار كويكندن، فمن المؤكد أن سكان فيرجامِن كانوا في خطرٍ حقيقي؛ إذ ربما كان من السهل غزوهم دون توافر وقت للانتباه لذلك.

في غضون ذلك، حاول الكيميائي النبيل جوس لفرينك — الذي احتفظ وحده بعقلانيته في هذا الموقف الخطير — أن يجعل مواطنيه يدركون أنهم في حاجة أيضًا للبنادق، والمدافع، والجنرالات من أجل خطتهم.

فأجابوه، بإيماءات تنمُّ عن نفاد الصبر، بأن الجنرالات والمدافع والبنادق سوف يُدبر أمرها لاحقًا؛ وأن حق البلدة وحبها كافيان، ومن شأنهما أن يجعلا من أي شعب شعبًا لا يُقهر.

وهنا تقدَّم العمدة نفسه، وتدخَّل سريعًا بخطبة عصماء قطع فيها الطريق على الجبناء الذين يُخفون خوفهم تحت قناعٍ من الحكمة، وهو القناع الذي مزَّقه بيدٍ وطنية.

ووسط هذا الاندفاع بدا وكأن القاعة ستنهار من التصفيق.

وطُلب التصويت بحماس شديد، وأُخذ وسط التهليل.

وتضاعفت الصيحات: «إلى فيرجامِن! إلى فيرجامِن!»

ثم أخذ العمدة على عاتقه مسئولية تسيير الجيوش، وباسم البلدة وعد بإقامة احتفالات النصر الرومانية، على غرار الاحتفالات التي كانت تُقام في زمن الرومان حال عودة أحد الجنرالات منتصرًا.

وفي الوقت نفسه، أصر جوس لفرينك — الذي كان رجلًا عنيدًا، ولم يعتبر نفسه مهزومًا، على الرغم من أنه هُزم حقًّا — على إبداء ملاحظة أخرى. فأراد أن يشير إلى أن احتفال النصر لم يُمنح في روما إلا لأولئك الجنرالات المنتصرين الذين قتلوا خمسة آلاف من جيوش العدو.

صاح المجتمعون في اهتياج: «حسنًا، حسنًا!»

«وبما أن عدد سكان بلدة فيرجامِن ثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وسبعون نسمة فقط، فسيكون هذا صعبًا، ما لم يُقتل الشخص نفسه عدة مرات.»

ولكنهم لم يدعوا الرجل المنطقي سيئ الحظ يكمل كلامه، فطردوه ودفعوه بقوَّة وأصيب بكدمات.

وقال بولماشر البقال، الذي كان عادةً ما يبيع البقالة بالتجزئة: «أيها المواطنون، مهما كان ما قاله هذا الصيدلي الجبان، فإنني أتعهد بنفسي بقتل خمسة آلاف من أهل فيرجامِن، لو قبلتم خدماتي!»

وصاح وطنيٌّ آخر أكثر تصميمًا: «خمسة آلاف وخمسمائة!»

فقال البقال: «ستة آلاف وستمائة!»

فصاح جان أوربيديك، صانع الحلوى في شارع هيملينج، الذي كان في طريقه لتحقيق ثروة عن طريق صنع الكريمات المخفوقة: «سبعة آلاف!»

صاح العمدة فان تريكاس عندما لم يجد أحدًا آخر يزايد: «قُضي الأمر!»

وهكذا أصبح صانع الحلوى جان أوربيديك القائد العام لقوات كويكندن المسلحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤