أسرة القط حميدو

بعد أن تهيأتْ سحر عبد الله لمغادرتنا، بمصافحاتٍ ووعودٍ برسائل ومكالماتٍ هاتفية، اتجهت ناحية القطِّ الذي ثبتت عيناه ناحيتها بنظرة قلق: لا أوصيكم بحميدو!

سحر عبد الله هي الفنانة التشكيلية الشابَّة، استطاعت بموهبةٍ خلاقةٍ أن تصبح في مقدمة الصفوف بين كتاب ورسامي الأدب المكتوب للطفل، جاوزت إبداعاتها الوطن العربي، فأزمعت الهجرة إلى كندا، لا لتحقيق العالمية، فهي — حسب قولها — متاحةٌ للفنان في أيِّ موضع، إنما للتعرف إلى تجارب جديدة، وخبرات، ربما أتاحها لها وجود أبوَيها في مدينة تورنتو الكندية.

علا صوت زينب ينهى حميدو عن ممارسة هوايته بخربشة أثاث البيت. قالت الكاتبة ياسمين مجدي: رأيتُ هذا القطَّ من قبل … تعرفتُ إليه في حكايات سحر عبد الله.

بالنسبة لي، فقد استهواني الاسم، ذكرني بإسكندرية؛ حميدو فارس فتوَّة بحري، وأشهر فتوَّات المدينة، لعلَّه اسمٌ تونسيٌّ قدِمَت به رحلات المغاربة، عبر الشرق، إلى الأراضي الحجازية، في القرون الوسطى وما تلاها، فصار سكندريًّا.

من المهمِّ كذلك أن أشير إلى ما أحسستُ به، لمَّا فتحت سحر عبد الله باب القفص البلاستيكي، وخرج حميدو متباطئًا، متلفتًا، حلَّ في نفسي شعورٌ دافقٌ بالإشفاق والتعاطف، ربما للنظرة الثابتة، الساكنة، في عينيه السماويتين.

وضعت سحر على طاولة السفرة كيسًا بلاستيكيًّا كبيرًا، فضَّته، أخرجت منه ألعابًا، عرفنا أنها للوافد الجديد، ثم أخرجت قطعة خشبٍ مستطيلة، التصقت بها قماشة خضراء، تهرَّأت في مُجملها: هذه لخربشات حميدو.

تجاوزت الكلمات، لم يستوقفني المعنى، وإن عرفته، فيما بعد، لمَّا جعلت أُسرة حميدو من أثاث البيت مجالًا لخربشاتها!

من الصعب، في تصوري، أن نربط بين رعاية الحيوانات الأليفة، كالقطط والكلاب، وبين المستوى الاجتماعي لهؤلاء الرعاة. أعرف أُسرًا تعاني ظروفًا ماديةً قاسية، لكنها تهتم بتربية الحيوانات المنزلية، تجد في ذلك ما يرضيها، تحرضها على الفعل مشاعر إنسانية لا شأن لها بالقدرة المادية، ربما أنفقت على طعام الحيوان الذي ترعاه ما تبخل به على ضرورات حياتها.

أشير إلى دراسةٍ لصديقي الكاتب الصحفي محمد أبو الحديد، مأخوذة عن مركز أبحاث أوروبي. حاولت رصد نمو ظاهرة اقتناء القطط والكلاب في دول العالم المتقدم، والدول النامية. أظهرت الدراسة أن اقتناء القطط والكلاب ضعيفٌ للغاية، بالقياس إلى اتساع الظاهرة في الدول الأقلِّ ثراءً.

ثمة معلوماتٌ لا أعرف إن استندت إلى أبحاثٍ علميةٍ كما أشار كاتبوها، أم إنها تستهدف مشاعر القارئ، فيطمئن إلى حُسن اختياره، أو يراجع تردُّده إذا لم يكُن قد حسم الأمر.

من تلك المعلومات أن قضاء المرء ما بين ١٥ إلى ٣٠ دقيقةً مع القطط، داخل البيت، يؤدي إلى زوال الإحساس بالتعب البدني والتوتر؛ حددت المعلومة مادة كيميائية في دماغ الإنسان تفرز مادة السيروتونين التي تهَبُ المرء شعورًا بالراحة والسعادة، وتعمل عضويًّا على خفض مادة الكورتيزول؛ المادة الأهم في شعور الشخص بالإجهاد البدني.

معلوماتٌ أخرى، من حقِّك، مثلما أذنت لنفسي، أن تقبلها أو ترفضها، وهي أن تربية القطط في البيت يساعد على نموِّ البدن، وتقليل نسبة الإصابة بالنوبات القلبية، إضافةً إلى تنشيط الجهاز المناعيِّ في جسد الإنسان، وحمايته بالتالي من الأمراض الفيروسية الشائعة.

وبالنسبة للأطفال، فإن قيام الطفل برعاية القطط؛ إطعامها وتنظيفها وإزالة مخلفاتها، دافعٌ لتحمُّل المسئولية في سنٍّ باكرة، إلى جانب الرفقة الطيبة التي يمثلها القطُّ في حياة الطفل، فيُنسيه مشاعرَ سلبيةً كثيرة، منها الشعور بالوحدة.

يؤلمني أن القطَّ لا يستطيع، في مواجهة التصرفات الزاجرة أو المؤنِّبة، أن يبرِّر ما فعل، ولا أن يدافع عن نفسه، يمنعه حرمانه من نعمة النطق، وإذا حاول التعبير بغير الكلام، فإن المصير القاسي يتهدَّدُه.

مع ذلك، فإن القطَّ قد يدافع عن نفسه، يأخذ جسدُه وضع القوس، يُصدِر من فمه ما يشبه الفحيح، ربما نالتك أظفاره بأذى خربشتها، أو يلجأ إلى العضِّ بأنيابه الحادة.

حين يصمت امرؤٌ عن الكلام، فإنه، في التشبيه المتوارث، باع لسانه للقطة، بمعنى أنه اختار الصمت، القطط — عدا المُواء — حياتها في الصمت.

لعلَّ تسمية القطط السمان — وهي التسمية التي شاعت في انفتاح السبعينيات — تعبيرٌ عن الدنيا المحدودة للقطط، بدايةً من تناول الطعام حتى إفراز الفضلات. هي لا تغادر تلك الدنيا، لصنع شيءٍ مماثلٍ لما يصنعه الإنسان والمخلوقات الأخرى. تحفُّظي على التسمية أن القطط، سواءٌ كانت سِمانًا أم هزيلة، لا تؤذي، بينما شاغل سمان البشر هو استلاب ما يمتلكه الآخرون.

أنتَ تستطيع أن تعلِّم الكلب وسائل حمايتك، ووسائل مساعدتك بعامة؛ يأتي لك بجريدة الصباح، أو كرة الجولف، أو أيِّ شيءٍ يسهل عليه حمله، تحرضه على مهاجمة مَن يبادرك بالعدوان (أتذكر قول الكاتب الصحفي الراحل حلمي سلام، وهو يستقبلني في بيته، وبيده مِقود كلبٍ هائل الحجم: كده أضمن! وكان قد خاض، آنذاك، تجربةً إداريةً قاسية). والكلاب البوليسية عنصرٌ مهمٌّ في تحقيقات الشرطة؛ رائحة شيءٍ ما، تتشمَّمُها، تقودها إلى مُرتكِب الجريمة، سواءً كان قاتلًا، أو لصًّا، أو تاجرًا للمخدِّرات، رائحة أبسط الأشياء وسيلة كشفها لجرائم غابت فيها الحقيقة.

أمَّا القط، فهو في حاجةٍ دائمةٍ إلى رعاية الإنسان وعونه.

يحذِّرنا الموروث الشعبي من الأماكن التي شهدت حادثة قتل، فالقتيل يظهر فيها على هيئة حيوان، ومنه القط.

القطُّ من الحيوانات التي يتشكل الجانُّ في هيئتها، مثل الأرنب والماعز، وقد تكون القطط، والحيوانات بعامة، مصدرًا للطقوس والتعاويذ المؤذية والمرض الذي لا شفاء منه، أمَّا الكلب فإنه وسيلتنا لتخويف تلك المخلوقات.

وفي تقدير العلماء أن القطط تشبه أسلافها البريَّة بأكثر ممَّا تشبه الكلاب الذئاب، فالكلاب إذَن مُستأنَسة أكثر من القطط. وإذا كانت القطط قد اعتادت العيش مع البشر، فإنه من الصعب تبيُّن التغيُّر الذي ربما بدَّل نمطية حياتها وسلوكياتها، عبر آلاف السنين، ولعلَّ الأصوب أنه لم يحدث تغيرٌ ما.

نقل محمد العزبي عن صحفي عراقي انتقاده مواطنيه؛ لأنهم يفضِّلون القطط على الكلاب، برغم أن الأولى خائنة، والثانية عُرفت بوفائها. وكان روبيان بطل رواية «كونكاس بوريا» للبرازيلي ماشادو دو أسيس يصحب كلبه في كل رحلاته، وكانا ينامان معًا في غرفةٍ واحدة، والكلب هو الذي يوقظه في الصباح، وقد يقفز على السرير ليتحدثا، وعندما أحسَّ الرجل بدنوِّ الأجل، فإنه أوصى بكل ما يملك للكلب، بحيث يُنفق على طعامه ودوائه جيدًا، وتُردُّ محاولات إيذائه، ويُعتنى به عمومًا عناية إنسان. فإذا مات الكلب، فإنه يُدفن في أرضٍ يُحسَن اختيارها، ويُشيَّد له قبر تغطيه الأزهار والنباتات العبقة، على أن يُستخرج رفات الكلب، بعد سنوات، لتوضع في صندوقٍ من الخشب الفاخر، يأخذ موضعه في أكرم مكانٍ من البيت. وفي قصة عزة رشاد «تلصص على أنقاض» عبَّرت المرأة عن حُبِّها للقطط بإغراق صفحتها على الفيس بوك بصورها.

ولعلِّي أسأل: هل كان شتاينبك يستطيع أن يصحب قطًّا، بدلًا من كلبه تشارلي، في رحلته التي طاف بها مدن أمريكا؟!

•••

في رواية ماشادو دو أسيس «كونكاس بوربا» كان الكلب ينسى اللطمات، أو الركلات التي يوجهها إليه صاحبه، لا يحتفظ في ذاكرته إلا بلحظات المداعبة، عكس ذلك ما يشعر به القط؛ إنه يحزن، وقد يبكي إذا ناله صاحبه بالضرب، وحتى يعود إلى نفسه صفاؤها، فإنه لا بدَّ أن يلقى من الرعاية ما يعوِّض لحظات الغضب.

وعلى الرغم من الصفات التي يحظى بها الكلب، وتغيب عن القط، فإن الكلب في التراث الديني والموروث الشعبي نجاسة، وتربيته في البيت ليست مستحبَّة — أترفَّق في التعبير — بل إن غلاة الحنابلة يجدون في ظلِّ الكلب نقضًا للوضوء، ومن شتائمنا: يا كلب، ويا ابن الكلب، أمَّا القطُّ فهو موضع تدليل، ونتغزل فنصف المرأة بأنها قطَّة، ونجد في عينيها عينَي قطَّة، بينما قد لا تقلُّ عينا الكلب جمالًا!

هنا، أذكر كلام مولود فرعون في روايته «ابن الفقير» عن عينَي القطة الملتمعتين بالخبث، وصف يذكِّرني بصديقٍ ساءته نظرةُ طفلٍ في أشهره الأولى، رأى فيها خبثًا.

– هل للرضيع عينان خبيثتان؟

قال بحسم: أنتَ لم ترَه، تلك كانت نظرته!

بعيدًا عن البنايات السكنية، ذات الطوابق المتعددة والجيران الكثيرين، فإن فوائد الكلب تشحب، وربما أفرزت نتائجَ مزعجةً بنباحها الذي يخلو من سببٍ حقيقي، لكنه يُحدِث إزعاجًا للآخرين يصعُب تداركه.

بين حينٍ وآخر، تُفتح نافذةٌ في ارتطامٍ ساخط، ويعلو صوتٌ باللوم على أصحاب الكلاب في البناية الخلفية. الشابُّ، في الطابق الأرضي، يربِّي ثلاثة كلاب، لا رابط لنباحها ولا ضابط، هو متواصل بمناسبةٍ وبلا مناسبة. أمَّا القطط، فإن مواءها أقرب إلى الهمس، لا يعلو إلا في حالات الضرورة، كطلب الطعام أو الجنس.

كانت نظرة التعاطف وحدها، ولو في البداية، هي التي أملت ترحيبي بحميدو فردًا في أُسرتنا الصغيرة؛ زينب وأنا، الغصنان المتمثلان في أمل ووليد شكَّلا أُسرتين، ولهما أبناء.

استعدتُ، في الأيام السابقة، ما في الذاكرة من ومضات؛ نظرة ذعرٍ يواجهني بها قطٌّ في منتصف الطريق، قبل أن يطمئن إلى توقف سيارتي فيواصل السير، اصطدامي بقطٍّ في سُلَّم البيت، وقفة متوسلة لقطٍّ أسفل طاولة مطعم، زحام قططٍ على كومة قمامةٍ فوق رصيف، مواء قطٍّ أسفل البيت، مواء غريب كالصراخ، تفهَّمتُه بعد أن صارت القطط من مألوف حياتنا الأُسريَّة.

بعيدًا عن أبحاث العلماء وما توصلوا إليه من نتائج، فإن النظرة العابرة — لا أقول المتفحِّصة — للقطِّ تنسبه إلى فصيل الأسد والنمر والببر والحيوانات المشابهة، النظرة نفسها إلى الكلب تنسبه إلى فصيل الجياد وما يشبهها في التكوين الجسدي، كالذئب والثعلب والضبع إلخ.

حاولتُ أن أحيط بالقطط علمًا، أقرأ كل ما يتصل بها، فلا أفاجأ بما قد يحفزني إلى المراجعة.

قرأتُ أن القطَّ، أو الهرَّ، أو البس بلغة العامة، حيوان من الثدييات، يتبع فصيلة السنوريات، روَّضه الإنسان قبل نحو سبعة آلاف سنة (لم نتعرف إلى الوسيلة).

وتعيد الموسوعة أصل القطط إلى نشأتها في جوٍّ صحراوي، وهو ما يبين في ميلها إلى الحرارة، والتعرض إلى أشعَّة الشمس، وحرصها على النوم، أثناء النهار، ما أمكن، في أماكنَ معرَّضةٍ لضوء الشمس. ثمة أنواعٌ كثيرةٌ من القطط، قِيل إنها بلغت الأربعين، منها الأبيس الفرعوني الجذور، والسامي، والشيرازي، والهيملايا (من تزاوج الشيرازي والسيامي)، والبالينيز، والفارسي، والرومي، أو الريفي في تسميةٍ أخرى، والمانكس، والباست، والحبشي، والبورمي، والروسي، والسيبيري، والأكزوتيك، وغيرها. ثمة كذلك عشرات السلالات من القطط، تخلو أجسامها من الشعر، أو يغطيها شعرٌ كثيف، وشوارب القطِّ الطويلة على جانبَي فمه، وفوق العينين، تمثل للقطِّ حاسة استشعار، قد نختصرها في القول بأنها حاسةٌ سادسة، وقد يختال قطٌّ بذيله، بينما الذيل «الأزعر» هو العيب الخِلْقي الذي يُولَد عليه قطٌّ آخر، هو «المانكس». ويتمتع القطُّ بقدرةٍ مذهلةٍ على الرؤية في الظلام، وهو ما لاحظناه في تنقُّل حميدو وأفراد أُسرته من بعد، داخل الشقَّة، حتى لو كان الظلام حالكًا، كما يتمتع القطُّ بقدرةٍ على سماع الأصوات ذات التردُّد العالي، ويتمتع كذلك بحاسة شمٍّ قوية، أقدِّرها منذ صار حميدو فردًا في الأُسرة، رغم تأكيد العلماء أن حاسة الشمِّ لدى الكلاب والخنازير تفوق ما تمتلكه القطط. أمَّا نوم القطِّ فهو يمتدُّ إلى ما يقرب من ستِّ عشرة ساعةً كل يوم، فترة النوم العميق فيها تقارب الساعات الثلاث، وفترة النوم في الشتاء أطول منها في الصيف. تضيف المعلومة أن للقطط أحلامها، وتَصدُر عنها وقت الحلم أصواتٌ مثل تلك التي تَصدُر — مع الفارق — عن الإنسان.

قرأت أيضًا عن طبائع القطط، صحة ما ورثناه من معلومات، ما ينتسب إلى الحقيقة، وما هو خرافة، وسائل تربيتها، ما ينبغي وما لا ينبغي أن يُقدَّم لها من طعام، أين وكيف تضع فضلاتها؟ هل يجب تطعيمها، ومتى؟ هل تهوى العوم في المياه، مثل الكلاب، أو أن لسانها، كما يقول الموروث، يُغني بلعق الجسد عن الحمام؟ ما العمر الطبيعيُّ لحياة القط؟ ما الفوارق بين أنواع القطط؟ هل للون القطِّ صلةٌ بالعِرق؛ رومي، شيرازي، بلدي، وما شابه؟ متى يطلب القط، الأنثى والذكر، الزواج؟ وأمارات التهيؤ للتناسل والإنجاب، هل للقطط لغة؟ هل يلعب القطُّ بمفرده، أو أنه يميل إلى اللعب مع القطط الأخرى، أو مع صاحبه؟ كيف نتَّقي الخربشة (كم عانيت منها)؟ ما الأمراض المشتركة بين الإنسان والقط؟

أخذتني القراءة — متعة حياتي — فقرأتُ، أو استعدتُ قراءة، أن القطَّ البيتي أصله القطُّ البريُّ الإفريقيُّ الذي استأنسه المصريون زمن الفراعنة، ما حدَّده العلماء بالعام ٣٥٠٠ قبل الميلاد على وجه التقريب، أفاد منها المصريون في قتل الجرذان والفئران والثعابين، فلم تعد الحقول ومخازن الحبوب تواجه الغزوات المشابهة لغزوات الجراد في الزمن الحالي.

حسب اجتهاد العلماء، ففي القرن السادس عشر قبل الميلاد تقدَّست القطط في معتقدات المصريين. باستيت، أو باست، هو إله الحُبِّ والخصوبة؛ الرأس لقطٍّ، والجسم لامرأة. ومثلما يدين الهندوس، الآن، مَن يؤذي بقرة، فإن مَن كان يؤذي قطًّا، في مصر القديمة، كان يعاقَب بما يبلغ الموت. وحين يموت القط، فإن أصحابه يحلقون حواجبهم، حدادًا على وفاته، بالإضافة إلى تحويل القطط الميتة إلى مومياوات. وتشير «ويكيبيديا» إلى أن علماء الآثار اكتشفوا مقبرةً قديمةً للقطط في مصر القديمة، تضمُّ أكثر من ثلاثمائة ألف مومياء للقطط.

•••

عدا حالاتٍ قصيرة، قليلة، متباعدة، فقد اقتصرت صلتي بالحيوانات البيتيَّة، منذ سنواتٍ بعيدة، على الكلاب.

آخر ما أذكره عندما أمضى «لولو» أشهره الأولى بيننا بلا مشكلاتٍ تؤذيه، أو تضايقنا، نقدِّم له الطعام، نكلمه بما نعلم أنه لا يفهمه، نلاعبه، نقذف له الكرة فيجري لالتقاطها، أصحو، شخصيًّا، على تمدُّده الساكن فوق صدري، صار لولو، باختصار، فردًا من الأُسرة، يعلن وليد أنه صديقه المقرَّب، تدافع أمل عن صداقتها الوثيقة بالكلب، فهو يتبعها حيثما تجلس. أمَّا زينب فهي تضمن محبة الكلب الأبيض الصغير، وولاءه بالتالي، بما توفره له من رعاية.

لمَّا حلَّ «القراد» ضيفًا ثقيلًا على جسم «لولو» تبدَّل كل شيء، هو الموقف الذي أفدت منه في روايتي «كوب شاي بالحليب»: قمل العانة الذي غطَّى الأثاث والجدران في بنسيون شارع فهمي بباب اللوق، واقعة لا تخلو من صحة، امتزجت بمعاناة لولو المسكين من القُراد، قمل العانة ظلَّ حبيس الجسد حتى زال بالأدوية والمُطهِّرات، لكنه تحوَّل في الرواية إلى خطرٍ حقيقيٍّ يهدِّد تواصل أيام جماعة البنسيون.

الحزن الذي تملَّكنا برحيل «لولو» حاول تعويضه صديقي الأديب لواء الشرطة عاطف سعودي بإهدائي كلبًا بوليسيًّا، لكن نموه الجسدي الهائل فرض قيدًا على حركته في الشقَّة الصغيرة، وعلى حركة أفراد الأُسرة، حتى استعاد عاطف سعودي هديته الغالية.

•••

وعيت على القطط مثل كل الأطفال، أصطدم بها في صعودي سُلَّم البيت، يأخذني الخوف فأصرخ، أو الغضب فأشوطها، أرقبها، من الطابق الثالث، في ميدان علي تمراز، والشوارع المحيطة بالبيت — يطلُّ على ثلاث واجهات — تقف أمام حلواني الطيبين، أو قهوة المهدي اللبان، أو البقال أسفل البيت المقابل، تنام جوار الرصيف، يعلو مواؤها طلبًا للجنس، وهو ما فطنتُ إليه فيما بعد.

كانت علاقتي بالقطط تقتصر على الفُرجة أو الاقتراب العفوي، لا احتمالات صداقة، ثم نطقت اسم القط، القطة، كجزءٍ من دروسي في «البوصيري» الأولية عندما طلب جميل أفندي، مدرس اللغة العربية، أن نحفظ، قبل حصة اليوم التالي، أغنية، أذكر منها:

قطتي صغيرة
واسمُها نميرة
لِعبُها يُسلِّي
وهْيَ لي كظلي
تُظهِرُ الشطارة
كي تصيدَ فارة

لما كبرت، وصارت لي حياتي الخاصة، استضفتُ ثلاث قطط، نسيتُ الظروف، لكن الشقَّة — أذكر ذلك جيدًا — عانت خربشةً، وتمزيقًا، وتقطيعًا.

كانت القطة الشيرازي أميَلُ القطط إلى «الخربشة». تصوَّرنا أن طبعها هو الذي يُملي عليها ما تفعل، حتي كتبي وأوراقي تحولت إلى دورات مياه، فاستغنينا عنها دون أن نقرأها، أو نستكمل ما بدأناه من الكتابة، ثم عرفنا، متأخرًا بعد أن رحلت الشيرازي، أن هياجها مبعثه افتقاد العلاقة الحميمة.

ظني أننا لم نتوقع المشكلة، ثم لم نحسن فهمها، تركنا القطط لحالها، دون أن نُعنى بوسائل عيشها، وكيفية تحركها في حياتنا، لم يكُن أحدٌ قد كلَّمنا عن وسيلة تجنب «الدمار» — هذا هو التعبير الصحيح — الذي تلحقه أظافر القطط بكل ما يصادفها، حتى الظاهر من أجسامنا نالته أظافر القطط، دون قصدٍ بالطبع. كما لم يكلِّمنا عن التصرف الغريزي للقطط، عقب قضاء حاجتها، فهي تفضل دفن فضلاتها في الرمل، وعلينا — هذه هي النصيحة — أن نُعِدَّ لها كمية رمل على مِصفاة البلاعة، نحملها إليه بعد أن تُنهي تناول طعامها بخمس دقائق، فتعلم أن هذا هو المكان المناسب لتُلقي فضلاتها، تسبق تصرفها وتُنهيه بنبشٍ مُتوالٍ، كأنها تحاول إخفاء فَعْلتها، قد تتصور الحفر في الأرضية الرخام، أو السيراميك، فأظفارها تجري على الأرضية الملساء، لكنها تتوهَّم إعداد الحفرة، تقضي حاجتها، ثم تجري أظفارها ثانيةً بالتوهم، لردم الحفرة. التصرف غريزي مثلما يحدث عند تناول الطعام، أو في العلاقة الجنسية.

وترفض القطط استعمال أوعية المخلفات القذرة، وتتعمد إخفاء برازها، حتى لو كان ظاهريًّا، بنبش الموضع الذي خلَّفت فيه البراز، لأن موروثها الغريزي يدفعها إلى إخفاء مكانها عن الحيوانات الأخرى المفترسة. كما لم يُشِر أحدٌ إلى وسيلة تأديب القطط، وإن استنكرت النصيحة بأن ترافق شخطة التأنيب للقطِّ الذي يُخطئ، تصويب مسدسٍ محشوٍّ بالماء، أو بخاخة ماء، ينفض لها شعره، ولا يعود إلى الخطأ!

لاحظت كثرة القطط في زياراتي المتقاربة إلى أستاذنا العلَّامة والفنان الراحل حسين فوزي، في بيته المطلِّ على حديقة الحيوان بالجيزة، يرعاها بنفسه، يتولى إطعامها، ومتابعة حالتها الصحية. العادة أن تربية الحيوانات المنزلية تُعنى بالموضع الذي تقضي فيه حاجاتها الطبيعية، يُدرَّب القطُّ أو الكلب، فلا يتحول عن الوعاء الذي خُصِّص لقضاء حاجته … لكن حسين فوزي ترك لقطَّطه حريتها، فهي تقضي حاجتها في المكان الذي تختاره. لم يكُن لزوجته الفرنسية دخلٌ في ذلك الفعل، فهي تنادي عليه، تدعوه إلى إزالة ما خلَّفته القطط في مواضع مختلفة داخل البيت.

ربما لأننا تعجلنا الفهم، فقد أهدينا القطط إلى أصدقاء أشدَّ درايةً منا بدُنيا القطط.

***

عرفنا، في الأيام التالية لاستقبال حميدو في بيتنا، أنه كائنٌ شهير، يستقبل الضيف على الباب، أو في داخل الشقَّة، صنع منه قلمُ سحر وريشتُها بطلًا قوميًّا، له حكاياته ونوادره ومغامراته، أنسَنتْه، في كلماته وتصرفاته، بما جعله صديقًا للآلاف من قرَّاء مجلات الطفل في الوطن العربي.

في زيارةٍ للكاتبة اللبنانية سهام حرب، تنبهت إلى تقديم زينب للقطِّ الذي اختار طاولة المائدة لقعوده: هذا حميدو.

هتفت: هل هو قطُّ سحر عبد الله؟!

استطردت لإيماءة زينب الموافقة: إنه بطل مخيِّلة معظم أطفال لبنان!

وصفته ياسمين مجدي بالشخصية الشهيرة، وحرصت أن تجلس إلى جواره في صورةٍ تذكارية، واعتدنا مكالمات الأصدقاء عبر الهاتف، يسألون، يتكلمون في الخبرات، يقدِّمون النصيحة، يشيرون بأطعمةٍ وأدوية، تجد زينب في كل قولٍ ما يستحقُّ التأمل، وربما التطبيق.

كانت سحر عبد الله، كما قلت، قد كتبت الكثير، في مواقع الاتصال الاجتماعي، عن حميدو، وجعلته بطلًا لحكايات، ورسمته في حكاياتٍ أخرى.

أحسسنا، في البداية، بما يشبه خيبة الأمل. دُخنا في التعرف إلى أنواع الطعام التي يحبُّها حميدو، هوَّنت سحر الأمر بقولها إنه يأكل من طعام البيت، ثم تبيَّنا أنه ينظر إلى كل أنواع الطعام باعتبارها واجبة التبديل، ما يأكله مرةً أو اثنتين يعزف عنه توقعًا لأطعمةٍ أخرى، أكل الملوخية والبطاطا والفول المدمس ودمعة الخضر المطبوخة والسمك ومثلثات الجبن النستو وقِطَع الكيك، ما نضعه على موائدنا. لم يدُر في بالنا أنه سيكلفنا في إطعامه ما لا قدرة لنا على تحمله، ثم اضطررنا لقبول نصيحة الصديقين، وائل وجدي وطارق سعد، بالصبر على احتجاجاته الصامتة، فسيُقبِل على الأطعمة التي نتناولها.

وهذا ما حدث.

لمَّا تزايد سقوط الشعر من جسم حميدو، فسَّرناه بما نقدِّمه له من الطعام المحفوظ، استبدلنا به التونة، وفق ما أذنت القدرة على الإنفاق. وليلةً، انتفض حميدو مراتٍ متتالية، ثم تقيأ، أرجعنا ما حدث إلى مرضٍ أصابه، لكن الطبيبة البيطرية — صرنا أصدقاء — هوَّنت الأمر بأن القطَّ يبتلع شعراتٍ في انشغاله بلَعْق جسمه، تتحول الشعراتُ في المعدة إلى كرةٍ صغيرة، تحرك الغثيان، فالقَيء.

العناد، كما تعلم، صفةٌ إنسانية، لا أعرف إن كانت بعض طبائع الحيوان، لكن العناد هو الذي عكسته تصرفات حميدو، لا يأكل إلا ما يستسيغه، يعزف عن طعامٍ أبدى حُبَّه له من قبل، نعيد وضع الطعام أمامه، فيشيح برأسه، ويبتعد.

ظاهرة أخرى، تمثلت في مخالفة حميدو ما لاحظناه في قططٍ استضفناها، أو شاهدناها في بيوت الأصدقاء، اقتصر فعله على تناول الطعام، والتأمل الساكن بين لحظاتٍ متصلةٍ من النوم.

عمَّق من تصورنا أنه سيغادرنا ذات يومٍ قريب، ما أفرزته مخلَّفاته من رائحةٍ كريهة ناوشت حساسية صدري. تهيأنا للفراق الوشيك، لكن القاص وائل وجدي — وله خبرته في تربية القطط — نصح بالرمال الماصَّة للرائحة، وتلاشى ما بدا أنه سيدفعنا إلى إنهاء استضافته.

أشفقتْ زينب من الشَّعر الكثيف الذي جعل حميدو أسدًا صغيرًا (لعلَّ فيلم «القطُّ أصله أسد» تأكيدٌ لهذا التشابه)، لم نتصور أن تبدُّل التكوين الجسدي لحميدو سيُحدِث تبدُّلًا في سلوكياته، حاولتُ أن أحتفظ بقدرتي على الملاحظة والدهشة وإلقاء الأسئلة، أتابع حركة حميدو المغايرة لهُموده أول أيام إقامته في البيت.

جاوز روتينية عاداته اليومية إلى حركة لا تفتر، خرج من العزلة التي كانت سمةً لحياته إلى رغبةٍ في الصداقة يلامس بها مشاعر الضيوف. لم تعد جلسته مقتصرةً على الأرض، بل إنه لم يعُد إلى تلك الجلسة التي تصورنا استاتيكيتها، لا يبدلها، فهو يتنقل بين حجرات البيت، يقفز من الأرض التي أَلِف الجلوس فوقها إلى قِطَع الأثاث، حتى حجرة النوم وجد فيها موضعًا مناسبًا للرُّقاد، ثم صارت لحميدو، بتوالي الأيام، أماكن جلوسه أو نومه، يتنقل بينها، لا يستبدل بها أماكن أخرى.

بالإضافة إلى ذلك، فقد صار اللعب في حياة حميدو أجدى من تناول الطعام، يقفز وراء لعبةٍ صغيرةٍ نحركها أمامه، أو كرةٍ نقذفها، فيجري لالتقاطها، أو يلاعب نفسه بالمرمغة على الأرض. من هنا، ربما، تأتي النصيحة بأن نشارك القطط ما يسهُل علينا أداؤه من ألعاب، ونربت جسمها، وندلك شعر العنق بخاصة، كي تشعر بالطمأنينة. أتذكَّر العمَّال الهنود في مسقط، يدفعون ثمن تذكرة السينما مرتين أو أكثر في الأسبوع الواحد، لا يشغلهم أن تكون مشاهدة الفيلم الهندي بديلًا للطعام، متعة المشاهدة أهمُّ من غذاء البطن!

انتبهنا، يومًا، على صيحات الجيران؛ كان حميدو يقف داخل إفريز الشرفة الحديدي، لو أنه أخفق في العودة، فسيهوي إلى الطريق، لن تسعفه أسطورة الأرواح السبع في جسد القط!

مع ذلك، فقد عرفنا في توالى الأيام أن حميدو تعلَّم، حيث كان، ما ألغى تخوفاتنا من تصرفاتٍ تُمليها الغريزة.

لا أعرف أصل المثَل العاميِّ «القطط بسبع أرواح»، لعلَّه انعكاس خبراتٍ في التعامل مع القطط. يسقط القطُّ من علٍ، فينهض على قوائمه كأنْ لم يحدث شيء، يأكل طعامًا رديئًا، يأخذه القَيء قبل أن يستردَّ عافيته، ينتابه الهُزال فنتصور نهايته، لكنه لا يلبث أن يعود إلى الحياة.

عدتُ إلى الإنترنت بحثًا عن معلومةٍ طبية، ربما كانت وراء المثَل، عرفتُ أن معنى الأرواح السبعة يأتي من سقوط القطِّ من مرتفع، فهو، في الأغلب، والترجيح لأني شاهدت، للأسف، عكس ما أشير إليه؛ قطَّة صغيرة سقطت من شرفة، أخفقت في الاحتفاظ بتوازنها، فسقطت على نافوخها. يسقط الطفل من علٍ، فيوائم جسمه، بحيث لا يصطدم بالأرض، وإنما يلامسها بأطرافه الأربعة، أمَّا إن كان ظهره، عند السقوط، في اتجاه الأرض، فهو يعدل رأسه وذراعيه، ثم يسحب رجليه ويديرها مع ذيله، فيتجه بأطرافه الأربعة إلى الأسفل، وينجو من صدمة السقوط.

من هنا جاء المثَل.

أذكر، بالمناسبة، هذه الأبيات الشعرية الفرنسية لبيير بيجي في روايته «فتاة من شارتر» عن قطط الأرواح السبع:

إنني مثل قطَّةٍ حرقت حيَّة،
دُهست تحت عجلاتِ شاحنةٍ ضخمة،
شنقها صِبيةٌ في شجرةِ تين،
ولكنْ مازال عندها ستٌّ من الأرواح السبع التي تمتلكها،
مثل ثعبانٍ تحوَّل إلى عصيدةٍ من الدم،
سمكة نصف مأكولة!

تصورتُ، في لحظةٍ ما، أن إشفاقي على حميدو، تعاطفي معه، لعدم قدرته على التعبير؛ هو أبكم، صوته مواءٌ يخلو من المفردات، أقسى الأمور هو العجز عن التعبير، لكن حميدو تصرَّف بما ناقض تصوراتنا، واستغنى بإيماءاته عن الكلام.

تبرع لنا الأصدقاء بمعلوماتٍ تفسر تصرفات القطِّ في أحواله المختلفة؛ متى يغمض عينيه ويفتحهما؟ متى يهزُّ ذيله؟ متى ترتفع ذراعاه وتتهدلان؟ متى يتخذ في جلسته هذا الوضع أو ذاك؟

أرجعت اختلاف ملاحظات الأصدقاء وملاحظتي إلى ما لم يشيروا إليه في تصرفات حميدو؛ التصرفات الفردية لها سماتها التي قد تختلف عن سمات التصرف الجمعي، علماء الاجتماع يرفضون الشخصية في الجماعة ويجدونها في الفرد، المعنى نفسه تنطوي عليه تصرفات المخلوقات الأخرى.

اتسم الكثير من تصرفاته بما نسبناه، ولو بالتجاوز، إلى السلوك الحضاري، وهو سلوك لا يَصدُر عن عفوية الغريزة، لكنه تطبيقٌ لما تعلَّمه في الأُسرة الي كانت ترعاه. أراقبه وهو ينبش كومات الحصا الصغير، قبل أن يجلس داخل الوعاء، فيقضي حاجته، ثم يعود إلى النبش، توهمًا أنه يداري ما فعل.

وكنا نكتم الدهشة عندما نحاول، أو يحاول الضيف، التقاط صورة لحميدو، يبدو القطُّ كأنه أدرك طبيعة اللحظة، فيأخذ وضع التهيؤ لالتقاط الصورة، يثبت في موضعه لا يتحرك قبل أن يضيء فلاش العدسة بما يعني التقاط الصورة!

وإذا كانت الغريزة هي التي تُملي على الحيوان تصرفاته، فإن المعنى يشحب في التصرفات التي تنطوي على ما قد ينتسب إلى الذكاء أو الوعي. المثل في تنبُّه حميدو إلى الدواء في اليد، ما إذا كان يخصُّ المرء، أم إنه سيعطيه للقط؟

هو يظلُّ ساكنًا إن لم يكُن الدواء من أجله، لكنه يختفي تحت الأثاث عندما يدرك أنه المقصود بتعاطي الدواء.

العلم يتحدث عن الحاسة السادسة في الحيوان، الباخرة يتهدَّدها الغرق، تشعر القطط والكلاب والفئران بالخطر، تحاول الفرار إلى أيِّ مكان، يستعدُّ طاقم الباخرة للخطر الآتي.

وإذا كان الحر الشديد، أو البرد الشديد، مشكلةً في حياة الإنسان يحاول التخلص منها أو التخفيف من تأثيراتها، بارتداء الملابس الخفيفة أو الثقيلة، وباستخدام الوسائل التقليدية كالمروحة الورقية، وإشعال النار في ركية عشب، ومِدفأة الفحم، ثم باستخدام الوسائل المستحدثة كالمروحة الكهربائية ومكيف الهواء؛ إذا كان ذلك كذلك في حياة الإنسان، فإن القطط أيضًا تعاني مشكلة تقلبات الجو.

تساءلتُ عند اقتراب الصيف، وأنا أنظر إلى الطرقة السيراميك الخالية: هل تفعل القطط ما كان يفعله حميدو؟

في الصيف، يفضِّل حميدو التمدُّد على السيراميك أو البلاط البارد، أمَّا في الشتاء فإنه يفضِّل الاندساس في الأثاث أو بين أغطية السرير.

حميدو يقضي معظم يومه مُقعيًا، أو نائمًا، على برودة سيراميك الطرقة، لا يغادرها إلا لتناول الطعام. وحين يأتي الشتاء تتبدل أحواله، فهو يتنقل بين قطع الأثاث، يعلو كنبةً أو كرسيًّا، وقد يفضِّل أغطية السرير، يجد فيه موضعًا مناسبًا للنوم، على أن نتصرف نحن بما لا يثير ضيقه.

أمَّا إذا أدرنا مكيف الهواء، فإن حميدو يأتي من الطرقة السيراميك، يقفز على ترابيزة السفرة، يُقعي في استرخاء، يرفع منخارَيه متنسمًا الهواء، يظلُّ في جلسته حتى تذوب البرودة بإغلاق المكيف، فيعود إلى موضعه «الصيفي» في الطرقة.

•••

في قصته القصيرة، الجميلة «فلة … مشمش … لولو» صوَّر لنا يحيى حقي ما يكاد يطابق ملاحظتي حول العلاقة بين الإنسان والحيوان الذي يقتنيه؛ اقتنت السيدة قطةً سمَّتها «فلَّة»، شاركتها وحدتها، فلا تفارق الدار، وتنام معها في غرفةٍ واحدة، فإذا أنصتت السيدة لمُوائها أو لنفَسها وهو يتردَّد، ونظرت بطنها يعلو ويهبط، اطمأنت لأن «نفَسًا» آخر يتردَّد معها في المنزل، ولأنها أحسَّت أنها تعيش بجانب مخلوقٍ حي. إن معها غيرها، إنها لا تعيش منفردةً وحيدة … تتوسَّد فلة المقاعد، وتنام معظم النهار، وتسهر الليل، وأصبحت عند السيدة كأولاد الذوات من حيث التنعُّم والنظافة وظهور نتائج التربية الصحيحة، فهي لا تعرف باب البيت، ولا تتخطاه مطلقًا، لأنها ليست كقطط الحواري التي لا مأوى لها ولا مسكن، وقلما تدخل في عراكٍ مع قطةٍ أخرى، لذلك فهي قطةٌ هادئةٌ أليفة، لا تعرف من العالم إلا سيدتها، نراها — السيدة — تأتي إليها، وتضع رجليها الأماميتَين على ركبتها، وتمدُّ بفمها إلى فم السيدة، ثم تمسح رأسها على ذقنها مرةً أخرى، هل تبحث عن قُبلة؟ وهل تعرف القطط القُبل أيضًا؟ فتمرُّ السيدة بيدها على ظهرها مرةً أخرى، وتكلمها برفق، فتموء القطة، وتعتمد على ركبتها، وتظلُّ تلعب بذيلها جذلةً فرحة. فهمتها وفهمتها، فلا تسكن إحداهما إلا إلى الأخرى، ولا تطيق السيدة رؤية قطةٍ أخرى، ولا يفلح زائرٌ من زائري السيدة أن يجعل «فلة» تجلس على ركبتيه، إذ تفرُّ منه هاربةً في حياءٍ واضطراب. تستيقظ السيدة مبكرةً في الصباح، فتملأ للقطَّة الجرَّة بالماء، وتدخل مطبخها فترمي بالتراب القديم المكدَّس فوق صينية صغيرة إلى صندوق الزبالة، وتضع ترابًا نظيفًا بدله، كل هذا وفلة تتبعها بمُواءٍ فيه حنان، وفيه استعطافٌ واستجداء، وتتمسَّح بأرجلها، ثم تتبعها في مشيتها، وترفع بنظرها إلى وجهها، فتكلمها السيدة كأنها تكلم امرأةً عاقلةً تمامًا (أشهد أن ذلك ما يحدث بين زينب والقطِّ حميدو). تشعر السيدة أنها تفهم القط، وأنها بدورها تفهم ماذا تعني، فتقول: «انتظري، على صبرك، اصبري، اصبري، مالك كده؟ حاضر، يا فلة، يا فلتي، تعالي يا فلة.»

ولعلَّ في مقدمة ملاحظاتي على تصرفات حميدو أنه يحرص على انتمائه للأُسرة، وهو ما ينعكس في افتقاده زوجتي فترات غيابها عن البيت، فهو يبين، بالتراقص والتنطيط، عن فرحته بقدومها، ثم يُقعي ساكنًا إلى جوارها.

في الصباح الباكر، وأحيانًا قبل أن تذهب الظُّلمة، يصعد حميدو إلى السرير، في حجرة نومنا، بإحساس الجوع، يموء فوق رأس زينب حتى تستيقظ، وتقدم له طعامه، ربما قفز على السرير، دون حاجةٍ إلى الطعام، فيتمدَّد على صدر زينب المستغرقة في النوم، ويعلو هريره.

الهرير، كما يشير العلماء، مصدره الأحبال الصوتية، يحدث — إن كنت صاحب تجربةٍ مثلي — أثناء الشهيق والزفير. المعلومة التي طالعتني على الإنترنت أن القطَّ بهذا الصوت يحاول جذب انتباهك، لإطعامه مثلًا، أو طلبًا للمداعبة، وربما كان الهرير تعبيرًا عن التألم من المرض، وطلب الغوث. أمَّا هرير صغار القطط في حضن أمِّها، فيعني طلب مواصلة إرضاعها.

تبقى ملاحظةٌ يجدر بي أن أشير إليها: القول بأن القطط لا تشكل خطرًا حقيقيًّا على الإنسان «نظرًا لصغر حجمها» — أنقل ما بين المزدوجتين — يهمل الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان، والتي قد تحدث بالعدوى، نتيجة انتقالها من الحيوان إلى الإنسان، بالإضافة إلى «السعار» الذي يصيب الكلب والقط، مما يهدِّد الإنسان بالموت، ما لم يتمَّ إنقاذه بالمصل!

لو أن المحاذير غير حقيقية، ما ألحَّ العلماء والأطباء في ضرورة تطعيم القطِّ ضدَّ الأمراض عند بلوغه الشهرين، ويكرر التطعيم من كل سنةٍ إلى ثلاث سنوات.

حسب نصائح الأطباء، فإن القطط قد تحمل فيروسًا فطريًّا، تظهر تأثيراته المَرَضية على جسم الإنسان في هيئة دوائر ملتهبة، حمراء، يصحبها الشعور بالحكة القوية. والكثير من القطط تُصاب بالتهابٍ في العين، يصحبه احمرار، وإفرازات صديدية، وتدعو النصيحة إلى علاج أعراض التهاب العين بالقطرة يشير بها الطبيب، كما ينبغي على الإنسان أن يتجنب القطط التي يصيبها الالتهاب، وإذا حملها فلا بدَّ من غسل الأيدي. وقد تسبِّب خدوش القطط أعراضًا مَرَضية، نتيجة بكتيريا «البارتونيللا» التي تُعدُّ البراغيث ناقلةً لها، مثل ارتفاع درجة الحرارة، وتضخم الغدد الليمفاوية. ومن الأمراض التي تصيب القطط البيتية، مرض الكبد الدهني؛ تتراكم الدهون التي تفرزها أعضاء الجسم في الكبد، فتعوق أداء وظائفه الأساسية، مثل تجديد خلايا الدم الحمراء، وهو ما قد يحدث في الإصابة بالسرطان، أو السكر، أو أمراض الكلى، بالإضافة إلى سببٍ آخر، هو عدم تناول القطِّ ما يقدَّم له من طعام، ويعزو العلماء ذلك العزوف إلى توتر قد تعانيه القطط البيتية، لأسباب علاقتها بالبيئة المحيطة، وبظروفها النفسية والغريزية، كما يحذر الأطباء من عضَّة القط، فغالبية القطط لديها ميكروبات في أفواهها، وفي أنيابها، ومنها بكتيريا التيتانوس وبكتيريا العنقود … والسُّعار، نجَّاك الله!

من الأسئلة التي طرحها برنامج جامعة كورنيل الأسترالية — حدثتُك عنه — دور الجينات في الأمراض الشائعة لدى القطط، وكيفية أداء الجينات دورًا إيجابيًّا في التعافي.

إذا كان الفحص الطبي والتحاليل والأشعة وسائل مهمَّة لكشف المرض، فإن المعاناة الحقيقية، للقطِّ أو لصاحبه، هي الألم الذي يبين عن أعراض المرض. أنت ترى صوت القطِّ يعلو بالمُواء، مُواء يختلف عمَّا أَلِفَته أُذناك، تخضعه للتخمينات والاستنتاجات، قد تحاول إسكات الألم بدواءٍ سبق للقطِّ تناوله، وقد يؤدي الدواء إلى نتائج سلبية، وربما أبدى الطبيب استياءه لتفاقم الحالة.

•••

النصائح التي تطالعنا في الكتب تذكِّرني بما كانت عليه أحوال طفولتنا. تربَّى الأطفال على اللَّبن الطبيعي، لبن الأمهات، وقطع القماش، واستخدام مغلي الكروية والمحلب وزيت الزيتون … إلخ. لم تكُن أمهاتنا يعرفن الحفَّاض والكافولة والقماط واللبن البودرة. ومع تعدُّد الوسائل، في الزمن الحالي، فإن الأمهات يستعملن، لرعاية الأطفال، كريم البشرة «ميلوبا» وشامبوهات «بيبي لوشن» التي تتلاءم مع شعر الطفل وبشرته، وغيرها من المستحدثات.

ظني أن تلك كانت أحوال بيوتنا المصرية في رعاية القطط، وما أصبحت عليه، الرعاية كيفما اتُّفق، أو كلشنكان، تأكل القطط من طعام البيت، ولا يوجد طعام خاص لها أو ألعاب أو مطهِّرات وأدوية خاصة.

تبدلت الأحوال بتوفير احتياجات القطط البيتية من محارم مبلَّلةٍ وورقيةٍ ووسائل تنظيف، وتحميمها، في مراتٍ متقاربة، وفق قواعد تحفظ صحتها، وتخصيص أمشاطٍ لشعرها، وقصِّ مخالبها، بالإضافة إلى الحرص على دوام عافيتها بالتردُّد على العيادة البيطرية، وربما زادت القصيدة سطرًا بضرورة طرد الروائح الكريهة من البيت.

حاولتْ زينب كذلك أن تفيد من النصائح التي تستهدف التخلص من فضلات القطط، ثمة الصناديق البلاستيكية التي يسهل حفظها، حوافها عاليةٌ بما يسهل نقل الرمل والحصى الصغيرة، تنشأ بذلك بيئةٌ تحفز القطط على استعمالها، وثمة الحرص على تنظيف الصندوق أسبوعيًّا، بتعميقه، وتطهيره، ثم مَلئه بالرمل والحجارة، وهي حجارة ينبغي أن تكون من النوع الذي يسهُل على القطط استعمالها، لخلوِّها من الروائح الكريهة. آخر النصائح هو توافر حاملات تزيل الفضلات من الصندوق.

إذا أردت أن تُطاع فأمُرْ بما يُستطاع؛ قولٌ مأثورٌ ناوشني وأنا أقرأ الإرشادات التي يجب أن نحرص عليها، للتخلص من فضلات القطط، وهي — أعترف — مشكلةٌ قد يتسبب إهمالها، أو عدم تدارُك تأثيراتها السلبية، إلى نتائج مَرَضيةٍ خطيرة.

أبدتْ زينب تحمسها لتطبيق ما طالبتها به الإرشادات، ثم ارتخت ثقوب الغربال، حتى صارحتني وهي تزفر: أخشى أننا الآن في خدمة القطط!

كما تعلم فإن حُبَّ القطط، والرغبة في رعايتها بالتالي، لا شأن له بالأوضاع الاجتماعية.

كنتُ أتمنى أن يجد المحدودو الدخل إرشاداتٍ أشدَّ بساطة، للتخلص من الفضلات!

***

المفاجآت ليست دائمًا حزينة وقاسية، وليست كذلك دائمًا مُبهجة.

زيارة الأشقَّاء الثلاثة؛ جمال وعمرو وعائشة، أبناء المبدع الراحل سيد خليل المراغي، أضافت ما أسميه البهجة على توالي أيام ما بعد إجراء عملية العمود الفقري. فشلت العملية، خلفت تأثيراتٍ في أعصابي وعظامي، حاولتُ أن أقاومها بالقراءة والتأمل والكتابة، أنتزع نفسي مما أعانيه، وأشرد فيما لا أتبيَّنه، وما تغيب صورته، مجرد أن أجاوز أسوار الألم والتوقعات الضبابية.

قبل أن تقيدني عمليةٌ جراحيةٌ فاشلة، كانت أكثر قراءاتي في المواصلات العامة، أجلس إلى جوار النافذة، بيدي كتابٌ، وفي اليد الأخرى قلم. وحتى الآن فأنا أقرأ لأقرأ لا لأكتب، أقرأ للمعرفة والفهم والاستنارة، ما أكتبه أصداء قراءاتٍ قد لا يكون لها صلة بما قرأت، أقرأ في السياسة والاقتصاد وعلم النفس والطب … إلخ. ولعلِّي أتذكَّر مُدرِّسي في مدرسة البوصيري الأولية؛ كان يقرأ عند سيره في الطريق، أتساءل — بيني وبين نفسى — ألا يخشى أن يصطدم بما لا يتوقعه، شجرة، مثلًا، أو عمود إنارة، أو حتى بشر غابت عن تصورهم أحادية سيره؟

أُلاحظ أن الرغبة في الكتابة تواتيني وأنا أقرأ، لا أعرف متى يحدث ذلك، ولا أعرف البواعث التي تحفزني لكتابة عملٍ إبداعي، وإن لاحظتُ أني أتوقف عن القراءة في لحظةٍ ما، أنسى ما كنت أقرؤه، وأبدأ في كتابة ما لا صلة له، في الأغلب، بتنوع قراءاتي.

في أشهر المرض الأولى، كان يغلبني الملل وإحساس اللاجدوى، أنحِّي الكتب والأوراق والقلم، أشرد بالأسئلة: إلى متى؟ هل أظلُّ قعيد البيت؟ ما قيمة العيش في السكون إن امتدَّ بلا نهاية، إلا أن يكون السكون النهائي؟

أتنفس اليأس، ثم تهبُّ، في الأوقات التالية، نسائم منعشة، محمَّلةٌ بحكايات أصدقاء مبدعين، طال رُقادهم على الأَسرَّة، خذلتهم حركة الجسد، لكن حركة الذهن ظلَّت على عافيتها، لم تتأثر بقيود المرض، وأضافت إلى فُسيفساء المشهد الإبداعي العربي.

حاولت، فكتبتُ روايتيَّ؛ «ورثة عائلة المطعني» التي تومئ دلالاتها إلى المتعسر من قضايانا المصرية، و«النفي إلى الوطن» التي افترشتْ مساحة فترة الصراع بين محمد علي وعمر مكرم. حاكمٌ أراد التطوير لصالح أبنائه وأحفاده، وزعيمٌ لم يكُن يشغله إلا صالحُ المصريين.

قدَّم لي أبناء سيد المراغي نسخةً من مجموعته القصصية «صورةٌ ضاحكةٌ وسطر كلام». التقديم المطبوع لي، وكنت نسيته، ونسيت المجموعة، لمُضيِّ سنواتٍ على قراءتي لها، وإن ظلَّ المراغي في ذاكرتي مثلًا لتماهي الطبيعة الإنسانية وموهبة الفنان.

تعدَّدَت، من يومها، زيارات أبناء المراغي. شرطنا غير المعلن، أن نتحدث في القضايا العامة؛ كلٌّ يطرح ما لديه من معلومات، يعرض ما حصَّله بالقراءة والمشاهدة والسماع، يُبدي وجهة نظره، تمتدُّ ساعات الحوار، فتبلغ الخمس، بلا تأثيراتٍ — صدِّقني — على جسدي المريض، إنهم يسبحون في بحرٍ أعشق العَوم فيه.

جمال مثلٌ للشابِّ المثقَّف؛ حصيلته المعرفية وافرة، يجيد أكثر من لغة، يُحسن التقاط طرف خيط الحوار بينه وبين مُحدِّثه، له آراؤه الموضوعية في القضايا التي تُطرح للمناقشة. أذكر لجمال كذلك إعارتي أحدث المطبوعات العالمية، وهو ما كان محمد عبد النبي يحرص عليه، في سني ندوة المساء، قبل أن ينهيها فشل العملية الجراحية.

أمَّا عائشة، فقد اعتبرتُ الجلوس إليها نافذةً على الحياة الثقافية المصرية؛ الإصدارات والندوات والمؤتمرات والمهرجانات، أتاح لها عملها في جريدة «أخبار الأدب» تحركًا واسعًا، ومتابعةً لكل الأنشطة الثقافية.

وأمَّا عمرو فهو يبتعد باهتماماته عن القضايا التي قد لا أفهم تفصيلاتها، لكنه يبسط تلك التفصيلات بما يُعينني على الفهم.

لا أضيق بالساعات الأربع التي أمضيها في صحبة أبناء المراغي، العكس هو ما أشعر به، لتعرفي إلى الحياة خارج الحصار، أعني حياتي في البيت، بين رعاية أُسرتي، وتعليمات الأطباء، ومواعيد تناول الأدوية.

المثل يتحدث عن التفصيلات الصغيرة التي تؤدي إلى جهنَّم، ظني أن تلك هي طريق المعارك الثقافية الصغيرة، يُخضعنا التصور الخاطئ بأن العداوة ضرورةٌ بين الذين أدركتهم حرفة الأدب. الأديب ذو المكانة السياسية استعاد مثلًا، ظني أن قائله تاجرٌ في وكالة البلح: عدوك ابن كارك!

امتدَّ الحديث إلى حميدو، وفهمنا الخاطئ — بحكم غياب ثقافتنا في دنيا القطط — لمُوائه المتكرر، وتصرفاته التي تأخذنا بغرابتها، هي ليست تصرفاتٍ جيدة.

قالت عائشة في صوتها الهامس: في بيتنا أحد عشر قطًّا!

تعدَّدت الملاحظات ومحاولات الفهم والعبارات المندهشة والمستغربة، إضافةً إلى الأسئلة التي تريد أجوبةً تيِّسر لحميدو حياته، فردًا في أُسرتنا، وحكايات الأشقَّاء الثلاثة تغوص في دنيا القطط بما لم نكُن نعرفه.

قال جمال: لماذا لا تزوِّجونه؟

تملَّكني عدم فهم، فسكت.

أضاف عمرو: ذكر القطِّ يحتاج إلى أنثى!

كأن عائشة أرادت أن تزيل نظرتي غير المصدِّقة، قالت: هل تريدون زوجةً لحميدو؟!

•••

ذات مساء، زارنا آل المراغي، بيد أحدهم قفص بلاستيك. فتحه، فانطلق كائن صغير لم يتح لنا التقاط ملامحه. اختفى داخل أرفف الكتب.

قال جمال: هذه بكيزة … أنسَب زوجةٍ لحميدو.

عدَّد صفاتها؛ من أرومة شيرازية، تجاوزت، قبل أسبوع، عامها الأول، فهي، بالنسبة للقطط، في سنِّ الزواج.

ظلَّت بكيزة في المخبأ الذي لا نعرفه، حتى بدأ القلق يساورنا: هل تحيا بلا طعامٍ ولا شراب؟

ألغت بكيزة كل ما قرأته عن القطط الشيرازي، مقالات ضافية عن أصلها وفصلها وطبائعها، فأصلها يعود، كما يبدو من التسمية، إلى شيراز ببلاد فارس (إيران في زمننا الحالي)، وهي سريعة التآلف مع الحياة البيتية، إلى جانب سرعة تدرُّبها، وتكيُّفها مع البيئة المحيطة، وودِّها، بحيث تتحول علاقتها بأفراد الأُسرة إلى صداقةٍ جميلة.

وصفت المقالات القطَّ الشيرازي كذلك بأنه أميَل إلى الهدوء، ومزاجه لا يعرف الحدَّة، ويحبُّ اللعب مع الأطفال (دون تخوفٍ من أن ينالهم بالأذى)، فضلًا عن سرعة تآلُفه مع الحيوانات الأخرى التي قد ترعاها الأُسرة، لكنه، مثل كل القطط، يحبُّ النوم كثيرًا، وقد تبلغ فترة نومه في اليوم ستَّ عشرة ساعة.

نتجاوز الصفات الجسميَّة؛ الوجه الدائري، والأنف الصغير (أضيف إلى أنف بكيزة صفة «الأفطس»)، والأقدام الصغيرة، والعيون الواسعة الكبيرة المُحمَّلة بحزن أمينة رزق أو زهرة العلا، وهو ما يجعلها من أجمل القطط، وشعرها الناعم، الكثيف، بألوانه بين الذهبي والبرتقالي والأسود والأبيض.

إذا تجاوزنا الصفات الجسمية، ومعظمها صحيح، فقد تصورت أن بكيزة ليست من النوع الشيرازي، أو أن الكاتب أخطأ الصفة.

طال تحصُّنُ بكيزة بكومات الكتب، حتى لجأنا إلى دفع وعاء الطعام من بين الكتب، فلا تموت جوعًا.

في اليوم الخامس، أطلَّت عينا بكيزة — بهرني جمالهما — من بين رصَّات الكتب، عينان حزينتان، تعلوان شاربًا أليَق بقطٍّ ذكر.

قبل أن أعيد النظر، كانت قد اختفت!

تكرر الأمر في صباح اليوم التالي، ثم انطلقت بكيزة، في لحظاتٍ وامضة، ناحية المطبخ. أدركتُ أن رائحة الطعام اجتذبت بطنها الخاوي.

حتى لا تعاود الاختفاء، حرصنا أن نظلَّ في أماكننا، نسكت عن الكلام، أو عن الإشارة إليها، نتيح لها التعرف، في طمأنينة، إلى ناس المكان، وهو ما تكرر في الأيام التالية.

رأيت بكيزة واقفةً في مواجهتي، للمرة الأولى، وأنا أتناول طعام الغداء، اقتربت في خطوات حذرة، استدعت العينان النجلاوان المُلتمعتان بالصفاء والحزن الشفيف، إلى ذاكرتي، عينَي أمينة رزق وزهرة العلا. سمَّيتُها زهرة، ثم تناسيتُ التسمية حين أتاني سؤال عائشة عبر الهاتف: ما أخبار بكيزة؟

هل كانت بكيزة في حاجةٍ إلى فترة الاختفاء الطويلة، قبل أن تتيح لي تأمل عينيها الجميلتين، واكتسابنا — زينب وأنا — صداقتها؟

كما أرى، فإن بكيزة لم تعُد تفارق مجلسنا، وإن احتاجت المعلومة عن أُلفتها للحيوانات الأخرى في البيت، وذريتها من القطط بخاصة، إلى مراجعة.

في بالي، وأنا أستمتع بصداقة قطتي الجميلة، ما قرأتُه عن الأمراض التي تصيب القطط الشيرازي؛ شعرها الكثيف يُغري الحشرات الصغيرة والطفيليات بالتسلل إليه، محمَّلةً بأمراضٍ عديدة. كثرة تبولها نذيرٌ بالفشل الكلوي، وهو احتمالٌ يتزايد بتقدم العمر. برغم جمال العينين، فإن القطَّ الشيرازي عرضةٌ، أكثر من القطط الأخرى، لأمراض العيون، نتيجة قِصَر مجاري الدمع. أنف الشيرازي صغير، لذلك فإن احتمال إصابته بضيق التنفس، أو فقدان الوزن، واردٌ، لأن جدار قلب القطِّ الشيرازي سميك، فهو عرضةٌ للإصابة بأمراض القلب، يساعد على تفاقمها تقدُّم العمر، أو زيادة الوزن.

•••

مضى حوالي الشهر على زيارة آل المراغي، بعد أن غادروا بلا بكيزة.

حدثتُكَ عن رفض القطة، في البداية، أن تصبح فردًا من أُسرتها الصغيرة، ثم خروجها من المخبأ الذي اختارته بين كومات الكتب، أطلَّت بعينين حذرتين، ثم مضت وراء رائحة الطعام في المطبخ، لما عرفت أن البيت يخلو مما يقلقها، قَدِمت ناحيتي بعينيها الجميلتين، وصرنا أصدقاء.

بكيزة في بيتها الجديد، لا شأن لها بجلستنا، تتحرك، وتُقعي على السجادة، وتقفز على الكرسي، وتبحث في المطبخ عن الطعام، لكنها تنبَّهت، فجأةً، إلى ما بدَّل تصرفاتها؛ هل هو صوت أحد أصدقائها القدامى، أو ملامح الوجه، أو التعبيرات الجسدية؟

توقفت القطة أمام جمال المراغي، شبَّت على قائمتيها الأماميتين، ومضت عيناها بشرر، وعلا صراخها، صراخٌ غريبٌ أشبه بصوت ثكالى البشر. أخذتنا المفاجأة، فلزمنا صمت متوتر، قطعه جمال بالقول: مش أنا اللي جبتك!

قبل أن أراجع الأمر، ربما أسأنا، بعدم الفهم، للغالية بكيزة، فهي غاضبةٌ من أصدقائها، أنبأني جمال، بلهجة الخبير، أن القطَّ تشغله العودة إلى بيته الأول، في الفترة التي تلي انتقاله منه. المعنى نجده في الملاحظة العلمية، برفض القطط أيَّ تغيرٍ في البيئة المحيطة، لإحساسها بالطمأنينة في المكان الذي اعتادت العيش فيه، وهو ما يبين في حرص القطط على العودة إلى مُربِّيها الأوائل، في المدى القصير لانتقالها إلى بيتٍ آخر، قبل أن يأخذها النسيان.

عمق اطمئناني لما تكررت زيارات آل المراغي، فلم تلتفت بكيزة ناحية جلستنا، وانصرفت إلى حياتها الخاصة.

***

كما حدثتك من قبل، فأنا أقرأ وأتأمل وأكتب.

في تلك الأيام كنت أستوعب ما أراه، ما ألتقطه، أودِعه ذاكرتي، تأخذني الحياة، فأستعيد ما قد تنساه الذاكرة، أجدُ فيه ما يستفزُّ المبدع في داخلي.

قبل أن تحلَّ بكيزة ضيفةً علينا، وتحوُّلها، فيما بعد، إلى فردٍ من الأُسرة، كانت العلاقة الزوجية الحميمة بين حميدو وبينها، في تصوري، مجرد لحظاتٍ تنتهي بانتهاء المضاجعة، تمامًا مثلما هي العلاقة بين الجياد، شاهدتُ في قرية «السمارة» تزويج ذكر حصانٍ لأنثاه بالصورة التي لم تفارق ذاكرتي.

لم يدُر في بالي أن الإقامة الطارئة، لدواعي الزواج، لا بدَّ أن تمتد، وإلا فإن حميدو سيعود إلى مُوائه الغريب، وتصرفاته الأشدِّ غرابة. لا بدَّ من تواصل استضافتنا لبكيزة، حتى يغيب موعد التزاوج، معلومة تقبلتُها، وإن لم أستوعبها.

أومأتُ برأسي بالموافقة على أن نطيل استضافتنا لبكيزة، لكن زينب بدَّلت مشاعري، وموقفي، حين همست بصوت أودعته كل الرقة: أريد أن تبقى بكيزة!

استطردت: هل ترضى فراق زهرة؟

تعني الاسم الذي حفزتني عينا بكيزة الجميلتان إلى اختياره!

تنبَّهنا، ذات عصرٍ، على مُواءٍ غريب، كأنه الصراخ. بكيزة تعاني، تتقلب، تهتز، تتلوى، تتكور حول نفسها.

قال لنا جمال المراغي، عبر الهاتف، إنها في مرحلة الشبق الجنسي. تستغرق حوالي الأسبوعين. إذا حقنها الطبيب البيطري بدواءٍ للعُقم المؤقت، فإنها قد تسكن.

استعدتُ مواء حميدو في بحثه عن «الوليف» … هل كان يحتاج إلى ما نصحنا به المراغي؟

•••

أجادت بكيزة اختيار المكان الذي وضعَت فيه أطفالها، تنقلَت، ولاحظَت الفجوات، وما تحت الأثاث، وبين الكتب التي علت الأرفف والجدران، ثم اختارت دولاب الملابس في حجرة الضيوف لوضع أطفالها الثلاثة.

لاحظَت زينب تحوُّل نظرتي في إشفاقٍ وهي ترفع أمامي صينيةً في حجم كتاب، فوقها ثلاث قططٍ صغيرة متلاصقة. أعادت القطط إلى الدولاب، ثم اعتدتُ رواياتها عن أحوال الصغار، متى زال العمى من عينيها — والعمى عند ميلادها حقيقة علمية — ومتى بدأت في الافتراق عن أمِّها، وعن بعضها البعض.

ثم رأيتُ القطط، بالقرب من مكان ولادتها، تحاول السير بخطواتٍ مرتبكة.

•••

من معجزات الرسل والأنبياء ومكاشفات أولياء الله مخاطبة الحيوان والطير والزواحف والحشرات والجماد. ثمة لغةٌ لا نعرفها، يتبادلونها فيما بينهم. النبي سليمان قال للنمل: ادخلوا مساكنكم، فدخلوا، كما قال النبي داود، لما بدأ في لَعْق جروحه: كلوا واشبعوا مما رزقكم الله! وقرأنا عن حواراتٍ بين بشرٍ وغيرهم من مخلوقات الله، مكاشفات الصوفية وكراماتهم تتحدث عن مخاطبة الأولياء للمخلوقات، عبر البشر والحيوان والطير والزواحف والحشرات والنبات، حتى الجماد، رُوي عن مخاطبته على ألسنة الصالحين.

زينب في جلستها على الكرسي، تكلمني عن موعد طعام القطط، واعتزامها التوجه، حالًا، إلى المطبخ، قبل أن تتحرك في مكانها، تسبقها القطط إلى المطبخ.

أتذكر سؤال الرجل في رواية مارك توين «مغامرات هبكيري فن»: هل تتحدث القطط لغتنا نفسها؟

أرجعتُ الأمر إلى سرحات التراث، فهو، كما تعلم، قائمٌ على التأليف، لكن استوقفني في مُواء بكيزة ما أسميه لغة الطعام. مواء القطط مألوف، إطاره تنويعاتٌ صوتيةٌ في هارموني لا يجاوزه إلا إذا تحوَّل عند مواجهة الخطر. القطط الصغيرة تغادر الدولاب، تتوزع الشقَّة، تريد بكيزة، الأم، دعوتها إلى الرضاعة، تُصدِر مُواءً غريبًا أشبه بالصراخ، تلبِّي القطط، حالًا، مُواءها الغريب الذي يقتصر على تلك اللحظة، تندس في حضنها لترتشف الحليب.

في رواية «شوشا» لإسحاق باشيفيس سنجر، أبدت السيدة انزعاجها لرؤية قطٍّ يقتل صغاره.

ظني أن الفاعل هنا أنثى، وليس ذكرًا، أمٌّ، وليس أبًا، والقطة حين أكلت صغارها، فليس لأنها استعادت زمن القطِّ البري، وإنما خافت على صغارها من خطرٍ ما، فالتهمتها. سمِّ الفعل حُبًّا قاسيًا — على حدِّ تعبير محمود درويش — لكنه فعل أمومة، أرادت من خلاله التعبير عن إشفاقها المُحبِّ على صغارها.

•••

الله هو الذي شرَّف الإنسان على سائر الحيوان بنطق اللسان.

الكلمات لأبي الحسن الأندلسي في كتابه «المرقصات والمطربات».

الإنسان يعبِّر عن نفسه باللغة، بالحروف والكلمات والتعبيرات التي تعبِّر عمَّا يريد قوله. أمَّا القطُّ وغيره من الحيوانات، فإن أصواتها لا تشكل حروفًا ولا كلماتٍ ولا تعبيرات، هي زئيرٌ وخوارٌ وعواءٌ ونباحٌ ومواءٌ وغيرها من المسمَّيات، لكنها لا تصنع معنًى يخاطب الأذن والعقل والوجدان، يثير الحوار بين الإنسان والإنسان الآخر، يصنع لغته، لغاته التي هي الأساس لتنامي الحضارات المتعاقبة.

هل تتخاطب الحيوانات بتلك الأصوات المختلفة الأسماء؟

النفي هو الجواب السهل، لكن انطلاق القطط الصغار تلبيةً لمواء بكيزة، وهو، كما قلتُ لك، أشبه بالصراخ الذي لا تكرره في غير تلك اللحظات، وتماهي استجابة الصغار مع الكلمات التي نتخاطب بها … ذلك كله، وغيره، يحفزنا إلى مراجعة العديد من الثوابت المعرفية.

اللغة للتفاهم بين البشر، أصوات الحيوان للتفاهم كذلك، ليست مجرد صياحٍ أو صراخ، نصنفه في مسمَّيات تخصُّ كل مجموعةٍ حيوانية. وكما رويتُ لك، فإن مُواء بكيزة دعوةً لصغارها للطعام، وتعبيرًا عن اهتياجها الجنسي، يختلف تمامًا عن مُوائها طلبًا للطعام.

استوقفني الاجتهاد الذي أوردَته أماني الجندي في كتابها «الأدب الشعبي»، إن لغة إنسان الغاب أقرب لغات الحيوان إلى لغة الإنسان.

هي لغةٌ إذَن، يفهمها إنسان الغاب، ويتواصل بها، وإن لم نستطع نحن فهمها.

قد لا تعرف القطط مفردات اللغة، لكنها تفهم اللهجة، النبرة، الإيقاع. يعلو صوت زينب وهي تتجه إلى المطبخ: يالَّا! إشارة تحرك القطط وراءها، تتنقل زينب، بلا نداء، في الشقَّة، فلا تغادر القطط مواضعها، إلا بالنداء «يالَّا!» تجري القطط من حيث هي إلى المطبخ. أعرف أنها تعرف نبرة النداء، وإن لم تعرف حروفه.

•••

عدا حميدو وبكيزة، فقد تأخر اختيار أسماء بقية أفراد الأُسرة، المصادفة هي التي أشارت بالأسماء. لاحظنا شقاوة القطِّ الرومي الأبيض وجُرأته. سمَّيناه عنتر (أليس ابن حميدو؟) وحرص القطُّ المشمشيُّ على مرافقتي، منذ توكُّئي على العصا الحديدية ذات الأرجل الأربع، وتوجُّهي من حجرة النوم إلى الحمام، فالصالة، يسبق العصا، يسبقها، يدور حولها، يذكِّرني برقصة الفنان الشعبي، سيد حلال عليه، في مواكب الأفراح السكندرية. سمَّيناه «الياور»، تحمل معنى الرفقة والحراسة والمؤانسة. وأعلن القطُّ الرومي، في الجيل الثاني، عن شقاوةٍ مماثلةٍ لرومي الجيل الأول. سمَّته زينب «فريكيكو». اقتصرت بقية الأسماء على الملامح والصفات؛ هذه شبيهة أمِّها، هذا زاهدٌ مثل غاندي! اكتفينا بالصفة دون الاسم! ولم نجد تسميةً للقطتين الأخريين، ذكرٌ وأنثى لكنهما متماثلان تمامًا، اختارت زينب لهما تسمية سفرت وسفرتة.

•••

لاحظت، بعد أن صار حميدو أبًا لأُسرة، أن أفعال القطط تثير انتباهي، ليس قطًّا بالتحديد، فملاحظاتي موزعةٌ بينها، أكتب ملاحظتي، أثبتها، بإعادة النظر، أو أتبين غياب المعنى، أو أنها سخيفة، فأشطب ما كتبت.

لأن العدوى ترافق التصفيق والتثاؤب والميل إلى النوم، فهي كذلك، ربما، في بقية التصرفات، انعكاسها لا يقتصر على الإنسان وحده، وإنما على القطط والكلاب، وبقية المخلوقات.

أستعيد نظرية بافلوف عن الارتباط الشرطي للكلب وموعد طعامه، حين أجلس للكتابة إلى مائدة الطعام، ثم أنتقل بالمسودات إلى مكتبي، لأنقل الكلمات على الكمبيوتر، التوقع يأتي في موعد تناول الطعام، نعدُّ الطاولة لأداء دورها كمائدة، أو نبسط أوراق جريدةٍ فوق الأرض، تُهرع القطط من حيث كانت، الأوراق المبسوطة تعني الطعام، موعد تناول الطعام، تجلس فوقها، تتسع عيونها بنظرة التوقع.

حميدو يجلس أسفل الطاولة، أو في طرف أوراق الجريدة، لا ينظر ناحية أيِّ شيء، كأنه في موضعه من زمن، يتكرر التوقع والجلوس في الموضع الذي اعتاد اختياره، وعندما يعلو صوت أوراق، نفردها، نطويها، نكرمشها، يأتي من حيث كان، ويلزم موضعه، لا صلة للأمر برائحة الطعام، إنما هو فعلٌ أَلِف حدوثه، يرتبط لديه بموعد تناول الطعام، بينما تتزاحم بقية القطط على ما تشمَّمَته أنوفها.

أعود إلى نصائح العلماء، أشير إلى ما يمتلكه القطُّ من جهازٍ هضميٍّ حساسٍ للغاية على الأطعمة، ما يفرض توافر الأطعمة التي تساعد على النمو، وتقليل أمراض المناعة. ولا بدَّ من تبديل نوعية الطعام بشكلٍ مستمر، حتى تظلَّ شهية القطِّ على حالها. وطبيعيٌّ، بل هو مطلوبٌ، أن تكون الأطعمة البيتيَّة من بين ما يُقدَّم للقطط، مثل «الكبدة» التي تحتوي، كما تشير النصيحة الطبية، على كميَّاتٍ من الفيتامينات، على أن تُطهى جيدًا، تلافيًا للأمراض، وللتأثير في طبيعته المُسالمة، إلى حدِّ احتمال إصابته بالسُّعار. أمَّا مواعيد تقديم الطعام للقطط، فلعلَّه من المهمِّ أن يتمَّ ذلك أربع أو خمس مراتٍ في اليوم، حدَّد الإنسان لنفسه ثلاث وجباتٍ كل يوم، أمَّا القطط فإن حاجتها إلى الطعام لا تقتصر على الوجبات الثلاث.

المعلومات، من خلال تجربتي الشخصية، صحيحة ومفيدة، وإن لاحظتُ أن لكل قطٍّ طعامه الذي يتذوقه. يظلُّ حميدو ساكنًا أمام التفاف القطط حول أوعية الطعام، لا ترفع رءوسها إلا بعد أن تمتلئ، أو تأتي على ما في الأوعية، لا يتحرك من موضعه إلا بعد أن نضع «التونة» — طعامه المفضل — أمامه، يستغني بها عن كل الأطعمة، ولأن الظروف المادية لا تتيح دائمًا توافرها، فهو يضطرُّ إلى تناول الأطعمة التي عزف عنها. أَلِفنا عودته إلى الطعام الذي لم يقربه، بعد أن يتبيَّن أن ما تناوله من طعامٍ لا يتفق مع مذاقه. أمَّا بكيزة فإنها تجد في «الدراي» طعامها المفضل.

المثَل العاميُّ يقول: كُلْ ما يعجبك، مثل ينطبق على القطط، كل قطٍّ — الصفة تنسحب على الذكور والإناث — له طعامه الذي يتذوقه، «الدراي» قاسمٌ مشتركٌ عند القطط، أشبه بالفول والطعمية عند المصريين. الاستثناءات قليلة، يفرضها التطلع إلى المخفي، وهو ما أشار إليه يحيى حقي في لوحته الجميلة «فلة … مشمش … لولو».

وإذا كانت الكلاب تأكل، في الأغلب، ما يُقدَّم إليها من الأطعمة، فلأنها تنحدر من سُلالة الذئاب التي تصطاد فرائسها جماعةً، همُّ كل ذئبٍ أن يحصل على النصيب الأكبر من الفريسة. أمَّا القطط تصطاد منفردةً، تختار، وتتذوق، وتُنهي تناولها الطعام لتعود إليه.

شغلني السؤال: هل تأكل القطط، بتأثير الجوع، رعاتها البشر؟

من بين أحلامي الإبداعية الباكرة توظيف حادثة عجوزَين ماتا في الشقَّة المغلقة عليهما، وعلى القطط التي يُربِّيانها، لم تجد القطط ما تأكله، فنهشت لحم العجوزَين!

أعدتُ تأمل الحادثة، فاستبشعتُها، وأهملتُ ما أزمعتُ كتابته، ثم تبيَّنتُ، في ملاحظات العلماء، أن القطط، والكلاب أيضًا، تأكل، إن عانت الجوع، ما تجده، لا تختار، ولا تدقق في نوعية ما تجده.

•••

أبلغنا خبراء تربية القطط — التقيناهم كثيرًا في ضوء متغيرات حياتنا — أن للقطِّ عمرًا ينتهي عنده، غايته الرابعة عشرة، قد تحدث استثناءات، كما في أعمار البشر وغيرهم من المخلوقات، لكن الرابعة عشرة تظلُّ هي نهاية العمر الطبيعي للقط. وتؤكد أرقامٌ منسوبةٌ إلى الإحصاءات العلمية أن الكثير من القطط في الدول المتقدمة عاشت إلى ما بعد الثامنة والثلاثين.

لأن حميدو قارب نهاية سنِّ القطِّ في الدول النامية، مثلنا، فقد عنيت بأن أتابع ما يطرأ من تحولاتٍ في هيئته، وملامحه، وتصرفاته.

أولى ملاحظاتي أن جسد حميدو فقد هيبته القديمة، تضاءل نسبيًّا، وانكمش بوزه، ولم يعُد لعينيه بريقهما القديم، لكن قدرته على الإبصار في الظلام كما هي.

ثانية الملاحظات أنه استبدل بجريه في الشقَّة، بعد قضاء حاجته بخاصة، مشيةً متباطئة متزنة، ثم يصعد إلى كرسيٍّ أو كنبة، أو يُقعي تحتهما، أو يدخل البلكونة طلبًا لأشعَّة الشمس.

ثالثة الملاحظات أن العلاقة الحميمة — أفعال حميدو — هي الظاهرة الوحيدة التي لم تتبدل، أنفه كأنه بوصلة تتشمَّم مؤخرات القطط، حتى بعد أن أنجبت بكيزة ستة قططٍ في ولادتين، لم تزايله الرغبة الحسية، لا يقصرها على بكيزة، إنما يتجه بها إلى القطط الأخرى.

لا شأن للرغبة الحسيَّة عند القطط بصلة القرابة.

حتى عندما ألحَّت تأثيرات السنِّ على حميدو، وانعكس على قِلَّة حركته الدائبة في البيت، واحتوائه الهُزال، وتساقط شعره، وتحول ذيله إلى بقايا حبل، وغابت هيبة الأسد التي طالما أعجبت مُحبِّيه … عندما ألحَّت تلك التأثيرات، ظلَّ حميدو على حيويته الجنسية، يتشمَّم المؤخرات، ويُقدِم على الفعل مع الأنثى، بل إني رأيته يحاول الفعل — صدِّقني — مع عنتر، ابنه، ولأن الصلة الأُسرية، كما تعلم، خاصية تقتصر على الإنسان، فلعلَّ السؤال الذي يتجاوزها: هل المثلية مرضٌ مشتركٌ بين الإنسان والقطِّ البيتي؟!

غيرَت هذه الملاحظات من مشاعر زينب؛ سألت، وناقشت، وقرأت، عندما تبيَّن لها أن لكل مخلوق عمره الطبيعي، ينتهي في أوله، أو في مرحلةٍ ما، أو يطول عمره فيصبح معمَّرًا. نحن نتمنَّى للأعزاء منَّا امتداد أعمارهم إلى المائة عام «عقبال ميت سنة»، فالعمر إذَن محدودٌ بما يجاوز حتى عبارات المجاملة.

لم تعُد زينب تُخفي تفضيلها لحميدو، تخصُّه بعناية تفوق ما توليه باقي القطط، لا تهملها، إنما تخصُّه برعاية أشد، تُدلِّله، تُقدِّم له الطعام الذي يتذوقه، تشفق على ما ينتابه من هُزال، تصحبه، لأقلِّ عارضٍ، إلى العيادة، تشفق على تصرفاته التي ربما أملتها عوامل السن. يحزنني القول لها إنه سيغيب عن حياتنا!

خاض الإنسان القديم أول صراعاته دفاعًا عن امتلاكه أنثى، ثم صار الزواج سمة العلاقة الصحيحة بين الأنثى والذكر، قد تكون الزوجة هي الأخت أو الابنة — والتاريخ المصري القديم حافل بعشرات الأمثلة — وربما تزوج الشابُّ والفتاة، الذكر والأنثى، في مجاوزةٍ للانتماء الأُسري أو العائلي. مال كلٌّ منهما إلى الآخر، فتزوجه.

تماهت المدنية والحضارة بتوالي الحقب. هذَّب الإنسان غرائزه، سنَّ قواعد العلاقة بين الذكر والأنثى؛ الزواج صورتها الأولى والمستمرة، ثم تحدَّدت العلاقة بنزول الديانات السماوية، صارت العلاقة بين المحارم (التعبير إسلامي)، مجرد العلاقة، حرامًا، يواجه العقاب في القانونين؛ الوضعي والسماوي.

القطط، والحيوانات عمومًا، لم يتبدل حالها، الغرائز هي القانون الوحيد الذي تخضع له كل تصرفاتها، يفيد من أفعال الإنسان في أفعالٍ مشابهة، نسميها، تجاوزًا، أفعالًا حضارية، لكنها، في الواقع، ليست كذلك. وبالقطع، فإن القانون هو الإطار الذي تتحرك أفعاله في داخله، يعاقب إن تجاوزها. أمَّا أفعال القطط التي تمليها غرائزها، فهي، كما ترى، بلا آفاق، ولا توقُّع عقاب.

•••

يقول علماء الأنثربولوجيا إن الجنس عند الإنسان للحفاظ على النوع، فهل الحال هكذا عند الحيوان؟

أتحدث عن القطط؛ لحظات اللقاء الحميم، ما يسبقها، وحينها، تشابه الكثير مما يفعله الإنسان، غزل الأنثى والذكر، التمنع والإقبال والابتعاد، خمش الذكر رفضًا لاقترابه، العودة إليه لمَّا يدركه اليأس، تدور حوله، تتوقع — توقعي — أن يعيد غزله، تُقعي صامتةً في النهاية، بينما يؤدي الذكر ما تتطلبه العلاقة الحميمة.

هل تحمل بكيزة من اللمس؟

أنجبت ثلاثة أبناء؛ أنثى وذكرين. بعد أشهر قليلة، أنجبت مرةً ثانية؛ أنثى وذكرين. ما كادت تمرُّ أيام، استردَّت خلالها عافيتها الذاوية، حتى بدأت في التقرب إلى حميدو، الدوران حوله، ملامسته، لَعْق جسمه، الاستجابة لمداعباته، أو — في الأدق — التحريض عليها، طلب العلاقة بينها وبينه.

القطة سفرتة أنثى على ستة ذكور، تحاول القطط الأخرى معاشرتها جنسيًّا، لا تُبدي سفرتة استجابةً وينتهي الأمر، لكن الشهوة تتلبَّس عنتر، شهوة غريبة تدفعه إلى مطاردتها في كل وقت وكل مكان. لا ممهدات، إنما هو يختصر الفعل بالقفز عليها طلبًا للمتعة، لا يأبَهُ برفضها، يعاود المحاولة، بلا سأم!

نصح الطبيب بعملية إخصاء؛ عنتر يعاني شبقًا جنسيًّا دائمًا، لو أهملنا العملية فسيصعُب توقع النتائج!

•••

اللعب، كما أشرت، جزءٌ من السلوك الحياتي اليومي للقطط.

كما تعلم، فإن الفأر هو لعبة القطِّ المفضَّلة، إن أمسك به أفلته، ليعاود اقتناصه، والتلاعب به، كلما حاول الفأر الخلاص، أعاده القطُّ إلى مخالبه، حتى يقتله.

المثل يتحدث عن العسكر والحرامية، وعن القطِّ والفأر، أفلام والت ديزني الشهيرة محورها الصراع بين الفأر الصغير جيري، والقط الهائل الحجم توم. الغلبة في الحياة للقط، يطارد الفأر حتى يقتنصه. ربما أقعى على باب المخبأ يومًا، أو أكثر، حتى يندفع الفأر، باليأس، إلى الخروج، ليجد مخالب القطِّ في انتظاره.

والحشرات الطائرة صيدٌ للكلب والقط، يلتقطها الكلب بلسانه، ويحاول القطُّ — ويخفق بالطبع — في اقتناصها بقائمَيه الأماميَّين، يلمحها طائرة، تدور معه نظراتي وهو يقف على قائمَيه الخلفيَّين، يقفز في اتجاه الحشرة؛ ذبابة، بعوضة، يمسك الفراغ، يعاود المحاولة حتى يتملكه اليأس.

إذا كان البيت خاليا من الفئران، وكان القطُّ وحيدًا، فإنه يحيل المكان ملعبًا يؤدي فيه ألعابًا مدهشة، إن رأى خيطًا أو شراريب متدلية، فهذا هدفٌ جيدٌ للعب، يجتذبه بأسنانه ومخالبه، ذلك ما حدث، للأسف، في ستارة حجرة المكتب، أسرفت القطط في جذب حوافها حتى تمزقت. وقد أجد لعبة الطفولة «عسكر وحرامية» في اختفاء قطٍّ وراء قطعة أثاث، يطيل ترقبه حتى ينطلق القطُّ الذي يشاركه اللعبة أمامه، فيقفز عليه، يخوضان صراعًا كأنه بحقٍّ وحقيق، حتى يثبِّت أحدهما الآخر، كالمصارعة تمامًا، ثم يتخلصان من العناق، ويجريان، وقد يصادف القطُّ شيئًا في طريقه يحيله لعبة، يدفعها أمامه، يقفز بها بين قائمَيه، يضعها في فمه ويلفظها، حتى يغلبه الملل فيتركها. تنبَّهتُ، وأنا أهزُّ المسطرة في يدي، إلى أن ثلاثة قططٍ تتقافز تحتها، تحاول التقاطها. ظنت أني ألاعبها فاستجابت، حتى لا أخذلها فقد واصلت تحريك المسطرة أمامي، والقطط تتقافز، تعلو وتهبط، ثم حدث ما لفت انتباهها، فابتعدت.

يصعُب أن أحسب على اللعب خربشات القطط في الأثاث، يكتفون بالنظرات المستغربة وأنا أهتف ليوقفوا الخربشات المدمِّرة، أبدل نبرات صوتي من الهتاف إلى الزعيق، فإلى الصراخ، لكن القطَّ هو الذي يحدِّد موعد انتهائه من الخربشة بقوائمه. يصعُب أن أحسب ذلك على اللعب. أظافر القوائم (أو لنقُل: المخالب) تطول، يشعر بالحاجة إلى تقليمها، الوسيلة الأقرب هي الجري بمخالبها على جوانب الكراسي والفوتيلات … والسجَّاد أحيانًا!

•••

أسوأ ما نغَّص أيامنا، ودفعنا إلى مراجعة ما حدث، حين فوجئنا بمخلَّفات القطط موزَّعةً في الأركان، والرائحة تزكم مَن يفتقد حاسة الشم. عرفنا أن القطط حيرتها كثرة أوعية قضاء الحاجة، بداخلها رملٌ مجروش، وقُصاصات صحفٍ قديمة. أردنا أن نُيسِّر لها الأمر، لكنها أهملت ذلك كله، وقضت حاجتها دون تقيدٍ بالمكان.

نصحني صديقي محمد الحصري أن أكتفي بأقلِّ النتائج ضررًا. تشمَّمت رائحة حميدو في البانيو، علينا إذَن أن نفتح باب الحمام، إزالة ما يخلِّفه حميدو، تحتاج منَّا إلى عملية تطهير، مرتين أو أكثر في اليوم الوحد، فنيك وبيتادين وكلور وكحول وكولونيا وغيرها من المطهِّرات.

تحدَّدت المشكلة في البانيو، وإن زالت من باقي الشقَّة. تصرُّفنا التالي أن نحاول التخلص من التأثيرات السخيفة تمامًا!

كان مروان البواب دائم الحكي عن جارةٍ في أول الشارع، تترامى رائحة القطط العشر من نافذة شقَّتها.

هل تصبح شقَّتنا، بالقطط الثماني، موضع حكاياتٍ جديدة؟

***

أصل القطِّ الذي يعيش حياتنا هو القطُّ البري. نحن نُقدِّم للقطِّ البيتي غذاءه، يتألف، في أحيان كثيرة، من الأطعمة المُصنَّعة، لكن الخاصية التي تسم القطَّ أنه من أكلة اللحوم، يتغذَّى على الحيوانات التي يصطادها، ومنها الفئران، وهو ما يسهل تبيُّنه في طريقة لعب القطِّ مع نفسه، أو مع القطط الأخرى، أو مع الإنسان الذي يرعاه، إنها تأخذ شكل الشجار الذي لا يؤذي؛ الفم المفتوح عن آخره، والأظافر الطويلة، والجري وراء الخصم المتصوَّر، ذلك كله يبين عن الصياد في القط، وتدربه على العراك، فلا ينسى! إنها محاولةٌ متكررةٌ للحفاظ على مهاراته في اقتناص الفريسة ومطاردتها، والتسلي بالتلاعب بها، ثم قتلها.

الأبحاث العلمية تذهب إلى أن انتشار الفئران في العالم — القديم بالطبع — يتزامن مع ظهور القطط المنزلية، وهو ما وشت به بقايا عُثر عليها في قبرص واليونان وشرقَي أوروبا. وفي تقدير الأبحاث أن العداء المتوارث بين الفئران والقطط يعود، ربما، إلى أنهما ارتبطا بالإنسان، في وقتٍ متقارب، في حياته البيتيَّة. وكما يرى إسحاق باشيفيس سنجر، فإن القطَّ لا يأكل العشب، لكنه يأكل اللحم، لا يعيبه، من ثَم، أن يطارد الفئران ليأكلها!

أبناء القرى يلجئون إلى وضع المصايد للفئران، وإلى ضربها بقِطَع الحديد والخشب، ودلق الماء المغلي، لكن الخوف من القطط يظلُّ مبعث خوفٍ حقيقيٍّ للفئران. لولا القطط — في قول الراحل محمود البدوي — لتحركت الفئران في القرى بحُرية.

مع تعدُّد أنواع الفئران، فإن الفئران الرمادية من أنماط الحياة المستقرَّة لدى البشر قبل خمسة عشر ألف سنة، وهي من أكثر أنواع الثدييات قدرةً على الانتشار، وقد بدأ الغزو البيولوجي للفئران الرمادية في الشرق الأدنى (التسمية للعلماء، وإن ذابت في تسمياتٍ أخرى أهمُّها الوطن العربي، زائد تسميات أخرى مثل الشرق الأوسط)، وقد عُثر على أكثر من ثمانمائةٍ من بقايا عظام القوارض الصغيرة في ثلاثةٍ وأربعين موقعًا أثريًّا في المنطقة المُسمَّاة الشرق الأدنى، وكذلك جنوب شرقَي أوروبا.

كيف نشأ هذا العداء بين القطط والفئران؟ ولماذا استقرَّت صورةٌ للعلاقة بينهما؟

ملاحظة العلماء أن القطط تجيد التعامل مع القوارض الضارَّة، ومنها الفئران، وهو ما حفز الناس على استئناسها وتربيتها في البيوت.

عدا هذه الملاحظات، فإن الإطار الذي تتحرك في داخله تصرفات القطط — والحيوان بعامة، سواءٌ كان مستأنسًا أم مفترسًا — يحدِّد لها صفات تقارب الإنسانية، وقد يبلغ فيها ما يقصر الإنسان عن بلوغه، لكنه يتجاوز تلك الصفات في طلب الماديَّات من طعامٍ وجنسٍ وغيرها.

يبدو حميدو مثلًا للأب الطيب في ترك الطعام لأبنائه، قد يبتعد فلا يعود إلى المتبقي في الأوعية، ثم عرفت، بالملاحظة، أنه اعتاد أكل «التونة»، لا يعدلها عنده أكلةٌ أخرى. عندما تضع زينب طبق التونة، يقتحمه حميدو، يدسُّ فيه وجهه، لا يرفعه إلا بعد أن يأتي عليه، هذه هي وجبته، وعلى الصغار أن يجدوا المُشتهى في السمك والدراي والجبن وغيرها مما يهملون قواعد الإخوة والإتيكيت واللياقة في إقبالهم على التهامه.

لا أعرف لماذا ذكَّرني عنتر بالقطِّ في رواية «المعلم ومرجريتا» لميخائيل بولماكوف. القطُّ في الرواية ضخمٌ كالخنزير، أسود كالغراب أو السخام، ذو شاربَين هائلَين كشوارب الفرسان، يقف ويمشي، طيلة الأحداث، على قائمتَيه الخلفيَّتَين، إن جلس وضع رِجلًا على رِجل، يضع على عينيه نظارةً طبية، يدخِّن السيجار، يركب المواصلات العامة، يخالط البشر، يزاحمهم، يرتكب أخطاءهم، يشكِّل بأفعاله حضورًا قويًّا في حياة بقية القطط. وفي رواية بولماكوف نجد قطًّا ثانيًا، هائل الحجم، يجلس على كرسيٍّ عالٍ أمام طاولة الشطرنج، ويقف بقائمته اليمنى على حصان الشطرنج.

روت لي زينب ظروف ولادة عنتر؛ كان أول مَن لفظه رحم بكيزة، غطَّاه برد الشتاء بالزرقة، وسكنت أنفاسه، أحاطت جسده بفوطة، ودلكته. لأن القطَّ يظلُّ في العمى من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، فقد اطمأنت زينب إلى تواصل حياته من تردُّد الأنفاس في صدره.

تابعت «عنتر» في إشفاقه على إخوته، يلوذون بحضنه، يلعق بلسانه أجسامهم، لكنه يتبدل تمامًا في وقت طلب الطعام أو الجنس، يهمل الدوافع التي هذَّبها الإنسان، ويبين في صورته الحيوانية، لا شأن له إن واجهته الأنثى بالرفض، فهو يداور ويناور ويهمل صراخها حتى تهدأ حواسه، يردُّ على هتافاتنا المشفقة على القطة المسكينة بنظرةٍ مستغربةٍ ساكنة.

فريكيكو شغوفٌ بالمداعبة، تبدو المداعبة لديه أهمَّ من الطعام، إنه يمدُّ يده ناحيتك، أو يتقلب على الأرض، استجلابًا لمداعبتك. إذا داعبت قطًّا، أنثى أو ذكر، فلا بدَّ أن تداعب من يَلحظ تصرفك، هي الغيرة التي قد يشعر بها طفلك حين تداعب شقيقه أو أيَّ طفلٍ آخر. وينبغي ملاحظة تعبير القطِّ عن حصوله على ما يكفي من المداعبة، وهو ما ينعكس في تدلِّي الأذنين، والارتعاشة الخفيفة للذيل. أذكِّرك بالمثل الذي يشفق على الشيء الذي يزيد عن حدِّه. ولعلَّه ينبغي كذلك ملاحظة طرق استمالة القط، سواءً أظهر مشاعره المُحبَّة لرعايتنا له في طعامه واللعب معه. القطُّ قد يكون عصبيَّ المزاج، تلك طبيعته، لا حيلة له فيها، وحتى نستميله فلن يحدث ذلك بالإمساك به وملاعبته، ستُفاجأ بأنه سيحاول التملص من قبضتك، فعليك أن تتركه حتى يعود إليك بإرادته. ربما احتاج توثق الصداقة، بينك وبين القطِّ العصبيِّ الطبع، إلى فترةٍ طويلة، مع التيقن أن الحبَّ من ناحيته موجود.

اختلفت تصرفات «الياور» في إصراره على كشف المخفي، فهو يقفز فوق الأرفف، ويحاول فتح الأبواب المغلقة، ويطيح بالأشياء من فوق أسطح الطاولات، ومن داخلها، سألت عن المعنى، فاكتفت الطبيبة بالقول: هذه طبيعته. وبالطبع، فقد تطلبت معالجة «الحالة» أقصى درجات الصبر والحيطة والحذر. أمَّا سفرت وسفرتة فإن لَعْق الأحذية والحقائب وأسلاك الكهرباء هوايتهما المفضَّلة، وقد يزيدان بمحاولة تمزيقها، بالإضافة إلى إعمال مخالبها في السجَّاد وقطع الأثاث.

•••

لماذا تنام القطط ليلًا؟

البشر يعملون في النهار، لأن النهار ضياء، يحضُّ على السعي والعمل، بينما الليل ظلمةٌ تدفع إلى النوم، أو السهر الاستثنائي، أو الليالي المشابهة لليالي يوسف إدريس الرخيصة.

أمَّا القطط، فإن حدَّة بصرها تتيح لها الرؤية في الليل، كما في النهار، وسلوكيات حياتها اليومية تختلف عن سلوكيات الإنسان.

الإنسان يعمل ويؤدي فرائضه الدينية وفق مواعيد محددة، أمَّا القطط فوقتها موزَّعٌ بين تناول الطعام، واللعب، والنوم، والعلاقات الحسية …

فلماذا تنام القطط ليلًا؟!

•••

كنتُ ممدَّدًا على الكنبة في الصالة، بيدي كتابٌ أقرؤه، ذات عصرٍ، تنبَّهتُ إلى حركة حميدو بالقرب مني، كان يحدِّق فيما يراه، ولا أراه، نظرت في اتجاه تحديقه، فلم أرَ شيئًا.

ما صحة العلاقة بين القطط وأرواح البشر؟

عدا التخوف من أن تكون القطط تجسيدًا لأرواح الراحلين، فإن الكثيرين يعزفون عن تربية القطط امتثالًا لفتاوى الفقهاء بأن الكلاب نجاسة، وملامستها تستدعي التطهر، وثمة مَن يتمسك بما ينسب إلى الإمام ابن حنبل من أن ظلَّ الكلب يصيبنا بالنجاسة، وقد رفض أستاذنا العقاد، صاحب العبقريات الإسلامية، تلك الفتوى باقتنائه الكلاب في بيته.

***

في إذاعة زمان، أيام تلاوات القرآن الكريم لمحمد رفعت ومصطفى إسماعيل وشعيشع، وحديث الصباح الديني للعالم الجليل محمود شلتوت، وتمثيليات علي بابا وقسم وعوف الأصيل وأيوب وبركة رمضان وسداح مداح وحكيم الزمان والسوق ودندرمة وخوفو وقطر الندى والسيرة العطرة وحكيم الزمان ومعروف الإسكافي … إلخ، ومسلسل ألف ليلة وليلة الذي شحذ مخيِّلتي بما لا أنكره، وحفلات أم كلثوم في الخميس الأول من كل شهر، وتقديم حسين فوزي للموسيقى العالمية، وبرامج الأطفال لبابا صادق وبابا شارو، ومونولوجات إسماعيل يس وشكوكو وثريا حلمي …

في ذلك الزمان أضفنا إلى حصيلتنا المعرفية آراءً وقراءاتٍ في أحاديث كبار المفكرين والمبدعين والنقاد؛ طه حسين والعقاد ومحمد خلف الله أحمد وغيرهم، لكل حديث موعده الأسبوعي، يناقش، في ربع ساعة، قضيةً ثقافيةً مهمَّة، تخلِّف في نفس المتلقي تأثيرًا، يدفعه إلى ترقُّب الأحاديث التالية للمتحدث نفسه، أو لسواه من رموز ثقافتنا المصرية.

من الأحاديث التي أذكرها نقد سهير القلماوي لرواية نجيب محفوظ «زقاق المدق»، تابعته بلهفة المفتون بالروائي الذي التقاه، مصادفةً، في «خان الخليلي»، فاعتبرته كاتبي المفضَّل. أعدت التعرف إلى حميدة وعباس الحلو والمعلم كامل والشيخ درويش ورضوان الحسيني والست سنية وسليم علوان وكرشة القهوجي وحسين كرشة والدكتور بوشي وحسنية وجعدة الفران وإبراهيم فرحات.

نبَّهتني سهير القلماوي إلى ما كان، حتى تلك اللحظة، غائبًا عن تصوري لحياة البشر في مجتمعٍ ما. المجتمع الحقيقي لا يقتصر على البشر وحدهم، ثمة الحيوان والطير والنبات والجماد، هذه الجزئيات استكمالٌ للوجود الحياتي في أيِّ مكان، تحقِّق الاكتمال للمجتمع الإنساني، حتى لو تحدَّد ذلك المجتمع في زقاق.

لاحظَت القلماوي افتقاد الزقاق للقطط والكلاب، مما يصعُب تصوُّره في بيئةٍ ما، ناهيك عن البيئة الشعبية التي أجاد تصويرها العبقري نجيب محفوظ.

أتأمل القطط؛ هذا الوافد الجديد في حياتنا، ماذا أضافت، أو أنقصت، إلى حياتنا؟

إذا تجاوزت المضايقات — لا يحضرني تعبيرٌ آخر — التي تحدثها أفعال القطط في الأثاث، وفي الرائحة التي صارحنا الأصدقاء أنها تطالعهم في بئر السلَّم، فإن «البهجة» هي الشعور الذي يحوطني وأنا أتأمل القطط في تناثرها حولي.

بتعبيرٍ آخر، فإن الخمول الذي قد يبدو صفةً ملازمةً للقطط، تقابله «البهجة» التي تنعكس في نفوسنا.

•••

استوقفني، في قراءاتي عن حياة القطط، تعبير القطط البيضاء، أتصور أن اللون ليس مطلقًا، إنه قد يُطلق على القطِّ الرومي، مثلًا، أو ما يغيب عني معرفته من أنواع القطط، لكن القطط البيضاء، في تقديرات علمية، لها خصائصها التي تقتصر على اللون، ومنها، على سبيل المثال، أنها — مثل الإنسان الأشقر، أو عدو الشمس، في التعبير المتوارث — لا تستطيع مواجهة الشمس لفتراتٍ طويلة، حتى لا تكون عُرضةً للإصابة بسرطان الخلايا الحرشفية، وبخاصةٍ في المواضع التي يغزر فيها الشَّعر، أو الخالية من الشَّعر — أنقل لك المعلومة — مثل الأنف والأذنين والجفون.

حاولتُ أن أجد انعكاسًا لتأثيرات أشعَّة الشمس على قططي البيضاء، فلم أجد ما يشي بذلك. حين يلمح حميدو باب البلكونة مفتوحًا، يدخل، يتمدَّد في استرخاءٍ وتلذُّذ تحت الكتبة الصغيرة، لا يغادر مكانه إلا إن لامسَت أنفه رائحة الطعام. إذا كان تقدُّم السنِّ قد قيَّد حركات حميدو، بحيث يبدو متناقلًا، فإن صِبا عنتر وفريكيكو يحفزهما للتنطيط فوق الإفريز الحديدي للبلكونة. خالفت نتائج تشمُّس القطط توقعاتي، فأهملت بقاءها، بلا خشية مرض، داخل البلكونة.

أمَّا إرجاع صمم القطط البيضاء إلى العوامل الوراثية، فإن المرض قد يصيب كل الألوان، أيًّا يكُن انتماء الجنس إلى مخلوقات الله.

أصارحك أن عروض أصدقائنا باقتناء قطٍّ من قططنا الثماني، حدَّدت ذوات اللون الأبيض، لم يشغلها إن كان القطُّ روميًّا، وهي بالفعل ثلاثة قطط ذكور، إنما حثَّها اللون على طلب الاقتناء. من هنا كان إغفالي القوائم الطويلة للقطط البيضاء، وتقسيماتها مثل الأمريكية ذات الشعر القصير، وماي كوين، وراج دول، وغيرها.

أنصت إلى عروض الأصدقاء باقتناء واحدٍ من أُسرة حميدو، هل هذا هو التعبير الدقيق؟ يشملني اقتناعٌ أن العرض يحمل للقطِّ حياةً أفضل، حتى من تلك التي نحاول توفيرها له، لكن موافقتي تغيب اللحظة التي يستقر فيها القطُّ — ولعلَّه اثنان — داخل القفص، تأهبًا للانتقال إلى حياةٍ أخرى أشدَّ هناءة.

تكرُّ السنوات إلى أيام الطفولة؛ عربة الكلاب تجوب شوارع الإسكندرية، يلتقط العاملون في مصلحة الطبِّ البيطري ما يجدونه من الكلاب، يُودِعونها العربة ذات الأقفاص الحديدية المتلاصقة.

كم كانت تؤلمني نظرات الخوف والفزع والرعب في الأعين المتلفتة، تتوقع الخطر، وإن كنت أعرف، مما يرويه ناس الطريق، أن التقاطها بالأنشوطة، وإيداعها القفص، خطوةٌ لنقلها إلى المصلحة، حيث تُعدم الكلاب بالرصاص، ويضيف البعض، بلهجة العارف، أن الكلاب تُقدَّم وجباتٍ للنيران.

لعلِّي أضيف ما يلحُّ على ذاكرتي من مشهد القط، الذي يصنع الأولاد — لا شأن للبيئة الاجتماعية بكلامي — حبلًا حول عنقه، يلتذَّذون بتعذيبه حتى الموت!

لا أخفي عنك أن نظرتي إلى القطط تبدَّلت، أحاذر وأنا أتنقل في البيت، القطط متناثرةٌ فوق الأثاث وتحته وعلى الأرضية، جالسة أو نائمة، أحرص فلا أقارب هدوءها الساكن أو أعبره، هي كذلك لا تزايل أماكنها، ولا تُبدي قلقًا، تلحظ زينب وقفتي المرتبكة أمام الأجساد الساكنة، تنقل القطَّ — أو أكثر — إلى موضعٍ آخر، حتى يُتاح لعصاي الحديدية أن تفسح الطريق أمامي.

ربما أخذني تأمل القطط في تنقلها داخل الشقَّة، تختار المواضع التي تُقعي أو تنام فيها. أُلفة الطمأنينة سمة حياتها، لا تتوقع الزجر ولا الضرب. أستعيد بالضرورة صور قططٍ أخرى، تصادفنا الشوارع، مصائرها أقسى مما عانت الكلاب التي واجهت، في صباي، ما ثبت في ذاكرتي، معظم وقفاتها أمام كومات الزبالة، تنبش، تلتقط الطعام، ترمق بجانب عينها مَن يبادر بالأذى، ذلك ما يحدث بالفعل عندما يلفُّ ولدٌ حبلًا على عنق القطِّ المسكين حتى يموت!

تنثال الصور، تنبِّهني إلى خطأ التصرف لو أني تنازلتُ عن القطط لمَن يسيء معاملتها، ربما يقتنيها مَن يمتلك حسًّا إنسانيًّا، يحرص من خلاله على رعايتها، فماذا عن الأبناء أو الحفدة؟ هل تبعد شقاوتهم عن أذى قطط الشوارع، أو التي تخلَّى عنها أصحابها؟

قرأتُ حكايةً مأساويةً للكاتب الصحفي عصام السباعي؛ كلبٌ انتقل صاحبه إلى مسكن جديد، وتركه. التقط الكلبَ صبيةٌ أُسيئت تنشئتهم، تسلَّوا بسحله وتعليقه فوق شجرة، لا أعرف إن كان أولاد الحلال قد أنقذوا الكلب من براثن الشياطين الصغار، أم أن السباعي أراد إزالة الأثر السيء الذي تُحدثه حكايته، فقال إن الكلب أُودِع ملجأً للحيوانات البيتيَّة.

أذكر، بالمناسبة، برنامجًا علميًّا أعدَّه المركز الصحي لرعاية القطط، التابع لكلية الطبِّ البيطري بجامعة كورنيل الأسترالية، عني بتتبع القطط في أستراليا ونيوزيلندا، كجزءٍ من تبين سلوك القطط في أنحاء العالم. حاول البرنامج التعرف إلى الأماكن التي تذهب إليها القطط عندما تغادر البيت، ظلَّ بعضها في أماكن قريبة، بينما مضى بعضها الآخر في الطرق المفتوحة، مصيرها في الحالين مجهول.

لأني أعلنتُ موافقتي، فقد بدأ صديقي في وضع صغار بكيزة الثلاثة في القفص البلاستيكي، ظلَّ أحدها في موضعه، ملاصقًا لي، وعيناه تنطقان بالاستغاثة.

اعتذرتُ عن موافقتي.

قطط السلَّم ضيفٌ غير مرغوبٍ فيه مثل قطط الشوارع، أول ما يدفع سكان البيت إلى طردها، ركلها بالأقدام حتى لا تعود ثانيةً، ما تخلِّفه من بولٍ أو برازٍ في أركان «البسطات»، أو أمام أبواب الشقق، هي تأكل من أوعية القمامة، وتقضي حاجتها بالقرب منها.

الرعب في الأعين البريئة يلحُّ على ذاكرتي.

أتذكَّر كذلك — ربما بلا مناسبة — نظرة الطفل في مسرحية ألبير كامي «العادلون»، هي النظرة التي أعادت الفدائي إلى نفسه، وإلى إنسانيته.

أنسى ما وعدت، فلا أترك أيًّا من أُسرة حميدو للمصير القاسي!

شاهدتُ فيلمًا تسجيليًّا عن العنف في الكونغو؛ ينسب الشبَّان أفعالهم الدموية إلى طعامهم من لحم القطط والكلاب. أعرف دولًا في آسيا تجعل منه طبقًا رئيسًا على موائد الطعام. تحوَّلت نظراتي، بعفويةٍ، من المَشاهد القاسية، إلى القطط التي تناثرت حولي، تلفُّها الطمأنينة.

الدين يحتِّم القصاص من هؤلاء الذين يقتلون الآخرين، المعنى يغيب في قتل القطط والكلاب وغيرها من الحيوانات البيتيَّة، هي للمؤانسة والتسلية وتحقيق البهجة، وإذا لحقها مرضٌ يهدِّد حياتها وحياة مَن حولها، فإن العلاج متاح، حقٌّ لها، وواجبٌ على الأُسر المُضيفة.

حدثتني ابنتي أمل عن الظاهرة التي يكاد ينفرد بها الشارع الذي تقيم فيه بالإسكندرية؛ الشارع قريب من وابور المياه بحي باب شرق، سكانه من الطبقة الوسطى وفوقها، وجبات الطعام التي يضعونها أمام البيوت جعلت الشارع ملاذًا لعشرات القطط، مطعمًا مفتوحًا أشبه بالمطاعم المجانية، أو موائد الرحمن، لفقراء البشر.

***

حدث ما لم نتوقعه.

مع عودة الأزمة الصحية، فإن دخول المستشفى لإجراء عمليةٍ «سهلة»، على حدِّ تعبير د. محمد حمدي أستاذ الجراحة بمستشفى دار الشفاء، فرض نفسه، بعد زياراتٍ مُرهقةٍ إلى العديد من المواقع العلاجية.

سبق دخولي مستشفى «دار الشفاء» زيارة نهارٍ كاملٍ لمستشفى «وادي النيل»، خضعت فيها لفحوصٍ وتحاليل، شخصت ما أعانيه بالتهابٍ في البنكرياس.

تضخمت الأوراق ما بين روشتات ونفقات علاج وتحاليل ونتائج أشعَّة. تدسُّ زينب كل شيءٍ في حقيبة يدها، تضعها على أرفف مكتبة حجرة النوم (لتوزع المكتبات في كل البيت فقد وصفه صديقي الطبيب حاتم رضوان بأنه من ورق). الأوراق، في مجموعها، خطٌّ بيانيٌّ لأحوالي الصحية.

لم يطمئن إلى تشخيص التهاب البنكرياس أصدقائي الأطباء؛ عادل وديع فلسطين، وحاتم رضوان، وهشام قاسم. نصح المسئول عن مشروع العلاج بنقابة الصحفيين بزيارة مستشفى تابعٍ للتأمين الصحي.

وأنا أعِدُّ حقيبتي للذهاب إلى مستشفى رابعة العدوية، نبَّهتني زينب إلى ما لم ألحظه؛ ست عشرة عينًا ترنو باتساعها ناحيتي.

هل هو التعاطف أو المشاركة أو القلق أو الخوف؟

ما أحسستُ به أني صديق هذه الكائنات الصغيرة، وإنها صديقتي.

تيقنت فيما بعدُ أن لحظة تهيُّئي لمغادرة الشقَّة إلى المستشفى لم تكُن وحدها ما استطعتُ تبيُّنه في أعين القطط من أسئلةٍ مشفقةٍ وتعاطف. لا أنساق وراء تصوراتٍ خاطئةٍ بأن القطط تدرك مشاعر مَن حولها، يشغلها ما يعانون.

القول بأن وفاء الكلب للإنسان، بينما وفاء القطِّ للمكان، قد لا يكون صحيحًا، مع تقديري لملاحظة العلماء!

ثبَّت العلماء في أذهاننا أن القطَّ صديقٌ للمكان، هو يصادق الطعام والجنس والنوم واللعب، إن وجد مَن يتيح له كل تلك الاحتياجات فذلك غاية المراد، لا شأن له بغياب مَن أَلِف رؤيتهم. أمَّا الكلب فإن المعنى البرجماتي للمثل القائل «أَجِع كلبك يتبعك» تعوزه الدقة، وإن كان الكلب أشدَّ حرصًا على صداقة صاحبه. أشير إلى ما كتبه محمد تيمور — قصة له — بأن الإنسان يتَّهم الكلب بالنجاسة لأنه يغار من وفائه.

أذكِّرك بما رويته في «ناس من مصر» عن الكلب الذي رحل عنه صاحبه الفنان التشكيلي العالمي محمود سعيد؛ رفض الكلب أن يترك حجرة الفنان في الطابق الثاني من فيلته برمل الإسكندرية، لإجباره على مغادرة المكان، حتى هدَّد الفنان حسين بيكار بإنهاء عمل لجنة تسلم الفيلا، تمهيدًا لتحويلها إلى متحفٍ برئاسته، وعضوية الناقد التشكيلي كمال الجويلي والفنان عبد المجيد وافي ومحمد جبريل.

ما شاهدتُه في أعين القطط، ألغى تلك المعلومة تمامًا، أضاف إلى ثقتي في صداقة القطط تقافزها فوق إفريز الشرفة عند رؤيتها لي، سبقتها حاسة الشمِّ وأنا أنزل من السيارة بعد عودتي إلى البيت.

نحن نتكلم عن المشاعر الإنسانية؛ الحب والكره والقلق والخوف والإحباط والجرأة والعداء والفرحة والحزن والأسى والقوة والضعف وغيرها من المشاعر التي تحكم تصرفات الإنسان.

حسب ملاحظتي فإن هذه المشاعر تخصُّ الحيوانات كذلك، والقطط منها!

حين تمرُّ بجوار كومة قمامة، فلا بدَّ أنك ستلحظ الخوف الذي يدفع القطط للفرار، والتخلي عن التقاط الطعام. مَن يمتلك شعور الجرأة — ولعلَّها شدَّة الإحساس بالجوع — يواصل نبش القمامة، وإن اتجه بجانب عينه ناحيتك، حتى لا تفاجئه بالأذى!

الطمأنينة هي الإحساس الحقيقي الذي تتبلور فيه كل المشاعر الإيجابية في نفس القط، هي الغاية التي تحتوي تلك المشاعر، هو يتحرك داخل البيت ويُقعي، ويخلو إلى طعامه، ويبحث عن العلاقة الحميمة، ويلاعب الأشياء، أو يلاعب نفسه، وينام. إذا نهرت القطَّ لتصرُّفٍ غير مقبول، وما أكثر تصرفاته غير المقبولة! وربما أخذك الانفعال لفعلٍ ما، فتقذفه بوسادةٍ قريبة، يقفز قبل أن تبلغه، ثم يعود إليك، كأن شيئًا لم يحدث.

يصف صديقي القاص وائل وجدي أوقات المؤانسة بينه وبين قطِّه «أوشا»: «طلة عينيك الذكية تتابعني وأنا منكفئٌ على أوراقي، أو مفاتيح الكمبيوتر بالساعات، تنظر إليَّ ولا تمل، تسمع صوت الطابعة، تقفز من مكانك المفضَّل، تقف أمامها، تناوش الورق بيدك، كأنها كرةٌ تضربها بيدك، وتجري وراءها. أحذِّرك من الاقتراب كي لا تفسد ورق قصتي الجديدة. تبتعد حزينًا، لا تحبُّ أن ألمسك، والاقتراب من جسدك، لكنك تصالحني، تقفز من فوق المكتبة، تقف على كتفي، تشمُّ رأسي، تنزل على ساقي، تتمسح في صدري، تستكين فوقها ما يحلو لك من الوقت.»

في المقابل، فقد يواجه القطُّ تصرُّفًا قاسيًا، بالغضب، وإن اقتصر ردُّ فعله على الاحتماء بأسفل قطعة أثاث.

•••

السويقة التي طالعتنا في صالة الطوارئ بمستشفى رابعة العدوية دفعت صديقي ومرافقي، الكاتب الصحفي عماد الغزالي للاتصال بنقابة الصحفيين، كي تدلَّنا على مستشفًى آخر.

اتجهنا إلى مستشفى دار الشفاء.

***

قدَّم لي نفسه: دكتور محمد حمدي.

استطرد في ود: أعرفك من بيانات المستشفى، ومن والدي!

أفهم أنه قرأ اسمي في استمارة دخول المستشفى. ماذا عن أبيه؟ قال لنظرتي المتسائلة: كلمت أبي عن استضافة المستشفى لك كاتبًا صحفيًّا، فاجأني بأنكما كنتما أصدقاء سنوات إقامتك في مسقط، كان يعرض عليك كتاباته القصصيَّة.

هو إذَن ينتمي، ولو بالبنوة، إلى القبيلة التي أنتمي إليها. لم أسأل عن اسم الأب، ولا عمله المسقطي، ولا ظروف تعارفنا في العاصمة العمانية. أعادني، حالًا، إلى سلطنة عمان؛ مطار السيب، الدوارات، الأفلاج، مسقط التراثية بما وهبتني إياه من الكتابات، الدشداشة، الكمة، المسرة، الثريد، السالونا، الحلوى العمانية، تناهي صوت المطربة الكويتية سعاد عبد العزيز من دكان الهندي محيي الدين الملاصق لدكان «الوطن» (كانت البداية في ذلك الدكان) تغني للملا علي، سداب قرية الصيادين، سوق نور الظلام — لا أعرف سرَّ التسمية — في مطرح، التقليب والفصال والشراء بالسعر الأقل، قول البائع العماني وهو يُهديني بعد الشراء لعبة أطفال: هذه لأنك خالفت المصريين في عدم ميلك للفصال، الرجل الطيب حفيظ الغساني، المستشار الإعلامي للسلطان قابوس، وجلسته بين كتبه وأوراقه واحتياجاته من الطعام والقهوة والشاي، تناول العشاء في مطعم «الشموع» بروي، الشموع المتناثرة فوق الموائد تُضفي على المكان سحرًا، وإن يداخلني الحنين، وأنا أتناول الطعام، إلى ساندوتش فول، أو قرص طعمة، قيادتي السيارة كل صباح إلى مسقط، بصحبتي زينب وأمل ووليد، زينب إلى عملها مُدرسةً في الزهراء للبنات، وأمل ووليد إلى مدرستَيهما، نردِّد أغنية عمار الشريعي: مصر انت حتة مني! سؤالي، وأنا أجلس إلى العلامة الشاعر الشيخ عبد الله الخليلي في مدينته سمائل، من حولنا الأفلاج وخضرة المزروعات والشجر والنخيل: كيف تكون الجنة؟

طالت استعادتي لأيام «الوطن»؛ الجريدة التي امتصت عافيتي، نقل طباعتها من بيروت والكويت إلى مسقط، تحريرها لسنواتٍ بمفردي، تحدِّيًا لنفسي، مغادرتي مسقط بعد أن تحولت إلى جريدة يومية، ترفض القصَّ واللصق، سمة الإصدارات الصحفية العمانية القليلة آنذاك، وتحرص على السبق في موادها، بمعاونة ما يقِلُّ عن العشرة، غالبيتهم كانوا يشغلون وظائف في إدارات الحكومة العمانية، ولا صلة لهم بالصحافة. لكنَّني عرفت، بعد فوات الأوان، أن التحدي أثمر نتائجه السلبية في خضوعي للعديد من العمليات الجراحية، فضلًا عن الأدوية التي ترافق كل لقمةٍ أودِعها فمي.

كانت إقامتي في مسقط قد تحدَّدت باختياري، أجيب عن السؤال: أين نجدك؟ أقول: إمَّا في البيت، أو في الجريدة، أو في الطريق بين البيت والجريدة.

مع أني — أعترف للمرة الأولى — حزينٌ على ما يقرب من السنوات التسع التي قضيتها في سلطنة عمان، أعكف بدأبٍ على تحويل جريدة تصدُر منها بلا تاريخ محدَّد تصدُر فيه ولا محررين ولا إمكانيات تحريرية من أيِّ نوع إلى جريدة يومية هي جريدة الوطن العمانية، فإني أحاول الآن هزَّ رأسي والعودة إلى وعيي الذي يختلف، بصورة مؤكدة، عن وعي أستاذنا الحكيم، وأحاول أن أعود للفنِّ؛ ذلك الصديق الحميم والرائع والمضيء، والذي جفوته بلا مناسبة، اللهم إني قد تعودتُ أن أخلص لكل عملٍ أقبَل القيام به، حتى ولو كان ذلك العمل على غير ما أهوى أو أحب، ما دمتُ قد قَبِلت، فإنه يجب عليَّ أن أتمَّه على أفضل صورة. مع ذلك فقد استطعت، بما يشبه المعجزة، أن أجاوز تلك الظروف الطبيعية، ظروف إصدار جريدة يومية بمجهود فردي تمامًا، وأكتب روايتي «إمام آخر الزمان»، والعديد من القصص القصيرة، فضلًا عن دراسات منوعة في الحياة المصرية.

ظلَّ الحنين إلى مسقط يعاودني، حتى دفعني إلى كتابة رواية «زوينة». لم أرجع إلى رواية «الخليج» — التي سبقتها — للابتعاد عن المواقف المكرَّرة، اعتمدت على العفوية، لا يشغلني ما قد يكون بها من تشابهٍ في الأحداث والشخصيات.

•••

أسلمتُ جسدي للأشعَّة والتحاليل، في بالي ألَّا تأخذني المفاجأة حين يكتشف الطبيب ما يمنع إجراء العملية، أو يعوقها، أو يرجئها؛ متاعب في القلب، أو الرئتين، أو الكبد، أو الكلى، أو قرح فراش. أَلِفت، منذ بدأ تردُّدي على المستشفيات، إطاعة أوامر الأطباء، أخذ الأدوية في مواعيدها، الرضوخ لأوامر المنع. أذكر أن د. رضا عبد التواب، جرَّاح عملية الاثنا عشر، أشار تقريره إلى أن المريض كان مثاليًّا في استجابته لأوامر الأطباء.

الأمر، كما صارحني د. محمد حمدي، يحتاج إلى عمليةٍ جراحية. تراكمات عملية قرحة الاثنا عشر ما يقرب من الأربعين سنة — أستأذنك في أن أهتف بدلًا منك: ياه! — جعلت من إجراء عملية وصل المعدة بالأمعاء ضرورة.

عبر ملاحظتي عن تقدُّم العمر بالقول: لا شأن للعملية بالسن!

دفع جرَّار النافذة، فاقتحم الحجرةَ ضوءُ الصباح.

وعدَّ على أصابع يديه: ستة أيام منذ إجراء العملية، ثم تغادر المستشفى.

ألحَّت أسئلتي على مدى انضباط الموعد. سترافقني زينب، وتخلو الشقَّة إلا من القطط، كتمتُ في داخلي السؤال: كيف تواجه الأيام القادمة؟

كان فيروس «كورونا» Covid-19 قد سيطر على حياتنا بتصاعد الإصابات والوفيات، وقرارات الحظر والعزل والتباعد الاجتماعي.

أول تعرفي إلى المشكلة عندما أُعلن عن تفشِّي الوباء — كان قد ظهر من زمن — في مدينة ووهان الصينية. أُغلقت المدينة، فُرض عليها الحجْر الصحي، توالت أرقام الضحايا ما بين مصابين وموتى، ثبت المؤشر على قناة «العربي»؛ لا أعرف ماذا قدَّمت القنوات الأخرى من مواد، لكن «العربي» تابعت تطورات الوباء في العالم، على امتداد أوقات اليوم.

جسَّدت لي قناة «العربي» مقولة «العالم قريةٌ صغيرة»، كل البرامج اقتصرت على تأثيرات الوباء على العالم، القرية، كيف يحمي الإنسان الفرد حياته من التهديد اللامرئي للقاتل المجهول؟ وكيف تُعِدُّ البشرية نفسها لنتائج خطيرة، تغيب عن توقعاتها، وإن شمل الخطر المرتقب كل أرجاء الدنيا؟

زال إحساس الغربة، صرت مريضًا ينصت إلى تعليمات الأطباء، ويتحمل أخطاء هيئة التمريض، وكم كانت مؤلمة.

•••

صحوتُ في قاعة الإنعاش — اسمها في المستشفى غرفة الوعي — تتناهى من خلف الستائر الفاصلة بين الأَسرَّة، نداءات وأنَّات وصيحات ألم ورائحة الدواء والمطهِّرات. المونيتور ليس جواري كما في إنعاش عين شمس التخصُّصي، جسدي موصولٌ بأسلاكٍ وخراطيم، الأنبوب المتدلِّي من أنفي يتصل ﺑ «درنقة» تستقبل الدم المتبقي من العملية، والأسترا تفرغ ما بالمثانة في كيس البول، وفي أعلى الكتف «سوتش» يسهِّل نقل المحاليل والأدوية إلى داخل الجسم.

استلقيت، للمرة الأولى منذ سنوات، على ظهري. النتوء الذي أحدثته عملية العمود الفقري يدفعني إلى تغيير وضع رُقادي؛ أتمدَّد كالجنين على أحد الجنبَين، ربما المرتبة صحيَّة، ولعلَّها المسكِّنات، فأنا لا أشعر بألم النتوء، أستلقي براحتي على الظهر.

لأن الكلام، الأخذ والرد، طال بين الدكتور محمد حمدي، فقد كان أول أسئلتي بعد عودتي من غرفة الإفاقة إلى سريري في الحجرة ٣٠٣: أين الدكتور محمد حمدي؟!

– في إجازة!

انعكست الإجابة — هذا بديهي — على ملامحي. ما معنى أن يُجري الطبيب عمليةً جراحية، ثم يحصل على إجازة؟

حدَّد لي الطبيب موعد العملية، شرح ما تصوَّر أني فهمته، وإن لم أفهم غالبيته، مفردات طبية لا أمتلك معرفتها ولا الوعي بها، ما اطمأننتُ إليه هو أن العملية أبسط من أن تُخيفني — لم أكُن، صدِّقني، خائفًا، وهو ما أدهش الأطباء في عمليتين سابقتين — وأنها تحتاج إلى رعايته المباشرة، لما يقرب من الأيام السبعة. عدها على يديه، قبل أن أخلي الحجرة لمريضٍ آخر.

أردف الطبيب المناوب، ربما ليزيل ارتباكي: الدكتور حمدي بيته منذ ليلة أمس، فرض على نفسه حظرًا اختياريًّا، بعد وفاة والد زوجته بالكورونا.

لم يعُد الوباء «المستجد» مجرد أطياف تطالعنا بها وسائل الإعلام، لم يعُد مجرد متابعات إخبارية ودردشات، كأنه في موضع لا صلة لنا به من العالم.

أجرى الطبيب عمليته لي، ثم مات صهره في اليوم نفسه، بمعنى أنه خالطه قبل أن يجري بمشرطه في جسدي.

قطع تصوري قول الطبيب المناوب: لا تقلق! الدكتور هاني رئيس القسم سيتولى رعايتك الصحية.

استعدتُ، وأنا ممدَّد على سرير المستشفى، ما كتبته قبل سنواتٍ بعيدة في روايتي التسجيلية «الحياة ثانية»: هذا جسدٌ مثاليٌّ للأطباء، كي يُجروا فيه فحوصهم، ويشيروا بالعلاج؛ ثمة الضغط، والسكر، وحصوات الكلى، وقرحة الاثنا عشر، وحساسية الصدر، وسقوط القدم اليمني، والتأثيرات السلبية لعملية العمود الفقري الفاشلة. إذا لامس المرءَ عارضٌ منها، فإنه يأخذ بالنصائح، وما تلزمه من مراعاة المحاذير، وأهمُّها الابتعاد عن المخالطة.

كما ترى، فإن كل عارضٍ من هذه الأمراض يصلح، في زمن كورونا، رفيقًا للوباء في تقويض مناعة الجسد.

•••

تلاشي الوقت في تواصل الأيام، الضوء يعلو فجأةً بين كل فترةٍ قصيرة وأخرى، يعيد الأطباء فحوصهم، يصلون السماعة بين صدري وظهري وبين آذانهم، ينقرون على ركبتي استهدافًا لنترة ركبتي المتعبة، يكررون الأسئلة، يرفقون كلماتهم المُطَمئنة بتحذيراتٍ من إهمال العلاج، شارك الإهمال في أحيان كثيرة، ما جعل الإقامة مؤلمة، يتقلص الوقت بقياس الممرضات الضغط، والسكر، وتجلط الدم، ودرجة الحرارة، من تحت اللسان، أو من تحت الإبط، يضعن محاليل جديدة، أو يأمرن العمال فيحملون ملاءة السرير من الجانبين، وأنا ممدَّد في وسطها، يُلقون بي على التروللي الطبي، ويتجه بي أحدهم — لا يتغير، كأنه خُصِّص لقيادة التروللي — إلى قاعة الأشعَّة؛ عادية ومقطعية وإكو ورنين. الأسهم أعلى الأبواب، وعلى الجدران، تشير إلى أماكن المستشفى.

أسأل، عقب عودتي، وأنا التقط أنفاسي: أمَا من وقتٍ للنوم؟

تهمس الإجابة المشفقة: طبعًا!

تُوضع صينية الطعام أمامي، ثم تُرفع دون أن ألتفت إليها، استقر في نفسي، بتوالي الأوقات، أن الطعام كاد يغيب عن حياتي، ربما أتذكره، لكنني أنساه، تجمدت ذاكرتي على ما صار ماضيًا.

يُطفَأ النور، وأتهيأ للنوم، يرغمني عليه ضعف ما بعد الجراحة، وكثرة المسكنات، لكن الإضاءة ما تلبث أن تغمر المكان، إيذانًا بفحوص أو خدمات، لا أستطيع أن أناقش تواليها، فالهدف، كما أعلم، رعايتي.

أذكر اعتذار طبيب العظام الشهير يسري الهواري عن ترميم ما أفسدته العملية الفاشلة في عمودي الفقري، فسَّر اعتذاره بأنه يثق في نفسه، لكنه لا يثق في التمريض، هو يحترم علمه وخبراته ومهنته، لكنه قد يعاني عقبات هيئة التمريض؛ الأخطاء والإهمال واللامبالاة، وغيرها مما يُحسب على الطبيب.

في لحظاتٍ لا أذكر وقتها تمامًا، تناسيتُ كل مَن يحيط بي، تناسيتُ حتى العجز والسأم والملل، وأنا أغمض عينيَّ وأفتحهما، أعيد تأمل ما أراه في الظُّلمة، لا ظلمة من حولي، لكن إغماض العينين أعقبه تأمل التكوينات الوامضة، والثابتة. لي قصةٌ اسمها «إغماض العين» عن العوالم التي تختلقها المخيِّلة، فتصنع مشهدًا بانوراميًّا متكاملًا. التكوينات في رؤى المرض تنبض بصور أمكنةٍ ووجوه، لحظات مبهجة وحزينة، سُحُب رقيقة، زهور، حدائق، ارتطام الموج بصخور الشاطئ، خلاءات واسعة، لا وحوش مفترسة كما عودتني الكوابيس، لا زئير، لا عواء، لا نباح، أو استغاثات خوف، ريح تهزُّ سعف النخيل على شاطئ كورنيش الإسكندرية، وجوه الفيوم، جلوة المولد النبوي، مئذنة في نهاية أرضٍ زراعية، وقفة محمد علي بجواده في ميدان المنشية، سجادة مفروشة على إفريز شرفة، مقام وليٍّ مكسو بالخضرة، أقدام حافية عبر نافذة بدروم … اختلاط بقع ودوائر ومربعات ومثلثات وخطوط متوازية ونثارات لا تعني شيئًا، تتباعد، تتداخل في انفراجاتٍ ضيقة، تتلاصق، تصنع ما يشبه اللوحة السوريالية. ليست أحلاما ولا كوابيس، ولا حتى أحلام يقظة.

إذا كانت العملية الجراحية الفاشلة في عمودي الفقري قد قيدت حركتي إلى حدٍّ بعيد، فإن حياتي عمومًا في الاعتكاف، لا تردُّد على الأمكنة، ولا جلوس على المقاهي، ولا إجادة للألعاب الرياضية أو ألعاب التسلية.

من أين يستمدُّ كتاباته؟ كيف يجد ما يشاهده، ويعيشه، ويستفزه للكتابة؟

تلك هي الأسئلة التي شغلت بعض الأصدقاء من مبدعي جيلي، تصوَّروا أنهم على معرفةٍ بتفصيلات حياتي، ما كان، وما هو حادث، وتوقعات المستقبل. حياة تحدَّدت خطواتها بين البيت والجريدة، فضلًا عن مشاوير متباعدةٍ لإنجاز احتياجاتٍ أُسرية أو شخصية.

ظني أن فصول كتابي «أيامي القاهرية» — الفصل الأول تحديدًا — ستبدل ما ثبته الأصدقاء في أذهانهم.

•••

المفردات التي صارت جزءًا من مألوف حياتي؛ السماعات، القفازات، الفوط، الغيار، أوعية فحص الدم والبول. أدوات البتر والمناشير والإبر والملاقيط. من حولي، المعاطف الخفيفة — كان الوقت صيفًا — بتعدُّد ألوانها. عرفت أن للأطباء لونًا هو الأبيض، ولقيادات التمريض والممرضات والعاملين ألوانًا أخرى زرقاء وخضراء ولبني.

ضبطت نفسي، والتمورجي يدفع التروللي في الطرقات ما بين حجرتي وأقسام الأشعَّة والتحاليل والغيارات، أبحث عن قططٍ من التي تعكس إهمال المستشفيات: هل غيابها الآني يعني غيابها عن المستشفى؟ ولماذا تلك الصورة الثابتة؟!

أعرف اقتراب الفجر من شدَّة الظُّلمة خارج النافذة، ومن صياح الديكة، وأهازيج السَّحَر التي تسبق أذان الفجر، وكان موعده وقتها حوالي الرابعة صباحًا. تضيف النسمات الباردة، المتسللة من الستارة المواربة، إلى إحساسي بوقت ما قبل الفجر، أرقب تسلُّل ضوء النهار خافتًا من انفراجة الستارة.

إذا فتحت النافذة المُطلَّة على الفراغ، لتجدِّد هواء الغرفة، فإن الجلبة تترامى من الطريق. أعرف، وإن لم تُتَح لي المشاهدة، أن الحياة تشغي في أسفل. جلبة الطريق يعمِّقها نداءات الباعة ونباح الكلاب. إذا حلَّ موعد الحظر، فإن الشوارع تخلو من المارَّة، والدكاكين والقهاوي تغلق أبوابها، كما لو أن عاصفةً كنست كل شيء. ٥٣٪ من العاملين في مصر خُفضت أيام عملهم، وسُمح لهم بالعمل من البيوت.

نظرتُ إلى ساعتي؛ الخامسة وعشر دقائق. تختلف عن الظُّلمة في الخارج، وعن موعد برنامج «بتوقيت مصر» الذي تقدِّمه قناة «العربي» في الحادية عشرة مساء كل يوم.

أعدتُ ضبط الساعة، وأعدت النظر، تحرك عقرب الثواني قليلًا، وتوقَّف. قبل عشر سنواتٍ دفعت ثمانمائة وخمسين جنيهًا، ثمنًا لصيانة الساعة، ما المبلغ الذي سأدفعه، مع تغير الظروف، لمعاودة الصيانة؟!

المكان قائم، لكن الزمان يتحرك، فلا أستطيع معرفة الوقت. داعبتني الممرضة الظريفة بالقول: الثانية والنصف.

وأشير هنا إلى ملاحظةٍ هامشية؛ لأن قسم الطوارئ في مستشفى رابعة العدوية بدا سويقةً صاخبة الجلبة، فقد فضَّلتُ التوجه إلى دار الشفاء، لكنني تبينت، اليوم التالي لإجراء العملية، أن دار الشفاء كلها سوق بامتياز.

عدا الأطباء الذين لزموا حجرتهم، أو حجراتهم، في مواضع خفيَّة، يقصرون تردُّدهم على المرضى في زيارات سريعة، فقد تبارى العاملون — في ظلِّ غياب طبيبي المعالج لظروف قدَّرتُها، وحدثتُك عنها، وقِلَّة زيارات الأطباء عمومًا — في إظهار ما لم أرَه في المستشفيات التي استضافتني قبلًا، تصرفات يعقبها كلمات معتذرة، ونكات سخيفة تتوقع ردَّ فعلٍ معجبًا من مريضٍ يعاني، وابتزاز سخيف، خشيت معه مجرد السؤال أو الشكوى، لأن انتظار المقابل قائمٌ في كل حين.

ذات مساء، علت دقات قلبي بما لم أعهده، واقتحمتني برودة، وعانت الأطراف رعشة، وتفصَّد العرق، وغامت الرؤية.

هتفت بعفوية: أنا بردان!

تبادلت الممرضات نظرات القلق، ثم امتدَّت يد إحداهن إلى المحلول، أعلى السرير، وحركت المفتاح: نسيت ضبط المحلول!

عرفت أن المحلول «أتروبين»، يتحدَّد استخدامه في قطراتٍ متباعدة، حتى لا تحدث زيادة في ضربات القلب. عرفت كذلك، متأخرًا، ويعرف الأطباء أن استمرار ما حدث يمثل خطرًا بالغًا على القلب.

أضفت إلى سلبيات المعاناة حين اقتحمت حجرتي مسئولةٌ قدَّمت نفسها بأنها رئيسة الممرضات، وسألت عن «ترمس» ممتلئ بالماء الساخن. أين اختفى؟

رفضت المسئولة إجابة زينب النافية: إذَن نفتش الدولاب.

فتشت الدولاب بالفعل، وانتهى نأبها على شونة!

وضعت ما حدث في إطار الاتهامات التي يتبادلها العاملون في المستشفى، أول ما استمعت إليه، والممرض يقلني في المصعد على الكرسي الطبي المتحرك إلى الحجرة ٣٠٣، قرار من مدير المستشفى بخصم مائتي جنيه من كل العاملين، عقابًا جماعيًّا لاختفاء «ترمومتر». وتسليت، في الأيام التالية، بسماع ما اعتبرته ظاهرةً سلبيةً قد تنشأ بين العاملين في مؤسسةٍ واحدة.

ما عمَّق حزني أن المسئولين في مستشفيات القوات المسلحة بالمعادي رحَّبوا باستضافتي إلى ما بعد فترة النقاهة، لكن العملية كان قد تحدَّد اليوم التالي لإجرائها، وسبقتها فحوص وأشعَّات وتحاليل، فلا بدَّ إذَن من دورةٍ أخرى، زائد سبب وجداني، هو صلة الصداقة التي تصورتها بين الطبيب الجرَّاح وبيني. ألم يَعِدني بالتحدث، عقب إجراء العملية، عن أيامي المسقطية؟!

لكن هذه، كما قلت، ملاحظة هامشية.

•••

أعددنا الحقيبة الصغيرة والكيس البلاستيك، استعدادًا لمغادرة المستشفى. ما يقرب من الأسابيع الثلاثة ابتعدت فيها عن البيت. نصحني الطبيب برياضة المشي، وتمرينات الثني والمد، والتدليك، والجاكوزي، والدراجة الطبية. النصائح التي تكرر سماعي لها من أطباء آخرين.

تخيَّلت وأنا أخطو، بمساندة زينب والعكاز الحديدي خارج المستشفى، صورة حميدو وأُسرته، ينفون ما قد أتوقعه من التأثيرات السلبية للوباء.

برغم التخوفات من أن تكون الحيوانات البيتيَّة، وفيها القطط طبعًا، ناقلة لفيروس الكورونا، فقد حدثني الدكتور محمد حمدي عن البيتيَّة: لولاها ما حاولت السيدة زوجته نفض الحزن الذي عانته بموت والدها في محنة الوباء. وتابعت، في القنوات الفضائية، نفي أطباء وعلماء أن ينتقل الفيروس بواسطة الحيوانات البيتيَّة.

لأن مناعتي، بعد العملية وتقدُّم سني، ورفقتي للأمراض المزمنة كحساسية الصدر، زادت من احتمال إصابتي بالوباء، فقد أعلنتُ التضامن بيني وبين نفسي مع لافتات القطط، وتطمينات الأطباء والعلماء.

أزمعت، قبل أن أغادر المستشفى، أن أشاهد الطريق التي صادقتني طيلة إقامتي في الحجرتين ۳۰۳ و۳۲۰، لكنني تبينتُ أنه لا بدَّ أن أدلي برأسي من النافذة المغلقة بالأسلاك الشائكة، كي أرى الطريق في أسفل.

لم يكُن يظهر من النوافذ المتقاربة إلا السماء والأسطح ومناشر الغسيل وأطباق القنوات الفضائية. تمنيتُ أن أشاهد الشوارع والحواري والأزقة والنداءات والتعليقات والأغنيات والشتائم، أتعرَّف إلى مَن أحاطوني، رغم الابتعاد، بالمؤانسة … لكن الظروف الغريبة التي أرجأت مغادرتي إلى اليوم التالي — ليس هنا أوان الكلام فيها — اختصرت اللحظات الأخيرة، تحدَّد الهدف في الانتقال إلى البيت.

***

رنوتُ عقب نزولي من السيارة إلى البلكونة، تقافزت القطط فوق الإفريز، تخلَّلت أعمدته الحديدية، اتجهت بأعينها ناحيتي، قال مروان البواب في تأثر: تصورت أنها ستنطق ترحيبًا بقدومك!

فسَّرت احتكاك حميدو، ثم أبنائه فيما بعد، بزينب، عقب عودتها إلى البيت، أو وهي تجلس، أو تتحرك، أن القطط تحاول التعبير عن امتنانها، زينب ترعاها، تقدِّم لها الطعام، تزيل مخلَّفاتها، تصحبها إلى المركز الطبي، تعرِّض نفسها للخربشة التي لا تعي. أبلغتني المعلومة أن ما أراه يحدث في عائلات القطط، تحكُّ الصغار أجسامها في الأمهات، والإناث في الذكور، والقطط الأقلُّ حجمًا في القطط الأكبر حجمًا، لكن العكس ليس نادرًا كما تقول المعلومة، حرص القطط، كما ألاحظه، على تأكيد ودِّها، بلا اعتبارٍ لفوارق عمرية أو جنسية، يبين في احتكاك القطِّ بمَن يرعاه، ولَعْقه أجسام القطط الأخرى، وبخاصة منطقة الأذنين.

هي إذَن تحبُّني مثلما أحببتها. اختلطت مشاعري، تشابكت، استقرَّت على الحب والشوق، واللهفة على لقائها.

استعدتُ تلك اللحظات، وأنا أقرأ في جريدة صباحية عن مجموعة من الأطباء، أزمعوا التحدث نيابةً عن الحيوانات البيتيَّة التي لا تستطيع التعبير عن مشاعرها، بعد انتشار فيروس كورونا. تبنَّى الأطباء مبادرةً لتوعية الناس بأن الحيوان لا ينقل الفيروس إلى البشر، وأكدت مضمونَها معلوماتٌ من منظمة الصحة العالمية، ومنظمة صحة الحيوان، تذهب إلى المعنى نفسه. أشارت المبادرة إلى تخلِّي الكثيرين عن حيواناتهم بتركها أمام العيادات البيطرية، أو إلقائها في الطريق.

كم تأثرت للعبارات التي كُتبت على لافتاتٍ تستهدف التعاطف والمساندة: «أنا مش بانقل فيروس كورونا. أرجوك ما تخافش مني. أنا بحبك … ما ترمنيش في الشارع!»

أول ما أخذني، عقب انفراجة الباب، مواء القطط إلى حدِّ الصراخ، امتصها الهُزال بما لم أتركها فيه، كأنه مضى زمنٌ على آخر طعامٍ لها.

عانت زينب في المواءمة بين مرافقتي في المستشفى، والتردُّد على البيت لإطعام القطط، تخرج في أولى لحظات رفع الحظر، التاكسي الذي يقلُّها إلى البيت هو الذي يعيدها إلى المستشفى لتلقِّي أوامر الأطباء، ورعايتي.

نفت تصرفات القطط ما كنت أعرفه — لا أذكر بالشفاهة أم بالقراءة — أن القطَّ لا يشبع، الشبع لا يوجد في غرائزه، هو يأكل إن وجد الطعام أمامه، إذا لم يرُق له الطعام فإنه يشيح عنه ويبتعد، لكنه يُقبِل على ما يحبُّه بشهيةٍ لا تعرف الانتهاء، وربما يواصل ملء بطنه حتى يتقيأ، من هنا ربما جاء المثل عن القطط التي تأكل وتنكر.

ما لاحظته في تناول أُسرة حميدو طعامها، أن الشعور بالامتلاء دافعٌ لترك الطعام، يأخذ القطُّ جانبًا، يلعق شفتَيه، ثم يجري بلسانه على أجزاء من جسده، ثم يغالبه النوم، ذلك ما يحدث عقب تناول الطعام، فيتجه إلى الموضع الذي يختاره، وينام، لا يسبق النومَ تهيؤٌ ما، وإن كان تناول الطعام هو الباب السحري إلى النوم … العادة أن القطَّ ينام عقب تناول الطعام. تأكل القطط، تتناثر في أرجاء الشقَّة، يختار كلٌّ منها لنفسه موضعًا، وينام. أذهلني أن فريكيكو استغرق في النوم إلى جانب الوعاء فور انتهائه من تناول الطعام.

تنازلنا عن معظم طعامنا في المستشفى، عن طيب خاطر، للقطط الثماني، بالإضافة إلى ما كانت تشتريه زينب في طريقها إلى البيت من «الدراي» — طعام القطط — فلماذا طالعتنا بهذه الأجسام الهزيلة؟

الإجابة التي تصورتها أن زينب كانت تضع أمام القطط ما تحمله من طعام، إلى جانب وعاء ماء الشرب. يُقبِلون عليه حتى الشبع، أو يعودون إليه في أوقاتٍ متقاربة حتى ينفد، لا طعام إذَن حتى اليوم التالي، بل إن ظروف الإقامة في المستشفى جاوزَت اليوم — كم حزنت — إلى يومين. وأمضى القطط بقية الوقت جوعى.

هذا هو إذَن سرُّ الهزال.

الإنسان حدَّد لنفسه، من خلال موروثٍ قديم، أوقات تناول الطعام؛ هي في الأغلب ثلاث وجبات. ما لم تفرض نظرية بافلوف شرطها، فإن مواعيد تناول الطعام تغيب عن أُسرة حميدو.

لم تُشر سحر عبد الله إلى عدد وجبات حميدو، تحدثت عائشة المراغي عن الرعاية التي توليها أمُّها لقطط البيت، تركت زينب الأمر للفوضى، يشاركوننا وجباتنا، فإنْ قرصهم الجوع اتجهوا إلى المطبخ.

مفردات حياة القطط تقتصر، كما رويت لك، على الطعام والجنس والنوم والحرية والميل إلى اللعب، لا تجاوزها بما يضيف إلى الحياة، أو يطورها، عدا ما يذهب إليه العلماء من تحول حيوانات متوحشةٍ إلى مستأنسة، كالحصان والقطِّ والكلب، حتى الحيوانات المفترسة لم تعُد حياتها مقتصرةً داخل حدائق الحيوان، أو السيرك، ثمة أُسرٌ تُعنَى بتربيتها، فإن طبائع الحيوان وسلوكياته، على حالها منذ نشأة المخلوقات، المفردات نفسها قوام حياة الحيوان البيتيِّ منذ الميلاد إلى الموت.

كما نعلم، فتلك ليست هي حياة الإنسان، ليست الطريق التي اختار السير فيها منذ هبط آدم وحواء إلى الأرض، شغل الإنسان بالعمران، انتقل من حياة الكهوف إلى عصر الحجارة، فعصر النار، إلى عصر البخار، فعصرنا الحالي المزدحم بثورات معرفية وتكنولوجية وإنجازات تضع الجدَّ سقراط، لو أنه عاش زماننا، في موضع الجاهل.

من الهوامش الحضارية، أو المدنية، التي تعلَّمها القطُّ عبر التاريخ: ماذا يأكل، مواعيد تناول الطعام (أذكِّرك بنظرية بافلوف)، أين يقضي حاجته. كل ما يمثل هوامش، تحققت برعاية البشر، وتوجيهاتهم.

في بالي ما لم أكُن أودُّ أن أتحدث عنه، لكنه ناوش ذاكرتي في سيرة القطط؛ عندما كان فدائيُّو القناة، قبل ثورة يوليو، يحيطون جسم قطٍّ بقماش مغموس في البنزين، ويشعلون فيه النار، ويطلقونه داخل معسكرات الإنجليز لينشر الحرائق والدمار.

دفعت القطط ثمن مقاومتنا للوجود الاحتلالي.

أرفض زعم التعبير المتشنِّج عن الإسهام الوطني للقطة المسكينة، فلا شأن لها بالنضال والمقاومة وطلب التحرر، ذلك شأن الإنسان الذي يعي مشكلاته وقضاياه، يبذل النفس دفاعًا عن اكتمال حريته وقوته وإرادته.

لعلِّي، بالمناسبة، أستعيد الجثة المتخشبة لقطٍّ فوق أغصان شجرة، أصابته دانة مدفع في حرب ۱۹۷۳م، فقذفته أعلى الشجرة.

***

وُصف أبو العلاء المعري بأنه رهين المحبسَين؛ حبس فقْد البصر، وحبس العزلة التي اختارها لنفسه.

كما أرى، فقد خضعتُ لحبسٍ مطلق، أبعاده المرض، وحبُّ العزلة، ومحدودية علاقاتي الاجتماعية.

الكورونا سجنٌ جديدٌ فرضته ظروف الوباء، أحرص على الابتعاد، لا أغادر البيت ولا أستقبل أحدًا، وأمتنع عن المصافحة، وأُحاذر لمس الأشياء.

ثم لم أعُد وحدي حبيس البيت، ثمة ملايين ألزموا أنفسهم، أو ألزمهم الخوف من الوباء، بالبقاء في البيوت، يحاولون التكيُّف بالقراءة، والسماع، والمشاهدة، وعزف الموسيقى في الشرفات، وإطلاق الطائرات الورقية من فوق الأسطح.

اختار البعض العزلة عن الجماعة، لا لخوفٍ من انتقال الفيروس إليه، وإنما لخوفٍ من أن يكون هو سببًا في انتقال الفيروس إلى الآخرين، ورُويت حكاياتٌ عن هجرة أبناء دول الشمال إلى أفريقيا، فرارًا من Covid-19، ثم ثبت خطأ تلك النظرة حين بدأت دول أفريقيا في إعلان أعداد المصابين والموتى — بتأثير الوباء — من أبنائها. وأعلن العلماء أن الفيروس لا يفرق بين الجوِّ الحار والجوِّ البارد، تأثيره يمتدُّ في فصول السنة.

جاوز الابتعاد معناه، صار انفصالًا، عزل كل شخصٍ نفسه في بيته، لا يزور ولا يُزار، التليفزيون هو الصلة الوحيدة بينه وبين الدنيا من حوله، ودخلت أُسرٌ بأكملها الحجر الصحي.

الوباء لا يحاصر فردًا ولا جماعات، لكنه يحاصر كل البلدان، كل الدنيا، أنفاسه قريبة، وتأثيراته قائمةٌ في حياتنا، وإن كانت ملامحه مخفيَّة، لأنه لا يُرى.

شمل الخطر الجميع، لم يفرق بين ثري وفقير، ذي مكانة ومفتقدها، دول متقدمة وأخرى نامية. عمَّق الحظر ما شابَ التصرفات من ارتباك، أنت تعرف قدرات السلاح الذي يملكه عدوك، فتصنع سلاحًا مضادًّا، كورونا سلاحٌ فتَّاك، ومدمِّر، لكنه غير مرئي، لا نعرف إلا تأثيراته القاتلة، تعدَّدت الاجتهادات والاستنتاجات، ووسائل القضاء على الفيروس، لكنها لم تجاوز دائرة التمني.

ساوى الفيروس، كالموت تمامًا، بين الناس. قرأنا عن حصد المرض، بالإصابات والموت، لأسماء أَلِفنا متابعة أنشطتها في وسائل الإعلام.

لا أذكر أمثلة، فهي كثيرة.

الانغلاق، والتباعد الاجتماعي، بل والابتعاد بين الدول بعضها البعض، السمات التي اختلف بها تعامل العالم ضدَّ الوباء. ولعلَّك لاحظت أن التباعد جاوز الأفراد والأُسر المتجاورة إلى القرى والمدن والبلاد. المثل الأوضح توقُّف شركات الطيران، وشركات الملاحة البحرية، فضلًا عن القطارات، ووسائل النقل العام، والحدود البرية.

صار العالم كله حجْرًا صحيًّا.

في «مقصدي البوح لا الشكوى» و«ما بقي من العمر» تمنيتُ أن يُتاح لي النزول إلى الطريق، أتردَّد على الأماكن التي أحبُّها. بدَّل الكورونا حالي، صرت حريصًا على عدم مغادرة البيت، على العزلة التي فرضها الخوف من العدوى، حذَّرني الدكتور محمد حمدي من أن مناعتي، عقب العملية، لا تعلو عن الصفر، تكفي ملامسة خفيفة من المرض لبشرتي فأصبح في عالمٍ آخر.

سحبت من مكتبتي رواية ألبير كامي «الطاعون»، أعدت قراءتها للمرة الثالثة.

أزمة وباء كورونا الذي يقاسمنا الآن حياتنا، دفعتني ربما لاستدعاء أحداثٍ مماثلة، أو مشابهة.

كما يقول كامي؛ فقد أراد ألَّا ينسى أهل وهران من الفرنسيين الفترة الصعبة التي جعلتهم يواجهون عبثية الوجود، وهشاشة الحالة الإنسانية، وجدتُ تشابهًا بين التأثيرات الاجتماعية لوباء الطاعون في وهران الجزائرية، وتأثيرات وباء كورونا في العالم الذي تحول، في زماننا، إلى قرية صغيرة.

رواية كامي عن فترة الطاعون التي عاشتها المدينة الجزائرية وهران في النصف الأول من القرن الماضي، كيف أحكَم الإنسان حصار نفسه حتى لا يختطفه الوباء، وموقف الشخصيات من هذا العالم، عبر التصدِّي لخطرٍ وجوديٍّ يتهدَّده، يبين في لغة سردية بسيطة، عن مواقف بالغة التعقيد، وتعبِّر عن معاناة البشر في هذا العالم.

مع تفوق الرواية الفني اللافت، وتعبيرها عن وجهة نظر، أو فلسفة حياة متقدمة، فإنها تذكِّرنا، على نحو آخر، برواية لورنس داريل «رباعية الإسكندرية» من حيث تجاوُزها الواقعَ بكل خصائصه ومفرداته، واختلاق واقع جديد ينتسب إلى مخيِّلةٍ مريضة، وليس إلى المكان السكندري.

القارئ يطوي «الطاعون» بعد قراءتها، دون أن يطالعه اسم عربي واحد. وهران، المدينة الجزائرية، ليست في قلم كامي أكثر من مقاطعةٍ فرنسيةٍ على الشاطئ الجزائري. كل الأسماء فرنسية، الشخصيات والأمكنة والصحف والذكريات، حتى الأحداث تُنسب إلى التاريخ الفرنسي.

أعرف أن كامي، الذي كانت روايته عاملًا مهمًّا في حصوله على جائزة نوبل، وُلد في وهران لأُسرة من المستوطنين الفرنسيين، وبرغم شعاراته المعلنة بحقِّ الإنسان في الحرية والعدالة والفرص المتكافئة، فإنه كان من غُلاة الرافضين لاستقلال الجزائر، متناسيًا أن الدفاع عن قضيةٍ ما، حتى لو كانت خاسرة — وهو ما ثبت بعد أن انتزع أبناء الجزائر حرية بلادهم — لا يُملي على الكاتب تزييف الحقائق.

إذا كنا نعرض لوقائع التاريخ باعتبار أن الواقعة مقدَّسة، والرأي حُر، فإن وهران كانت وظلَّت جزائرية عربية، فمن غير المقبول أن نسمها بغير ما هي عليه.

وسم وهران بالفرنسية أشبه بتجاهل هويَّة مواطني باريس، أو أيِّ مدينة فرنسية أخرى، وإلباسها ثوبًا عربيًّا.

هل مما يحتمله الفنُّ أن تصبح دمنهور، على سبيل المثال، مدينة فرنسية أو إنجليزية؟ هل أتحدث عن المدينة المصرية بالمغايرة لناسها وأصلها وتاريخها؟!

لا يخلو من مفارقةٍ أن الفدائي في مسرحية كامي «العادلون» عدل، بنظرة طفلٍ بريئة، عن تنفيذ العملية التي تهيَّأ لها، بينما قتل بطل روايته «الغريب»، بحسٍّ بارد، رجلًا عربيًّا، لم يفعل شيئًا إلا لأن الراوي أراد العبث!

إذا تجاوزنا هذه الملاحظة الهامشية، فإننا نجد تشابهًا بين التأثيرات الاجتماعية لوباء الطاعون في وهران الجزائرية، وتأثيرات وباء كورونا العالم الذي تحول، في زماننا، إلى قريةٍ صغيرة.

أنصت هاتفيًّا إلى المقارنات بين وباء كورونا والأوبئة التي سبقته عبر آلاف السنين، إلى نصائح الأصدقاء الأطباء، عادل وديع، فلسطين، وشريف عابدين وحاتم رضوان ورضا صالح وهشام قاسم وأشرف خليل (وهو ليس صديقي القاصَّ أشرف خليل)، بتناول الأطعمة ذات القيمة الغذائية العالية، كالخضروات الطازجة، والفلفل بخاصة، والفاكهة بأنواعها مثل الجوافة والكيوي، لاحتوائها على الفيتامينات ومضادات الأكسدة والألياف والأملاح المعدنية، شملت النصائح كذلك — للحصول على الزنك — أهمية تناول اللب الأبيض والفول السوداني. أنصت كذلك إلى اقتراحات بأدوية تصلُح لعلاج الأمراض التي أَلِفناها، كالإنفلونزا والزكام والحساسية. تداخلت المعلومات الصحيحة والمعلومات المغلوطة، وأشار أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى فوضى المعلومات جرَّاء العلاجات المضلِّلة التي تساعد على انتشارها وسائل الاتصال الاجتماعي.

تابعتُ، أمام شاشة التليفزيون، عمليات فرض الحظر؛ الشوارع الخالية، المحال المغلقة، الدوريات المتحركة والكمائن. العالم كله يخوض حربًا ضدَّ عدوٍّ لا يُرى، لم يختر اسمه، ولا وصف نفسه بالوباء، ذلك قول البشر، تسمية باسم كورونا، وثانية باسم Covid-19، واتسع المدى فهي وباء. مَن اتسمت رؤاهم وتصرفاتهم باللامبالاة والاستهانة، راجعوا أنفسهم، بدت الأزمة أقسى من أن نتجاهلها.

أشار العلماء إلى أن ما بين ٥٠ إلى ٦٠٪ من سكان العالم يجب أن يكونوا محصنين ضدَّ الفيروس التاجي، وأن الأمل في مقاومة الوباء يتحقق بوصول العالم إلى ما سُمِّي ثقافة القطيع، أيْ أن تكون لنسبة المحصنين تأثيرها الإيجابي في دحر الوباء.

زارني صديقي المحامي الشاب، أقبَلَ بالعادة المصرية التي لا أحبُّها، وهي الدنوُّ مني، وتبادل القُبلات، أبعدته بيدي مترفقًا، فلا مناعة عندي، حذَّرني الأطباء من أنها لا تعلو عن الصفر.

شرحتُ له ظروفي، فذوت ملامح الدهشة في ملامحه. هو، كما صارحني، لا يقرأ الصحف، ولا يتابع وسائل الإعلام، ولا يخوض مناقشاتٍ تبعُد عن مجال عمله.

قال في لهجة معتذرة: أنا بعيدٌ عن ذلك كله!

صديقي المحامي الشابُّ مثلٌ لمَن انطَوَوا على أنفسهم، فتقطَّعت صلتهم بالمجتمع.

ناس وهران اعتبروا الوباء مجرد حلم، أو كابوس، سيزول بالصحو من أذهانهم، لكن نسبة هائلة من المصريين واجهوا أخبار تفاقم الوباء بلا مبالاة، تكلَّموا عنه كشأنٍ يخصُّ الآخرين.

في ذاكرتي نكتةٌ فرنسيةٌ قديمة، عن رجُلين سقطا من شرفة، أمسك أحدهما بالإفريز الحديدي، وأمسك الثاني بساق الأول. صار الخطر مشتركًا، وعليهما مواجهته، لكن الثاني اكتفى بالنظر إلى نعل حذاء الأول، ونصحه: بعد نجاتنا، احرص على وضع نعلٍ جديدٍ لحذائك.

أحزنه تهرُّؤ الحذاء!

دارت مناقشاتٌ حول الفرق بين تعامل كلٍّ من الدول الديمقراطية والدكتاتورية مع أزمة الوباء. غاب حجم الكارثة عن أذهان أبناء الدول الديمقراطية وتصرفاتهم، فزادت الإصابات، والوفيات بالتالي، بين مواطني فرنسا وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة. اختلطوا في الأسواق والأماكن العامة، تردَّدوا على دُور السينما والمسارح والمعاهد الدراسية والأندية.

ومع أن الصين كانت أول ظهور للوباء، فقد أفلح نظامها في تقليص الخطر؛ فرضت مركزية الدولة إرادتها على ما يقارب المليار ونصف المليار نسمة، فخضع كل المواطنين لتعليمات الدولة من حيث الوقاية، والإبلاغ عن حالات الاشتباه، والرضوخ للتحذيرات والتعليمات.

لم يعبأ الكثيرون حتى بتهديدات الغرامة الباهظة لمَن رفض الكمامة والقفاز؛ ألزمت الحكومة المواطنين بارتداء الكمامة، خاصةً في الأماكن العامة، ووسائل النقل الجماعي، مَن يهمل يواجه عقوبة غرامة تصل إلى أربعة آلاف جنيه، معظم مواطنينا قرءوا التعليمات، أقرُّوها، لكنهم تجاهلوا ما ينبغي اتخاذه؛ غسْل الأيدي بالصابون، عدم المصافحة بالأيدي، عدم ملامسة أسطح الأشياء، قائمة طويلة من المحظورات، تلوكها الألسن، تستعيدها، تجد فيها خلاصًا من الأزمة، لكنها تظلُّ في إطار النيَّات الطيبة، يغيب في تصرفاتهم ما يعكس القلق، أو التوتر، أو الخوف، لا أحد يفكر في أنه مُعرَّضٌ للإصابة بالفيروس.

بدت الدعوة إلى التباعد بلا معنًى في زحام الناس على مكاتب الشهر العقاري، والتأمين الصحي، والمعاشات، والمراكز الطبية، للحصول على ما يقيهم شرَّ الوباء، الآلاف تلاصقوا، واختلطت أنفاسهم، وعلا سعالهم، ونقل العديد من القنوات الفضائية مشاهد تثبت عبثية الدعوة إلى التباعد؛ زحام الأسواق، التكاثف البشري أمام لجان الامتحانات، تدافُع ركَّاب مترو الأنفاق … إلخ.

ولاحظ أطباء الصحة العالمية نشوء مشكلةٍ أخرى، باعثُها إهمال الأُسر تعاطي اللقاحات التي تعالج أمراضًا أخرى، مثل الخناق والكزاز والسعال الديكي والتهاب الكبد B والالتهاب الرئوي والالتهاب السحائي والحصبة والحمَّى الصفراء، وطالب الأطباء الالتزام بالإجراءات الوقائية التي تقلِّل فرص الإصابة بكوفيد ١٩، في تزامنٍ مع الحصول على لقاحات ضدَّ الأمراض التي شُغلوا عنها بالوباء المتجدد.

•••

مع تعدُّد الأمراض التي عاناها جسدي، ولا يزال، فإني أعترف؛ ظللت خالي البال من كورونا، أقرأ عنها، أسمع عن تأثيراتها القاتلة، أنظر في داخلي إلى انعكاسات ما يحدث من حولي، فألقى الحيرة.

اختلطت الذاكرة، لم تتوقف عند أسماء محدَّدة، كثر الراحلون، فصعب تذكُّر العلاقة بين المرء وكلٍّ منهم، سواءً على المستوى الشخصي، أو على المستوى العام؛ الملامح الجسدية، الآراء، المواقف، الجلسات المشتركة، المتابعة، الإعجاب أو الرفض.

عندما اختطف الموت أشخاصًا معروفين لنا، أقارب أو أصدقاء أو جيران، أو لأنهم في مواقع المسئولية، أو يحظون بالشهرة، فإن تلقِّي أنباء الإصابات والوفيات لم يعُد بمثل البساطة التي كان عليها، لم يعُد تلقِّينا تلك الأنباء كأنها تخصُّ ناسًا آخرين، كأنها تقتصر على الحكايات المؤثرة والحزينة، التي يعانيها مَن يواجهون مصيرًا مختلفًا.

أدرك الجميع أن عدوى الوباء، مهما تعاظمت الاحتياطات، سيتسع انتشارها، مَن انعزل عن العالم، عليه أن يدبِّر وسائل قضاء احتياجاته، دون أن يلجأ، إلا في حالات الضرورة، ووفق قواعد الحظر، للآخرين.

تدبيرات الوقاية في البيانات الرسمية تعني حماية المواطنين، فلا يداخلهم القلق أو الارتباك. تنفيذها، بلا تقاعسٍ أو إهمال، يكفل إيقاف الوباء، والقضاء عليه بالتالي.

رضيت آراءٌ بالتدابير الوقائية، وذهبت آراءٌ إلى أنها ليست حازمة، وأن التخوف من انعكاس القلق أو الخوف على النفس، قد يؤدي إلى نتائج خطيرة، فمن المهمِّ إلغاؤها، إنها توقف الحال. لم يذهب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وحده، في ذلك الاتجاه. أيَّده الكثيرون ممَّن خشوا على تأثر أنشطتهم الاقتصادية الهائلة، ومَن يعيشون رزق يومٍ بيوم، فلن يجدوا ثمن الوجبة التالية.

تسبَّبت الأزمة الصحية — والقول لروبرتو زيفيدو مدير عام منظمة التجارة العالمية — في إحداث صدمةٍ كبيرة، ومتواصلة للاقتصاد العالمي، توقع الباحثون الاقتصاديون أن يعاني العالم انخفاضًا كبيرًا في الصادرات والواردات، كما تتأثر تجارة الخدمات بشكلٍ أكبر، نتيجة القيود المفروضة على حركة النقل والسفر وانعدام أنشطة الفنادق وإغلاق مؤسسات السياحة والبيع بالتجزئة. أضاف زيفيدو أن «استمرار انعدام اليقين بشأن الاقتصاد فترةً طويلة، سيؤدي إلى لجوء المستهلكين والمستثمرين إلى خفض الإنفاق، وهو ما سيؤدي بدوره إلى إعاقة النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل» (الأهرام ١٦ / ٧ / ۲۰۲٠م).

ركب الرئيس الأمريكي رأسه — على حدِّ التعبير الشائع — ورفض أن يرتدي الكمامة «الفيروس سيختفي، ويتلاشى، وسأكون على صواب في النهاية.»

طبيعة ترامب المندفعة التي تطلب النتيجة، دون تقيُّد بالوسائل، دفعته إلى تغليب رفع الحظر على تطبيقه، فعل الكثير ليتعافى الاقتصاد الأمريكي ويزدهر، فهل تعود بلاده إلى نقطة الصفر؟ هل يسلبها كورونا ما صنعته إدارته لتقوية الاقتصاد؛ تشغيل الأيدي العاملة، التنمية، زيادة الصادرات، تنويع الموارد، الاستدانة … إلخ.

لم يكُن الاقتصاد وحده شاغل الرئيس الأمريكي، كانت مطرقة الوباء وسندان الاقتصاد، أو العكس، تمثل إلحاحًا يصعُب إغفاله أو التهوين من خطورته. وجد ترامب أن تهاوي الاقتصاد الأمريكي مماثل، بالقدْر نفسه، لتأثيرات الوباء. ربما أتاحت الوقاية، والبحث عن لقاح، درء أخطار كورونا. أمَّا الاقتصاد فإن تهاويه يعني تهاوي المجتمع كله.

شمل الدمار اقتصاديات الكثير من الدول، وبلغت الخسائر أرقامًا هائلة، تتصاعد باستمرار التأثيرات السلبية للوباء. ولم تعُد الخسائر وقفًا على الجانب الصحي، ما يتصل بالفيروس والبرء منه وتشييع ضحاياه، بل امتدَّت إلى كل جوانب النشاط الإنساني.

العدوُّ واحد.

بديهيٌّ أن نواجهه بإرادةٍ مشتركة، لكن الضعف الإنساني فرض نفسه، كما حدث في حروبٍ أخرى.

هل أذكِّرك بحرب الجزائر، التي أعقبت خروج الاحتلال الفرنسي من بلد الشهداء؟ منظمة التحرير الفلسطينية التي نخر فيها الفساد والإفساد، فتحولت إلى شراذم من المنظمات الفدائية التي تكتفي بإصدار البيانات الثورية، دون أن تعبِّر عن المعنى الذي تصدِّر من خلاله بياناتها، وتحول اليمن السعيد إلى صراعٍ بين أطراف، كلٌّ منهما يدَّعي الشرعية، صار الزعماء أمراء حرب، يحصلون على المال والمكانة والأبهة، بينما الشعب الذي يدعون الدفاع عنه يعاني ما يصعُب تصوره من الظروف اللاإنسانية، والأمراض القاتلة.

كما أشرت، فإن المقولة الإعلامية تتحدث عن العالم بأنه قريةٌ صغيرة. أكدت مأساة كورونا هذا المعنى، وعمَّقته. لم تعُد المشكلة مقصورةً على بلدٍ محدَّد، لكنها امتدَّت إلى كل الدنيا. ظهرت تأثيراتها المدمِّرة، كأقوى ما تكون، في الدول الكبرى؛ الولايات المتحدة، الصين، إسبانيا، فرنسا، روسيا، إنجلترا، كندا.

كان المتوقَّع — وهو توقُّع بديهي — أن يتشارك الجميع في درء الخطر، لكن قيادات الدول اتجهت بعينٍ إلى الخطر الداهم، وبالعين الثانية إلى الدول الأخرى، فلا تلحقها في اختراع اللقاح الذي ينتصر للبشرية على الفيروس.

كأنما أرادت الدول الكبرى أن تصبح حرب كورونا امتدادًا للحروب غير العسكرية، حروب الاقتصاد والسيطرة والنفوذ والإعلام.

أصارحك أني كنت أتابع بيانات الصحة العالمية كمصدرٍ حقيقيٍّ للمعلومات، لم يكُن ذلك موقفي من بيانات الحكومات، فالبيانات تصدُر وفقًا لمصالح «الأنا»، لمدى تأثير المعلومات على الرأي العام المحلي.

نزعة الأنا تبين في قرار الرئيس الأمريكي ترامب بانسحاب بلاده من عضوية منظمة الصحة العالمية، سلبيات الحدث تجاوزت اتِّهام ترامب لمسئولي المنظمة بالعمل لحساب الصين، نجد المعنى أيضا في إقدام واشنطن على شراء المخزون العالمي من عقار «ريميديسفير» الذي رجحت احتمالات علاجه للوباء.

اللافت أن مكانة الولايات المتحدة كأقوى دولة في العالم، وهي كذلك أكبر دولة مدانة اقتصاديًّا، لم تحلَّ دون أن تحصل على الأولوية في عدد الضحايا من المصابين والموتى.

جاوزت الحرب غرف قيادات العمليات العسكرية، بما تشتمل عليه من وثائق وخرائط وخُطط الدمار، إلى الغرف المعقَّمة التي يخلو فيها العلماء إلى أبحاثٍ تستهدف درء الأخطار عن البشرية.

واجهت روسيا اتهامًا بريطانيا بأنها تحاول سرقة معلوماتٍ من باحثين بريطانيين يُجرون تجارب اللقاح ضدَّ Covid-19. تستهدف الفوز في المسافات الأخيرة للسباق، كما اتهمت الولايات المتحدة حكومة بكين بأنها سرقت أبحاثًا متعلقةً بتجريب اللقاح من مؤسسات أكاديمية، وشركات أدوية عالمية.
وأعلنت ألمانيا عن بدء محاولات مراكزها العلمية والطبية، لإنتاج لقاحٍ فعالٍ ضدَّ فيروس Covid-19. عرضت واشنطن حوالي مليار دولارٍ على شركة «كيورفاك» الألمانية، لشراء اللقاح، الذي كان في طور الإعداد، ليكون أمريكيًّا. جاء العرض الأمريكي في حدس الخبثاء محاولةً للتغطية على أخطاء التجاهل التي انعكست بالسلب في تصرفات إدارة ترامب. لم يقصر الرئيس الأمريكي طلبه بأن تزود ألمانيا بلده بالمصل المشروع، تغطي احتياجاتها منه تمامًا، قبل أن توزعه في بقية دول العالم.

قبل أن أدعوك إلى تفسير ما حدث، فإني أجد في ردِّ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ما دفع ترامب إلى سحب طلبه. قالت إن بلادها لن تنتج لقاحًا تفيد منه دولة — حتى ألمانيا — دون بقية العالم. خطر الوباء يهدِّد البشرية، ومواجهته يجب أن تحدث في ذلك الإطار.

لا أجد تفسيرًا لهذا الحرص الغريب على أولوية نسبة الحصول على اللقاح، إلا إنه انعكاسٌ للضعف الإنساني في أدنى مستوياته.

أشير، بالمناسبة، إلى حملة «تضامن» بين مجموعاتٍ من علماء العالم لمحاولة تنظيم الأبحاث والاختبارات المشتركة، بما يتيح تطويرها، وتحقيق أقصى قدرٍ من الفعالية للقاح المشروع.

لعلِّي أستعيد رفض العالم الأمريكي جوناث سولك أن يدوِّن اسمه على براءة اختراعه لمرض شلل الأطفال، حتى انتهى منه في خمسينيات القرن الماضي. برَّر رفضه بأن الاختراع لصالح البشرية كلها!

كما ترى، فإن المعنى هو رفض الاحتكار، الحصول على احتياجاتنا دون التفاتٍ إلى احتياجات الآخرين.

أذكر البيت الشعري لأبي العلاء المعري:

فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادُ

لا مجال في أوقات الخطر للأنا، للفردية، للقرارات التي تخلو من الموضوعية والحرص على الصالح العام.

•••

مثَّل رفض دفن موتى كورونا ظاهرةً أخرى لم تكُن موجودة، خاف أصحاب المقابر أن يتسلل الفيروس مع الجثمان، شاركهم اللحَّادون خوفهم من أن يؤذَوا في مصدر الرزق. يربط اللحَّادون التابوت المعدني، يجرُّونه على الأرض حتى موضع الدفن، كأن الجثمان خطأٌ يجب مواراته. بآخر عزمهم يقذفونه، دون ملامسة، في الحفرة العميقة، ثم يُهال التراب. يسبق ذلك، ويرافقه، ويتبعه، رشُّ المطهرات على التابوت وفي موضع الدفن.

غالبت التأثر وأنا أشاهد مطاردة الشرطة لأهل قرية في الدقهلية، رفضوا أن يُدفن جثمان طبيبةٍ تُوفِّيت بالكورونا في مدافن أُسرتها. بذلت الطبيبة حياتها لمواجهة الوباء، لكن أهل القرية رفضوا دفنها. وثمة عائلةٌ رفضت تسلِّم جثة قريبة لها، عشرة أيام كاملة، قبل أن تجبرهم الشرطة على تسلمها. وظني أني سأظلُّ أذكر مشهد جثمان الفنانة الرقيقة، الراقية، رجاء الجداوي، وقد دُثِّر بالبلاستيك، وعُلِّقت عليه لافتة: حاذر خطر الوباء.

•••

تذكرتُ أحوال المستشفى الذي عانيتُ فيه سوء التمريض، وأنا أتابع — مع الفارق طبعًا — أحوال المستشفيات الخاصة في التعامل مع أزمة الوباء، بورصة حافلة بالمضاربات، حدُّها الأدنى عشرات الألوف من الجنيهات، وسقفها يجاوز مئات الألوف.

ومن الظواهر السلبية للوباء — عشتُها شخصيًّا — ما سميتُه الأطباء السريحة، ليس انتقاصًا من قيمة الأطباء، فأنا أدين لهم بالكثير، إنما أقصد هؤلاء الذين حشوا الحقائب الجلدية بسماعاتٍ وعينات دواءٍ ومطهِّراتٍ ودفاتر روشتات، وخصَّصوا صفحاتٍ على الفيس بوك ترحب بالزيارات البيتيَّة.

لأن الطبيب يزورك في البيت، يفحصك وأنت في مطرحك، فإن «الفيزيتة» أضعاف ما تدفعه إن تردَّدت على العيادة أو المستشفى. كنتُ أعاني تأثيرات العملية، وصف لي الطبيب — عندي اسمه! — علاجًا، وترك لي رقم تليفونه في حال عدم استجابة الجسد للدواء، اتصلت للسؤال عن دواءٍ بديلٍ للدواء الذي زاد من ألمي.

رفع الطبيب السماعة.

سأل: من؟

ذكرت اسمي. أغلق السماعة. تصورتُ أنه يفحص مريضًا، وانتظرت.

ولا زلتُ أنتظر!

انطلقَت، عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، إعلاناتٌ عن أدويةٍ لزيادة المناعة، ومكافحة فيروس الكورونا، وعن أدويةٍ للوقاية من المرض، أو لعلاجه، مثل الثوم، والخل، والشلولو، والدواء الأخير، كما أبلغنا المتحدث المتخصِّص، خليطٌ من الملوخية ونباتاتٍ أخرى. وقرأنا على صفحات الفيس بوك إعلاناتٍ مجهولة التركيب والمصدر، وغير مسجلة بوزارة الصحة، تقتصر على رقم التليفون، بلا عنوانٍ للجهة التي تطرح عقاقير ومطهِّراتٍ ووصفاتٍ لتقوية البدن، في تناسٍ لاختلاف تفاعل الدواء من جسم شخصٍ لجسم شخصٍ آخر، وقد يؤدي الدواء إلى أضرارٍ على صحة الكلى والكبد وأعضاء الجسم الأخرى. وأعلنت صيدلية شهيرة عن اختزال كل ما يحتاجه الجسم من فيتامينات ومعادن لاستعادة عافيته.

تحيرتُ في قرار منع النزول إلى البحر؛ مياه البحر قد لا تعين الوباء على الحياة، تقتله. إذا كان الهدف هو حظر الجلوس على شاطئ البحر، فلا شأن للحظر بالشواطئ القليلة الرواد، أو التي يتباعد روادها. أتحنا لرواد المقاهي والمطاعم نسبة ٢٥٪، دعك من صعوبة التحديد! لماذا لا نحاول الأمر نفسه في المساحات الهائلة من شواطئ البحر؟

***

في خارج البيت حياة لا أعيشها، لا أعرفها، اختزلت وسائلي للاستقبال في الأذنين. ما يراه الآخرون، ما يعيشونه في الخارج، يحكونه لي، أنصت، أتأمل، أتصور الملابسات، أشرد بالتوقع.

زاد تقديري للأطباء؛ في مقدمتهم، بالطبع، الطاقم الطبي بدار الشفاء. أدين لهم بالرعاية التي لم تفلت جزئية. عدا سطوة الإدارة، وطاقم التمريض، فإنهم يؤدون عملهم في ظروفٍ غير مقبولة، ويتقاضون رواتب عجزت نقابة الأطباء عن زيادتها.

لا أعرف مَن سمَّاهم — عِرفانًا بالجميل — الجيش الأبيض، لكن أحوالهم المادية لم تجاوز النيَّات الحسنة.

عرضتُ — في محاولتي دراسة الشخصية المصرية من خلال كتب هي: مصر في قصص كتَّابها المعاصرين بأجزائه الثلاثة، مصر المكان، مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات، مصر مَن يريدها بسوء، البطل في الوجدان الشعبي، ملامح مصرية، وغيرها — عرضت للسمات الأساسية هي الجماعية، والإيثار، والتكافل، والتعاطف، ورفض القهر. تبيَّنت، في ملابسات الوباء، أني أخطأتُ الفهم، وأن عاطفتي ربما أشارت إلى السراب بعكس حقيقته.

زينب تنقل لي تطورات الحياة في الخارج؛ ما شاهدَته وتعرَّفَت إليه في مشاويرها القليلة لإنهاء بعض أمورنا. لم يعكس لي الشارع الهادئ، أمام البيت، ما طرأ على زحام شوارع القاهرة. الشوارع، في ملاحظات زينب، شبه خالية، والوقوف بين مقاعد الباصات، وعلى السلَّم، من ذكريات الماضي، وعدا المتنطِّعين فإن الكمامات تحتاج إلى إعادة التحديق في الوجه، لتبين ما إذا كان الواقف أمامك هو الذي سينصت إليك.

كيف تبدو صورة المدن بلا مواصلاتٍ عامة، بلا قطارات ولا مترو ولا باصات؟

أتصور الشوارع والميادين والشواطئ والمقاهي والحدائق … هل تبدلت بالفعل؟ هل فرض الصمت نفسه على الأمكنة العامة؟ هل أخضعها الوباء لإرادته، فخلت من ناسها؟ وهل لزم الناس بيوتهم؟ هل خلت شوارع الإسكندرية من بحَّارة السفن الأجنبية، بأزيائهم العسكرية، وإيقاع خطواتهم؟ هل اختفى السيَّاح كذلك من شوارع المدينة؟

في زمن عبد الناصر كانت الدولة تغلق الأمكنة العامة انتصارًا لنضال الشعب العربي في فلسطين والجزائر، كان الرجال يضيقون بالبيوت، ولأن الأمكنة العامة مغلقة، فقد كانت أعدادٌ هائلةٌ يجلسون على الأرصفة؛ ذلك هو البديل الأنسب للأماكن المغلقة.

أذهلني ارتفاع أسعار كل السلع، بلا مناقشة ولا اعتراض، وبخاصة ما يتصل بالوقاية من الوباء؛ كيلو الليمون بلغ الستين جنيهًا، البرتقال تضاعفت أسعاره، الخضر والفاكهة التي تفيد في درء المرض، تقافزت حتى عجز الفقراء عن ملاحقتها.

فرض فيروس الكورونا تأثيراته المخيفة على الناس، ليس جسمًا مخفيًّا، ولا طيفًا، إنما هو شيءٌ متناهي الصغر، لا تراه الأعين!

الحالة الإيجابية الوحيدة تعني عزل المريض، وعزل المحيطين، وتطهير الأمكنة التي يعيشون فيها، وتطهير وسائل المواصلات عمومًا، وإخضاع كل ثابتٍ ومتحركٍ للرقابة الصحية.

عرف الجميع أن الأزمة تهمُّ الجميع، تهدِّد حياتهم وقادم الأيام. إمَّا أن يتوقف الوباء بلقاحٍ تقرُّه منظمة الصحة العالمية، أو يظل بلا غايةٍ ينتهي إليها. تكاثرت احتمالات العدوى؛ الرذاذ، المصافحة، أسطح الأشياء، حتى الهواء، نفى الأطباء أن يكون حاملًا للفيروس، ثم حذَّروا من أنه قد ينتقل بواسطة الهواء. لم يعُد الفيروس ضيفًا ثقيلًا، أو غير مرغوبٍ فيه، لكنه حفر أفعاله القاتلة في أجساد الملايين. الهواء يحمل الفيروس المُعدي، لا صلة للأمر بالاقتراب أو الابتعاد، ولا بالحرص على النظافة الشخصية، ولا ارتداء الكمامة والقفَّاز خارج البيت. الفيروس يدخل البيت الذي التزمتَ البقاء فيه، لمجرد أن تترك النافذة مفتوحة. سجن الوباء تجاوز الأشخاص، أو البيوت، شمل كل الأمكنة، صارت المدن سجونًا كبيرة، في داخل كلٍّ منها سجونٌ صغيرة.

أدرك العالم أن مقاومة الوباء واجبة، هو فيروس قاتل، يواجهه المرء، يستهدف حياة البشر، ومن حقِّ البشر وواجبهم أن يدافعوا عن وجودهم، لا مجال للنعرات الشوفينية، ولا للقضايا التي يجب ألَّا تجاوز الهامش.

كما جاء الوباء، فإنه لا بدَّ أن يرحل.

لمَن المبادرة؟ كيف؟ متى؟

غابت الأسئلة، فغابت الأجوبة بالتالي.

اختلطت الصور، تشابكت، غلب الشحوب عليها، أو أنها اختفت. أُلغيت الرحلات والزيارات والتعاقدات التجارية، أُغلقت دُور السينما والمسارح والمقاهي، وامتنع البعض عن اقتناء الصحف أو فضِّ الرسائل. الورق حاملٌ لعدوى الوباء، قلَّصت الصحف عدد صفحاتها، وألغت معظم ملاحقها توفيرًا للورق، أو لضعف إيرادات الإعلانات. ثمة مَن حدَّدا موعدًا في محطة قطار العاصمة، واستخرج أحدهما بطاقة السفر، ليسافرا إلى مدينةٍ أخرى، لكن هيئة السكك الحديدة أوقفت حركة القطارات، وأغلقت أبواب المحطة. وثمة مَن أعطى موعدًا في الساعة الفلانية، في اليوم الفلاني، عرف استحالة الوفاء بالوعد، في ظلِّ تفشي المرض، لزم بيته، وصار الهاتف جسر اتصاله بالعالم الخارجي. ونشأت خلافاتٌ أُسرية، باعثها ضيق الزوج من حبسة البيت، أو ضيق الزوجة بما لم تعهده من حالات زوجها. وحسب الإحصائيات، فقد زادت حالات الطلاق بصورةٍ لافتة. ولمَّا ترك الباحث كتابًا على طاولة القراءة بدار الكتب، في نيَّته أن يستكمل قراءته في زيارته التالية، ظلت الزيارة، في تعاقب الأحداث، مشروعًا مؤجلًا. وهناك مَن أنهى دور الطاولة في المقهى لأمسيةٍ قادمة، لم يستكمل ما بدأه بعد أن أغلق المقهى، بقرار الحظر، أبوابه. لا أحد، حتى الأطباء، أعطى موعدًا تقريبيًّا لزوال الحظر، خضع كل شيء للتخمين والاستنتاج. قد ينتهي في أيام أو أسابيع، وقد يمتدُّ لأشهرٍ طويلةٍ قادمة، وظلَّت التساؤلات المُحمَّلة بالقلق والخوف من تفاقم الوباء.

أذكر مؤتمرًا أعدَّه صديقي الأديب منير عتيبة في مختبر السرديَّات بمكتبة الإسكندرية، ضمَّ ملف الأبحاث ما يقرب من الخمسة والعشرين بحثًا، اعتذرت لمنير عن الموعد الذي حدَّده في يناير ۲۰۲۰م، خشيتُ أن يمنعني المرض، الذي قيَّد حركتي، من المشاركة في المؤتمر، واستضافني مستشفى دار الشفاء، في فترة التأجيل، لعمليةٍ جراحية، ثم قَدِمت جيوش كورونا القاتلة، فلم تعُد الحركة متاحةً على أيِّ نحو.

أعرف أن إهمال العضلة، عدم استخدامها، يضعفها. هذا ما أحذِّر منه أصدقائي، لكن التحذير يغيب عن أخطر ما أعانيه، وهو قِلَّة الحركة، وانعدامها أحيانًا. شغلني تحريك العضلات بما يقوِّي الجسد، لكن الانشغال لم يجاوز الأمنية. اشتريتُ دراجةً طبية، أو رياضية، لا أعرف التسمية الصحيحة، استعملتُها بضع مرات، ثم نسيتها، ونسيت انشغالي بتحريك العضلات.

بدا لي رفع الأذان من جامع السيدة عائشة القريب — غير الجامع المُطلِّ على الميدان الشهير — على غير ما اعتدتُ سماعه؛ بدلًا من: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، يعلو صوت المؤذِّن بالقول: ألَا فصلُّوا في بيوتكم، ألَا فصلُّوا في رحالكم. اقتصرت الحواراتُ على الواقع المُحمَّل بالخطر، استعاد الناس وقائع قديمة، ونسوا الحديث عن المستقبل. بدا توالي الأيام مثل حُلمٍ مزعج، مثل كابوس، ورُويت حكايات عن مرضى فاجئوا أعداءهم بالعناق، كي يُصابوا بالفيروس القاتل.

•••

انطلق الناس في الشوارع، تردَّدوا على المطاعم والمقاهي والكازينوهات، نزل المئاتُ البحر أو جلسوا على رماله، رويت ذكريات فترة العزل؛ كيف قاوم مَن لزموا البيوت، ما عانوه من القلق والسأم والملل. زاد التردُّد على دُور السينما والمسارح والكازينوهات والشواطئ والمُتنزَّهات والأماكن العامة، وعاد روَّاد المقاهي إلى أكواب الشاي والقهوة والطاولة والدومينو، والفُرجة على مباريات الكرة الأوروبية في الفضائيات، وعاد الأولاد إلى ألعابهم في الساحات والشوارع الخلفية، علت التعليقات المتفائلة والضحكات، طرد الكثيرون مخاوفهم، وأسلمهم الخيال إلى تصور نهاية الوباء، زادوا فتصوروا أن السيَّاح قد يواجهون السؤال: الوباء خطر في كل الدنيا، ومحاولات مواجهته واحدة، ولا دواء حاسم أنتجه بلدٌ ما يكفل القضاء عليه، بل إن موتى الدول المتقدمة أضعاف موتى الدول النامية، فلماذا لا نعيش المتاح من حياتنا؟

نشطت حملات النظافة والتطهير والتعقيم، وضعت المساجد إرشاداتٍ للتوعية والالتزام بالتباعد، واقتصر حضور الصلاة على الموتى في الجوامع والكنائس على أُسر الراحلين، أمَّا صلوات سرِّ الزيجة «الإكليل» فيقتصر على ستة أشخاصٍ فقط، إلى جانب الكاهن والعروسين والشماس، واشترطت المتاحف والمعارض العامة على روَّادها مراعاة التباعد الاجتماعي، كما ألزمت المقاهي روَّادها بارتداء الكمامات، واستبدل أهل الإسكندرية، والمدن الساحلية، بالسير على كورنيش البحر، سيرًا متكررًا داخل الشقق، وهو ما كان يفعله محمد عبد الوهاب، بإرادته، لتظلَّ العافية في جسده.

أمَّا النسبة التي تحدَّدت لروَّاد المقاهي (٢٥٪) فقد اعتبرتها نكتة سخيفة. أشارت المعلومات إلى أن روَّاد المقاهي والكازينوهات والأماكن العامة لم يبلغوا ما تحدَّد من نسبة الأشغال، منعهم الخوف، فشغلوا، بالكاد، ما يقارب ١٥٪ من سعة المكان. تحيَّر الروَّاد، في المقابل، لاحتمال زيادة النسبة شخصًا، أو اثنين … مَن يطلب إنقاص العدد إلى النسبة المطلوبة؟ وما الأسس التي قامت عليها؟

حتى الصيدليات ساعدت في تعميق المعنى بإخفاء الأدوية، لا تظهر إلا لمَن يقوون على السعر الأعلى، اختفت الفيتامينات المُقوِّية للمناعة، أهمُّها فيتامين سي، والمطهِّرات، وأهمُّها الكولونيا (حسب مركز بصيرة، فقد بلغت نسبة المصريين الذين استخدموا المطهِّرات، منذ سماعهم عن فيروس كورونا ٥٧٪ من مجموع المواطنين)، اختفت من الصيدليات تمامًا، ثم طالعتنا وسائل الاتصال الإلكتروني بإعلاناتٍ عن توافرها بأضعاف أسعارها.

القانون يحدِّد الصيدليات بأنها هي الجهة التي تبيع الأدوية والمستحضرات الطبية، لكن العديد من الصيدليات فسَّر التحديد على نحوٍ مختلف؛ طالعتنا، على الفيس بوك، إعلاناتٌ عن كبسولة واحدة، تحوي ما يحتاجه الجسم من معادن وفيتامينات للوقاية من الفيروس، وللترغيب في الشراء، أعلنت صيدليات عن بيع عبوتين من الدواء بسعر عبوةٍ واحدة. شكا متعاطون لأدوية الفيس بوك بأن التأثير جاوز اللاتأثير، بمعنى استفادة الجسم من الدواء، إلى حدوث تقرحاتٍ في المعدة، وأخطار على الكلى والكبد والقلب.

أصدق تعبيرٍ للعديد من الصيدليات أنها تحولت إلى بوتيكات صحية، يهمُّها استغلال الأزمة، ومنع الأدوية أو المطهِّرات التي تفيد في الوقاية من الوباء، ثم بيعها، في السر، لمَن يدفعون القيمة المرتفعة، حتى كولونيا «الخمس خمسات» تضاعف سعرها، ثم اختفت تمامًا، حتى يقتصر بيعها على ذوي القدرات المالية.

الصيدليات وحدها هي المخوَّلة ببيع الدواء، عليها أن تعمل في ضوء هذه القصة، فلا تُخفي الدواء، ولا ترفع سعره، ولا تطرح أدويةً تستهدف الربح الحرام.

مثلما يظهر أثرياء الحروب وقت نشوبها، فقد ظهر ما يمكن تسميتهم أثرياء الوباء؛ اختفت أدوية المناعة والمطهِّرات، حتى الكولونيا اختفت، ثم أعلنت الشركات عن توافرها، بأضعاف قيمتها، عبر وسائل الاتصال الاجتماعي.

ساعد على تفاقم الأزمة حرص الأُسر، والأفراد، على تخزين ما قد يفيد في مواجهة الوباء؛ أدوية المناعة والفيتامينات المُقوِّية والمسكِّنات ومضادات الأكسدة والمطهِّرات والألياف والأملاح المعدنية. لا شأن لذلك بحاضر المرض، وإن لامس حياة الأُسرة، أو الفرد، إنما هو تعبير متجدِّد عن إقبال المصريين على شراء السلع التي تهمس شائعة بقرب اختفائها، أو أنها ستشهد ارتفاعًا في سعرها.

أضاف كذلك إلى خطورة الأزمة، رواج الأدوية المجهولة المصدر، والمنتهية الصلاحية، والمُصنَّعة في بئر السلَّم. خطورة تلك الأدوية أنها تجاوز انعدام الفائدة إلى إلحاق الضرر بالأصحَّاء، هؤلاء الذين أرادوا الوقاية، فأصابهم ما لم يكونوا يتوقعونه من أمراضٍ وتقرحات.

أذكر اعتراف نائب رئيس هيئة الأدوية، في ندوة نظمتُها باتحاد الكتَّاب (خريف ٢۰۰۰م) أن معظم الأدوية التي تنتجها المؤسسة ينقصها المُكوِّن الرئيس؛ المادة الفعَّالة.

أخطر التأثيرات السلبية للوباء في أماكن التجمعات؛ الأسواق الشعبية والمعسكرات والسجون … أُغلقت دُور العبادة والمدارس والجامعات فغاب عنها الخطر. أُلغي أداء الصلاة والجنازات وسرادقات العزاء، والغُسل يجري بعيدًا عن الأعين، والجثمان يوضع في تابوتٍ معدنيٍّ حتى لا يتسرب الوباء، وقرأنا على جثمان الفنانة رجاء الجداوي: حاذر خطر الوباء.

وحين أقدم سكان بيتٍ ما، أو بيوتٍ متجاورة، على أداء صلاة العِشاء فوق السطح، فإن الشرطة — بوشاية غريبة — داهمتهم، وأُحيلوا إلى التحقيق. فرض الليل سلوكياته على صمت النهار، لم تعُد الأجساد تتلاصق بدعوى الزحام، اختلف معنى الفراق والتباعد، صارت المطهِّرات جزءًا مُهمًّا من لوازم البيت.

رائحة الموت، تعبير أَلِفنا قراءته، فهل للموت رائحةٌ بالفعل؟

ظني أن الرائحة تترامى في الحوارات المتصلة بها؛ حالات المرض، والحوادث، والعيش في الألم، والخوف من المجهول.

بدا الموت قريبًا للغاية، تخالط أنفاسه أنفاسنا، اختلط الحزن على فقد مَن رحلوا، والخوف على فقد مَن بقوا.

تعدَّدت الحالات التي تثير التأمل، تفرض العزلة والقلق والخوف. ثمة مَن مات وحيدًا، ومَن رفض — خوف العدوى — تسلُّم جثمان أبيه أو أمِّه أو ابنه، ومَن رفض وداع عزيزٍ راحل، برغم كل التدبيرات للحفاظ على صحة المودعين. لسعت الشوربة أعزاء، قتلتهم، فخفنا الزبادي؛ المعنى بالطبع عدوى المرض.

المعايشة تقارب ومخالطة، وفيروس كورونا لا تراه العين، وإن تسلَّل إلى كل ما يحيط بنا؛ في الهواء، على أسطح الأشياء، اختلاط الأنفاس، المصافحة بالأيدي. الخطورة هنا أن المجهول هو ما سنعايشه، ليس مجهولًا مطلقًا، أنتَ تعرف خطورته، وأن ملامسته تعني الموت.

•••

حدثتك في «حكايات عن جزيرة فاروس» عن ألعابنا زمن الطفولة، أشبه بتوالي الفصول؛ الكرة الشراب والبلي والدوم والنحل (جسم خشبي على هيئة ثمرة الكمثرى) والطائرات الورقية.

استعدتُ أيام الطائرات الورقية في سماء بحري، تعلو الأسطح والمآذن، تمضي إلى أفق البحر، نتابع ارتفاعاتها، ومعاركها التي تنتهي، كما الألعاب الفردية، بانتصار أمهر المحلِّقين بطائرته الورقية، أو أسرعهم حضور بديهة وتصرفًا.

لست أعرف إن كانت الطائرات الورقية اختراعًا سكندريًّا، أم أنها وليدة التقاء مدن البحر المتوسط. هي ليست مجرد هيكلٍ من أعواد القصب، وأوراق مقوَّاة مشدودة إلى خيوط تطير بها إلى الأعلى، تختلف في دقة صُنعها، وأحجامها، وجمال ألوانها، وأطوال ذيولها، وقدرتها على حسم المعركة التي تواجه فيها الطائرات الأخرى.

الزميلة الصحفية سهى علي رجب تُرجع نشأة هذه الطائرات في الشرق الأقصى، ومنه انتقلت إلى بلاد العالم، ومنها بالطبع مدن مصر، وإن أتاح أفق البحر لأبناء الإسكندرية أن يبرعوا في «معارك» الطائرات الورقية، حتى غابت فيما بعدُ وتلاشت. وكما تشير سهى، فإن كلمة «طائرة ورقية» وردت، للمرة الأولى، في قاموسٍ ياباني، سنة ٩٨١ ميلادية. سُمِّيت «الصقور الورقية»، واستخدمها الكهنة البوذيون لأغراضٍ دينية.

هذه هي رواية سهى علي رجب عن مصير الطائرات الورقية في مدينتي، لم أستطع — لابتعادي عنها — أن أتأكد من غياب الطائرات الورقية عن سماء المدينة.

أغرت فترة العزل المنزلي، الحجز المنزلي، أعدادًا هائلةً من الشباب في غالبية المدن المصرية، على استعادة الطائرات الورقية ودفعها للتحليق في السماء، تزجيةً للوقت.

هل أنسب إلى الواقعية السحرية ما روي عن الولد الذي أخذته طائرته الورقية، وطارت به — بلا عودة — إلى نهاية الأفق؟

ذلك ما استمتعت إليه كثيرًا أيام طفولتي، ولعلَّ الهدف من الرواية كان زجري عن محاولة إطلاق طائرةٍ ورقية.

***

ماذا تبدَّل في المشهد الاجتماعي؟

هل سيعود ما كان إلى سابق عهده؟ يتحقَّق المثل فلا جديد تحت الشمس، أو ينبغي التخلص من بالي المعتقدات والتقاليد والمفردات وسلوكيات الحياة اليومية؟

زادت حظوظ التعافي، بدت العودة إلى الحياة العادية وشيكة؛ رفع الحظر، والعودة إلى العمل، والسماح بما كان ممنوعًا. وصف أهل أسوان إعادة افتتاح المساجد بأنه يوم عيد. تهيَّأ الناس للخروج من العزلة، وجدوا مؤشرًا للانفراجة التي يتمنَّونها، في اقتصار الإغلاق على أحياء وقُرى. لم يشمل مُدنًا بأكملها، كما وهران في رواية كامي، عرف المقيمون في داخل الأحياء أو القُرى التي شملها الحظر، أنهم لن يستطيعوا مغادرتها، وعرف القادمون إلى تلك الأمكنة أنهم لن يستطيعوا دخولها. صار الجميع أسرى كورونا، من الصعب على البشرية أن تتنبأ بالخط البياني المرتفع للوباء، وعلى حدِّ قول الراوي في «الطاعون» لألبير كامي، فإنه ليس لأحدٍ أن يتنبأ بأيَّة نتيجة، لأن تاريخ الأوبئة كثيرًا ما كان يحتمل طفراتٍ غير متوقَّعة.

رجحت توقعات أن يموت الفيروس بقدوم الصيف، تلسعه الحرارة اللاهبة، فيموت. تعدَّدت الأمثلة في الكثير من دول أفريقيا التي لم يزُرها الوباء، حرارة جوِّها المرتفعة تمنع دخوله (عاش مواطنو وهران الفرنسيون وَهْم زوال الفيروس أمام برودة الشتاء!) ظلَّ الفيروس في حياتنا بعد مجيء الصيف، سبقه تفشِّي الوباء في أفريقيا، وحذَّرت منظمة الصحة العالمية من أن فيروس كورونا قد تجدَّد — سر التسمية — بما يقاوم محاولات قتله.

لم يعُد لمعنى «إلى أجلٍ غير مسمَّى» نهاية، في الأفق القريب أو البعيد، بل إن الآفاق غابت تمامًا، فلا أحد يعرف ماذا ستكون عليه صورة المستقبل؛ هل سيظلُّ الوباء في ترصُّده لتردُّدات الأنفاس، أو أنه سيخضع لمحاولات القضاء عليه؟

يشغلنا الحاضر وتوقعات المستقبل، لا شأن للماضي بما نحياه، الماضي للعِبرة، وليس في المأساة التي تحيط بنا ما يدعونا إلى التماس العِبرة، وإن أرجع البعضُ ما حدث إلى ابتعادنا عن صحيح الدين، وتغليب مصالحنا الدنيوية على الآخرة.

طور علماء معهد ماسا تشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة جهاز روبوت يستخدم الأشعَّة فوق البنفسجية في تطهير الأسطح والمناطق الضيقة التي يصعُب على الإنسان الوصول إليها؛ تطلق الأنابيب المضادة فوق الروبوت ضوءًا فوق بنفسجي، قصير الموجة، يقتل الكائنات الحية الدقيقة، ويعطِّل حمضها النووي فيما سُمِّي «إشعاع مُبيد الجراثيم فوق البنفسجي».

من اللافت رفع حكومة أستراليا رسوم الكليات النظرية، مقابلًا لخفض رسوم الكليات العملية. استهدفت توجيه الطلاب نحو وظائف المستقبل «لتعزيز الانتعاش الاقتصادي للبلاد بعد تداعيات كورونا».

قرأتُ عن مشاركة مصر، مع شركة صينية، في تجارب تصنيع لقاحات مضادة لكورونا المستجَد، على أن تصبح القاهرة مركزًا لتصنيع اللقاح، عند إنتاجه تجاريًّا، في القارة الأفريقية، وتحدَّث العلماء وأساتذة الجامعات عن اختراع أجهزة تنفس صناعي بأفكار ومجهودات مصرية، وإنتاج كمامات طبية في المصانع الحربية، وفي المعامل الأكاديمية، وأُنشئت معامل لإنتاج البلازما، للمساعدة في علاج المرض.

تنبأت سمية سوامينان، كبيرة علماء منظمة الصحة العالمية، بأنه في منتصف عام ۲۰۲۱م ستكون التجارب السريرية قد أُجريت على لقاح كوفيد ١٩ بحيث تتشارك الشركات العالمية في إنتاج لقاحٍ آمن وفعَّال، ضدَّ كورونا المستجد، لينتهي فصلٌ جديدٌ من فصول المقاومة الإنسانية للكوارث والأوبئة.

ولأن الفيروس وجد في زحام المدن مجالًا لتفاقم تأثيراته القاتلة (أثبتت الإحصاءات أن ٩٥٪ من المُصابين بالفيروس يعيشون داخل المدن)، فقد طرح العلماء أسئلتهم عن صورة مدينة المستقبل، وبدأت الدراسات بالتالي عن المدينة التي تخلو من الكثافة السكانية والزحام، وتزود بالخدمات الصحية والاجتماعية والثقافية، بما يعمِّق وعي مواطني المدينة، ويوقف الصلات بينهم وبين مؤسسات الحكم المحلي.

إتاحة مساحات من الخضرة بين البنايات، تخفيف الزحام عن النقل العام، الإفادة من الفيديو كونفرانس في التقليل من خطر التنقل بين الإدارات الحكومية، والتزاحم على أماكن الخدمات الصحية والاجتماعية، كالضمان الاجتماعي، والمعاشات، والأحوال المدنية، بحيث يسهل العمل من داخل البيت، بدلًا من النزول إلى زحام الشوارع والأماكن العامة.

عاد غالبية الناس إلى تأمل حياتهم، ومناقشة ضرورة تنظيمها، ومحاولات استعادة ما فات. تذكروا المواعيد التي ألغاها كورونا، اتفقوا على مواعيد جديدة. عادت الأحاديث عن المستقبل، بعد أن فرضت ملابسات الحاضر نفسها.

ارتحتُ، شخصيًّا، للتخلص من عادة تقبيل الرجال بعضهم البعض؛ إحناء الرأس، أو مصافحة باليد عن بعد، يكفي للتعبير عن الود.

تبيَّنت أني أتحدث بعفوية عن المستقبل.

هناك إذَن مستقبل، تبين توقعاته، يخلو من تدميرات الفيروس.

•••

ظلَّت أُسرة حميدو بعيدة عن أزمة الوباء، قوام حياتها الطعام والجنس والنوم واللعب، عدا ذلك، لا تلحظ أيَّ شيء، حتى تأثيرات متابعتنا لتطورات الأزمة، واختطافه أعزاء، وعزل آخرين في المستشفيات، وفي البيوت.

الوعي مما يختلف به البشر عن القطط، لذلك فإنهم مسئولون عن أقوالهم — القطط لا تتكلم! — وتصرفاتهم.

الحبُّ والتكافل وتقديم العون والتسامح صفات تنسب إلى الإنسان، تبين في ظروف محدَّدة، وفي مواقف بعينها، لكنها تغيب في ظروفٍ ومواقف أخرى.

يذهب أستاذنا محمد كامل حسين في قريته الظالمة إلى أن الحيوان قد يبلغ درجةً عاليةً من الرقي دون أن يصبح إنسانًا، فالإنسان لا يكون كذلك بغير الضمير، هو الذي يضع له قوانينه التي لا يعرفها الحيوان. الضمير من طبع الإنسان، والحركة من طبع الحيوان، وهو تفسير يصعُب تقبُّله في الإطلاق.

رأيي أن ما تنطوي عليه هذه الصفات من إيجابية، هي التي أتاحت للإنسان مكانته المتفردة في العالم، وربما في الكون. توالت الحروب والمجاعات والأوبئة والكوارث وثورات الطبيعة، فتجاوزها الإنسان من خلال ثوابت صفاته التي قد تغيب، لبواعث إنسانية، أيضًا، يطول شرحها. حتى المرء الخصم يبادر بالمساعدة إن اقتحم الخطر مَن بادره بالخصومة.

خاضت البشرية حروبًا قاسيةً، عبر التاريخ، ضدَّ الأوبئة، جيوش من الفيروسات والفطريات، حاربها الإنسان دفاعًا عن حياته. تلاشِي الوباء مثَّل انتصارًا لإرادة الإنسان، لكن جيوش الفيروسات أعادت تشكيل نفسها، تحوير ما كانت عليه إلى هيئةٍ جديدة، وأسلحةٍ جديدة، تحاول مجاوزة هزائم حروب سابقة.

هززتُ رأسي موافقًا على قول المتحدث في التليفزيون إن كورونا حلقة أخيرة في سلسلة حروب الأوبئة التي قتلت ملايين البشر، لكن مَن ظلُّوا على قيد الحياة احتفظوا للإنسان بمكانه في العالم، وأضافوا إلى مُعطياته.

يبلغ الوباء ذروةً اختلف الأطباء في تحديد موعدها المرتقَب، ثم يبدأ في الزوال.

حتى الجماعات التي طالت معاركها، تجد من خلال استيقاظ العقل ما يحيلها إلى الماضي. الأمثلة تتعدَّد منذ داحس والغبراء في عصور الجاهلية، وحتى الحروب العالمية المعاصرة.

مَن كان يتصور أن صورة ألمانيا الهتلرية التي غزت عاصمة الفرنسيين قبل انقضاء يومٍ كامل، قد تبدلت من العداء إلى الصداقة، بل إلى محاولة الاندماج والتذويب بواسطة كيان يُلغي الحدود، ويوحِّد العملة، ويطرح قضايا الحاضر والمستقبل، من خلال الاستراتيجية الجمعية؟

يعجبني دأب النمل في تخزين طعامه؛ الأسلوب العسكري في البحث عن الطعام بما يشبه فِرَق الاستطلاع، تتبعها فِرقٌ أخرى تحمل المئات — في تناوبٍ غريب — فتفوتة لحم، أو قطعة خبز، أو حشرة ميتة … إلخ، إلى العُشِّ الذي صنعته داخل الجدران، كومات من الرمل تنبشها، تقذف بها خارج العُش، فتصنع تلالًا صغيرةً تشي بحجم ما قذف به النمل خارج الثقب الصغير، خارج العُش.

ظاهرة لا بدَّ أنها استلفتت نظرك، لو أنك أعدت تأملها فستلحظ استاتيكيتها، ما يحدث اليوم، وما نتوقعه غدًا، يحدث منذ ملايين السنين.

اعتدنا، أنت وأنا والآخرون، أن نقف أمام دورات المياه العامة، كلٌّ ينتظر دوره لقضاء حاجته، ذلك ما لاحظته في القطط، إنها تلتفُّ حول أوعية الطعام، بعكس ما يحدث عند قضاء الحاجة، تتناثر حول المكان حتى يجري كلٌّ منها بأظفاره في موضع قضاء الحاجة، دلالة الانتهاء، ثم يمضي ليحلَّ قطٌّ آخر مكانه. ظني أن هذا السلوك بعض ما تعلَّمه القطُّ من الإنسان حتى يستطيع قبوله في حياته، لكن ما تعلَّمته القطط يظلُّ محدودًا، ومحدَّدًا، يصعُب أن يصنع إضافةً حقيقيةً في تقدم الحياة.

المُواء الذي استقبلت به القطط عودتنا إلى البيت بدا أشبه بالصراخ، جوقة تعزف لحنًا حزينًا، باكيا، لم يُسكته إلا إسراع زينب بوضع الطعام أمامها.

أعرف أن زينب تردَّدت، طيلة إقامتي في المستشفى، على البيت، تقدِّم الطعام للقطط، وتعود. حدثتني عن الصراخ الذي استقبلَتها به القطط، الهُزال الذي تلبَّس أجسامها، الطعام الوفير الذي تتصور نفاده في أسبوعٍ وليس في يومٍ وليلة أو يومين.

أدركت الاختلاف فيما حدث بين الإنسان والحيوان.

الإنسان يقسم ما لديه من طعام على مواعيد، قوام كل موعدٍ وجبةٌ محدَّدة، فيظلُّ الطعام أطول فترةٍ ممكنة، أمَّا الحيوان — أعني القطط — فإنها تأكل ما تجده من طعام، دون تدبُّرٍ لوجبات تالية.

ثمة معلومةٌ أن القطَّ بلا حاسة شبع، فهو يأكل حتى يتقيَّأ، العكس ما رأيته في تناول قطط البيت طعامها؛ تبتعد عنه، في لحظةٍ ما، بمعنى الشبع، تخلو إلى نفسها، تلعب، أو تلعق جسمها، وتنام.

القطط تأكل حتى تشبع، لكنها في وجود الطعام تعود إليه، ما نعدُّ لأن تأكله في يومين، تأتي عليه في بضع ساعات.

اللافت أن طبائع القطط بدأت في العودة إلى ما كانت عليه قبل عودتنا إلى البيت؛ اختفى الصراخ، والصراع حول الطعام، أدركت أن الغذاء متاحٌ بواسطة البشر، تجده في أوعية الطعام، تعبِّر عن حاجتها بالمُواء، تحتكُّ بأجسامها في ساق زينب، تعرف أنها هي التي ترعاها.

استعادت القطط الإحساس الحضاري الذي زرعه فيها الإنسان.

أتأمل القول: «إن القطط تستطيع العناية بنفسها، لكنها تظلُّ في حاجةٍ إلى رعاية أصحابها!» أجده صحيحًا مطلقًا.

أذكر — بعد أن طال امتثال زينب للموروث بالخشية من حمام القطط وإنه يميتها — إقدامها على مجاوزة الخشية، بلَّلت منشفةً بالماء والصابون المعطر، دلكت بها جسم عنتر، ولمَّا اطمأنت إلى النتيجة، كررت الحمام لبقية القطط.

وبعد أن صارت مقاسمتنا السرير عادةً لدى القطط — حدثتُكَ عن الحاسة السادسة، أو سمِّها ما شئت — بات من الصعب أن يظلَّ الأمر على ما هو عليه، نبقى في الوضع الذي بدأنا به نومنا، لا نتحرك، حتى لا يختنق قطٌّ تحت أجسادنا.

وضعت زينب طعامًا ترامت رائحته إلى حجرة النوم، فهُرعت القطط، كما توقعنا، إلى المطبخ. وكان إغلاق باب الحجرة خطوةً تالية.

ثاني يوم، نسينا الأمر، لكن ذاكرة القطط — هل أضيف: ووعيها؟ — نبهتها إلى أن حجرة النوم تخصُّ أصحابها، وأن الشقَّة متاحةٌ لكل أفراد الأُسرة.

المشكلة التي ظلَّت قائمة، فلا نجد لها حلًّا، هي أظافر القطط، مخالبها، كنا نلجأ إلى العيادة البيطرية القريبة، لقصِّ أظافر حميدو. كان قطًّا وحيدًا يسهل حمله في القفص، ولأنه صار أُسرةً قوامها ثمانية قطط، فقد بدا الأمر صعبًا، إن لم يكُن مستحيلًا.

•••

النجاح ذروة، ثم يبدأ الهبوط إلى الفشل.

هذا ما قاله لي نجيب محفوظ في حواراتنا بقصر عائشة فهمي، المُطلِّ على نيل الزمالك. اختزل في كلماته معنى ازدهار الحضارات وأفولها.

قد تشحب حضارةٌ ما، وقد تميل إلى الانحدار أو تسقط، لكنها لا تغيب، لا تغيب حضارات البشر، تواجه ما يعطِّلها أو يُرجئ تقدُّمها، وتجد من أبنائها ما ينطلق بها إلى مراحل متقدمة، تلك هي طبيعة الحضارات.

كان الأوروبيون في أسفل السلَّم الحضاري، بينما دانت الذروة للفراعنة والبابليين والآشوريين والصينيين والفندال والقرطاجينيين والقوط والرومان والعرب، وغيرهم من شعوب العالم القديم، ثم تبدَّلت الأحوال؛ مَن كانوا في القمة أخلوا مواضعهم لمَن كانوا في السفح.

المخلوقات الأخرى عاشت ذلك كله، بلا تغيُّرٍ في نمطية حياتها، منذ بداية الخلق.

الحضارة اختراعٌ إنساني، ليست وليدة ذاتها، ولا تنشأ من فراغ، لا بدَّ من مبتكر، خلَّاق، صانع، هو الإنسان الذي تأمَّل ما حوله، وعُني بصُنع ما ييسِّر حياته.

لسنا في مجال التحليل وتقصِّي أسباب التقدم والتخلف، الحقيقة التي يصعُب إنكارها أن الحضارة فعلٌ إنسانيٌّ يمتدُّ عبر العصور.

أعطى الله الإنسان من المَلَكات ما يتميز به عن باقي المخلوقات، تقول الآية الكريمة وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء: ٧٠).

ولا يخلو من دلالة نشوء مجتمع جديد، عقب زوال المجتمع القديم، في حرافيش نجيب محفوظ. عاشور الناجي وأُسرته نجَوا من الوباء، وعادوا إلى الحارة المهجورة ليُنشئوا حارةً جديدة، تطلُّعًا لعالمٍ جديد. المجتمع الجديد الذي حاول الحرافيش إنشاءه يستعيد المجتمعات القديمة التي أنشأها المصريون في أعقاب الأوبئة التي عانت مصر وَيلاتها، في العصور المتعاقبة، ذلك لأنها — في اجتهاد العلماء — تقع داخل المنطقة المدارية الحارة، لا تقتصر التأثيرات على ما عرض له المقريزي ورفاقه، فالنظرة تتسع لتشمل العصور التاريخية، منذ عصور الفراعنة، إلى زماننا الحالي.

•••

لم يكُن طاعون وهران أول كارثة عرفتها البشرية، سبقه كوارث أخرى حصدت ملايين الأرواح في مناطق من العالم، أو في معظم مناطق العالم.

طوفان نوح أول مواجهة بين مخلوقات الأرض والكوارث، تبعته كوارث بلا انتهاء، تلاشت، بتأثيراتها المدمِّرة، مخلوقاتٌ لا نعرف عنها إلا ما تناولته الكتب، ما بقي من تلك المخلوقات يعاني لحظات الزوال، بينما تُبذل الجهود الإنسانية للحفاظ على حياتها، حرصًا على التوازن البيئي.

وفي القرن الثاني الميلادي تعرضت الإمبراطورية الرومانية لهجمةٍ شرسةٍ من وباء الطاعون، تحلَّل، بتأثيراتها، الجيش الروماني، كما تفشَّت التأثيرات في آسيا الصغرى ومصر واليونان وإيطاليا، وجاوز عدد الوَفَيات خمسة ملايين شخص، هم ثُلث سكَّان الإمبراطورية الرومانية.

وفي الفترة ما بين عامَي ٥٤١-٥٤٢ ميلادية، عاود الطاعون ضرب الإمبراطورية الرومانية، بدأ في صعيد مصر، ثم انتقل إلى القسطنطينية عن طريق السفن الناقلة للحبوب من مصر، ثم عاود الطاعون هجومه على أوروبا في القرن الرابع عشر، وعُرف باسم الطاعون الأسود، وحصد أرواح ما يقرب من رُبع سكَّان القارة الأوروبية.

وعانت الجزُر البريطانية، في بدايات القرن السادس عشر، تفشِّي خطر الوباء، وهو ما انعكس في تصوير الأدباء والشعراء له كوحشٍ أسطوريٍّ يلتهم مَن يصادفه، وما يصادفه.

في رواية «القلعة البيضاء» للتركي أورهان باموق انعكاسٌ لتأثيرات وباء الطاعون على مدينة إسطنبول، في سني الخلافة العثمانية القديمة، ارتفع عدد الوَفَيات دون سببٍ واضح، افترض الناس وجود مرضٍ ما، له أعراضٌ تسبق ظهوره؛ ثلاثة أيامٍ من الحمَّى، ورم خلف الأذُن أو تحت الإبط، تلتهب الغُدد الليمفاوية، تتصاعد الحمَّى بالتالي، قد تنفجر البثور، أو يتقيأ المريض من رئتيه دمًا. في المقابل من محاولات إنقاذ المرضى، فإن البعض وجد في شنِّ حربٍ على الطاعون بمثابة اعتراضٍ على إرادة الله، وتفاقم انتشار الوباء في الأماكن المزدحمة بالبشر، لكن الوفَيَات تناقصت يومًا بعد يوم، بتأثير محاولات القضاء عليه، حتى صار من الماضي.

وفي ١٩١٨م، أيْ في أواخر الحرب العالمية الأولى، أكملت الإنفلونزا الإسبانية ما فعله البشر بأنفسهم، قتلت أكثر مما شهدته ساحات القتال والمدن التي شملها الدمار. وعلى حدِّ الروايات التاريخية، فقد استمرت الإنفلونزا الإسبانية عامين، وخلَّفت ثلاث موجاتٍ متعاقبة حوالي ٥٠٠ مليون مُصاب، و٥٠ مليون وفاة.

الوباء معلم مهم في الأيام ودعاء الكروان لطه حسين، وملامحه مجسدة في اليوم السادس لأندريه شديد، ووقائع حارة الزعفراني لجمال الغيطاني، ورباعية بحري لكاتب هذه الكلمات، كما شاهدت على اليوتيوب أفلامًا، مصرية وعالمية، عرضت لمعاناة البشرية، في تاريخها الحديث من الأوبئة. أذكر الفيلمين المصريين «صراع الأبطال» و«اليوم السادس»، وهما عن وباء الكوليرا الذي اجتاح مصر ١٩٤٧م.

•••

الاختيار حقُّ الإنسان، يستطيع أن يبدِّل حياته، يختار مكان الإقامة والمعيشة والأصدقاء، أمَّا الحيوان فخياره في المكان الذي يعيش فيه، والطعام الذي يقدَّم له أو يلتقيه، والعلاقة التي يصادفها.

التفكير الجمعي في حياة القطط يبين في لحظاتٍ متباعدة، كلَعْق الأجسام، القطُّ يلعق جسم الآخر، منطقة الأذُن تحديدًا، كالترقب الخائف لمصير قطٍّ يعاني مأزقًا، كاللعب الأشبه بالمصارعة الحرة التي لا تؤذي.

عدا ذلك، فإن التفكير الفردي يفرض نفسه في أفكار القطط وتصرفاتها، أنامالية تحركها الغريزة، تجدها في التزاحم على الطعام إلى حدِّ استعمال القوة (أليس ذلك ما يصنعه بعض البشر؟) أو الفرار بقطعة طعام إلى موضعٍ مخفي، والتهامها في طمأنينة.

تفكير النمل، وسلوكه بالتالي، جمعي. إنه يفكر في احتياجات الجماعة، يُخضع نفسه لتلبية تلك الاحتياجات، بدايةً من «الطلائع»، بالتعبير العسكري، مرورًا بدعوة نملاتٍ أخرى للمشاركة في حمل ما لقيته من طعام، عشرات النملات تحمل حبَّة أرز، جناح صرصور، فتفوتة سكر، وانتهاءً بالنفاذ إلى حفرة أسفل الحائط، جعلها النمل مخزنًا لطعامه.

•••

ثمة مَن يرى أن البشر هم أكثر أنانيةً بين سائر المخلوقات، وأشدُّهم حُبًّا لأنفسهم.

إذا تجاوزنا التعميم، فإن البشر الأكثر أنانية، والأشدَّ حُبًّا لأنفسهم، هم الذين عُنوا بالإضافة والتطوير والتقدم. البشر يشيدون المدن والقُرى والجسور والبيوت ودُور العبادة والمعاهد العلمية والمصانع والمستشفيات، ويفرشون الخضرة في الأرض المجدبة، ويطوِّعون الأشياء لخدمة الإنسان، يتحدثون العديد من اللغات، يختلفون في المعتقدات والتقاليد والعادات، يتسالمون، يختلفون، يخوضون الحرب ضدَّ بعضهم البعض، يعانون الكوارث، الحروب والأوبئة والمجاعات، لكنهم يضيفون.

للكوارث وجهها الآخر، الإيجابي، تبين ملامحه في قادم السنوات، الحروب والأوبئة والمجاعات تقتل الملايين، تتبدَّل صورة العالم، لكن كل شيء يعود، بالتدريج، إلى الصورة التي تحقَّقت بتأثيراتٍ أقلَّ مما تنبَّأ به مالتوس. أفنت الكوارث أعدادًا يصعُب حصرها من البشر، مَن أفلتوا حاولوا إعادة صياغة الحياة.

الديناميكية في الإنسان.

هو الذي يندهش، يتأمل، يحاول الفعل، يقاوم، يتحول من عصرٍ إلى عصورٍ أخرى تالية.

تخللت العصور، بدايةً من عصر الجليد، ما حقَّقته الحضارات البشرية من ازدهارٍ وأفول، لكن الحضارة، بمعناها الأعمِّ، ظلَّت باقية، وأميل إلى التطور.

أضافت كل حضارة، في أحوال ازدهارها وأفولها، إلى التقدم الإنساني. الخط البياني بين صعودٍ وهبوط، لكن الدينامية هي الغالبة على المسار الإنساني بعامة.

واجه الإنسان، عبر التاريخ، ما لا يمكن حصره من الحروب والمجاعات والأوبئة والزلازل والفيضانات والأزمات وغيرها، لكنها أزالت، بتأثيراتها السلبية، مخلوقاتٍ أخرى، وإذا كان الإنسان قد عانى في التغلب عليها، فإنه تغلَّب عليها.

العقل البشري — فلنعتبر المعني مرادفًا لمعنى الضمير في رأي محمد كامل حسين — هو الذي واجه توالي الكوارث، منذ صنع نوح سفينته، وجعل فيها من كل زوجين اثنين، وهو الذي اخترع الوسائل للحفاظ على حياته في هذا الكون، واستمرارها.

نحن نتابع الآن نهايات ما ينتسب إلى مخلوقاتٍ تضاءلت أعدادها إلى ما لا يزيد عن خانة الآحاد، تُبذل محاولات الرعاية للحفاظ عليها، وعلى ما يُسمَّى التوازن البيئي.

ذلك ما أشار إليه، بذكاء، برنامج الأمم المتحدة للبيئة، والمعهد الدولي لبحوث الثروة الحيوانية، من أن «السبب المتزايد لهذا النوع من الأمراض، هو تدهور البيئة الطبيعية، من خلال تدهور الأراضي، وسوء استغلال الحياة البرية، واستخراج الموارد، وتغيُّر المناخ».

تنبَّه العالم — علماؤه على وجه التحديد — في تطورات الأحداث، إلى قيمةٍ مُهمَّةٍ كانت غائبة، على نحوٍ ما، عن الأذهان، وهي قضية الحفاظ على الحياة البريَّة. إنها تهبط بالوجود البشري في العالم؛ ذلك لأن فقدان التنوع البيولوجي، في تقدير العلماء، سيؤدي إلى تفشِّي الأوبئة، من خلال إزالة الغابات، التي تعني اقتراب حيواناتٍ بريَّة، حاملة للفيروسات، من البشر. كما حذَّر العلماء من صيد الحيوانات البريَّة، ومواجهة الملايين من الأنواع الحيوانية والنباتية خطر الانقراض، وهو ما حدث، عبر العصور، لأنواعٍ أخرى تقتصر معرفتنا بها على ما تذكره الكتب.

من الخطأ إنكار دور البشرية في دفع تلك المخلوقات إلى حافة الزوال. عمليات الصيد المحرَّمة في غابات أفريقيا وسهول آسيا وأمريكا اللاتينية، عمَّقت من تهميش تلك المخلوقات إلى حدِّ إلغاء وجودها على هذا الكوكب.

إذا كان العقل هو الذي حفز البشر على صنع الحضارات والحفاظ، بالتالي، على سلالة آدم، فإن الحفاظ على بقية المخلوقات ليس إشفاقًا ولا تعاطفًا، بل هو حرصٌ على التوازن البيئي، من خلال تواصل حياة كل المخلوقات.

محمد جبريل، مصر الجديدة، أغسطس ٢٠٢٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤