هكذا جئتُ إلى الدنيا

منذ يناير ١٩٩٣م، وأنا في هذا البيت الصَّغير المُطلِّ على غابة «ديوك»، كتل من شجر الأرز والصنبور والبلوط، الأشجار الطويلة الكثيفة، فَيَضان من الخضرة.

منظر غير مألوف لي، كلمة غابة في حدِّ ذاتها غير مألوفة لأُذن امرأة عاشت حياتها في مصر «وادي» النيل النهر الهادئ، تَتناقص مياهه بلا فيض أو فيضان، الشريط الأخضر المنبسط من المَزارع وسط الرمال، تتناقص مساحته، تَزحف الصحراء والجدران الإسمنت.

كانت هناك شجرة أمام بيتي في الجيزة، كلمة «الجيزة» تَرتبط في أذهان السياح (وعلماء المصريات) بصورة الهرم، وأبو الهول، ومقبرة توت عنخ أمون، والجِمَال يَركبونها، أو الحمير يجرُّها أولاد البلد الظُّرفاء ذوو الوجوه الضامرة المحروقة بالشمس، والكعوب السوداء المشقَّقة، ترمقها بانبهارٍ عيونهم النَّهِمة إلى التحديق فيما يُسمَّى اختلاف الأجناس أو الثقافات. كنتُ أفتح النافذة، وأُطلُّ على هذه الشجرة الخضراء الوحيدة، عيناي تتجذبان إلى الخضرة، أتنفَّسها مع الهواء، يتحول اللون الأخضر في صدري إلى أكسجين.

قضيتُ طفولتي وصباي في الريف وسط الدلتا، بين قريتَي «كفر طحلة» في محافظة القليوبية، وبلدة «منوف» في محافظة المنوفية، عيناي تعوَّدَتا رؤيا المزارع والحقول، صدري كان يتَّسع مع اتساع المساحات الخضراء أمام عيني.

فتحتُ نافذتي ذات يوم عام ١٩٧٧م، لم أجد الشجرة الوحيدة اليتيمة، جاء «البلدوزر» فاجتثَّها من جذورها، أصبح جداران من الإسمنت يرتفعان حتى حجَبا الشمس عن نافذتي.

فوق جدار ارتفعت مئذنة طويلة لجامع جديد تحوطُها لمبات النيون، فوق الجدار الآخر ارتفعت لوحة «ماكدونالد» تعلوها أيضًا دائرة مُتحرِّكة من اللمبات النيون، في الطابق السفلي دائرة أخرى لشيء جديد اسمه «أنديسكوكلوب.»

كنتُ أغلق نافذتي بالزجاج والشيش ليل نهار، لكن الأصوات العالية مع الأضواء المتحرِّكة تنفذ إلى جسدي، تختلط فيها رائحة «الهامبرجر» بدقات الديسكو بالتكبير وحي على الصلاة.

في ليالي الأرَق المؤلمة فكَّرتُ، أهُناك اتفاق بين «المؤذن» و«مكدونالد» على طرد النوم من عيني أو طردي من بيتي!

غابة «ديوك» مساحة من الأشجار الخضراء الباسقة، عيناي مشدودتان إلى الخضرة مثل الأرض الجافة تحنُّ إلى الماء، الشمس تَنفُذ إلى نافذتي، وأنا جالسة أكتب، عامان قضيتهما في هذا المكان البعيد، يَبعد عن مصر حوالي عشرة آلاف ميل، غابة «ديوك» هي جزء من الجامعة في تلك البلدة الصغيرة الشبيهة بالقرية، اسمها «ديرهام» في ولاية نورث كارولينا، على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلنطي.

أرفع رأسي من فوق الورقة، أترك القلم لحظة، لماذا أكتُب سيرة حياتي اليوم؟ ألِحَنينٍ إلى عمري الذي مضى؟ هل مضى؟! أم في العمر بقية؟ أتكون الكلمات هي الملاذ الأخير للإمساك بما فات قبل أن يفوت؟ تَثبُت الصور في الذاكرة قبل أن تتلاشى؟ مقاومة الفناء من أجل البقاء في الوجود أو الخلود؟

كلمة «الخلود» في طفولتي وصباي كان سحر الآلهة، اليوم لم يعد هناك سحر، الكلمة في حدِّ ذاتها تبعث على الضجر، الاستمرار الدائم لأي شيء يؤدِّي إلى الملل، لولا الموت لأصبحت الحياة أمرًا غير محتمَل.

أهي محاولة كشْف المخبوء في أعماق نفسي؟ تعرية المستور بالخوف من الله، أو الأب، أو الزوج، أو الأستاذ، أو الصديق، أو الصديقة مِن رفاق الزمالة أو الحب أو الوطن؟

من الطبيعي أن نغضَب ونثور على من نكرههم، لكن إذا تحول الغضب أو الثورة إلى من نحبُّهم، فكيف تكون الكلمات المكتوبة؟

كلمة «الوطن» كنت أتغنَّى بها في طفولتي وشبابي، كيف تحوَّلت إلى «سجن» أو «رجل بوليس» يطاردني في اليقظة والنوم، يضع فوق رأسه طربوشًا أو طاقيةً أو عمامةً أو قُبَّعَةً، يتكلَّم اللغة الإنكليزية أو العربية الفصحى أو الدارجة أو الخليجية؟

كلمة «الحب»! كنتُ أُنشدها مع البنات، لا نكفُّ عن الغناء في ضوء القمر، فكيف تحوَّلت إلى أربعة جدران سوداء داخل مطبخ في بيتٍ آيل للسقوط «بيت الزوجية»؟

«الطب» أيضًا كان مثل كلمة العلم والفن والأدب، أحلُم بها مثل عصفورة تحلم بالطيران، كيف تحوَّلت إلى ما يشبه السلاسل تشدُّني إلى الأرض أو تحت الأرض؟

منذ وُلدت حتى بلغتُ الستِّين من عمري، وأنا أعيش في مصر، أحاول أن أتذكَّر يوم مولدي، لا أذكر شيئًا سوى أنني وُلدت «أنثى».

فسمعتُ من النَّاس أنَّ الله هو الذي يخلق الأنثى والذكر، سمعت أنَّه قبل زمن طويل كانت البنت تُدفن في القبر وهي طفلة، ثُمَّ نزلت آية في القرآن تقول: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.

كان يمكن أن أكون ضمن هؤلاء الموءودات لو أنني وُلدت في ذلك الزمان، هكذا سمعتُ من الناس وأنا في الرابعة من العمر.

الزمان الذي وُلدت فيه كان أفضل، لم يكن يَحدث شيء حين تولد الأنثى؛ فقد يُصيب الناس الحزن، لكن الحزن أخفُّ من الوأد؛ فقد يَنطوي الحزن على رغبة مخبوءة في الوأد، إلا أنه يظل حزنًا لا غير، يظل شيئًا طافحًا فوق الوجوه، لونًا قاتمًا يُخفي الشيء الكظيم.

في أول أيام الولادة لا تشهَد المولودة هذا الحزن، عيناها المفتوحتان لأول مرة على العالم بريئتان صغيرتان عاجزتان عن رؤية المخبوء.

كنتُ أنا واحدة من هؤلاء البنات المولودات، لم أرَ المشهد بِعَيْنَيْ رأسي، ضاعت الصُّورة الأصلية من ذاكرتي، أَسترجعُها عن طريق الخيال، أجمع في خيالي الكلمات التي سمعتُها من جدتي وأنا في الخامسة من العمر لأرسم المشهد الحزين لأول مرة خرجتُ فيها من بطن أمي …

•••

أول خيوط الفجر تلك الليلة من أكتوبر، قبل أن تَخرج الشمس إلى الأرض المحدَّدة على الخريطة بنقطة صغيرة لا تراها العين، فوق الخط الرفيع كالشعرة يشقُّ الصحراء من الجنوب إلى الشمال تحت اسم النيل، ومع الدقَّة الرابعة المُتحشرجة كالنفَس الأخير لساعة الحائط، انطلقت الصَّرخة من فوق السَّرير النحاسي الأصفر ذي الأعمدة الأربعة، صرخةٌ واحدةٌ لامرأة في المخاض، تبعها صمتٌ طويل ثقيل كأنَّما ماتت الأم والمولود معًا.

توقفت الأنفاس في حلوق الحشد المُجتمع في الصالة الخارجية، عائلة شكري بيه سليلة المجد حتى طلعت باشا في إسطنبول، وعائلة السعداوي من «كفر طحلة» بالوجوه الكالحة المُتربة، والأقدام الحافية المشقَّقة، رائحة العرق والطين في الجلاليب البالية تَختلط برائحة العطور الفرنسية في الفساتين الحريرية الهفهافة، والبدل الإفرنجية من الصوف الإنجليزي تَفوح برائحة الويسكي أو الدخان المتصاعد من البايب.

توقفتْ أنفاسهم داخل الصالة الضَّيِّقة، وتوقفت معها أنفاس الفجر المتردِّدة بين الإقبال والإدبار، وأنفاس الساعة المتهالكة العتيقة منذ الخديو إسماعيل، وقرص الشمس أيضًا توقف وانحشر في بطن الأرض يَرفض الخروج.

ربما تبدو هذه اللحظة بعيدةً عن الواقع، لكن هذا ما حدث كما حكت لي جدتي الحاجة مبروكة أم أبي، وكُنَّا نُسمِّيها «ستي الحاجة»، هي أيضًا توقفت أنفاسها في حَلقها حين دبَّ الصمت بعد الصرخة الأولى والأخيرة، أطلَّت من الباب الموارب لترى الرأس الصغير محشورًا في فرج الأم يرفض الخروج إلى الدنيا، رأس ناشف، عنيد، صلب، مثل الحجر، أسود بلون الليل، مستدير «مثل الكرة الأرضية»، متوقف في الفرج المتَّسع على شكل دائرة بحجم قرص شمس حمراء بلون الدم.

مع الصرخة القوية المُنطلقة من بطن الأمِّ خرج الرأس الأسود الصلب، توقَّف عند مُنتصف العنق متردِّدًا بين الخروج والدخول، وهنا انقبضَت من حوله عضلات الفرج حتى اختنق، لم يكن أمامه لإنقاذ نفسه إلا الاندفاع إلى الخارج.

خرَج مثل الكرة، ملفوفًا حول نفسه كالقنفذ، ذراعاه وساقاه مضمومة حول جسده، تلقَّفاه الكفان الكبيرتان بأصابعهما الطويلة المَعروقة تفتح الفخذين بحركة أسرع من البرق، أصابع خشنة صلبة مثل المسامير الصَّدِئة، مدربة في مهنة الدايات منذ الاحتلال التركي.

كانت الفخذان الصغيرتان مضمومتين بقوة خارقة للعادة، كأنما بينهما شيء يستوجب الخزي، لكن الأصابع الحديدية أبعدت الفخذ عن الأخرى، كأنهما فخذا دجاجة، لتكشف عما بينهما من خير أو شر، ولتكون أول مَن يُطلق الزغرودة، إذا ما سقطت عيناها فوق القضيب، العضو الغالي المبجَّل شبه المقدس الممنوح للمذكر فحسب، أو تكون أول من تُنكِّس الرأس بوجه كظيم، وتصمُت صمت الموتى، إذا لم يكن هناك إلا الشق، الفرج التعيس الملعون منذ حواء.

لم تَنطق الزغرودة من فم أم محمد الداية، ولم تَفتح الأم الوالدة جفونها لترى ماذا ولدَت، وكنتُ «أنا» بالمصادفة ذلك الشيء المولود، قلَّبته أم محمد الداية بين يديها، مُمَصمِصةً شفتَيها في حسرة، ثُمَّ ألقت به داخل طشت الماء ليَغرق.

لم تمتدَّ أيُّ يدٍ من عائلة شكري بيه أو آل السعداوي لتُنقذني، أغلب الظن أنهم اختفوا جميعًا، وأصبحت حياتي بين يدَي أمِّ محمد، الداية المدرَّبة منذ قرون على حل الأزمات والمصائب. لها قرون استشعار تَفهم العيون دون الكلام، تعيش المولودة أو تموت، كله بإرادة الله، وهي على علاقة طيبة بالله.

لم تَفتح أمي جفونها وتركتْني داخل الطشت أرفس … لا أعرف كيف تغلَّبتُ على الموت في اللحظات الأولى من حياتي، ربما هي إرادة شيطانية ركبتْني، لم أكن أعرف حينئذٍ ما هو الشيطان، ثُمَّ عرفت في الخامسة من عمري أن اسمه إبليس، إنه الوحيد الذي امتلك القوة ليَرفض أمر الله ويَرفع راية العصيان.

ربما فتحت أمي نصْف عين (بعد انصراف الداية أم محمد)، رأت بشرتي الزرقاء الداكنة السمرة مثل آل السعداوي الفلاحين، فأطبقَت جفونها كأنما إلى الأبد، شفتاها انطبقتا مزمومتَين بلون أزرق، الصمت أصبح ثقيلًا أثقل من وزن الأرض، امتدَّ من البيت الصغير إلى القرية كلها تحت جسر النيل، من القرية امتدَّ إلى المدينة العاصمة، القاهرة لأهلها منذ عصر العبيد، المقهورة تحت بنادق الغُزاة من الفراعنة حتى الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، الواقعة أسفل جبل المقطم، أسفل الأهرامات ومقبرة فرعون، أسفل قدمَي «أبي الهول» الإله الحجري الأكبر.

أغمضت الأم عينيها وتكوَّرت حول نفسها كالجنين، تضمُّ فخذَيها السمينتَين البيضاوين حول الفرج المفتوح النازف، لم تمتدَّ ذراعيها لتضمني إلى صدرها، تركتْني أرتجف إلى جوارها في السرير داخل خِرقة بالية تلتفُّ حول صدري وبطني حتى الاختناق، مددتُ ذراعي نحوها، والتفَّت أصابعي الخمسة حول يدها، فانقبضتْ أصابعها الخمسة حول يدي، ثُمَّ راحت أمي فيما يُشبه النعاس أو حمى النفاس، عاد بها الألم والنزيف إلى ليلة الزفاف، تَسير بخطوة ثقيلة بطيئة مع دقات الطبول، قدماها تتأرجَحان فوق الكعب العالي المدبَّب، تتعثَّران في ذيل الثوب الطويل ذي الكرانيش والكشاكيش، الطبل يدقُّ في أذنيها كالشواكيش … فخذاها ترتجفان، تضمُّهما بقوة حول الفرْج المنزوع الشعر والكرامة، عمرها خمسة عشر ربيعًا، أخرَجها أبوها من المدرسة بالقوة والعصا، عريسها يَكبُرها بستة عشر عامًا، لم تره إلا من ظهره مِن وراء ثقوب الشيش، وجهها تحت مسحوق البودرة ابيض بلون الطباشير، تشوبه صفرة مُرتعشة تحت أضواء الكهرباء، خداها عظامهما بارزة مصبوغان بلونٍ أحمر مثل عرائس المولد، عيناها العسليتان يَكسوهما بريق طفولي، يدور «النني» حول نفسه كالفأر في المصيدة يَبحث عن ثقب للفرار، اسمها مطبوع فوق بطاقة الدعوة بحبر أسود:

الآنسة المهذَّبة زينب هانم شكري، كريمة صاحب العزة محمود بك شكري مدير القرعة العسكرية.

تُزفُّ إلى السيد أفندي السِّعداوي، المدرس بوزارة المعارف العمومية.

يُقام حفل الزفاف في السابعة مساء ٢٥ مارس ١٩٢٩م، بفيلا شكري بك رقم ٦ بشارع الزيتون، عزبة الزيتون، ضاحية مدينة القاهرة.

تسمَّرت ذاكرتها مع قدمَيها فوق عتبة غرفة النوم، كان هناك السرير النحاسي الأصفر بأعمدته الأربعة، ورجلٌ عريض طويل منتصب مثل عمود السرير، لم تره من الوجه أبدًا، مِن وراء شقوق الشيش، لم تكن ترى إلا قفاه، غليظًا محلوقًا بالموسى، ملفوفًا بعمامة مثل الفقيه في المقابر يقرأ القرآن على أرواح الموتى، ويتلقَّى بعض الفطائر، ستكون بعد دقائق قليلة فوق السرير بين ذراعي هذا الرجل مُغمضة تَحبل بطفلها الأول دون أن تخلع ملابسها، دون أن تفتح عينيها، تلدُه بعد تسعة شهور كاملة، ثُمَّ تَحبل من جديد قبل أن تفطم طفلها الأول، دون أن تخلع ملابسها أيضًا، في الظُّلمة الدامسة دون أن تدوس على النور أو تفتح عينيها لترى وجه الرجل الذي يمتطيها العام بعد العام.

وهكذا في ظلمة الليل حمَلت أمي عشر مرات، ولدت تسعةً من الأطفال، أجهضت الحمل العاشر، قبل أن تبلغ الثلاثين من العمر، دون أن تعرف ذلك الشيء الذي اسمه لذة الجنس، ثُمَّ ماتت في ريعان الشباب ممسكة يدها في يدي، عيناها العسليتان الطفوليتان تتطلَّعان نحوي في اندهاش، تَكتشف لأول مرة في حياتها أنها تُمسك يدي، أصابعها الخمسة تلتفُّ حول يدي كما التفَّت أصابعي الخمسة حول يدها وأنا أرقد بجوارها ليلة مولدي.

في المرآة أرى وجهي شاحبًا طويلًا يُشبه وجه أمي حين ماتت، كانت في ريعان الشباب، وأنا تجاوزتُ الستين، ثلاثون عامًّا مرَّت من حياتي دون أن أدري، أجزاء من عمري سقطَت في العدم، أحاول أن أستعديها، أن أشدَّها من براثن الماضي … لحظات تريد الفرار والاختفاء بعيدًا عن الذاكرة وأعين الناس، لحظات الألم واليأس والضعف والانحدار حين كنتُ أنسى اليوم والساعة والمكان الذي أنا فيه، أنسى اسمي واسم أمي وأبي ومسقط رأسي، لحَظات الغضب تتملَّكني فَأَوَدُّ الإقدام على جريمة قتل، أرى نفسي أمشي في الشارع بلا هدف، ألمَح وجهي داخل مرآة أو زجاج، شاحب أسمر حزين، ينظر إلى الدنيا بعين سواء داكنة السواد مثل عين الليل.

كنت أغمض عين أحوال الهروب من وجهي، أستعيد وجه أمي حين كانت تضحك، لا أعرف كم كان عمري حين سمعتها تضحَك لأول مرة، كانت لها ضحكة مميزة خاصة بها لا تُشبه أي ضحكة في العالم، تُرى في البيت تُجاوز الجدران إلى الشارع إلى الكون كله، أسمعها وأنا أمشي في الطريق بجوار أبي، لها رنين في أذني عجيب مثل رنين الماء الرائق العذب المقطَّر داخل إبريق من الفضة أو البلور، أسمعها قبل أن أدخل إلى البيت، أنفلتُ مِن يدِ أبي وأجري إلى أمي تحملني فوق صدرها وتُطعمني، رائحة أمي لا تزال في أنفي كأنما هي رائحة جسدي، ومعها رائحة اللبن الطازج والخبز الساخن والشوربة يتصاعَد منها الدخان في الشتاء البارد.

رقدتْ أمي عامين اثنين في فراش المرض، في السرير النحاسي الأصفر ذي الأعمدة الأربعة الذي رقدت فوقه ليلة زفافها، الذي حبلت فيه بأطفالها، ثلاثة من الذكور وست من البنات، أحمل أمي من فراش الموت فوق صدري وأُطعمها، لم يَحملها فوق صدره أحد من الذكور.

في المرآة ألمَح نفسي وأندهش، كيف مرَّت السنون وأصبحت أُطعم الأم التي كانت تُطعمني، في المرأة أرى الملعقة في يدي أُقرِّبها من فمها ورأسها فوق صدري كما كنتُ أضع رأسي فوق صدرها أهمس لها بأحلامي، هي التي تهمس هذه اللحظة بأحلامها، صوتها متقطِّع، أنفاسها خافتة، الكلمات مبتورة ممزَّقة، أُرهف أذني، أستجمع حواسِّي كلها في حاسة واحدة هي السمع، أستمهلُ الزمن، أستوقف عقارب الساعة لتُكمل أمي النطق، أُلصق أذني بفمها، أستَنطِق الصمت، أُساعدها على العثور على الكلمات كما كانت تُعلِّمني الكلام، تفتح فمها تحاول النُّطق، لكن الكلمات تُفلت منها، الزمن يُفلت، كل شيء يُفلت، يروح في العدم.

في المرآة أرى وجهي، والقلم في يدي أُحرِّكه فوق الورق، الساعة العاشرة صباحًا، المكان هو مدينة ديرهام بأمريكا الشمالية، وجهي أصبح أكثر طولًا، بشرتي أكثر سمرةً وشحوبًا، عيناي السوداوان أقلُّ بريقًا، في أعماقي لحظات تُولد من العدم، أطرد بيدي شبح الموت كأنما هو ذبابة، ألمح فوق مكتبي مظروفًا أبيض عليه اسمي: الدكتورة السعداوي، الأستاذة في جامعة «ديوك»، كلمة «ديوك» ترنُّ في أذني غريبة، أغرب منها اسم «السعداوي»، مَن هو صاحب الاسم؟ قالت جدتي: إنه رجل مجهولُ الأصل، حملتْه مياه النيل من الحبشة أو الجنوب داخل قارب من القشِّ أو الجريد، يُشبه القارب الذي رقد فيه سيدنا موسى بعد أن ولدته أمه وتركته لمصيره يسبَح مع مياه النيل.

كنتُ في السادسة من العمر حين كنتُ أجلس إلى جوار ستي الحاجة فوق عتبة الدار في قريتنا «كفر طحلة»، تَفرش أمامها الحصيرة مِن فوقها الأرز أو القمح أو الغلة، تَلتقط من بينها الحصى بأصابعها الكبيرة المشقَّقة، كلُّ مَن يمر أمامها في الطريق من الفلاحين أو الفلاحات يقول:

العواف يا أم السيد أفندي.

تمدُّ ستي الحاجة عنقها القوي العضلات من طول حمل الزكائب أو زِلَع الماء، تشمَخ بأنفها المرتفع حين تسمع كلمة «الأفندي»، تردُّ التحية مضاعفة:

يا اخويا، العوافين عليكي يا أختي.

ثُمَّ تعود إلى التنقية بأصابعها السمراء المَحروقة بالشمس، تُكمل حكاية السعداوي، الجد الأكبر لأبي، لم يكن يَذكُر من أهله في الحبشة أو الجنوب إلا أمه «حبشية».

أستمع إلى حكاية جدتي، فمي مفتوح، خيالي يَسبح مع قارب القش أو الجريد فوق مياه النيل، صوتها يَسري في أذني كأنما من عالم مسحور:

أمه كان اسمها حبشية، ماكانش له أب، تمام زي سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام، كان يَحكي عن أمه حبشية كأنها ستنا مريم، شلاه يا ست، ويقول: أمي حبشية كانت من الأشراف في الحبشة، عندها الأملاك والعبيد ولا الملكة بلقيس في زمانها، وكان أهل الكَفر يُصدِّقونه إلا المرحومة أمي كانت تقول لي: «إذا كانت أمُّه حبشية من الأشراف بصحيح، ليه ربنا ماجابش سيرتها في القرآن؟ لازم أمه حبَشية كانت جارية من الجواري أو واحدة من عبيد السلطات.» كانت المرحومة أمي تكره السعداوي كره العمى، وتقول: إنه «شيطان ابن شيطان»، عينيه في الليل تطقُّ شرار، ويغيب طول الصيف ماحدِّش يعرف له قرار، وفي الشتا يرجع يرقد فوق الفرن، ويَزعق على واحدة من نسوانه، كان يتجوز ويطلَّق، ويتجوز على كيفه، وما حدش يعرف عدد نساوينه، يدخل الدار ويخرج ولباسه على كتفه، وماكانشي يحفظ من القرآن إلا: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ.

وكان له ابنٌ كشر غلس زيه تمام، اسمه حبش، سمَّاه على اسم امه حبشية، وجوِّزه لواحدة من الكَفر ماتت بعدما جابت له ولدين، وكنت أنا عيلة صغيرة ألعب مع العيال وبزازي ماطلعوش والعادة ماجاتنيش، ويالا هوب مِسكوني وجوزوني حبش، وأنا أصرخ وأقول: يامه، انتي فين؟ لكن الولية اللي ماتتسماش، أم محمد، الداية الآرحة بنت الغازية مسكتني هي وأربعة من النساوين وكتفوني زي الفرخة، وخبوا رأسي بالطرحة وفتحوا فخادي عشان أم محمود تاخد وشي، وقريت الفاتحة على روحي، وقلت: أشهد أنا لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

شفت الموت، وأم محمود بتاخد وشي بصباعها زي المسمار يشق لحمي زي النار، والطبل بيدق في وداني زي الشواكيش وقلت لنفسي: خلاص يا بت يا مبروكة، رُوحك طلعت ودي جنازتك مش جوازتك، أي والله يا بنت ابني، الجوازة في بلدنا زي الجنازة بصحيح.

تتوقَّف ستي الحاجة عن الكلام وتضحَك فجأة، ويَنتفض جسدها الطويل الضامر داخل الجلباب الأسود شهقات مكتومة متقطِّعة كالنسيج، تشدُّ طرف الطرحة وتُخفي فمها وأنفها تحاول أن تحبس الضحك حتى تختنق وتطفر الدموع من عينَيها تمسحُها بطرف طرحتها السوداء.

•••

لم أكن أعرف في طفولتي إن كانت جدَّتي تضحك أم تبكي، أغلب الظن أنها كانت تضحك، عيناها بعد أن تمسحها تلمعان فجأة، يكسوهما بريق غريب، يعودُها الضَّحك حتى تختنق مرة أخرى، تُخفي فمها وأنفها بالطرحة السوداء، وتقول: «اللهمَّ اجعله خير يا رب.»

تضحك من جديد وعيناها تَغرقان في الدموع.

اسمي الرباعي في السجلات الرسمية: «نوال السيد حبش السعداوي»، سقط اسم «حبش» من شهادة ميلادي وشهاداتي المدرسية وبطاقتي الشخصية حتى نسيتُه تمامًا، لكنَّه ظل موجودًا في سجلات السجون أو وزارة الداخلية، لم أكن أعرف ذلك حتى عام ١٩٨١م، حين أصبحتُ السجينة رقم ١٥٣٦ في سجن النساء بالقناطر، وأنا في الخمسين من العمر، سألني الضابط فجأةً عن اسمي الرباعي، فلم أذكر اسم حبش، بادرني الضباط بالاسم، أخرَجه من دفتر قديم عتيق، كأنما يُخرجه من القبر معه جثة جدِّي حبش الذي مات قبل أن أُولَد، وجثة أبيه السعداوي الرجل الغريب المَجهول الذي انحفر اسمه فوق جسدي منذ وُلدت، وفوق كراريسي في المدرسة، وشهادات نجاحي وتفوُّقي، وفوق أغلفة كتبي التي كتبتُها بقلمي، بالعرق والدم في ليالي البرد والحر، في الليل والنهار على مدى أربعين عامًا من عمري.

على مكتبي المظروف الأبيض عليه اسمي ولقبي: الدكتورة الأستاذة بجامعة ديوك، من هو «ديوك»؟ كان رجلًا من أصحاب الملايين في أمريكا الشمالية، لحظة الموت اكتشف فجأة أنه لن يأخذ ماله إلى القبر، لاحت له الفكرة قبل أن يلفظ النفس الأخيرة أن يَحفر اسمه فوق جدار أو تمثال، ويدفع من أجل ذلك كل ماله، لم يشأ أن يأخذ اسمه معه إلى العدم.

لكنَّ اسم أمي ذهب معها إلى العدم، لم تكن تملك شيئًا، أطفالها التسعة وأنا منهم كانوا من أملاك زوجها بحسب القانون وشرع الله، ولم أحمل اسم أمي، دُفنَ اسمها مع جسمها في القبر، واندثرت في التاريخ.

منذ أمسكتُ القلم بين أصابعي وأنا أقاوم هذا التاريخ، أقاوم هذا التزييف في السجلات الرسمية، أودُّ لو شُطب اسم جدي وأضع مكانه اسم «زينب»، وهي التي علمتني الحروف: «أ، ب، ج، د» حتى «ﻫ، و، ي»، تُمسك يدي تحت يدها، وتجلعني أكتب اسمي من أربعة حروف: «ن و ا ل»، وأسمع صوتها مثل تغريد عصفورة: نوال … يا نوال.

صوتها يناديني، فأنفلتُ من يد أبي، أجري إليها لتحملني فوق صدرها، الشمس ساطعة في سناء ديرهام الزرقاء، يُسمُّونها هنا «كارولينا بلو»، تشبه زرقة السماء في قريتي «كفر طحلة» بدلتا النيل، رائحة الهواء تُشبه نسمة القاهرة في الليل، لحظات الماضي تذوب في الحاضر، كلاهما لحظة واحدة ممدودة منذ أن وُلدت، طفلة تَحبو وتمشي فوق الأرض، جسمي يذكر رائحة التراب، ملمس الأرض فوق البحار آلاف الأميال، واجتازت المحيط الأطلسي حتى مدينة ديرهام، مضت الأعوام، أكثر من نصف قرن، لكن الرائحة تملأ أنفي، والضوء القوي يجعلني أُغمض عيني، وصوت أمي يَغزوني من جميع مسام جسدي، ومعه أشعة الشمس، أترك نفسي لطغيان هذا الضوء وهذا الصوت وهذه الرائحة.

يحملني الثلاثة معًا إلى طفولتي الأولى حين كنتُ أَجري مثل الفراشة بين المساحات الممدودة من الخضرة تحت سماء زرقاء، ثُمَّ تهبط الشمس وراء الأفق، تهبط برفق، السماء تَشتعل بألوان حمراء برتقالية، كل شيء يتغير لحظةً بعد لحظة، يزول اللونان الأحمر والبرتقالي، تُصبح السحب رمادية، الهواء يَبرد فوق ذراعي وساقي العارية، الأرض لا تزال تحتفظ بأثر قدمي فوق التراب، أرتعش بالبرد مع مجيء الظلام، لكن الأرض لا تزال دافئةً تحت قدمي، جسمي يشعر بالتعب فأُغمض عيني وأتمدد فوق الأرض وأنام، أفتح عيني، أرى النجوم وصوت ستي الحاجة لا يَزال يحكي عن ليلة الدخلة، الدم المُدبب، حملتها الحِمارة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، أغرق الدم بردعة الحمارة وهي تسير من خلفها الطبول، في بيت العريس رقدت فوق الحصيرة تنكمش داخل جلبابها الجديد المُزركش ببقع الدم، جاء العريس ناداها بصوت غليظ: قومي يا بت حضري العشا، تأخَّرت في النهوض، فانهالت عليها العصا الخيزران التي يقود بها حمارته.

«قومي يا بت قامت قيامتك.»

كان هذا هو التقليد في القرية، لا بدَّ للعريس أن يَضرب عروسه ليلة الدخلة قبل أي شيء آخر، لتذوق طعم العصا قبل أن تذوق طعامه، لتَعرف أن الله فوق وهو تحت، ليس هناك إلا الضرب إن لم تسمع الكلام.

تلك الليلة كانت ستي الحاجة في العاشرة من العمر، لم يُدركها الحيض بعد، رقد حبش فوقها وهي تدسُّ الطرحة في فمها تكتُم الصراخ، لم يكن للعروس أن تَصرخ وإلا لسعتها الخيزرانة، أو ألسنة الجيران، فلا يعود لها أو لأبيها وجه في القرية.

بعد بضعة أعوام، ثلاثة أو أربعة، كما حكت ستي الحاجة، ارتفع بطنُها بالحمل، ثُمَّ ولدت أبي، تأكَّدت من العضو بين فخذيه قبل أن تُطلق الزغرودة، صارعت حمى النفاس وغلبتْها من شدة الفرح، بعد أن انقطع الدم توضَّأت وسجدت لله شكرًا لأنه لم يَخذُلها ورزقها بالولد.

عاشت ستي الحاجة مع زوجها حبش ثمانية عشر عامًا قبل أن يموت، لم يكن لديها سريرٌ نحاسي له أعمدة أربعة، الحصيرة فوق الأرض التراب، حبلت فوقها خمس عشرة مرة، أربعة ذكور وإحدى عشرة بنتًا، مات ثلاثة من أبنائها ولم يبقَ إلا أبي، مات ستٌّ من بناتها ولم يبقَ إلا عماتي الخمس: فاطمة وبهية ورقية وزينب، وأصغرهنَّ نفيسة، كانت ترضع ثدي أمها حين مات أبوها حبش وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، مات بالبلهارسيا كأبيه، يَنزف الدم مع البول، مرض الفلاحين منذ الفراعنة وعصور العبيد … بلاءٌ من عند الله كما كانت ستي الحاجة تقول: البلاء الأعظم في نظرها كانت الإحدى عشر بنتًا، لم تمُت منهنَّ لسوء حظها إلا ست فقط.

تضمُّ أصابعها الخمسة في قبضة قوية تهزُّها في عين العدو أو الشيطان: خمس بنات، كبة بنات.

حين ولدت ابنتها الحادية عشرة مات حبش من الكمد، حمَلوه إلى القبر داخل صندوق من الخشب يسمونه التابوت، لم تَذرف عليه ستي الحاجة دمعة واحدة، انتظرت حتى تَوارى جسده في بطن الأرض، فنهضت سخَّنت صفيحة من الماء واغتسلَت، سجدت لله شكرًا لأنه خلَّصها من الزوج، أصبحت أرملة وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، ربطَت رأسها بمنديل أسود وأقسمت ألا يقربها رجل حتى الموت، كانت قد كرهت جنس الرجال منذ ليلة الدخلة، بل من قبل ليلة الدخلة بأربع سنوات، وهي في السادسة من العمر، حين جاءت الداية أم محمود.

وتتلاشى صورة ستي الحاجة من ذاكرتي، صوتها يَسري في أذني من بعيد كأنما من بطن الأرض: «كنت يادوب عرفت أمشي وأروح الغيط وألعب مع العيال لما جاءت الولية اللي ماتتسماش أم محمود الداية الآرحة بنت الغازية، ومسكتني وكتفتني زي الفرخة هي وأربع نساوين، وقالت لي: اسمعي يا بت يا مبروكة، أنا حأقطع لك ظنبورك عشان تِبقي طاهرة ونظيفة ليلة الدخلة والعريس ما يقرفش منك، وعشان يا بت ما تجريش ورا الرجالة، ومسكت أم محمود الموسى وسنَّته على الحجر لما بقى حامي زي اللهلوب، وقلت: خلاص جالك الموت يا بت يا مبروكة، ورقدت فوق الحصير أنزف الدم زي الحنفية لغاية أمي اتشهدت وقرت الفاتحة على روحي ثلاث مرات، وبعد كام يوم ربنا خد بيدي وقمت زي العفريت، أصل البنات زي القطط بسبع أرواح يا بنت ابني، الولد روحه خفيفة والناس تحسده مش زي البنت، وكنت ألبِّس أبوكي جلاليب البنات عشان ماحدش يحسده، وأعلق في صدره خمسة وخميسة، وكل ليلة أبخره وأرقيه وأقرأ عليه سورة «يس».

وكنت أخبي له الأكل في الجورة جوه الحيطة، وأحلب له اللبن من بز الجاموسة، وأملأ له الصحن قشطة، وفي الفجر قبل ما الشمس تطلع أصحِّي البنات ونروح ع الغيط مع البهايم نشتغل لغاية الشمس ما تغيب، ونرجع شايلين الزكايب، ويوم السبت أروح السوق أبيع اللي أقدر عليه، وأحط القرش على القرش لغاية ما يكون عندي في آخر السنة ثلاثة جنيه، ثلاثة كاملين، كل جنيه ينطح أخوه، أخبيهم في صدري لغاية ما يَرجع ابني السيد، أناوله الثلاث ورقات صحاح وأقوله: خد يا ضنايا ثلاثة جنيه كاملين أهم، ادفع يا عين أمك تذكرة القطر من بنها لمصر، وادفع مصاريف المدرسة والكتب والكراريس وإيجار الأوضة في القلعة، واشتري لك يا ضنايا جزمة جديدة بدل القديمة المقطعة دي، أيوة أمال، كان لازم أبوكي يلبس جزمة جديدة، ويمشي رافع رأسه، ويدخل الأزهر ودار العلوم كمان، كان لازم يدخل أحسن مدرسة في مصر ويبقى أكبر رأس في البلد، ولا يمكن أبدًا يكون فلاح زي أبوه، ولا يموت بالبلهارسيا، ويعيش ويتعلم ويبقى السيد أفندي على سن ورمح، والسيد بيه كمان زي شكري بيه، وليه، وهي البطن اللي ولدت شكري بيه مش زي بطنك يا بت يا مبروكة؟!

وحلِفت اليمين وقلت: وحياة ربنا، وحياة النبي محمد، وحياة سيدنا الحسين، والإمام الشافعي، وستنا مريم، لازم ابنك يا مبروكة يا بنت الغزاوية يكون له نصيب في واحدة من بنات شكري بيه، ولا يمكن تموتي يا بت يا مبروكة قبل ما ترقُصي في فرح ابنك وليلة دخلته على واحدة من بنات البهاوات أو البشاوات في مصر، وليه لا، ويعني هي البطن اللي ولدت البهوات والبشوات مش زي بطنك يا مبروكة؟»

صوت ستي الحاجة في ذاكرتي رغم مرور السنين، وقامتها الطويلة المديدة الشامخة وهي تمشي في الكَفر، تدبُّ على الأرض بقدميها الكبيرتين داخل البُلغة الجديدة، وتدقُّ بكفِّها الكبيرة المشقَّقة المحروقة بالشمس باب العُمدة وهي تصيح: «اطلع يا عمدة، كلمني، أنا مبروكة بنت الغزاوية، ورأسي برأس أكبر راجل في البلد.»

مهما حاولت، لا أتذكر ملامح آمنة «أم أمي»، كل ما أذكره منها العينين، بياض العينين كان رماديَّ اللون، سواد العين أو «النني» لم يكن موجودًا! … كنت أسأل أمي: أين راح «النني» في عين جدتي؟ هل اختفى تحت الجفن أم ذاب في بياض العين؟ كنت أظن أنها عمياء، لكنها كانت ترى كل شيء وهي جالسة فوق الكنبة في الصالة الكبيرة، رأسها ملفوف بطرحة حريرية بيضاء، بين يديها سبحة صفراء، تُتمتم بآيات القرآن، لا تُكلم أحدًا ولا أحد يكلمها إلا حينما يأتي الخادم يناديها لتتناول الطعام، أو ابنتها فهيمة «الأستاذة فهيمة شكري» حين تعود من العمل ساعة الظهر، تجلس إلى جوارها بضع لحظات، يدور بينهما حوار أشبه بالصمت: إزيك يا نينة النهاردة؟

– نحمده يا بنتي.

– أيوة يا نينة نحمده.

– نحمده على كل شيء يا فهيمة.

– نحمده يا نينة، ولا يُحمَد على مكروه سواه.

– أيوة يا بنتي، لا يُحمَد على مكروه سواه.

كنت أسمع هذه العبارة «لا يُحمَد على مكروه سواه» تتردَّد على لسان جدتي آمنة وخالتي فهيمة، كانت «طنط فهيمة» تُدَرِّسُ للبنات في مدرسة المعلمات، وأسألها: «مين اللي لا يُحمَد على مكروه سواه؟»

تتنهَّد طنط فهيمة تنهيدة طويلة، عيناها الجاحظتان من وراء النظارة البيضاء تزدادان جحوظًا، وتقول بغضب: «حيكون مين يعني غير ربنا؟» ثُمَّ تَنتفض واقفة كأنما لدغها عقرب مُتمتمة: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.» وتَمشي فوق الأرض تدبُّ بكعب حذائها الحديدي، تدقُّ الأرض، تخرق الأرض بكعب حذائها، تُنادي الخادم أو الخادمة بصوت حاد: «هات كباية مية يا ولد»، «هاتي الشبشب بتاعي يا بنت»، لا تكفُّ من إعطاء الأوامر للخدم، صوتها في جميع أنحاء البيت، تتقمَّص شخصية أبيها «شكري بيه»، فإذا ظهر أبوها عند عتبة الباب الخارجي انخفض صوتها إلى حدِّ الهمس، وانكمش جسمها إلى حد الاختفاء في غرفتها وإغلاق الباب.

بيت جدي كان فيللا من دورين في ضاحية الزيتون في مدينة القاهرة، تحوطه حديقة كبيرة لها سور عالٍ، نصفه الأسفل حجر، والنصف الأعلى من الحديد على شكل أعمدة لها نهايات مدببة مثل السكاكين، نمت عليها أشجار «البوجانفيليا» بزهورها الحمراء والبنفسجية، وأشجار الياسمين ذات الزهور البيضاء الصغيرة الفوَّاحة بعطر الياسمين، وأشجار الورد البلدي الأحمر والأبيض برائحتها القوية البنفسجية، وعباد الشمس، الزهور الصفراء الكبيرة، تتحرك أوراقها إذا لامسَها شعاع الصُّبح، تدور معه ويدور حولها كما تدور الأرض حول الشمس.

•••

كان هناك جرس معلَّق أعلى الباب الخارجي الحديدي، يُصلصل بدقات عالية إذا انفتح الباب أو انغلق، مع الصلصلة يَنطلق الكلب الوولف يجري نحو الباب في نباح حاد، العيون داخل البيت تتطلَّع مَن الذي جاء أو من الذي خرج.

حين يخرج جدي تتنفَّس جدتي آمنة الصُّعداء، تزحف قدماها داخل «البانتوفلي» الأسود من غرفة نومها إلى الصالة، رأسها ملفوف بالطرحة البيضاء، وجهها أبيض خالٍ من الدم، عيناها رماديتان مُنطفئتان بلا قطرة ضوء، كالميت يخرج من القبر، تجلس في مكانها المعتاد فوق الكنبة بين يديها السبحة تُتمتم بآيات من القرآن.

خالتي نعمات تفتح باب غرفتها وتَخرُج هي الأخرى شاحبة الوجه مثل أهل الكهف، جفونها متورِّمة كأنما تبكي طول الليل، ترمقني من بعيد بنظرات صفراء كأنما أنا السبب في تعاستها.

كنتُ في السادسة من عمري، لا أعرف معنى التعاسة، فوق جسدي أحسُّها مثل قشعريرة البرد، مثل ملمس الجدران الحجرية، رمادية اللون مثل عيني جدَّتي آمنة، مثل الصمت الذي يملأ هذا البيت، لا أسمع فيه إلا طرقعات الأَوامر الصادرة إلى الخدم، أو قرقَعة الريح تَضرب النوافذ، أو نباح الكلب مع صلصلة الجرس.

حين تعود خالتي فهيمة من المدرسة تدبُّ في البيت حركة، يدق حذاؤها الأرض، يرتفع صوتها وهي تتشاجر مع أختها نعمات، أختان شقيقتان من أم واحدة وأب واحد، لكن الواحدة منهما تختلف عن الأخرى في كل شيء، لا شيء يجمعهما إلا الكراهية، تتخاصَمان فلا تنظر الواحدة إلى الأخرى، فإذا انتهى الخصام بدأ الشجار بلا سبب أو لأقل سبب، مجرَّد الهواء تُحركه واحدة منهما حين تمشي بالقرب من الأخرى، أو ربما هي نظرة من بعيد صفراوية اللون ترشق بها نعمات أختها فهيمة.

طنط نعمات تَبتلع على الريق كنكة من القهوة السادة السوداء، تَربط رأسها بمنديل أسود، وتجلس على الكنبة الأخرى في مواجهة أمها، وتحملق حولها بالنظرات صفراء من بين الجفون المتورِّمة.

قد يصدف في هذه اللحظة أن تمرَّ أختها فهيمة أمامها في طريقها إلى الصالة الداخلية، تسقط واحدة من هذه النظرات فوقها، فإذا بها تتوقَّف، قبل أن تتوقف تدب بكعب حذائها الأرض مثل الجندي في الجيش، تشد قامتها القصيرة وتَنفر العروق في عنقها، تضع يدها في خصرها وعيناها جاحظتان من وراء النظارة.

– بتبصيلي كدة ليه يا نعمات؟ مش عاجباكي؟

– أيوة مش عاجباني يا فهيمة.

– ليه يا أختي؟ مش أحسن منك واللا إيه؟

– أحسن منِّي في إيه يا أم شنب يا عانس.

– العانس أحسن من المطلَّقات يا نعمات.

– فشر، ع الأقل لقيت حد يجوزني ويطلقني، لكن انتي يا حسرة لا حد بيجوزك ولا يطلقك.

وتخرج خالتي نعمات لسانها الطويل وهي تصحن قبضة يدها اليمنى في كفها الأيسر، تَرشق أختها فهيمة بنظراتها مردِّدة: يا عانس! وتدقُّ الأستاذة فهيمة شكري بكعب حذائها الأرض، ترفع ذراعها عاليًا، يدها اليمنى مضمومة الأصابع إلا أصبع السبابة منتصب مدبب كالسهم في اتجاه أختها نعمات، يكاد يدخل في عينها، مرددة بصوتها الحاد: يا مطلقة ياللي مش لاقية حد يلمِّك.

– يا عانس ياللي مش لاقية حد يجوزك.

لم أكن أعرف معنى كلمة مطلقة أو عانس، حين أسأل أمي تمطُّ شفتَيها وتقول: الاثنتان أسخم من بعض، كانت أمي في الرابعة والعشرين من عمرها، من حولها أطفالها الخمسة، بطنُها مرتفع بالحمل السادس، تعدُّ على أصابعها الأيام الباقية من الإجازة لتعود إلى بيتنا، كانت مثلي تكره هذا البيت وكلَّ مَن فيه حتى أمها، تلك الصامتة طول الوقت، الغائبة في عالم آخر من التمتمات والتسبيحات، لا شيء يُعيدها إلى عالمنا إلا صلصلة الجرس، صلصلة معينة غير الصلصلات الأخرى، تعرفها بأذنَيها وإن كانت غائبة في الملكوت الآخر.

تَنتصب أذناها في انتباه مفاجئ كالقطة تعرف أنه زوجها «شكري بيه» الذي فتح الباب، تسمع وقع قدميه فوق الممرِّ الحجري بين الباب والسلم، خطوته البطيئة يدوس بكل قدمه على الأرض، قصير القامة نحيف الجسم، داخل بدلة من الصوف الداكن، ياقة القميص بيضاء منشاة، تحوطها ربطة عنق من الحرير اللامع، رأسه كبير بالنسبة لجسمه داخل طربوشه الأحمر يميل قليلًا ناحية أذنه اليمين، وتطلُّ من تحته شعره الأبيض كبير الحجم، الأنف أبرز ملامح الوجه، كبير له غضروف مقوس قليلًا، تحت الأنف شارب طويل غزير الشعر، أبيض اللون، يمتدُّ فوق الصدغ، يكاد يصل إلى طرف الأذن، كنت أقف في الصالة أرقب جدِّي وهو يصعد السلالم الرخامية العريضة، يضع قدمه على درجة السلم رافعًا رأسه، عنقه يلتوي قليلًا إلى الوراء مثل عنق الديك الرومي، طربوشه أحمر بلون عرف الديك، يتنحنح بصوت عالٍ مُعلنًا عن حضوره، يدقُّ بلاط الفرندة بعصاه السوداء من خشب الأبنوس، ثُمَّ يدخل الصالة وهو يردُّ بصوتٍ خشنٍ وقور: يا إلهي، أنت جاهي.

كانت فهيمة ونعمات قد اختفت كل منهما داخل غرفتها وأغلقت الباب، جدَّتي آمنة ترمقهما بنوع من الحسد، لم يكن لها غرفة مستقلَّة تُغلقها على نفسها، ولا بدَّ أن تنهض لتستقبل هذا الرجل الغريب الذي يشاركها السرير منذ خمسة وثلاثين عامًا.

كانت جدَّتي آمنة في الرابعة والأربعين من عمرها، لكنها تبدو في السبعين داخل جسمها المُنكمش، وبشرتها الخالية من الدم المليئة بالكرانيش، وساقيها المتورمتين داخل جورب سميك من الصوف، وملامح وجهها المتهدِّلة، جفونها الساقطة فوق عينين رماديتين وغاب عنهما «النني» ولم يبقَ منهما إلا ماء متجمِّد.

كنت أسأل أمي: ما الذي حدَث لجدتي آمنة حتى تفقد سواد عينيها؟ تضع أمي يدها فوق فمي، تكتُم السؤال، تهمس في أذني لأسكت، إنَّ جدي في البيت، وحين يكون في البيت فالكل يَسكُت، دون أن تنطق أمي عرفتُ كل شيء، المعرفة كانت تسري في جسدي على شكل القشعريرة، عرفت أنه جدي، وأن جدي هو زوج جدتي، وتزوَّجها وهي في الرابعة عشرة، وأنجب منها ستةً من الأولاد والبنات: (نعمات وفهيمة وزينب وهانم ويحيى وزكريا)، كان يَكبرها بثمانية عشر عامًا، ولم يجمعهما شيء إلا ورَقة «الجواز».

«الجواز»: كلمة غامضة تحوطها الأسرار، ما إن ترنُّ في الجو حتى يشحب وجه خالتي نعمات، تمطُّ خالتي فهيمة شفتَيها في ازدراء، تطفو فوق ملامح أمي سحابة شفقة من الحزن الغامض، أمَّا جدتي آمنة فهي تكفُّ عن التمتمة، تتوقف حركة السبحة الصفراء بين يديها، عيناها الرماديتان تتجمَّدان، يتعكَّر لونهما مثل ماء البركة الراد، يُصبح قاتمًا معتمًا لا يطلُّ منه بصيص ضوء، أسمعها تهمس: «نحمده، ولا يُحمَد على مكروه سواه»، تردُّ عليها خالتي فهيمة من فوق الكنبة الأخرى قائلةً: «أيوة يا نينة، نحمده على كل شيء»، من غرفتها أسمع خالتي نعمات تتنهد وتقول: «النصيب والمقدر والمكتوب على الجبين، كله من عند ربنا، نحمده.»

بدأت أدرك أن ضمير الغائب في كلمة «نحمده» يعود إلى «ربنا»، وأن جميع المصائب في هذا البيت جاءت من عند «ربنا»، لم أكن أعرف معنى كلمة «ربنا»، لكنها ارتبطت في ذهني بكلمة أخرى هي «المصائب»، وهذه الكلمة ارتبطت بكلمة أخرى هي «الجواز»، منذ السادسة من عمري وأنا أحفظ هذه الكلمات الثلاث عن ظهر قلب في عبارة واحدة: «ربنا، المصائب، الجواز.»

بعد تسعة أشهر من ليلة زفافها ولدت أمي طفلها الأول، لم أكن أنا جئتُ إلى الدنيا بعد، سمعت ستي الحاجة تقول: إنَّ أبواب السماء كانت مفتوحة حين رفعت يديها ودعت ربنا أن يرزق ابنها «السيد أفندي» بولد يرفع رأس أبيه في الدنيا والآخرة وتُسميه «محمد» على اسم النبي محمد .

تقبَّل الله دعوة ستي الحاجة وجاء أخي الأكبر، بشرته بيضاء مثل بشرة امه وأهلها من عائلة شكري بيه، كانوا جميعًا نساءً ورجالًا من ذوي البشرة البيضاء مثل الأتراك، عيونهم عسلية، الأنف روماني يتَّسق مع ملامح الوجه البيضاوي، عيب واحد موروث عن أسلاف شكري بيه، الأسنان الأمامية الكبيرة التي كانت تُسميها عمتي رقية «الضب»، أسمعها تهمس حين تغضب على أمي قائلةً عنها: «أم ضب»، لم تكن أمي تسمعها طبعًا، وتَنهرها ستي الحاجة: «عيب يا بت رقية، دي مرات أخوكي السيد أفندي.»

أصبح أخي الأكبر المدلَّل لدى عائلة أمي وأبي، الكل يقول عنه طفل جميل، ورث ملامح أخواله، لكن جدتي الحاجة مبروكة لم تكن تَبتهج بهذه الملامح، كانت تريد لحفيدها الأول أن يرث البشرة السمراء الملوِّحة بالشمس علامة الرجولة، والعينين السوداوَين ذات البريق، يشعُّ مثل قطعة من الحجر الأسود الكريم في الحرم الشريف، أطلقت عليه اسم «محمد» على اسم النبي، شكري بيه أراد أن يُسمِّيَه على اسم جده الأكبر طلعت باشا الذي دُفن في مقبرة بإسطنبول.

«مالنا ومال الراجل التركي الغريب دا؟ لازم نسمِّيه على اسم النبي بتاعنا يا ابني»، همست الحاجة مبروكة في أذن ابنها السيد أفندي، لم يشأ السيد أفندي أن يُغضب أمه، ولا أن يُغضب حماه، فكتب اسم أخي الأكبر في شهادة الميلاد: «محمد طلعت»، اسم مركَّب من اسمين، كان شائعًا في المملكة المصرية رغم سقوط الإمبراطورية العثمانية، كانت الطبقة البرجوازية في مصر لا تَزال تتَّجه في أحلامها نحو الآستانة وأسلافها من الأتراك، عائلة شُكري بيه رغم إفلاسها مع الأزمة العالمية (وانهيار البورصات وأسعار القطن) تتمسَّك ببعض أمجاد الماضي ومظاهر الطبقة العليا المُنحدرة إلى الطبقة الوسطى.

عائلة السعداوي تتطلَّع إلى المستقبلة والصعود من طبقة الفلاحين الفقراء إلى طبقة الموظَّفين في الحكومة، أبي هو أول رجل في القرية يَحصل على الشهادة العليا من دار العلوم، أول مَن يَخلع الجلباب أو الجبة والقفطان ويَرتدي البدلة والكرافتة والطربوش، وأصبح أهل الكَفر يُنادون ستي الحاجة: أم السيد أفندي.

حين حصَل أبي على وظيفة «مفتش للتعليم» في محافظة المنوفية، منحتْه أمه لقب «السيد بيه»، وأصبح أهل القرية يُنادونها: «أم البيه»، تجلس على عتبة دارها داخل جلبابها الحريري الأسود، شامخةً برأسها داخل الطرحة الشفافة من الشيفون الأسود، تُفرِّق ساقَيها أمامها ليرى الناس البُلغة الجلدية في قدميها، بُلغة من الجلد الحقيقي اشتراها لها ابنه «السيد بيه» في العيد الكبير، ومعها الجلباب من الحرير الطبيعي، والطرحة من الشيفون.

كل من يمر بها وهي جالسة يُحييها قائلًا: العواف يا أم البيه.

كلمة «العواف» تعني العافية والصحة، كنتُ أجلس إلى جوار ستي الحاجة فوق عتبة الدار، عمتي فاطمة تَحمل الكرسي الخيزران من قاعة المندرة تقدِّمه لي لأجلس عليه وهي تقول: «بنت السيد بيه مش مُمكن تقعد على الأرض زي الفلاحين.»

ولدتني أمي بعد مولد أخي بعام واحد، كنتُ أسمع ستي الحاجة تقول: خرجت واقفة على حيلك زي الشياطين، وسألتُ أمي فقالت إنها ولدتني بسهولة دون ألم، ولادة أخي الأكبر كانت عسيرة، لم يشأ أن يَخرج من الرحم بسرعة، كان يستعذب الراحة والدفء في بطن أمه، حين تغضَب عليه عمتي رقية تقول إنه ابن أمه، حين تغضَب خالتي نعمات عليَّ تقول: إنَّنِي بنت الفلاحين، وأطلقت عليَّ اسم: «جارية ورور» على اسم جارية من عبيد جدِّها الأكبر في إسطنبول.

ترمقني ستي الحاجة في صمت، بشرتي السمراء كأنما لوَّحتها شمس داخل الرحم، العينان سوداوان تُشعَّان البريق قطعة من الحجر الكريم في الحرم الشريف، تخفي ستي الحاجة فمها بالطرحة السوداء وتهمس في أذن ابنتها رقية: «كلها شبه أبوها»، ثُمَّ تمصمص شفتيها في حسرة قائلةً: «يا ريتها كانت ولد!»

وتَرفع عمتي رقية كفَّيها نحو السماء تدعو الله أن يقلبني ولدًا، أسمعها تقول: «ربنا قادر على كل شيء»، وترد عليها ستي الحاجة: «من بقك لباب السما يا بنتي.»

كنت أتطلع نحو السماء بعينين مشدوهتين، أخشى أن يكون باب السماء مفتوحًا وأن الدعوة سوف تنطلق من فم عمتي مباشرةً إلى أذن الله، وأنني سأصحو في الصباح لأجد الشقَّ (أو الفرج) بين فخذي مسدودًا، وقد نبت مكانه العضو الذي عند أخي.

في الصباح أدخل الحمام أختلس النظر إلى جسدي، لا أستطيع النظر بين ساقي، أخشى أن تتَّسع المسافة بينهما أكثر من اللازم، لا أقوى على النظر إلى تلك المنطقة المحرَّمة المحوطة بالخزي والخوف والخشية من قدرة الله.

كنتُ في السادسة من العمر، لا أستطيع التأكُّد من قدرة الله، عيناي تختلسان النظر إلى حيث تصورت أن قُدرة الله يمكن أن تحدث، لم أكن أرى شيئًا إلى تلك المنطقة المختفية بين الفخذَين في العمق، تتراءى لي من وراء الخوف والخزْي كالضباب الكثيف، لا أقوى على أن أمدَّ بصري إليها، فما بال أن أمدَّ يدي لألمسها أو فحصها لأتأكَّد من قدرة الله.

في أعماقي العميقة كنتُ أتمنى ألا يملك الله القدرة ليَقلبني ذكرًا مثل أخي، لم أكن أحب أخي، كان يبدو كبيرًا جِدًّا، يضربني على يدي ويشدُّ منِّي العروسة، يخلع عنها ثوبها الحرير الأبيض، يخلع قميصها الداخلي وسروالها الصغير المشغول بالدانتيلا، يخلع عنها كل شيء حتى تصبح عارية تمامًا، يفتح ساقيها كأنما يبحث عن شيء، لم يكن هناك شيء، يخلع عنها ساقيها وذراعيها ورأسها وعنقها، تُصبح العروسة أشلاءً ممزَّقة، حين يرى الدموع يضحك ساخرًا ويقول: «يا عبيطة، دي عروسة مش بني آدم!»

في العيد كان أبي يشتري لي العرائس لألعب بها، يَشتري لأخي طيارة لها زنبلك أو سفينة لها شراع، أو مسدَّسًا يُطرقع به فينطلق الشرار، كنتُ أكره تلك الدمى الصامتة الميتة التي لا تتحرك من مكانها كما تتحرك السفينة أو الطائرة، ولا يصدر عنها أي صوت أو ضوء مثل المسدس، وحين أُمسك المسدَّس تشدُّه خالتي نعمات من يدي، تمطُّ شفتَيها وهي تقول: «البنات الحلوين يلعبوا بالعرايس مش بالمسدَّسات زي الصبيان.»

خالتي نعمات قصيرة بدينة الجسم، صدرها كبير ممتلئ باللحم، ساقاها بيضاوان سمينتان عاريتان تحت الفستان القصير حتى الركبتين، وجهُها مستدير أبيض تفوح منه رائحة البودرة أو العطر أو الروج الأحمر، تمضغ بين أسنانها لبانة كبيرة تُخرجها أحيانًا على طرف شفتيها تمطُّها أو تنفخها، ثُمَّ تلويها بطرف لسانها إلى داخل فمها، تلوكها من جديد بين فكيها، وهي جالسة فوق الكرسي العالي ممدودة الساقين، قدماها داخل طشت من الماء الدافئ، أظافرها حمراء مصبوغة بالمانيكير، ناعمة بضَّة، تُدلكها عمتي رقية الجالسة فوق الأرض، بأصابعها الكبيرة المحروقة بالشمس مشقَّقة بلون الأرض، تدلِّك الأصابيع الناعمة البضة وهي تقول: «صوابعك يا نعمات هانم حلوين ومدملكين، الله يجحمه الراجل الحمار اللي اسمه محمد الشامي.»

تُمصمص طنط نعمات شفتيها بحسرة وتقول: «النصيب، والمكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين، من يوم ما اتولدت ربنا كاتب عليَّ الشقا، حظي مهبب والعياذ بالله، ربنا رزقني بمحمد أفندي الشامي، لا دخل عليَّ ولا حاجة، يَدوبك كتب الكتاب، وليلة الدخلة لا دخلة ولا يحزنون، وجتني ورقة الطلاق في البوستة.»

تتوقف أصابع عمتي رقية داخل الطشت، ترفع عينيها الذابلتين نحو طنط نعمات وهي تشهق: «يا خبر يا نعمات هانم! يعني انتي لسة بنت بنوت؟ ربنا يجحمه مطرح ما راح، وكله يتعوض يا نعمات هانم، كله من عند ربنا، وبكره ربنا يرزقك بعريس يسوا عمْر محمد الشامي وعمْر اللي خلفوه كمان.»

تُخرج طنط نعمات من صدرها منديلًا حريريًّا أبيض، تمسح الدموع في عينيها، تخفي وجهها وراء المنديل حتى لا أرى دموعها، وتمسَح عمتي رقية عينيها بطرف طرحتها السوداء، تخفي فمها وراء الطرحة وتهمس: «عشت مع متعوس الرجا أربعتاشر سنة، وراني المرَّ، وكان يضربني كل ليلة قبل ما يتعشى السم الهاري، وياما دُرت على المشايخ عشان الخلف، لكن أعمل إيه يا نعمات هانم، ده نصيب ومكتوب، وكله من عند ربنا، نحمدك يا رب ع الحلوة وع المرة، وكله من عندك يا رب.»

طنط نعمات ترمقني بعيني حمراوين صفراوين من وراء منديلها الأبيض، وأسمعها تقول: «البنات الصغيرين مش مفروض يقعدوا مع الكبار.»

لم أحسَّ أنني بنت صغيرة، منذ السادسة من العمر وأنا أحس أنني كبيرة، أسمع ستي الحاجة تقول: إنني كبرت وجسمي يَفور، أصبحت قامتي أطول من أخي الأكبر، أسبقه في الجري حين نلعب مع أطفال الجيران، وفي المدرسة أتفوَّق عليه، لم يكن أخي يحب المدرسة، في الصباح حين تُلبسه أمي المريلة يرفس بقدميه ويبكي، ويأتي أبي ويقول له: عيب يا ولد تعيط زي البنات، يرمقني أبي بطرف عينه وأنا واقفة مُنتصبة القامة داخل مريلة المدرسة، وحقيبتي في يدي أتعجَّل الانطلاق خارج البيت وليس في عينيَّ أي دموع.

كنتُ ألمح في عيني أبي شيئًا، وهو يرمقني من تحت حاجبَيه الكثيفين بذلك «النني» الأسود داكن السواد، كأنَّما المفروض أن أكون أنا الباكية بالدموع وليس أخي، كأنما أبي يكره قامتي المرفوعة أو البريق في عيني المتعجِّل الانطلاق خارج البيت.

منذ طفولتي وأنا أودُّ الانطلاق خارج البيت، كنتُ أحبُّ المدرسة رغم العصا الخيزران يلسعني بها إسماعيل أفندي على أطراف أصابعي، وأكثر ما كنتُ أحب هو الانطلاق إلى الشارع أو الحقول لألعب وأجري وأسابق الريح كالعصفورة الطليقة.

في ذاكرتي منذ الطفولة حلم واحد، أن أطير بجناحين وأهرب من البيت في الكون الواسع، أهرب إلى أين؟ لم أكن أعرف وأنا في السادسة من العمر، إحساس ثقيل أثقل من جسمي يشدني إلى الأرض، يشدني من الهواء الطلق والشمس والطيران مع الفراشات إلى البيت والجدران الأربعة والمطبخ.

في المطبخ تجعلني أمي أقف أمام النار لأتعلم كيف أطبخ وكيف أقطِّع البصل إلى قطع صغيرة جِدًّا بالسكين الحاد، رائحة البصل النفاذة تُلهب أنفي وعينيَّ فتنهمر دموعي كأنها السيل، لم يكن أخي أو أبي يدخلان المطبخ أو يُقشِّران البصل أو يغسلان الصحون، أصبح المطبخ هو المكان الذي أحسُّ فيه بالمهانة وكوني أنثى.

في حوش المدرسة ألعب مع البنات، نجري فوق الرمل الساخن بحرارة الشمس، نجلس فوق الدكك الخشبية، نختبئ تحتها حين نلعب المسَّاكة، نجري نتسابق، نلعب الثعلب فات فات وفي ديله سبع لفات، أو جمل جمالك فين، أو حبة ملح عند الجارة، وأكثر ما كنتُ أحب هو نط الحبل، لا أكف عن اللعب حتى يَقرصني الجوع، فأفتح السلة الصغيرة تفوح منها رائحة الخبز المحمص، كأنها هي رائحة أمي.

•••

الحنين إلى أمي يزداد كلما تقدمتُ في العمر، تجاوزت الستين عامًا وأصبحت أمي تتراءى لي في الأحلام، أحسُّ يدها تمسك يدي، وفمها مفتوح تحاول النطق، ثُمَّ تموت دون أن تقول شيئًا، وأحيانًا أراها واقفةً داخل فستانها الحريري الأصفر ذي الحمالات الرفيعة تضحك الضحكة الخاصة بها وحدَها، وتغني معي: «دي، تي، تسا، دي، تي، تسا، …»

لا أعرف معنى هذه الكلمات أو الحروف، أمي قالت إنني كنتُ أغني لنفسي هذه الأغنية قبل أن أتعلم النطق، كان رأسي يهتزُّ حين تجلسني فوق الكنبة، ربما كان رأسي أثقل من جسمي، تحوطني بالوسائد من كل جانب، وتُجلسني. كنتُ طفلة هادئة، أجلس بالساعات، لا أبكي ولا أصرخ (كما كان أخي يفعل)، كل ما كنت أفعله هو أن أهزَّ رأسي وأغني لنفسي: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا …

وجدتُني أهزُّ رأسي وأنا جالسة في مكتبة «بيركينز»، أدندن لنفسي باللحن القديم: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا … وأدقُّ بأصابعي على مفاتيح الكمبيوتر كأنما البيانو، أغمض عيني وأحلم بأي كتاب، كنتُ أطوف المكتبات أبحث عن الكتب فلا أجدها، إنها هنا تحت الكمبيوتر جزء من الحقيقة وجزء من الخيال، عرفتُ سرَّ المفاتيح، أدق حروف اسمي الأخير «السعداوي»، وأرى فوق الشاشة عناوين كتبي كلها (العربية والإنجليزية). تحت ضلوعي أحس الخفقات مثل قلب الطفلة، يَغمرني الفرح، فأعود أدقُّ فوق المفاتيح وأدندن: دي، تي، تسا، دي، تي، تسا …

يبدو أن صوتي كان مسموعًا، رأيتُ بعض العيون تتجه نحوي، كنت جالسة في قاعة القراءة إلى جواري أستاذ أميركي ذو لحية طويلة صفراء حمراء محروقة بالشمس، رأيته يَرمقني بعين جاحظة من وراء عدسة بيضاء تُشبه نظرة خالتي فهيمة، النظرة الصامتة المؤنِّبة تسلبني الفرح إذا فرحت، تسلبني الطفولة، وتنقلني فجأة إلى الشيخوخة، يعود إلى ذاكرتي أنني تجاوزت الستين عامًا، أنكمش داخل جسدي كما كنتُ أنكمش في المدرسة الابتدائية داخل ثوبي القديم، كنت أخجل في طفولتي من الفقر، وعمتي الفلاحة كنتُ أُخفيها من عيون زميلاتي.

أصبحتُ أخجَل من الشيخوخة، أخفي يدي النافرة العروق عن عيون الناس، حين يَسألني أحد عن عمري أسكت لحظة، ثُمَّ أقول بصوت خافت: ستين، أنطقها بصعوبة، تتكوَّر الحروف في حلقي مثل الغصة، أكاد أختنق، أمدُّ عنقي نحو السماء، أرفع قامتي وأشدُّ عضلاتي، أتحدى السنين والزمن، أرتدي حذائي الكوتش وأجري إلى غابة ديوك، لم أعد أجري كما كنت، وإنما هي الخطوة السريعة التي تشبه الجري، لا زلت أشعر بقوة عضلات الساقين، أدبُّ بقدمي فوق الأرض، قدماي كبيرتان مثل قدمي ستي الحاجة، أدقُّ بهما على الأرض كما كانت قامتها مرفوعة، لا أعرف حتى اليوم كيف جاءتها تلك الشمخة أو ذلك الكبرياء، كبرياء حقيقي يَنبع من جسدها الممشوق، ولدت به، تسرَّب إليها مع الدم من أهلها أو جدَّتها الغزاوية، لم أكن أعرف مَن هي الغزاوية وماذا كانت. تمدُّ ستي الحاجة عنقها الطويل إلى أعلها وتقول: أنا مبروكة بنت الغزاوية، تبدو لي أمها أو جدتها الغزاوية كأنما هي الإلهة نفرتيتي أو الملكة حتشبسوت.

كنتُ أحبُّ ستي الحاجة أكثر من جدتي آمنة أو أي امرأة أخرى من عائلتَي أبي وأمي، لكني كنت أكرهها حين تقول: «الولد الواحد بخمستاشر بنت»، أنفجر بالغضب وأضرب الأرض بقدمي: لا يا ستي الحاجة، البنت الواحدة بخمستاشر ولد، وهنا تفرد أصابعها السمراء الطويلة تهزُّها عدة مرات في الهواء وتردد: كبة بنات! الولد صلاة النبي عليه يَرفع رأس أبوه دنيا وآخرة، يحمل اسم أبوه هو وولاده، وبيته يَفضل مفتوح، لكن البنت تتجوز وتخرج من بيت أبوها، وولادها يحملوا اسم جوزها … أضرب الأرض بقدمي وأصرخ: مش حتجوَّز أبدًا أبدًا أبدًا … وتضحك ستي الحاجة من جديد حتى تختنق بالضحك وهي تقول: الجواز مصيرك زي كل البنات، ده أمر ربنا يا بنت ابني.

صوتها يعود إليَّ وأنا أتصور أن العريس هو الذي تصنعه أمي من فضلات الخياطة وتحشو بطنه بالقطن أو الخِرَق الممزقة، وتصنع له جاكتة سوداء مثل التي يرتديها أبي أو جدي، وسرواله أسود طويل تربطه أمي حول وسطه بشريط رفيع من التفتاه، وطربوش أحمر تغطي به رأسه تصنعه بقطعة من الصوف، ثُمَّ تثبت له عينان من الخرز الأسود.

كانت أختي الصغرى «ليلى» تلعب معي بالعرائس، تُمسك العروسة والعريس وتُلقي بهما من النافذة إلى الشارع، وتصنَع أمي لنا عرائس جديدة … أتربع فوق السجادة على الأرض … من حولي العرائس أحكي لأختي الحكايات، لا أذكر ما هي الحكايات، لكني أذكر أنَّ أختي ليلى كانت تبكي بالدموع حين تموت العروسة بعد أن يَضربها العريس، تُغطِّي العروسة بالملاءة كأنما ماتت، ونمسك العريس لنُعاقبه نخلع عنه الطربوش والجاكتة والسروال الأسود الطويل، لم يكن خلع السروال سهلًا مثل الطربوش أو الجاكتة، فأمسك المقص وأشق السروال من الوسط حتى القدمين، كنتُ أظنُّ أنني سوف أرى قطعة اللحم بين الفخذين مثل تلك التي عند أخي، والتي تُسميها طنط نعمات: «العصفورة» بطرف المقص، كنتُ أبحث أنا وأختي عن ذلك الشيء الذي يجعل الزغاريد تنطلق من الحلوق، لم يكن هناك شيء بين الفخذين، وتقول أختي ليلى: لازم هو مخبي العصفورة في بطنه.

وأمسك المقص وأفتح بطن العريس، فلا أجد إلا خِرَقًا من القماش أو القطن، وأرى أختى ليلة تبكي على موت العريس فتُغطِّيه بالملاءة، فيرقد بجوار العروسة، تمسك أختي ليلى العروسة وتهزها كأنما تُوقظها من النوم أو الموت، وتهمس في أذنها: اصحي يا عروسة اصحي، خلاص العريس مات، وربنا هيبعت لك عريس تاني أحسن منه.

كانت أمي تغضب علينا حين ترى بطون العرائس مفتوحة، تُخبئ المقص في مكان مجهول، نفتِّش عنه في كل مكان دون جدوى، نعثر في درج الدولاب بالمطبخ على السكين، صغير حادٌّ، تقطع أمي به الجبن، له نصل لامع مثل المقص أو شفرة الموسي.

لم تكن الأطفال البنات من عائلة شكري بيه يَفتحن بطون العرائس، تضع الواحدة منهنَّ العروسة فوق صدرها تهدهدها كالأم، تضعها في السرير وتُغطِّيها، تغني لها حتى تنام، وحين تصحو ترضعها من ثدي لم ينبت بعد.

لم أكن أحب اللعب مع الأطفال البنات من عائلة أمي، كنتُ أحب الأطفال من عائلة أبي، ونركب الحمير ونذهب إلى الحقل، نجري بين الزرع الأخضر، نتَسابق مع الفراشات، نخلع ملابسنا ونسبح في الترعة أو النيل، نعجن الطين ونصنع منه بيوتًا وأشجارًا وأجسامًا لها شكل الحيوانات أو الطيور.

منذ وُلدت والقرية أقرب إليَّ من المدينة، اسمها القاهرة، أهل قريتي يُسمُّونها «مصر»، القرية كفر طحلة يختصرونها في كلمة واحدة «الكَفر»، تقع على النيل، يسمُّونه البحر، فوق الخريطة اسمه فرع رشيد، يَلتقي الفرعان رشيد ودمياط ليكونا نهر النيل، لم يكن لها وجود على الخريطة، لكنها موجودة وحقيقة أكثر من المدينة.

رأيتُ القاهرة لأول مرة وأنا طفلة صغيرة، لا أذكر كم كان عمري، رأيتها مدينة غريبة الشكل، ضخمة الحجم، كأنما هي كائن خرافي يخرج من بدن النيل، كل شيء في المدينة كان يبدو عتيقًا، كأنما هو موجود قبل وجودها، قبل وجود أبي الهول أو هرم خوفو، والبيوت كلها مصنوعة من الحجر، يشبه الحجر الذي صُنع منه الهرم، حجر كبير مربع، وأسوار البيوت أيضًا من الحجر، لم أتصور وأنا طفلة أن وراء هذه الجدران الحجرية يمكن أن يعيش الأطفال.

في خيالي كنت أقارنها بقريتي، لم تكن السماء التي تظلِّل المدينة هي سماء القرية، الشمس كانت مختلفة والقمر والنجوم، تصورت أنها سماء أخرى وشمس أخرى وقمر آخر ونجوم أخرى.

بيت جدي شكري بيه كان كبيرًا من الحجر الأبيض، يحوطُه سور عالٍ من الحجر، وحديقة واسعة بها كلب يشبه الذئب، متوحش يكاد يعضُّني، وليس مثل الكلاب الأليفة في القرية، كنتُ أطبق بأصابعي الخمس على يد أمي، أخشى أن تفلت يدها من يدي، وحين أمشي في الشارع أتلفَّت حولي كأنما أمشي فوق مدينة مسحورة، نهاية كل شارع تَلتقي ببداية الشارع الآخر، وكلها متشابهة، مقسمة إلى أجزاء منتظمة كبيرة تبدو أكبر من مجموع أجزائها، مصنوعة من الأسفلت والحجر والحديد.

أكانت قاهرة أخرى تلك التي رأيتها في طفولتي؟ كانت تبدو لي غير حقيقية، والناس بشرتهم شاحبة بيضاء كأنما من الطباشير، وخدود النساء شديدة الحمرة مثل خدود العرائس، الشفاه أيضًا مدهونة بلون أحمر.

كانت القرية أقرب إليَّ، بيوتها صغيرة متلاصقة من الطين، طين حقيقي في متناول يدي، الشوارع أزقة صغيرة أرى بدايتها ونهايتها، والتراب فوقها حقيقي، وجوه الناس حقيقية، بشرة سمراء لوَّحتْها الشمس، جلابيبهم من القطن تفوح منها رائحة البشَر، عرق وتراب وجميز وذرة وفطير وقمح، ومياه النيل تروي الزرع، وأنا أجري مع الأطفال في الحقول، نقطَع من فوق الشجر التين البرشومي، والبرتقال أبو صُرَّة، نأكل الخيار والفول الحراتي، نملأ كفنا بمياه النيل ونشرب.

كان الماء في المدينة يخرج من صنبور حديد، وله طعم معدني، وكل شيء في المدينة حتى الخضروات والفاكهة كأنما هي صناعية غير حقيقية.

كنت طفلة لا أعرف شيئًا عن القرية أو المدينة، لا أعرف أنهما رغم الاختلاف في كل شيء يتفقان في شيء واحد، شيء واحد أراه يطلُّ من العيون، شيء لا أعرفه بالضبط، أحسُّه فوق جسدي قشعريرة، لقد وُلدت أنثى في عالم لا يريد إلا الذكور.

هذه الحقيقة كانت تَسري في جسدي مثل قشعريرة البرد، أو ربما هي قشعريرة أخرى، غامضة مثل الموت، كنتُ أُمسك القلم وأكتب الحروف، أتركُها تُعبِّر عن نفسها دون فاصل بين الحرف والحقيقة، لكنَّ الكلمات فوق الورق لم تكن أبدًا هي الحقيقة، صراعٌ لم يكن ينتهي بيني وبين الكلمات، بدل أن تكون الحروف أداة اتصال تُصبحُ عازلةً بيني وبين الأشياء.

أحيانًا كنتُ أكسر القلم، أمزِّق الورقة، أتوقف تمامًا عن الكتابة، سرعان ما أعود إليها كما تعود الطفلة إلى حضن الأم، الكتابة في حياتي مثل حضن الأم، مثل الحب يَحدث بلا سبب، ومع ذلك لم أكفَّ عن البحث في السبب، لماذا أكتب؟ لماذا قضيت عمري أكتب القصص والروايات؟ وربما كنت أريد شيئًا، أن أرسم للعالم من حولي صورتي الحقيقية، تلك التي طمسوها بصورة أخرى، أن أجعل الطفلة الصامتة في أعماقي تنطق، لم أكن تعلمت النطق بعد، لكن جسدي كان قادرًا على الإحساس بالقشعريرة، قادرًا على إدراك الصمت في العيون، قادرًا على رؤية الكلام في الحملقة من حولي، كنتُ أريد أن أُمسك شيئًا له نصل حاد شفرة المقص أو الموسى أو سن القلم، وأفتح بَطن العريس مع أختي الصغرى.

كنتُ أمسك القلم وأدوس بالسن فوق الورق، أجعل أختي الصغرى تتكلَّم، أجعل أخواتي البنات ينطقن رغم إرادة الجميع، أجعل الطفلة في أعماقي تَنطق من خلال شخصيات فوق الورق.

كنتُ طفلة تتطلَّع حولها في انبهار، ما الذي كان يبهرني في العالم من حولي منذ وُلدت؟ كانت الدنيا تبدو في عيني مثل عالم سحريٍّ، غير حقيقي، وهناك عالم آخر حقيقي يتخفَّى وراءه، وعليَّ أن أبحث عنه.

وربما كانت حياتي كلها هي هذا البحث عن الحقيقي وراء غير الحقيقي، لم أكن أَعرف وأنا طفلةً من أين يأتي الخداع؟ أهُما عيناي؟ أم أن الناس من حولي يُصوِّرون لي كل شيء على غير حقيقته، بما في ذلك نفسي؟

أتطلَّع إلى نفسي في المرآة، أُحاول أن أرى نفسي على حقيقتها، لم أعرف وأنا طفلة من يخدعني ويرسم لي صورة غير الأصل.

على مدى سنين العمر كنتُ أكتب لأجتاز هذه المسافة بين الأصل والصورة، دون جدوى، ولا يمكن للحروف فوق الورق أن تكون هي الجسد.

•••

في غابة «ديوك» في الصباح الباكر أمشي سبعة من الكيلومترات، كل يومٍ أمشي هذه المسافة بالخطوة السريعة، كما كنتُ أمشيها حول النيل في الجيزة، أشجار الغابة طويلة من نوع الصنوبر والأرز والبلوط، السماء رمادية بلا شمس ولا مطر، والهواء ساكن، وحدي أمشي بين ظلال الشجر، لا حركة ولا صوت إلا وقع قدمي فوق الأرض، القدم وراء القدم، دب، لب، دب، لب، الدقات تتعاقَب في أذني تُذكِّرني بالدقات فوق الباب. تلك الليلة من شهر يونيو عام ١٩٩٢م، بعد منتصف الليل، كنت نائمة في سريري، والساعة تقترب من الثانية صباحًا، الهواء شبه معدوم، صيف القاهرة كان حارًّا رطبًا، والدقات المتعاقبة في أذني كأنما هو حلم أو كابوس.

رأيتهم واقفين وراء الباب، مسلَّحين ومؤدَّبين، مرت إحدى عشر سنة، منذ سبتمبر ١٩٨١م، حين جاءوا ودقوا الباب، ثُمَّ كسروا بأعقاب بنادقهم ودخلوا، لكنَّهم هذه المرة دقوا الجرس، كنت غارقة في النوم ولم أسمع صوت الجرس، حينما لم أفتح دقُّوا الباب.

وجوههم تتراءى لي من وراء الضباب، من وراء البحار والمحيط، من وراء الزمن الساقط في العدم، من وراء العقل إذا كان العقل جريمة.

منذ بدأتُ أكتب وأنا أدرك الإثم، إثم التفكير أو الإحساس أو مجرَّد التفكير، لكن الكتابة عندي كانت ضرورية مثل التنفُّس، أحاول عن طريق الكلمات أن أستعيد وجه أمي، ملامحها تَضيع من ذاكرتي كأنما لم يكن لي أم، وأحيانًا تتجسَّد أمامي قبل أن أتعلم النُّطق.

كنت أبكي لترفعني أمي من الفراش وتُجلسني، كنتُ أراها أكثر وضوحًا وأنا جالسة، تحوطني بالوسائد حتى لا أسقط من فوق الكنبة، تمسك رأسي وتضع من ورائي وسادة طرية، ملمس يدها كان ناعمًا، تفوح منها رائحة أمي، رائحة خاصة بها وحدها، تتجسَّد أمامي على شكل دوائر من الألوان، تتداخل الألوان وتختلط مع حاسة اللمس والشم، ألمس الألوان بيدي، أشمها بأنفي، أتذوَّقها بلساني، أمصُّها بفمي من ثدي أمي، أتطلَّع إلى وجهها.

كان وجهها مستديرًا ناعمًا أبيض بلون الثدي، عيناها واسعتان مملوءتان بالضوء، دائرتان كبيرتان من اللون الأبيض، داخلهما دائرتان من اللون العسلي تُشعان الدفء، ناعمتان تلامسان وجهي مثل اللبن الدافئ يَسري من الثدي إلى جسدي يملؤني بالنوم، فأغمض عيني، أطفو فوق مساحات من الضوء الأبيض، أسبح في البحر، لا أرسو على الأرض، أفتح عيني وأصحو فوق صدر أمي كالشاطئ، الشاطئ الوحيد في هذا البحر الواسع، صدر أمي الناعم أحسُّ داخله النبض، النبض في صدرها يدقُّ مع النبض في صدري، هي وأنا قلب واحد داخل الجسم.

فوق الشاطئ تُعلمني أمي المشي، أنظر إلى الأرض، أتحسَّس موقع قدمي، أرفع رأسي فوق عنُقي، لم يعد رأسي أثقل من جسمي، عيناي تريان البحر بلون أزرق، الزرقة غارقة في ضوء الشمس، أملأ صدري بالهواء، له رائحة أمي والشمس والعشب وملوحة البحر.

صدر أمي ناعم مثل رمال الشاطئ، أنفاسها تعلو وتهبط مع أنفاسي، تروح وتجيء بين صدرها وصدري، يتخلَّلها الهواء ورائحة البحر، وأنا راقدة فوق الرمل داخل «المايوه» له حمالتان فوق الكتفَين، لونه كان أخضر فيه خطوط بيضاء وزرقاء وحمراء، في الصورة الفوتوغرافية تحوَّلت الألوان جميعها إلى لونين اثنين الأسود والأبيض.

لم يبقَ من هذه الفترة من عمري إلا صورة فوتوغرافية، التقطها مصور عابر في لحظة عابرة من تسعة وخمسين عامًا، أحتفظ بهذه الصورة القديمة داخل مظروف في درج مكتبي، ورقة صغيرة انطفأت لمعتها، بهت الحبر فوق الورقة، لكن الحروف بخط يد أمي لا تزال مقروءة، ماتت أمي منذ ست وثلاثين عامًا، لكن حروفها أمام عيني موجودة فوق الصورة، بلاج الشاطئ بالإسكندرية، ١٨ يونيو ١٩٣٥م.

أرى نفسي راقدةً فوق الشاطئ داخل المايوه، فيه خطوط سوداء وبيضاء، إلى جواري أمي داخل المايوه، لونه أسود وأبيض، يُخفي صدرها وبطنها، له حمالتان فوق الكتفين، أختي الصغرى «ليلى» تجلس بين ساقي أمي داخل مايوه صغير يُشبه الذي أرتديه، في الطرف الآخر من الصورة يجلس أبي عاري الصدر والبطن، يرتدي مايوه بلا حمالات فوق الكتفين، إلى جواره أخي عاري الصدر والبطن مثله، يرتدي مايوه صغير بلا حمالات، لا يُغطي من جسمه إلا الجزء الصغير أسفل البطن.

كانت أمي تحملني فوق مياه البحر، تُعلمني كيف أطفو فوق الأمواج، أضرب المياه بذراعي وساقي وأضحك، أغطس وأنا أضحك، تضحك أمي وتنشلني من الماء، صوت الضحك يعلو فوق الموجات، الأمواج تعلو ثُمَّ تهبط منكسرة على شكل رغاوي بيضاء، اللون الأبيض يذوب في زُرقة البحر، والزرقة تذوب في الهواء، البحر والسماء يَلتقيان في الأفق البعيد على شكل نصف دائرة، ذراعا أمي من حولي ترفَعاني فوق أمواج البحر، رأسي يلامس السماء.

أمي كانت تَسبح وحدها كأنما هي موجة في البحر، تصوَّرتُ أنها ابنة البحر، إنَّ البحر ولدها وهي ولدتني، أنا وهي خرجنا من هذه المياه الزرقاء الدافئة، فوق هذه الرمال الناعمة البيضاء، تحت السماء الزرقاء الصافية، ومن حولنا الأشعة الذهبية من الشمس، إنه بحرنا وشاطئنا وشمسُنا وهواؤنا، أنا وأمي هذه هي أرضنا، أصواتنا حين نضحَك ينقلها الهواء، تحملها الأمواج إلى أمواج أخرى، إلى بلاد أخرى، بلا نهاية، بلا نهاية، تحوطني ذراعاها فوق الأمواج، ثُمَّ تتركني أسبح وحدي، ثُمَّ تعود تمسكني وتحوطني، جسمها يصبح جسمي ثُمَّ ينفصل عني، أصبح أنا وحدي وهي جسم آخر منفصل، نلعب معًا فوق الأمواج هذه اللعبة اللانهائية، الاتصال ثُمَّ الانفصال، ثُمَّ الاتصال والانفصال من جديد.

في الصورة كان أبي جالسًا بعيدًا عني وقريبًا من أخي، أبي كان يبقى دائمًا بعيدًا، تفصلنا هذه المسافة في الصورة، هذه المساحة فوق الشاطئ، أحيانًا تمتد ذراعي في الحلم لأعانق أبي، لكن ذراعاه لا تمتدَّان نحوي، يحافظ دائمًا على هذه المسافة بيننا، يحتلُّ مساحته بعيدًا عني، جسده طويل فارع القامة، له شارب أسود مربَّع فوق الشفة العليا، حين يقف فوق رمال الشاطئ يحجب عني البحر والشمس، يقف طويلًا عملاقًا لا يقترب، ولا يَنحني ليطبع فوق خدي قبلة، لم يُقبِّلني أبي مرة واحدة في حياتي حتى مات. كان يقف، عظام ذراعيه وساقيه بارزة تحت الجلد، بشرته سمراء بلون الطمي، يغطِّيها شعر أسود فوق الصدر، عضلاته بارزة تحت الشَّعر، باردة الملمس، فيها صلابة، تعلوها قطرات من مياه البحر لها طعم الملح.

كان لجسم أبي فوق الرمال البيضاء خطوط واضحة تحدِّد وجوده، هذا الوجود المستقل الصلب داخل كون سائل تذوب فيه زرقة السماء في مياه البحر، هذا الوجود سيُصبح هو العالم الخارجي، عالم أبي سيُصبح هو الأرض، الوطن، الدين، اللغة، الأخلاق، التاريخ، المستقبل، سيُصبح هو العالم من حولي، عالم من الأجسام الذكورية أعيش فيه بجسم الأنثى.

إنه البحر المالح (الأبيض المتوسط)، وأنا راقدة فوق الشاطئ، قماش المايوه من النوع المطاط، يضغط على صدري وبطني، يمنَع عنهما الهواء والشمس، أبي يقف عاري الصدر والبطن، يعرِّض صدره وبطنه للهواء وأشعة الشمس، أخي مثل أبي يرتدي مايوه بلا حمالات فوق الكتفين، صدره وبطنه عاريان تحت الشمس والهواء.

كنتُ أشد الحمالات من فوق كتفي، أكشف صدري وبطني للهواء والشمس، تَرتفع يد خالتي نعمات في الهواء وتضربني، وصوتها يخرق أذني: عيب! وأصرخ: إشمعنى طلعت! يعود إلى صوتها مثل نعيق البوم: هو ولد وانتي بنت!

كانت هذه العبارة تخرق أذني منذ وُلدت، تدخل فمي في مياه البحر المالح: «هو ولد وانتي بنت»، أحسُّ الملوحة في حلقي، ملوحة غريبة، زرقة البحر تتحوَّل إلى مسحوق من الملح، الشمس تتحول إلى شيء يحرق الجلد، الألوان الخضراء والحمراء الذهبية كلها تُصبح سوداء أو رمادية.

ربما هو الغضب بدأ ينمو في أحشائي مثل عشب البحر، حشائش رفيعة سوداء كنت أراها تسبح داخل المياه الزرقاء، ترسُب في القاع ثُمَّ تطفو، تلفظها الأمواج فوق الشاطئ، تجفُّ تحت الشمس مثل الثعابين أو قراميط البحر الميتة.

كان الغضب لا يَزال وليدًا في أحشائي كالعود الصغير الأخضر، الخضرة تذوب في الزرقة، والزرقة تذوب في اللون الأسود، تتداخَل الألوان ومعها الغضب وأحاسيس أخرى مشتقَّة من الغضب.

أخي يكشف صدره للهواء والشمس، وأنا أخفي صدري، صدري عورة تستوجب الإخفاء، كلمة «عورة» تخرق أذني مثل المسمار، كلمة نابية، كان صدري أملس مثل صدر أخي بلا نهدين، كنت طفلة صغيرة أصغر من أخي، لم أكن تعلمت الكلام أو الرد على الكبار مثل أبي، لكن كنتُ قد أصبحت داخل ذلك العالم الكبير، عالم أبي، يتحدَّد فيه موقعي لمجرَّد أنني بنت.

كان أبي يتطلَّع نحو السماء، في الليل قبل العشاء، يجلس في الشرفة البحرية يطلُّ على النجوم، أمي في المطبخ تجهِّز الطعام، أخي إلى جوار أبي يتطلَّع معه إلى السماء، أبي يخاطب أخي ولا يُخاطبني، يقرأ القرآن كتاب الله.

تصوَّرتُ في طفولتي أن هذه السماء ونجومها من اختصاص أبي وأخي، يشير أبي بإصبعه إلى مجموعة من النجوم تلمع بعيدًا في الظلمة، ويقول لأخي: هذا نهر المجرَّة، وهذا هو المريخ، وعطارد، والمشترى، و…

كان أبي يَحكي لنا عن آدم، كيف فضَّله الله على الملائكة، وأمر إبليس أن يسجد له، كيف سجدت الشمس والقمر والكواكب لسيدنا يوسف، أستمع إلى أبي مفتوحة الفم متسعة العينين، أنام على صوت أبي وهو يحكي: أنزلق في النوم كأنما أغرق في البحر، أغرق حتى ألمس القاع، وأشرب الماء المملَّح، أمي أصبحت غائبة، ذراعان غائبتان، لا أحد ينتشلني من القاع، أصحو من النوم في حلقي طعم الملح، فوق الفراش من تحتي بلولة الماء المالح لها رائحة البول.

أنهض من السرير مُنكمشةً في خزي، أحوط صدري بذراعي أخفي عورتي، أخفي بلولة السرير تحت الغطاء، تأتي خالتي نعمات وتكشف الغطاء، ويرتفع صوتها في جميع أنحاء البيت تُعلن الفضيحة في الكون.

كانت أمي تَنسحب من حياتي بالتدريج، لم أعد أراها إلا في المطبخ، لم أعد أسمعها تتكلَّم، تجلس معظم الوقت تستمع إلى حكايات أبي … أبي ينتقل من الحديث عن الله وسيدنا محمد إلى الحديث عن الملك والإنجليز، بعد ذلك يتحدث عن الناظر، كُنَّا في مدينة الإسكندرية، وأبي يشتغل مدرِّسًا في مدرسة العباسية الثانوية ورئيس المدرسة اسمه الناظر.

المسافة بيني وبين أمي كانت تتسع، المسافة بيني وبين أبي تضيق، أصبحت أمي تَجلس في الطرف الآخر من الكنبة، بعيدًا عني، يزداد البعد عامًا وراء عام، يُمدِّد أبي ساقيه الطويلتين ويحتل المساحة كلها، مساحة أمي تصغر وتصغر، تنكمش حول جسمها وهي جالسة، تهدَّل ثدياها من كثرة الترضيع، اختفى خصرها مع ارتفاعات البطن بالحمل، تراكم عليها الشحم بلون شاحب.

أمي لم تعد تَنتمي إلى العالم الذي يضمُّ أبي وأخي وأنا، إنها تنتمي إلى عالم آخر، ما إن أتخيله حتى يقشعر جسمي، عالم المطبخ تفوح منه رائحة الثوم مع البصل، يملؤه الدخان أو الهباب يتصاعد عن وابور الجاز، عالم أبي كان هو الشرفة البحرية، تطلُّ على مشتل الزهور والنجوم في الليل، والله في السماء، وسيدنا محمد، والملك والإنجليز والناظر.

«اقلب دواية الحبر على تقريرك يا أستاذ!»

إنه صوت أبي يُخاطب الناظر، كان صوته يدوي في الشرفة البحرية، وهو يَحكي لنا، صوته يملأ الكون، تسري القشعريرة في جسدي مثل برد الشتاء، أغمض عيني، أتفادى الضوء مع أن الليل مظلم، أُخفي عن أبي شيئًا لا أريد أن يراه، أهما عيناي، كنتُ أخفيهما، أخشى أن يرى فيهما أحشائي حيث العشب الراسب في القاع بلون الحبر الأسود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤