الفصل الأول

أثناء قراءة الشعر القديم١

قال صاحبي وهو يُحاورني: إنكم لتشقون علينا حين تكلفوننا قراءة شِعْرِكُم القديم هذا، وتُلحون علينا فيه، وتعيبُوننا بالإعْرَاض عنه، والتقصير في درسه وحفظه وتذوقه؛ لأنكم تنكرون الزَّمن إنكارًا، وتلغونه إلغاء، وتحسبون أننا نعيش الآن في القرن الأول قبل الهجرة أو بعدها، ونستطيع أنْ نأتي من الأمر ما كان أهل ذلك الزمان يأتون، وأنْ نحس كما كانوا يحسون، ونشعر كما كانوا يشعرون، ونفهم من أجل ذلك ونذوق ما كانوا يقولون، وأنتم مع ذلك تقرءون التاريخ وتدرسونه.

وكيفَ يَسْتَقِيم لكم درس الأدب إذا لم تُقيموه على إتقان التاريخ والعلم به؟ فأنتم إذن تعرفون أنَّ حياتنا غير حياة هؤلاء النَّاس، وأنَّ أطوارنا غير أطوارهم، وأنَّ الصلة قد انْقطعتْ أو كادت تنقطع بينهم وبيننا، ولا سيما بعد أن أقبل العصر الحديث، وحمل إلينا الحضارة الحديثة، وما تفرض على الناس من أساليب الحياة والتفكير، فباعد بيننا وبين القدماء، وغير طبائعنا وأمْزِجَتنا وأذواقنا، وجعل الأسباب بيننا وبين المُحدثين من أهل الغَرْب، أدنى من الأسباب بيننا وبين القدماء من أهل نجد والحجاز.

فنحنُ يا سيدي نتعلم الإنجليزية والفرنسية فنُتقنها أحيانًا، ويُتاح لنا أنْ نقرأَ الشَّيءَ الكَثِيرَ أو القَليل من آثار الشعراء الإنجليز والفرنسيين والألمان، فنفهم ما نقرأ ونتذوقه، ونجد فيه لذة ومَتاعًا، وغِذَاءً للعُقول والقلوب، لا نحس بيننا وبين هؤلاء الشُّعراء من بُعْدِ الأَمَدِ، واختلاف الطبع والذوق والمِزَاج، مِثْل ما نُحِسُّ بيننا وبين أصحاب شعركم هذا القديم؛ لأننا نحيا حياةً تقارب حياة الشعراء الأوروبيين، ولأننا نستمد عِلْمنا وأدبنا وفننا في هذه الأيام من الينابيع نفسها التي يستمد منها الشعراء الأوروبيون عِلْمَهُم وأدبهم وفنَّهم، ولأنَّ اتِّصال الأمْرِ بيينا وبينهم على هذا النَّحو يُدْنِينا منهم، ويقرب أدبهم إلينا، ويُحدث بيننا وبينهم صلاتٍ يَسِيرَة هَيِّنة، لا مَشَقَّة فيها ولا جهد.

والأيام كُلَّمَا مَضَتْ واتَّصَلَتْ زَادت البعد بيننا وبين شعرائكم هؤلاء القُدماء، والحياة كُلما تَطَوَّرَتْ وتحولتْ زادت في تغييرِ طَبائعنا، وفي تغريبنا، إن صح هذا التعبير.

فكيفَ تُريدوننا على أن نجد في هذا الشعر القديم من اللذة والمتاع ما نبحث عنه فلا نظفر به؟ وكيف تريدون أنْ تفرِضُوا علينا عناء البَحْثِ عَمَّا لا سَبِيلَ إِلَيْهِ، والدرس لما لا نفع في درسه، والحِفْظ لِكَلَامٍ لا تسيغه أفواهُنا حين تَنْطِقُ به، ولا تقبله آذاننا حين يُلقى إليها، ولا يصل إلى نفوسِنا بحالٍ من الأحوال؟

إنكم لتضيعون وقتكم ووقتنا في غير نفع، وإنكم لتكلفون أنفسكم وتكلفوننا ضروبًا من الجهد العنيف في غير طائل، ولو أنكم تُقدرون الوقت، وتعرفون للجهد الإنساني قيمته، لوضعتم شعركم القديم هذا حيثُ أرادت الحَياةُ أنْ تَضَعَهُ، فقصرتم درسه وفهمه وتفسيره على هؤلاء العُلماء الإخصائيين، الذين يفرغون لما يُلائم ذوقهم من ضروب العلم، فيُعنون به، وينفقون جهودهم فيه، يبتغون لذَّتَهُم الخَاصَّة، ويَبْتَغُون ما يُسَمُّونه خِدْمَة العِلْمِ، وإحياء التاريخ، وما ينبغي لأحد أن يلوم رجلًا في العناية بالشعر الجاهلي، أو يصده عن هذه العناية، ما دام في الناس من ينفق الوقت والجهد والمال في جمع طوابع البريد وما يُشبهها من هذه السخافات، التي يتهالك على جمعها أصحاب الثراء والدعة والفراغ.

رفقًا بالشباب، لا تفرضوا عليهم الترف فرضًا، ولا تكلفوهم ما لا يُطيقون، ولا تأخذوهم بما تُحبون أنْ تأخذوا به أنفسكم؛ فإنَّ الإغراقَ في نوعٍ من أنواع التَّخَصُّص خُروجٌ عَمَّا أَلِفَ النَّاسُ، ومَا يَنْبَغِي أنْ يخرج الناس جميعًا عما ألف الناس.

لا تفرضوا شعركم الجاهلي، بل شعركم القديم، على الطلاب والتلاميذ، فليس هذا الشعر منهم، وليسوا هم من هذا الشعر في شيء، علموهم ما يستطيعون أن يتعلموا، وخذوهم بحِفْظ ما يَستطيعون أن يحفظوا، ولا تفسدوا عقولهم وأذواقهم بتكليفهم ما لا يُطيقون.

وكان صاحبي يقول هذا كله في صوتٍ حازم، ولهجةٍ حادة، وحَمَاسة تكاد تبلغ العنف، ونشاط لم يقتصر على نفسه المُفكرة العاقلة، وإنما تجاوزها إلى جسمه أيضًا، فكان كثير الحركة والاضطراب: يقوم ويقعد، ويتلفت إلى يمين وإلى شمال، ويُحَرِّك يديه وذراعيه حركات عنيفة مُختلفة، كأنه كان خطيبًا يُريد أن يُقهر الجماهير.

ولستُ أُخفي عليك أني أنفقتُ كثيرًا من الجهد، وتكلفتُ كثيرًا من العناء، لأرده إلى شيءٍ من الهدوء ولأقنعه بأن من حقه أن يقول، ولكن من الحق عليه أن يسمع، وأكاد أعترف بأني يئست من حمله على الصمت والاستماع، ولولا أني انصرفت عنه، وهممت بفراقه، لما اتصل بينه وبيني الحديث في هذا الموضوع.

ذلك أنه مُخلص كل الإخلاص في بُغض هذا الشعر القديم المسكين، ويظهر أن بينه وبين هذا الشعر ثأرًا؛ فهو قد كان يلتمسُ مَثَلَه الأدبي الأعلى أول أمره عند القدماء من العرب، وكان في هذا مُتأثرًا بغيره من المُثقفين والممتازين.

وهو قد قرأ بعض الشعر العربي القديم في ديوان الحماسة وغير ديوان الحماسة من كتب المختارات، ففهم وتذوَّق ولكنه لم يرضَ! فاستزاد وأكثر القراءة وأراد أن يتعمق الدرس، وتجاوز الحماسة وأمثالها من الكتب اليسيرة إلى كتبٍ أخرى، أقل يسرًا وأشد إمعانًا في المذهب العربي الخالص في الشعر، فأخذ ينظر في الأراجيز والمفضليات ومطولات الجاهليين، ونقائض الفرزدق والأخطل وجرير.

ولكنه لم يكد يمضي في هذا النظر حتى قامت أمامه صعابٌ وعقاب، لم يجد إلى تذليلها من سبيل، فألفاظ ضَخمة تَنْبُو عنها أذنه وتستغلق معانيها عليه، فإذا حاول فهمها لجأ إلى الشروح والمعاجم، فإذا هذه الشروح والمعاجم مُضطربة، شديدة الاختلاط، كثيرة الاستطراد، وإذن ففهمها ليس أدنى إليه، ولا أيسر عليه، من فهم النَّص الشِّعري الذي يلتمس تأويله وتفسيره.

وقد وقع المسكينُ على شرح ابن الأنباري للمُفضليات، فضلَّ ضَلالًا بعيدًا في هذا الكلام الكثير الذي تخلتط فيه الروايات والأقاويل، ومسائلُ النَّحْوِ، ومَذَاهِبُ اللُّغويين، ثم وقع على النقائض، فلم يكن ضلاله قريبًا، وإنما كان بعيدًا كل البعد، يبدأ القصة فلا يعرف كيف تنتهي؛ لأنه لا يكادُ يتقدم فيها خطوة أو خطوتين حتى يجد نفسه قد دُفع إلى قصة أخرى، ولا يكاد يمضي في هذه القصة الثانية حتى يدفع إلى قصة ثالثة، وهو لا يكاد يمضي في هذه ولا تلك حتى يجدَ الشِّعر يُروى من هنا وهناك، قد ركب بعضه بعضًا، واختلط بعضه ببعض، ولم تقم في الصحراء أو في هذه الغابات أعلام يهتدي بها إن مضى، ويعتمد عليها إن رجع، فأعرض عن الكتابين إعراضًا، ويئس من الأدب القديم يأسًا، والتمس من كُتب المُحدَثِين ما يُقَرِّب إليه هذا الأدب النافر، ويُذلل له هذا الفن الجامح، فلمْ يَجِد شيئًا.

هنالك فزع إلى الأوروبيين، فوجد من أدبهم ومن نظامه الذي يقربه وييسره ما أرضاه، فأصبح مُبْغِضًا للأدب القديم بطبعه، مُحبًّا للأدب الأجنبي أعظم الحب، ثُمَّ ذكر أنَّ الأدبَ القَدِيمَ كانَ يُفْرَضُ عليه في المدرسة فيحمله من المشقة ما لا يُطيق، ويُبغض إليه المدرسة تبغيضًا، ونظر فإذا الطلاب والتلاميذ ما يزالون يَشْقَوْن بمثل ما كان يشقى به، ويجاهدون في مثل ما كان يُجاهد فيه، وينتهون إلى ما كان يَنْتَهي إليه من العَناء واليأس والإخفاق.

فأصْبَحَ لا يُطيق حديثًا عن الشِّعر القديم، ولا يُطيقُ التَّفكير في أنه شيء يُمكن أن يَدرسه الشباب، أو يفرغ له غير هؤلاء المجانين، الذين يُسمون أنفسهم ويُسميهم الناس علماء.

وقد أطلتُ الحوار مع صاحبي، فلمْ أظفر منه بشيء؛ لأنَّ انصرافه عن الشِّعر القَدِيم، قد أصبح عِلَّة، قد استقرَّتْ في نَفْسِه استقرارًا، تُؤذيه كل الإيذاء، وليس في شفائها أملٌ، ولا إلى إنقاذه مِنْهَا سبيل.

وقد تحدث إليَّ المُتحدثون بأنَّ أمثال صَاحِبي هذا قد أخذوا يكثرون، ويظهر أنهم سيكثرون كُلَّما تَقَدَّمت الأيام؛ لأنَّها، كما قال صاحبي، تُباعد بينهم وبين حياة القدماء، وتَحُول بينهم وبين فهم هذه الحياة، وما كان يصوِّرُها من الأدب القديم.

والناس مفتونون بالسهل، متهالكون على القريب، يكرهون الجهد، ويفرُّون من التَّعب، والحَضَارَةُ الحديثة تُغْرِيهم بِهَذا، فهُم لا يمشون إذا استطاعوا الرُّكوب، وهم لا يتخذون القطار والسفينة إذا استطاعوا اتخاذ الطيارة، وهم يجدون في الأدب الأجنبي الحديث ما يُرضيهم؛ فإنْ أَرَادُوا اللذة الفنية ظفروا بها، وإن أرادوا اللهو انتهوا إليه، وإنْ أرادوا إنفاق الوقت لم يجدوا في ذلك جهدًا ولا عناء.

ومَع أنَّ الجهود التي بُذلت في هذا العصر الحديث لإحياء الأدَب العَربي القَديم لا بَأسَ بها؛ فقد يجبُ أنْ نَعْتَرِف بِأَنَّها لم تُغنِ عن هذا الأدب القديم شيئًا؛ لأنَّ الحضارة الحديثة تملك من الوسائل ما لا يَمْلِكُه الأدب القديم، فهي تسعى إلينا وتبلغنا من كلِّ وَجْهٍ، وهي تُلِحُّ علينا إلحاحًا في جميع أطوار حياتنا، وإنتاجها الأدبي لا ينقطع؛ فهو يغمرنا بكثرته، ويغرينا باختلافه، ويفتننا بسحره، ويصرفنا عن هذا الأدب القديم، الذي لا يكاد يسعى إلينا إلا بطيئًا قد أثقلته القرون.

وهو لا يكاد يخطو إلينا خطوة حتى يتعَثَّر في هذه العقبات التي تبثها الحضارة الحديثة أمامه، والتي يتصل بعضها بالعِلْم، وبعضُها بالجَهل، وبعضها بالذَّوق المُترف الرَّقيق، وبعضها بالذوق الخشن الغليظ، وبعضها بما شئت وبما لم تشأ من هذه الخطوب التي تفرضها الحضارة الحديثة علينا فرضًا، فتصرفنا عن كل ما يحتاج إلى الجهد والروية والأناة.

ومعنى ذلك أنَّ الأدَبَ القديم صائر، إذا مضت الأُمور على هذا النحو الذي تمضي عليه، إلى أنْ يُصْبِحَ لونًا من ألوانِ التَّرف، لَا يُعنى به ولا يتوفر عليه إلا الذين يفرغون للتخصص في بعض الفنون، ومع ذلك نُحِبُّ لأدبنا القديم أنْ يَظَلَّ في هذا العصر الحديث كما كان من قبل ضرورة من ضرورات الحياة العقلية، وأساسًا من أُسس الثقافة، وغذاء للعقول والقلوب.

ونحنُ لا نُحِبُّ أنْ يظلَّ الأدَبُ القديمُ في هذه الأيام كَمَا كانَ مِنْ قَبل؛ لأنَّنا لا نُحِبُّ القديم من حيث هو قديم، ونصبو إليه مُتأثرين بعواطف الشوق والحنين، بل نحن نحبُّ لأدبنا القديم أن يظلَّ قوامًا للثقافة، وغذاء للعقول؛ لأنَّه أساسُ الثقافة العربية؛ فهو إذنْ مُقَوِّم لشخصيتنا، مُحَقِّق لقَومِيتنا، عاصمٌ لنا من الفناء في الأجنبي، معين لنا على أن نعرف أنفسنا.

فكل هذه الخصال أمور لا تقبل الشك، ولا يحسن فيها المراء، ولكننا مع ذلك نحبُّ أن يظل أدبنا القديم أساسًا من أسس الثقافة الحديثة؛ لأنه صالح ليكون أساسًا من أُسس الثقافة الحديثة؛ ونُحِبُّ أنْ يَظَلَّ أَدَبُنا القديم غذاء لعقول الشباب؛ لأنَّ فيه كنوزًا قيمة تصلح غذاء لعقول الشباب.

والذين يظنون أنَّ الحضارة الحديثة قد حملت إلى عقولنا خيرًا خالصًا يخطئون؛ فقد حملت الحضارة الحديثة إلى عقولنا شرًّا غير قليل، لم يأتِ منها هي، وإنَّما أتى مِنْ أَنَّنا لم نفهمها على وجهها، ولم نتعمق أسرارها ودقائقها، وإنما أخذنا منها بالظواهر، وقنعنا منها بالهين اليسير، فكانت الحضارة الحديثة مصدر جمود وجهل، كما كان التَّعَصُّب للقديم مصدر جمود وجهل أيضًا.

هذا الشاب، أو هذا الشيخ الذي أقبل من أوروبا يحمل الدرجات الجامعية، ويُحسن الرطانة بإحدى اللغات الأجنبية أو بغير لغة من اللغات الأجنبية، ويَجْلِسُ إليك وإلى غيرك مُنتفخًا مُنتفشًا، مُؤمنًا بنفسه وبدرجاته وبعِلْمِه الحديث، أو أَدَبِهِ الحَدِيث، ثم يَتَحَدَّثُ إليك كأنه ينطق بوحي أبولُّون، فيعلن إليك في حزمٍ وجزم أنَّ أَمْرَ القَدِيمِ قَد انْقَضَى، وأنَّ النَّاس قد أظلهم عصر التجديد، وأن الأدب القديم يجب أن يترك للشيوخ الذين يتشدقون بالألفاظ، ويملئون أفواههم بالقاف والطاء وما يُشبههما من الحروف الغلاظ، وأنَّ الاستمساك بالقديم جُمود، والاندفاع في الحياة إلى أمام هو التطوُّر، وهو الحياة، وهو الرُّقي.

هذا الشاب وأمثاله ضحية من ضحايا الحضارة الحديثة؛ لأنَّه لم يفهم هذه الحضارة على وجهها، ولو قد فهمها لعَلِمَ أنَّها لا تُنْكِرُ القديم ولا تنفر منه، ولا تصرف عنه، وإنما تُحَبِّبه وتُرَغِّب فيه، وتَحُثُّ عليه؛ لأنها تقوم على أساسٍ منه متين، ولولا القديم ما كان الحديث.

وإن بين أدباء الأوروبيين الآن لقومًا غير قليلين، يُحسنون من آداب القدماء ما لم يكن يُحسنه القدماء أنفسهم، ويعكفون على درس الأدب القديم أكثر مما كان يعكف كثير من القدماء، ويُؤمنون بأنَّ اليومَ الذي تنقطع فيه الصلة بين حديث أدبهم وقديمه هو اليوم الذي يَقْضِي فيه الموت على أدبهم، ويُحال فيه بينهم وبين كل إنتاج.

هذا الشاب ضحية من ضحايا الحضارة الحَديثة، أو من ضَحَايا جهل الحضارة الحَديثة، وشره ليس مَقْصُورًا عليه، وإنَّما يَتَجَاوَزُه إلى غيره منَ النَّاس فهو يَتَحَدَّث، وهو يعلِّم، وهو يكتب، وهو في هذا كله ينفث السم، ويُفسد العقول، ويمسخ في نفوس الناس المعنى الصحيح لكلمة التجديد؛ فليس التجديد في إماتة القديم، وإنَّما التجديد في إحياء القديم، وأخذ ما يصلح منه للبقاء.

وأكاد أتخذ الميل إلى إماتة القديم أو إحيائه في الأدب مِقْياسًا للذين انتفعوا بالحضارة الحديثة أو لم ينتفعوا بها، فالذين تُلهيهم مَظَاهِرُ هذه الحضارة عن أَنْفُسهم حين تُلهيهم عن أَدَبِهم القديم، لم يَذُوقوا الحضارة الحديثة ولم ينتفعوا بها، ولم يفهموها على وجهها، وإنما اتخذوا منها صورًا وأشكالًا، وقلَّدوا أصحابها تقليد القردة لا أكثر ولا أقل.

والذين تلفتهم الحضارة إلى أنفسهم وتدفعهم إلى إحياء قديمهم، وتملأ نفوسَهُم إيمَانًا بألا حياة لمصر إلا إذا عنيت بتاريخها القديم وبتاريخها الإسلامي، وبالأدب العربي قديمه وحديثه، عنايتها بما يمسُّ حياتها اليومية من ألوان الحضارة الحديثة، هم الذين انتفعوا، وهم الذين فهموا، وهم الذين ذاقوا، وهم القَادِرُون على أنْ ينفعوا في إقامة الحياة الجديدة على أساسٍ متين.

وأراني شغلتُ عن صاحبي وحواره، وعن موضوع هذا الحوار بهؤلاء الذين أفسدهم الأخذ بظواهر الحياة، فجَهلوا القَديم ثم كرهوه، ثم اتخذوا من جهله وكراهته مَذْهبًا يغرون به ويدعون إليه.

على أني قلت لصاحبي فيما قلتُ: إنما أمر الأدب القديم عندي أشبه بحديقة طال عليها الزمن، وأُهْمِلت إِهْمالًا مُتَّصلًا، ولم تنقطع عنها مع ذلك مادَّة الحَيَاة، فمضت أشجارُها وشُجَيْرَاتُها تنمو في غير نظام، هذا النمو المهمل المضطرب، حتى اختلط أمرها اختلاطًا شديدًا، وحتى أصبح من العسير عليك وعلى أمثالك أن تجدوا فيها سبيلًا إلى ما تحبون من النزهة والرَّاحة إلى جمال الزَّهر والشَّجر، فأنتم قد أَلِفْتُم الحدائق التي يتعهدها البُسْتَانِيُّ إذا أصبح، ويتعهدها إذا أَمسى، ويُنَسِّقُها لكم تنسيقًا، ويُمَهِّد الطرق لكم فيها تمهيدًا.

أنتم تريدون الراحة دون أن تتكلفوا في سبيلها التعب، وتلتمسون اللذة دون أن تحتملوا في سبيلها الألم، تريدون أن تسعوا في الحدائق دون أن يعوقكم التفاف الشجر، والتواء الأغصان، وقيام هذه العقبات التي يكلف بها الذين يُحسنون فنَّ النُّزهة، ويتذوقون الجمال الحُرَّ.

أنتم تُريدون أن تُهيأ لكم لذةُ الفن تَهيئة، وأنْ يُوضع لكم الطعام في أفواهكم والعلم في قلوبكم، وأنا أعرِفُ قومًا يُؤثرون هذه الحدائق الحرة، التي طال عليها الزمن وألحَّ عليها الإهمال، على حدائقكم هذه المُنَسَّقة المُنَظَّمة التي أُعِدَّت لكم إعدادًا.

وأعرف قومًا لا يظفرون بهذه الحدائق المُهملة فيبتكرونها لأنفسهم ابتكارًا، ويتكلفون إهمال حدائقهم، وإرسال ما ينبت فيها من الشجر والنجم على سجيته، ليتهيأ لهم بعد زمنٍ يقصر أو يطول، أن يجدوا في طريقهم أشجارًا مُلتفة، وأغصانًا مُلتوية، وعقبات خضراء، يضطرون إلى أن يُزيلوها بأيديهم، ويتعرضونَ لأنْ يُصيبهم منها قليل من الأذى أو أكثر.

أعرف هؤلاء الناس، وأحبُّ أن أكون منهم، ولستُ أخفي عليك أني إذا لم أكره الأدب السهل المُيَسَّر فإني أوثر عليه الأدب الصعب الذي يُكلفني مَشَقَّةً وجهدًا لأفهمه وأذوقه، وإذا كان شِعْرُنا القَدِيم يمضك ويُؤذيك، وإذا كانت كُتُبنا القَدِيمة التي أُلِّفت لشَرْحِ هذا الشَّعر وتفسيره تثقل عليك؛ فإني أجد في هذا الشعر، وفي هذه الكُتب، مَتاعًا لا أَجِدُه في هذا الأدب الحديث الذي تؤثره وتتهالك عليه، والذي أحبه ولكني لا أوثره بالحبِّ، ولا أَخْتَصُّه بالعناية، ولا أرى أنه كل شيء.

وقلتُ لصَاحبي فيما قلتُ: إنَّ ما يَصرِفُك عن الشِّعر القديم يُغريني به، وما يُزَهِّدك فيه يدفعني إليه؛ فأنت تكره هذه الألفاظ التي تكلفك البحث في المعاجم، وأنا أحبُّ هذه الألفاظ؛ لأنَّها تُكلفني البحث في المعاجم، وأنت تكره هذه الشروح التي تختلط فيها الروايات، ويكثر فيها الاستطراد، وتنبثُّ فيها مسائل النحو، وأنا أُحب هذه الشروح لنفس هذه العلل.

وأنا أعلم أن الناس جميعًا لا ينبغي أن يُؤخذوا بما آخذ به نفسي، وأنَّ الناس جميعًا لا ينبغي أن يكلفوا قراءة شرح ابن الأنباري للمفضليات، وأعلمُ أيضًا أنَّ العِلم بهذه الأشياء يجب أنْ يكون مَقْصُورًا على عددٍ لا بأس به من العلماء، ولكني أعلم مع هذا أنَّ هؤلاء العُلماء لا ينبغي أنْ يُؤثروا أنفسهم بالعلم، وأن يحتكروه من دون الناس، وإنَّما يجبُ عليهم أنْ يتعبوا لتستريح أنت وأمثالك، وأن يَشقوا لتَسْعَد أنت وأمثالك، وأن يستخرجوا لكم من هذه الحدائق القديمة المُهملة، التي طال عليها الزمن، وبَعُدَ بها العَهدُ، زهرات لا تستطيعون أنتم أن تخرجوها، فمن يدري لعلَّ هذه الزَّهرات أنْ تُعْجبكم، ولعلها أن تُغْريكم بمصادرها، ولعلَّها أن تُثير في نفوسكم شيئًا من النشاط والغيرة، وتدفعكم إلى أن تُخاطروا بالسعي بين هذه الأشجار المُلتفة، والأغصان الملتوية، لتستخرجوا مثل ما يخرجه لكم العلماء من الزهر والثمر.

وأنا أبيح لك كلَّ شيءٍ إِلَّا أنْ تَزْعُم أنَّ حَدِيقتنا المُهملة قد أماتها الإهمال، وأذواها طولُ الزَّمَن، فلم يبقَ لها حظٌّ مِنْ حياة، وأنا أُبيحُ لك كل شيء إلا أنْ تزعم أن أَدَبَنا القديم قد ماتَ لأَنَّه قديم؛ فأنتَ إنْ زعمت ذلك، تزعمه عن جهل؛ لأنك لم تسعَ في حديقتنا، وإنما صدَّك عنها مَظْهَرُها المُهمل المضطرب، الذي اشتد فيه الاختلاط، فإن كنت في شك من ذلك فالأمر بينك وبيني يسير، فتعالَ نَقْضِ مَعًا ساعة أو بعض ساعة مُتنزهين في طرف من أطراف هذه الحديقة المُهْمَلة، ولك عليَّ أَلَّا أُمْعِنَ بك فيها إمعانًا، وأن أهوِّن عليك أمر هذه النُّزهة ما استطعت تهوينه؛ فإنْ رَجَعْتَ مِنْها أسفًا فأنا المُخطئ، وأنت المُصيب.

قال صاحبي: فإني قد قبلت، وإنْ كنتُ أعلمُ حقَّ العِلْمِ أنَّك ستكلف نفسَك وتُكلفني معك مشقة لا طائل فيها ولا غناء، ولكنِّي أُريد أن أُقيم عليك الحُجَّة، وأكرهك على أن تعترف بالحقِّ، وأضطرك إلى أن تُعلن أن شعركم القديم قد بَلِي فلم يصبح لنا فيه أرب.

قلتُ: لا تعجل، ولكن في أي طرف من أطراف الحديقة تُريد أن نَقْضِي سَاعة من نهار؟ قال: تخيَّر أنتَ فما ينبغي لي أنا أن أختار، قلتُ: فإني أختار أشد أطراف الحديقة اضطرابًا وأكثرها اختلاطًا، وأبعدها عهدًا بالمُحدَثين، وأريد أن نقضي ساعة أو بعض ساعة مع شاعر من هؤلاء الشُّعراء الذين يسمونهم الجاهليين، ننظر في قصيدة من هذه القصائد التي يُسمونها المُعلقات.

ثم تَمَّ الاتِّفاقُ بيننا على أن يكون يوم الأربعاء من كل أسبوع مَوعِدًا لهذه النُّزهة في صحراء الأدب الجاهلي، التي يراها الناس صحراء، وأراها أنا حديقة من أجمل الحدائق وأروعها، وسنرى كيف يكونُ حكم صاحبي، وكيف يكونُ حكم القراء حين يقرءون ما يكونُ بينه وبيني من حوارٍ أثناء هذه النُّزهة القصيرة؟

١  نُشرت بجريدة الجهاد بتاريخ ٣٠ يناير سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤