الفصل العاشر

ساعة مع كعب بن زهير١

قلت لصاحبي: إنَّ لزُهير عند القُدماء صورتين مُختلفتين؛ إحداهما: ألممنا بها إلمامًا في الحديثين الماضيين. والأخرى: يجبُ أن نلمَّ بها اليوم، لنبلغ بها إلى ابنه كعب.

فأمَّا الصُّورة الأولى، فهي التي كانَ يَأْلَفُها الأُدَبَاءُ والنُّقاد وأَصْحَابُ اللغة، وهي صورة الشاعر الجاهِلي البارع المُجيد، الذي كان يُزاحم فحول الشعراء، ويستأثر من دونهم بالسبق عند أهل الحجاز عامة، وعند عمر بن الخطاب خاصة، وعند جرير وغير جرير من بعد عمر، والذي كان ينفق شعره في المدح كما كان يقول القدماء، ويتوسل إلى هذا المدح بفنونٍ أخرى من الشِّعْرِ أَجَادَها وبَرَعَ فيها كالغزل والوصف، والذي كان يُعنى بشعره عناية، ويجوده تجويدًا، ولا يظهره إلا إذا أتقنه وأطال النظر فيه، والذي كان يعلم الشعر جماعة من الشبان، منهم ابنه كعب، وراويته الحطيئة.

وسترى أننا سنحتاج إلى هذه الصورة، وسنستعين بها على فهم كعب، أو على فهم هذه القصة الوحيدة التي بقيت لنا من شعره كاملة أو تشبه الكاملة.٢

وأَمَّا الصُّورة الأُخرى، فهي هذه التي كان يألفها القصاص وأصحاب السير، والتي تتخذ سببًا إلى هذه القصيدة الرَّائعة التي بقيتْ لَنَا مِنْ شِعْرِ ابنه كعب، والتي تستخلص استخلاصًا من بعض الشعر الذي صح لزهير، أو الذي حمل عليه، فزُهير في بعض شعره يلمِّ بِأُمور تَتَّصِلُ بالدين؛ فهو يذكر البعث في مطولته المشهورة فيقول:

فلا تكْتُمُن اللهَ ما في نُفُوسكمُ
لِيَخفَى وَمَهَمْا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلمِ
يُؤَخرْ فيُوضَعْ في كِتابٍ فَيُدَّخَر
لِيْومِ الْحِسابِ أَوْ يُعَجَّلْ فيُنقَمِ

وقد تنبه لذلك القدماء أنفسهم فذكروه، كما أنَّ شعرًا قد حمل على زُهير وتنبه القدماء إلى أنه حمل عليه، وفيه ذكر مفصل لأمور الدين.

واقرأ هذه الأبيات اليائية التي أنكر الأصمعي أن تكون لزهير، والتي أولها:

أَلا ليتَ شِعْرَى هل يرَى الناسُ ما أَرَى
مِنَ الأَمْرِ أَوْ يبْدُو لهمْ ما بَدَا لِيا
بدا لِي أَن الناس تَفْنى نفُوسُهُمْ
وأَمْوالهُمْ وَلا أَرَى الدهْرَ فانِيا
وَإني مَتَى أَهْبِطْ مِنَ الْأَرضِ تَلْعَةً
أَجِدْ أَثَرًا قَبْلِي جَديدًا وَعافِيا
أَرانِي إِذا ما بِتُّ بِتُّ علَى هَوى
وَأَنِّي إِذا أَصْبَحْتُ أَصْبَحْتُ غادِيا
إِلَى حُفْرةٍ أُهْدَى إِليْها مقِيمَةٍ
يحُثُّ إلَيْها سائقٌ مِنْ وَرائيا

ثم يمضي الشاعر في هذه الحكمة الطبيعية اليسيرة على نحو ما رأيت في عينية لبيد التي مطلعها:

بُلينا وما تبلى النجومُ الطوالعُ
وتبقى الجبالُ بعدنا والمصانعُ

ولكنه يعدل بعد ذلك إلى نوعٍ آخر من الفلسفة الدينية فيقول:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَهْلَك تُبَّعًا
وَأَهْلكَ لُقْمانَ بْنَ عادٍ وَعادِيا
وأَهْلَكَ ذا الْقرْنَيْن مِنْ قَبْلِ ما تَرَى
وَفِرْعَوْنَ جَبَّارًا طَغَى والنَّجاشيا

فأنت ترى أنَّ للشَّاعر في هذه الأبيات التي سمعتها طريقتين مُخْتَلِفَتَيْنِ في الفَلْسَفة؛ إحداهما: طبيعية يسيرة، تُلائم تفكير أَصْحَاب السَّذَاجَةِ منْ حُكماء البادية. والأخرى: دينية كأنها أخذت من القرآن أخذًا.

ومن الواضح أن هاتين الفلسفتين لم تجتمعا في هذا الشِّعْرِ، إلا لأنهما خلطتا فيه خلطًا، ولكن الواضح على كل حال هو أنَّ شِعْرًا دينيًّا قد نُسب إلى زُهير، وإنما نُسب إليه لأنه عُرِفَ بالحكمة وضَرْب المثل من جهة، ولأنَّه أبو كعب وبجير من جهة أخرى.

وما دام إسلام بجير، ثم إسلام كعب، قد تمَّا على النحو الذي سطرته السيرة والذي سنتحدث عنه، فلا بدَّ مِنْ تَفْسِيرهِ، ومِنْ تنظيم القصة التي تُبينه وتُوَضِّحه وتَجْلُوه، وقد رُتِّبَتْ هذه القِصَّةُ تَرْتِيبًا ظَرِيفًا، قد لا يستقيم للعقل الحديث، ولعله لم يستقم للعقل القديم أيضًا. ولكنه على ذلك حلو ساذج، مُحَبَّبٌ إلى النفس، مُثير لهذه العواطف الجميلة الحلوة الهادئة، التي تُثيرها أحاديثُ الأولين، وهو إنما يُثير هذه العواطف لأنَّ فيه شِعْرًا جَمِيلًا حَقًّا لو نُظِمَ لكان من أروع الشعر وأبقاه.

فقد تَحَدَّثُوا أنَّ زُهيرًا كان كثيرًا ما يَلقى أهل الكتاب، ويسمع منهم، ويتحدث إليهم، ويفكر فيما وعى عنهم، ويظهر أن حديثه وتفكيره قد أثرا في نفسه، وكادا يُغيران من سيرته، فرأى ذات ليلة فيما يرى النائِمُ كأنه قد رفع إلى السماء، فما زال يصعد حتى كاد يبلغها، فلمَّا أحس ذلك أراد أن يتناول السماء بيده، فرُدَّ عنها وهوى إلى الأرض، فلما استيقظ لم يشك في أن هذه الرؤية تصور شيئًا! وتدل على شيء، وأن الحوادث ستُعَبِّرها، وما أكثر ما يُتاح للحوادث أن تعبر الأحلام.

ويُقال: إنه رأى ذات ليلة فيما يرى النائم أن أسبابًا من السماء قد مُدَّت إليه، فلمَّا هَمَّ أنْ يَنالها نَأَتْ عَنْهُ، ثم أَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ، فلم يشك في أنَّ لهذه الرؤية دلالتها وتأويلها، وقال لابنيه: إنه كائن بعدي للسماء خبر، ثم أوصاهما أن يستقصيا هذا الخبر، وأن ينتفعا به، وأن يتبعا صاحبه إن أدركاه.

وكانت بعثة النبي وكانت الخصومة بينه وبين قومه من قريش، ثم كانت الهجرة، ثم كانت الخصومة بينه وبين قريش وغيرهم من العرب، ثم أَذِنَ اللهُ بِالفَتْحِ ودَخَلَ النَّبِيُّ وأَصْحَابُه مَكَّة ظَافرين، ثم كان يوم حنين، وأتمَّ اللهُ نصره للمُسلمين على من اجتمع لحَرْبِهِم من العرب.

وقد تسامعَ النَّاسُ مُنذ عهدٍ غير قصير بهذا النبي العربي، وبما يُحدث به من أخبار السماء، وبما صدَّق الله به حديثه من الآيات البينات، وكأنَّ بجيرًا وأخاه كعبًا قد سمعا هذا كله، فلم يحفلا به، ثم سمعاه فأعْرَضَا عنه، ثم سمعاه ورأيا من آياته ما رأيا، فذكرا حديث أبيهما زُهير، وذكرا وصيته، وحرصا على أن يتبينا خبر السماء لعله قد كان، وأن يَعْلَما علم هذا الرجل الذي يتحدث بخبر السماء؛ فانطلقا حتى إذا بلغا الأبرق، قال بجير لأخيه كعب: أقم هنا حتى آتي هذا الرجل فأسمع منه، وأعلم علمه، ثم أعود إليك، أو قال كعب لأخيه بجير: اذهب إلى هذا الرَّجل فاسمع منه، واعلم علمه، ثم عد إليَّ، فلعل خبر السماء قد كان، ولعله صاحب هذا الخبر، فإنْ كان إياه ذهبنا إليه واتبعناه.

وأقام كعب، وذهبَ بُجير، ولكنَّ كعبًا أقام وأقام، وانتظر أخاه وأطال الانتظار، وأخوه لا يعود إليه، ذلك أنَّ بُجيرًا قد أتى هذا الرجل فسمع منه، وعلم علمه، واستيقن أنه صاحب خبر السماء، وأنَّ خبر السماء هذا قد كان، فأقام مع صاحبه، وآمن به، وانصرف إليه وإلى دينه عن أخيه هذا الذي قدمه بين يديه مُستطلعًا ورسولًا، واستيأس كعبٌ من مقدم أخيه، واستيقن كعب أن أخاه قد صبأ، كما كان العرب يقولون لمن تبع النبي في ذلك الوقت، فغاظه ذلك وساءه، فقال هذه الأبيات التي يختلف الرواة في نصها وترتيبها اختلافًا غير قليل:

أَلا أَبْلِغا عني بُجَيْرًا رِسالَة
فَهَلْ لَك فِيما قُلْتَ وَيْحكَ هَلْ لَكا
سقاكَ أَبو بَكْر بِكَأْسٍ رَوِيَّة
فَأَنْهَلكَ المَأْمُورُ مِنْها وَعلَّكا
ففارَقْتَ أَسْبَابَ الهُدى وَاتبعْتَهُ
عَلَى أَيِّ شَيءٍ وَيْبَ غَيْرِك دَلكا
على مذهَبٍ لَمْ تُلفِ أُمًّا ولا أَبًا
عَليهِ وَلَمْ تَعْرِفْ عَليْه أَخًا لَكا
فَإِنْ أَنْتَ لم تفْعلْ فلَسْتُ بآسِفٍ
ولَا قائِلٍ إِما عثرت لَعًا لكا

وانتهت هذه الأبيات إلى المدينة فيما كان ينتهي إليها من الشعر الذي كان يُقال في هجاء النبي والتحريض عليه، وسمع النبي هذه من بُجير نفسه فيما يقول الرواة، أو من غير بُجير، فتوعد كعبًا وأباح دمه لمن لقيه.

والقصة في أكبر الظن على هذا النحو قد رُتبت ترتيبًا، وإذا كان لنا أن نفقه هذه الأحاديث التي ترويها السير، ونَسْتَخْرِج منها المعقول؛ فإني أُرَجِّحُ أنَّ بُجيرًا وأخاه كانا قد ائتمرا بالنبي، وأنَّ بُجيرًا كان قد سبق إلى محضر النبي، ليؤذيه ويسوءه، فلمَّا انتهى إليه آمن واهتدى كغيره من الذين سعوا إلى النبي يريدون به السوء، فلم يجدوا عنده إلا هُدى ورحمة ونورًا.

واستبطأ كعب أخاه، وعرف من أمره ما عرف، أو شَكَّ من أمره فيما شكَّ فيه، فقال هذا الشعر، وأنت تذكرُ أنَّ البيت الأول يروى على نحوٍ يؤيد هذا المذهب الذي أذهب إليه؛ فهو يروى:

فهَلْ لَك فيما قُلْت بالخيْف هَلْ لكا

فهو إذن كان قد قال شيئًا بالخيف وكعب يذكره به، ويحرضه عليه، ويستبطئه في إنفاذ ما قال، والبيت الأخير صريح في هذا:

فَإِن أَنْت لمْ تَفْعلْ فَلست بآسف
وَلا قائِلٍ إِما عَثَرْتَ لَعًا لكا

وعلى هذا النَّحو يُفهم إيعاد النبي لكعب وإهدار دَمِهِ؛ فقد كان كعب يلهج بالنبي ويحرض عليه، ويدس إلى محضره من يناله بالمكروه، ثم يقول الشعر كما كان يقوله غيره من شعراء قريش ومن شعراء العرب الذين كانت تأجرهم قريش لذم النبي والإغراء به.

وأكبر الظن أن انتصار النبي في مكة وحنين، وإذعان العرب كلهم لسُلطانه الجديد، وقتل من قتل بعد الفتح من خصوم الإسلام وأعداء النبي، وفرار من فر، كل ذلك قد ملأ كعبًا فزعًا ورُعبًا، وأكبرُ الظَّنِّ أنَّ كعبًا حاول الفرار والاستخفاء فيمن حاول الفرار والاستخفاء، ولكنَّ الأرض ضاقت به، والناس تخاذلوا عنه، ونظر فإذا هو مَأْخُوذٌ فهالك إذا لم يحتط لنفسه، وجاءته في أثناء هذا كله رسالة أخيه بجير بأنَّ النَّبي رءوف رحيم يأخذ العفو، ويأمر بالعرف، ويعرض عن الجاهلين، ولا يُعاقب تائبًا بما قدم قبل أن يتوب، فاستقرت عزيمة كعب على أن يستجير بعفو النبي من غضب النبي، وانطلق حتى بلغ المدينة، فأوى إلى رجلٍ من جهينة، فيما يقول بعض الرواة، وأوى إلى أبي بكر رضي الله عنه، فيما يقول بعضهم الآخر.

فلمَّا صليت الصبح، أقبل أبو بكر ومعه كعب، وقد وقد تلثم حتى استخفى وجهه، فلمَّا انتهيا إلى النبي، قال له أبو بكر: هذا رجلٌ يُريد أن يبايعك على الإسلام، فبَسَطَ النبيُّ يده فبايعه كعب وأسلم، ثم حسر عن وجهه، وقال: هذا مكان العائذ بِكَ يا رسول الله، أنا كعب بن زهير.

وهَمَّ الأنصارُ بِهِ لِمَا قَدَّم من الإساءة إلى النبي، ولكنه ردهم عنه، وماذا كانوا يستطيعون أن يصنعوا به، وهو قد دخل في الإسلام، وبايع النبي، واتخذه له جارًا؟ ويُقال: إنَّ النبي استنشد أبا بكر هذه الأبيات التي رويتها آنفًا؛ فأنشده إياها، فلما بلغ قوله:

فَأَنْهَلكَ المَأْمُورُ مِنْها وَعلَّكا

قال كعب: لم أقل المأمور يا رسول الله، وإنما قلت المَأْمُون. فقال النبي مأمون والله، ورضي عن كعب، وقام كعب فأنشده قصيدته هذه الرائعة:

بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي الْيَوْمَ متْبُولُ
مُتَيَّمٌ إِثْرَها لَمْ يُفْدَ مكْبُول

ويقال إِنَّه ظَلَّ ينشد حتى إذا انتهى إلى مَدْحِ قُريش، أومأ النبي إلى الناس أن اسمعوا، فَلَمَّا بلغ من هذا المدح أروعه وأجمله، أومأ النبي إلى المهاجرين أن اسمعوا، ولكنَّ كعبًا عرَّض بالأنصار فيما يقولُ الرواة، فغضب المهاجرون، أو غضب النبي نفسه، واضطر كعب إلى أن يثني على الأنصار في هذه الأبيات الجميلة المشهورة:

مَن سرَّهُ كَرَمُ الحياةِ فَلَا يَزلْ
في مِقنَبٍ مِنْ صالِحِي الْأَنصارِ
المُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ
كسوافِلِ الْهنْدِيِّ غَيْرِ قِصارِ
وَالْباذِلينَ نُفُوسهُمْ لِنَبِيِّهِمْ
لِلْمَوْتِ يَوْم تَعَانُقٍ وَكِرَارِ
يَتَطَّهُرون يَرَوْنه نُسُكًا لهُمْ
بِدِماءِ مَنْ علِقُوا مِن الْكُفارِ

قال صاحبي: ما أجمل هذا البيت الأخير! وما أروع هذا التطهير بدماء من علقوا من الكفار! وما أَظُنُّ إلا أن هذا البيت قد أرضى الأنصار، وبلغ من نفوسهم أقصى الرضا، قلتُ: نعم وأرضى المُهاجرين أيضًا.

وأكبرُ الظَّنِّ أنَّ الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من قريش قد غاظهم هذا البيت، ولكنْ أَلَا يُعجبك الشطر الأول من هذا البيت؟ فإن فيه ضميرًا يُعجب النحويين كل الإعجاب، وهو هذا الضمير في قوله: «يرونه نسكًا لهم.» ففي رد الضمير على ما يفهم من الفعل جمال رائع حقًّا.

ويُنبئنا الرواة بأنَّ قصيدة كعب قد أعجبت النبي فلم يكتف بالعفو عن كعب والاستماع له، والإقبال عليه، بَلْ أَرَادَ أَنْ يُجِيزَه ويَصِلَه فكساه بُردة كانت له. وقد زعموا أنَّ مُعاوية أراد أنْ يشتري هذه البُردة من كعب بعد ذلك فأغلى له الثمن، ولكنَّ كعبًا أبى، فلمَّا مات راجع مُعاوية أهله فاشتراها منهم بثمنٍ ضخم، وهي التي توارثها الخلفاء فيما يقول الرُّواة، وكانوا يخرجون بها للناس في العيدين.

فأنت ترى أن هذه القصة من أولها جميلة رَائعة حُلوة مُحَبَّبة إلى النفوس حقًّا، وسواء أصحت كلها أم لم تصح إلا في جملتها؛ فإنها تُهيئ لقصيدة كعب جوًّا شعريًّا مُلائمًا كل المُلاءمة لجَمَالها ورَوْعَتها، ومُلائمًا بنوعٍ خاص كل الملاءمة لمكان الممدوح من البأس أول الأمر، ثم من العفو والحلم بعد ذلك، ثم من الكرم والجود آخر الأمر، فهذا الرجل كان يلهج بالنبي ويُحَرِّضُ عليه ويأتمر به ليسوءه، وقد أهدر النبي دمه حين أتم الله له النصر، وحين دانت له العرب، فلما بلغه الوعيد استطير، ولفظته الأرض — كما يقول ابن سلام — وجفاه الناس، ونبا عنه الأصدقاء، وخذله النصير، فلجأ من النبي إلى النبي، فوجد عنده حلمًا واسعًا وعفوًا كريمًا، ثم مدحه فوجد منه إقبالًا عليه واستماعًا له، ثم وجد منه بعد هذا كله كرمًا وبذلًا وجودًا.

ونحن نقرأ هذه الأنباء، ونرى هذه المرآة الصَّافِية التي تَجْلُو لنا طرفًا من أخلاقِ النَّبي، فلا نَجِدُ في ذلك غَرَابة ولا طَرَافة، وَإِنَّما نحب ذلك ونستعيذ به ونعجب به؛ لأننا نشأنا، ونشأت الأجيال من قبلنا، على إكبار النبي، والإيمان له بمكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل والخصال، ولكننا خَليقون أن نخرج من أنفسنا وننسى ما تعودنا، وما ورثنا عن الأجيال من قبلنا، ونعيش لحظة في ذلك العصر الذي عاش فيه النبي، وفي تلك البيئة التي امتحن فيها كعب، ونتمثل الصورة الصادقة لهؤلاء العرب الذين كانوا قد أخذوا يدينون لهذا السلطان الجديد، يُحبه أقلهم وهم المهاجرون والأنصار، ويرغب فيه أو يرهبه أكثرهم، وهم هؤلاء المغلوبون من قريش وغير قريش، والمتقدمون بالطاعة عن رضا قبل أن يتقدموا بها عن كره.

يجبُ أنْ نَعِيشَ في ذلك العصر، وفي تلك البيئة، وأنْ نَتَمَثَّل هذه الصورة الصادقة لنقدر ما تجلوه هذه القصة من أخلاق النبي، ولنتبين موقع هذه الأخلاق من نفوس هؤلاء العرب الذين كانوا يزدحمون في المدينة، أو يستبقون في الطريق إلى المدينة، أو ينتظرون في مواطنهم النائية والدانية ليعلموا من أمر هذا الرجل العظيم أكثر مما علموا، وليتبينوه من خلاله أكثر مما تبينوا، ولكننا قد بَعُدنا عن زهير، وبَعُدنا عن كعب، وآن لنا أن نعود إليهما.

قال صاحبي: إنك لعَجِلٌ إلى كعب وإلى أبيه، وإني لأُوثِرُ أَنْ نَمْضِي في الحديث عن ممدوح كعب، فحديثه آثر عندي وأحب إليَّ ألف مرة ومرة من شعر الشعراء، قلتُ: وهو كذلك آثر عندي وأحب إليَّ، ولكن ممدوح كعب قد سمع هذا الشعر ورضي عنه، وأقبلَ عليه وأجازه، فالحديث عن هذا الشعر حديث عن هذا الممدوح، وأنت تعلم من غير شك، أننا لم نستأنف هذه الأحاديث في السيرة وإنَّما استأنفناها في الشعر والشعراء؛ وأنا حين أقرأ قصيدة كعب أراها تأتلف من ثلاثة أجزاء مُتباينة في ظاهر الأمر، ولكنها مُؤتلفة أحسن الائتلاف في حقيقة الأمر، لولا أني أكاد أرجح أنَّ جُزءًا منها قد كثر فيه عبث الرواة.

قال صاحبي: فإنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ أَنْ تُعفيني من التحقيق والتمحيص، ومن الإبانة عن الكذب والانتحال، وعن العبث واللعب، وعن التقديم والتأخير.

قلتُ: ما من بعض ذلك بُدٌّ يا سيدي، فأجزاء هذه القصيدة ثلاثة كما قلتُ. فأما أولها: فهو هذا الغزل الذي قصد إليه كعب في أول القصيدة كما تعود الشعراء أن يفعلوا. وأما الثاني: فهو هذا الوصف الذي انتقل إليه كعب بعد الغزل كما تعود الشعراء أن يفعلوا أيضًا. وأما الثالث: فهو المدح الذي أُنشئت القَصِيدَةُ من أَجْلِهِ، وانْتَهَتْ القصيدة إليه.

وأنتَ تَسْتَطِيعُ أن تسمع هذا الغزل، فستحبه وتطمئن إليه، وستعجب به إعجابًا شديدًا، وسترى فيه أثر زُهير نفسه واضحًا جليًّا، واسمع هذه الأبيات الحسان:

بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي الْيَومَ متْبُولُ
مُتَيَّمٌ إِثْرَها لَمْ يُفْدَ مَكبولُ

وأظنك تُوافقني على أن هذا البيت الظريف إنما يصور في إيجاز جميل ما صوره زهير في بيتين حين قال:

إِنَّ الْخَلِيطَ أَجَدَّ الْبَيْنَ فانْفَرَقا
وعُلِّق القَلْبُ مِن أَسْماءَ ما علِقا
وَفارَقَتْك بِرَهْنٍ لا فَكاكَ لَهُ
يَوْمَ الْوَداعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غلِقا

فأنت تَرَى أنَّ المَعْنَى الذي قَصَدَ إِلَيْهِ كَعْبٌ هو نفس المعنى الذي سبق إليه زُهير؛ فقد ذهبت سُعاد بقلب كعب وارتهنته؛ فهو عندها مكبولٌ لا يفك، كما ذهبتْ أَسْمَاءُ بقَلْبِ زُهير وارتهنته؛ فليس له عندها فكاك، ولكن كعبًا قد أوجز حيث أطنب أبوه، وآثر قافية أيسر وأحلى موقعًا من قافية أبيه.

ثم يقول كعب:

وَما سُعادُ غَداةَ الْبَيْن إِذْ برزَتْ
إِلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مكْحُولُ
تَجْلُو عَوارِضَ ذِي ظَلْم إِذا ابْتَسَمت
كأَنَّه مَنْهَلٌ بِالرَّاحِ معْلولُ
شجَّتْ بِذِي شَبَم مِنْ ماءِ مَحْنِيَةٍ
صافٍ بِأَبْطحَ أَضحى وَهْو مَشْمُول
تنْفِي الرياحُ الْقَذى عنهُ وَأَفْرَطه
مِن صَوبِ غادِيَةٍ بِيضُ بَعَالِيلُ

وهذا المعنى أيضًا عليه طابع زُهير، وهو من معاني المدرسة، إنْ صح هذا التعبير الحديث.

فكعبٌ يُشَبِّه سعاد بالظبي، ثم يُفَصِّل بعض صفات الظبي، ثم يُلِحُّ في وصف ثغر سعاد الجميل، وفي تشبيه رِيقِهَا بالخمر التي مُزجت بالماء الصافي العذب البارد، وقد قال زُهير في نفس هذا المعنى، وفي القصيدة التي تحدثت عنها آنفًا:

قامتْ تَرَاءَى بِذَي ضالٍ لِتَحْزُنني
ولا محالةَ أَنْ يشْتاقَ مَنْ عَشِقا
بِجِيدِ مغْزِلَةٍ أَدْماءَ خاذِلَةٍ
مِنَ الظِّباءِ تُرَاعِي شَادِنًا خَرقا
كَأَنَّ رِبقَتَها بعْدَ الكَرَى اغْتَبَقَت
مِنْ طَيِّب الرَّاحِ لمَّا يَعْدُ أَن عَتَقا
شَجَّ السُّقاةُ عَلَى ناجُودِها شَبِمًا
مِنْ ماءِ لِينَةَ لا طَرْقًا ولا رَنِقا

فسعاد كعب كأسماء زهير، تُشَبَّه بالظَّبي، وريق سعاد كريق أسماء يشبه الخمر الممزوجة بالماء البارد العذب.

ويقول كعب:

ويْلُ امِّها خُلَّةً لَوْ انَّها صَدَقَتْ
بِوَعْدِها أَوْ لَوَ انَّ النُّصْحَ مقبُولُ
لكِنَّها خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِن دَمِها
فَجْعٌ ووَلْعٌ وَإِخلافٌ وتبديلُ
فما تدومُ على حال تَكون بها
كَما تلونُ في أَثوابِها الغُولُ
وَلا تَمَسَّكُ بِالعهْدِ الَّذي زعَمَت
إِلَّا كما يُمْسِكُ الماءَ الغرابِيلُ
كانت مَواعيدُ عُرْقُوب لَها مَثَلًا
وَما مَواعيدُها إِلَّا الْأَباطِيلُ
أَرْجُو وآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَودتُها
وما إِخالُ لَدَيْنا مِنْكِ تَنْويلُ
فَلا يغُرَّنْكَ ما مَنَّتْ وَما وَعَدَتْ
إِنَّ الأَمانِيَّ والْأَحْلامَ تَضْليلُ

وهذا المعنى أيضًا قد سبق إليه زُهير، وطبعه بطابعه؛ فهو من معاني المدرسة. ولكنَّ كعبًا قد أَطْنَبَ حيثُ أَوْجَزَ أبوه، وكان في إطناب كعب جمال وروعة؛ لأنَّه فَصَّل من أخلاق سعاد ما لم يُفَصِّله أبوه من أخلاق أسماء، فزُهير لم يزد على أن وصف أسماء بأنها أخلفت الوعد فرثت حبالها، وذلك حيث يقول:

وأَخلفَتْكَ ابْنَةُ الْبكرِيِّ ما وَعدَتْ
فَأَصْبَحَ الْحبْلُ مِنها واهِنًا خَلقَا

أمَّا كَعْبُ فَإِنَّه يُفَصِّل هَذا تَفْصِيلًا، فَيَذْكُر تَلون سُعاد وتغيرها، كما تتلون الغُولُ، ويَذْكُر أَنَّها لا تُمْسِكُ العهد الذي تقطعه إلا كما تمسك الماءَ الغَرابيلُ.

وأظنُّك تُوافقني على ما في هذين التشبيهين من سذاجة رائعة، ثم يخلص كعب إلى ناقته، فيقول:

أَمسَتْ سُعَادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُهَا
إِلا الْعِتَاقُ النَّجيبَاتُ المَراسِيلُ

وأنا أُريد أن أعفيك، وأن أعفي نفسي من حديث الناقة؛ فإنَّ لي فيه آراء لعلك لا تطيقها؛ ولكنِّي أُحِبُّ أَنْ ألفتك إلى أنَّ هذا النوع من شعر كعب وزُهير قد أثر في الشعراء المُعاصرين، ولست أُصدق أنَّ المُصادفة وحدها هي التي أنطقت شاعرًا مُعاصرًا لكعب بهذه الأبيات الحلوة التي تشبه غزل كعب، لا في المعاني والألفاظ وحدها، بل في الوزن والقافية أيضًا، وهذا الشاعر هو عبدة بن الطبيب، وقد قال قصيدته التي أُشير إليها بعد كعب من غير شك؛ لأنَّه قَالها في أثناء الفَتْح أيام عمر؛ وأنت تستطيع أن تقرأ هذه القصيدة في المُفضليات، فسترى فيها كثيرًا جدًّا من معاني كعب وزُهير، ومن ألفاظ كعب وزهير أيضًا. وأولها:

هلْ حَبْلُ خَوْلَةَ بَعْدَ الْهَجْرِ مَوْصُولُ
أَمْ أَنْتَ عنْها بَعِيدُ الدَّارِ مشغُولُ

وقد قال كعب في نَاقَتِهِ مَا قال، وما أراد الرُّواة المُتكلفون له أن يقول مما تستطيع أن تقرأه وتدرسه إذا شئت، ومما لا أكرَهُ أن أدرسه معك إذا أحببت، ولكن على مذهبي الذي تعرفه.

قال صاحبي: وقاني اللهُ شَرَّ هذا المذهب؛ فإني لا أحبه ولا أرتاح إليه.

قلتُ: فانظر إلى انتقال كعب من وصف ناقته وتخلصه إلى تصوير خوفه وفزعه، وضيق الأرض به، وتَنَكُّر الناس له في هذا الشعر الجميل:

تَسْعَى الْوشَاةُ جَنابيْها وَقَوْلُهُمُ
إِنَّكَ يا بْنَ أَبي سُلْمَى لَمَقتُولُ
وَقالَ كلُّ خَلِيل كُنتُ آمُلُهُ
لا أُلْهِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْت خَلُّوا سَبِيلي لا أَبا لَكُمُ
فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُولُ
كُلُّ ابْنِ أُنثى وإِن طَالَت سَلامتُهُ
يوْمًا علَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ

أفترى إليه وقد كثر من حوله الخائفون عليه، والمُخَوِّفون له، والمُرْجِفون به، والنَّابون عنه، وهو مُتأثر بما يرى وما يسمع، خائفٌ مِمَّا يرى وما يسمع، حتى انتهى به الخَوفُ إلى اليأس، وحَتَّى ضَاقَتْ بِهِ الأَرْضُ، وحتى لم يجد من الهول ملجأ إلا إلى الهول:

كُلُّ ابْنِ أُنثى وإِن طَالَت سَلامتهُ
يَومًا علَى آلَةٍ حدباءَ مَحْمُولُ

على أنه لم يكد يذكر أنَّ الذي يوعده هو رسول الله حتى انجلى عنه اليأسُ وثاب إليه الأمل.

أُنْبئتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي
والعَفو عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مأْمُولُ

فوازن بين هذا البيت وبين بيتٍ آخر، تذكره من غير شك إذا أنشدت هذا البيت، وهو قول النابغة للنعمان:

أُنْبِئتُ أَنَّ أَبَا قابُوس أَوْعَدَنِي
وَلا مُقامَ عَلَى زَأْرٍ مِنَ الأَسَدِ

فسنرى هذا الفرق العظيم بين هذين الليثين اللذين يوعدان فيخاف وعيدهما، فأمَّا أحدهما، وهو النعمان؛ فوعيده مُخيف مُوئس، وأَمَّا الآخرُ فوعيده مُخيف، ولكنَّ الأَمَلَ من ورائه؛ لأنَّ صَاحِبَهُ هو النَّبِيُّ الذي عُرِفَ بالعفو والحلم والرحمة وسعة الخلق، والذي أنزل الله عليه السكينة حين أنزل عليه القرآن:

مهْلًا هداكَ الَّذِي أَعْطاكَ نَافِلَةُ الـْ
ـقُرآن فِيهِ موَاعيظٌ وتَفْصيلُ
لا تَأْخُذَنِّي بأَقَوال الْوشَاةِ ولمْ
أُذْنِب وإِنْ كَثُرتْ فيَّ الْأَقاوِيلُ

وما يزال كعب يستعطف، ويصور خوفه وفزعه، ثم يصور بأس النبي وقوته وحزمه، ويذهب في ذلك مذهب زُهير يُشَبِّه النبي بالليث، كما شبه زُهير «هرمًا» بالليث، ولكنه يُفَصِّل مِنْ صفات الليث وبأسه ما لم يُفَصِّل زُهير، حتَّى إذا فرغ من ذلك وصَوَّره في أجمل لفظ وأروعه، انتهى إلى هذا المدح الخالص الرَّائع الذي يَحْسُن أن نختم به الحديث، فقال:

إِنَّ الرسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتضاءُ به
مُهنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ
في فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قالَ قائِلُهُمْ
بِبَطْنِ مكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولوا
زَالوا فَما زالَ أَنْكاسٌ ولا كُشفُ
عِنْدَ اللقَاءِ وَلا مِيلٌ مَعازِيلُ
شُمُّ الْعَرَانِين أَبطَال لَبُوسُهُمُ
منْ نَسْجِ داودَ في الهَيْجا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابغُ قَدْ شُكَّتْ لَها حلَقٌ
كأَنَّها حلَق الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ
لا يَفْرَحُونَ إِذا نَالتْ رماحُهُم
قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجازِيعًا إِذا نِيلوا
يَمْشُونَ مَشْيَ الجمالِ الزُّهْرِ يَعْصمُهُمْ
ضَرْبٌ إِذا عرَّد السُّودُ التنابِيلُ
لا يَقَعُ الطَّعْنُ إِلا في نُحُورِهِمُ
وَما لَهمْ عَنْ حِيَاضِ المَوت تَهْلِيلُ

قال صاحبي: إنَّ مِمَّا يحزن حقًّا أنْ يَذْهَب شِعْرُ كعب، فما أَشُكُّ في أنه لو بقي لنا لبقي لنا شعر رائع حقيق بالإعجاب. قلتُ: حسبه هذه! فما أرى إلا أنَّ مدحه فيها يعدل مدح زهير كله.

١  نُشرت بجريدة الجهاد في ٣ أبريل سنة ١٩٣٥.
٢  لقد عثر على ديوان كعب، وطبعته دار الكتب المصرية سنة ١٩٥٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤