الفصل الثامن عشر

الغزلون وأخبارهم١

تحدث الأصمعي قال: سألتُ أعرابيًّا من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامري فقال: عن أيهم تسألني؟ فقد كان فينا جماعة رُموا بالجنون. فعن أيهم تسأل؟ فقلتُ: عن الذي يُشَبِّبُ بِلَيْلى، فقال: كلهم كان يُشَبِّبُ بليلى. قلتُ: فأنشدني لبعضهم؛ فأنشدني لمُزاحم بن الحارث المجنون:

أَلا أَيُّها الْقَلْبُ الذِي لَج هَائِمًا
ولِيدًا بِلَيْلى لَمْ تُقَطَّعْ تَمائمه
أَفِقْ قَدْ أَفاق الْعَاشِقُونَ وقَدْ أَنَى
لَك اليَوْمَ أَنْ تَلْقَى طَبيبًا تلائمهْ
أَجدَّكَ لا تنسيكَ لَيْلى مُلِمَّةٌ
تلِمُّ ولا عهْدٌ يَطول تَقَادُمهْ

قلت: فأنشدني لغيره منهم؛ فأنشدني لمعاذ بن كليب المجنون:

أَلا طالما لاعَبْت لَيلى وقادَني
إلى اللَّهْو قَلْبٌ لِلحِسان تَبُوعُ
وطالَ امْتِراءُ الشَّوْقِ عَنِّيَ كُلَّما
نَزَفْتُ دموعًا تَسْتَجِدُّ دُمُوعُ
فَقَدْ طالَ إِمْساكِي عَلَى الْكَبِدِ التي
بِها مِنْ هَوَى لَيْلى الْغداةَ صُدوعُ

قلتُ: فأنشدنِي لغير هذين ممن ذكرت، فأنشدني لمهدي بن الملوح:

لَوَ انَّ لَكَ الدنْيَا وما عُدِلَتْ بهِ
سوَاها ولَيْلى حائِلٌ عَنْكَ بيْنُها
لَكنْت إِلى لَيْلَى فقِيرًا وإِنما
يَقُود إِليها ودُّ نَفْسِكَ حَيْنُها

قلت له: فأنشدني لمن بقي من هؤلاء. فقال، حسبك! فوالله إن في واحد من هؤلاء لمن يوزن بعقلائكم اليوم.

ولو سأل الأصمعي أعرابيًّا آخر غير هذا الأعرابي من قبيلة أخرى غير قبيلة بني عامر عن شاعر من شعراء قومه نسب بليلى أو بثينة أو بلُبنى أو بعَزَّة أو بريَّا، لأجابه الأعرابي هذا الجواب أو شيئًا يُشْبِهُه، ولأنشده شعرًا كثيرًا لشعراء كثيرين كلهم ينسب بفتاة من فتيات قومه وجدت حقًّا أو اخترعها خياله اختراعًا.

ذلك أن الأمر كما قلتُ لك في الفصلين الماضيين، من أنَّ عصرًا قد مرَّ على الحجازية: بدوهم وحضرهم، تأثروا فيه بتلك المؤثرات التي فصلتُها، فظهر فيهم الغزل بقسميه: العفيف وغير العفيف.

ومهما يقل القائلون فلن يستطيعوا أنْ يُغَيِّروا رَأْيي في هذا الأمر، وهو أنَّ الكثرة من هؤلاء الشعراء، ومنَ الفتيات اللاتي كانوا يتغزلون بهن، إنما هم جميعًا رموز لا حقائق، فقيس بن الملوح أو المجنون مثل من أمثلة هؤلاء الشُّعراء الذين كانوا يتغزلون؛ لأنَّ المُؤثرات مُختلفة عبثت بنفوسهم وعواطفهم فأحدثت فيها شيئًا من الرِّقة واللين لم يكن مَألوفًا، وأحست هذه النفوس حاجتها إلى الحُبِّ، وإلى تغني الحب فنطقت بهذا الشعر العذب الذي نُسميه النسيب.

ولستُ أدري أَوُجدت ليلى العامرية حقًّا أم لم توجد؟ ولكني أعلم أن ليلى عند العرب في ذلك العصر كانت شيئًا يُشبه «هيلانة» عند اليونان في عصر الأبطال، وكذلك قُل في لُبنى وبُثينة وعَزَّة ورَيَّا وغيرهن من النِّساء اللاتي ألهمن هؤلاء الشعراء المجهولين غزلهم ونَسيبهم، على أَنِّي مُضطر أَنْ أُلَاحِظَ حقيقتين متناقضتين ولكن فهمها يسير؛ الأولى: أنَّ هذا الشعر العُذري الذي وصفت لك أسباب ظهوره في العصر الأُموي جيد في جملته حقًّا يمتاز بخصلتين؛ إحداهما: البداوة التي تُكسب لَفْظَه رَصَانة في غير عنف ولا جفوة، وتكسب معناه سذاجة في غير سخف ولا إسفاف. والثانية: الصدق في وصف العاطفة وتمثيلها، بحيث لا تكاد تقرأ هذا الشعر حتى تتأثر به، وتقطع بأنَّ قائله لم يكن مُتكلفًا ولا مُنتحلًا، وإنما كان رجلًا يألم حقًّا ويصف ألمه وصفًا صادقًا. أو قُل: كان رجلًا يألم وكان ألمه يصف نفسه. وانظر إلى هذه الأبيات:

ولمْ أَرَ لَيْلَى بَعْدَ موْقِفِ ساعَةٍ
ببَطنِ مِنًى ترْمي جِمارَ الْمُحَصبِ
ويُبْدِي الْحَصَى مِنْها إِذا قَذَفَتْ بِهِ
مِنَ الْبُرْدِ أَطْرَافَ البَنَانِ الْمُخَضَّبِ
فَأَصْبحْتُ من لَيلَى الْغَدَاةَ كنَاظرٍ
معَ الصبْحِ في أَعْقَابِ نجمٍ مُغَرَّبِ
أَلا إِنما غادَرْتِ يا أُمَّ مالِك
صدًى أَيْنَما تذهَبْ بِهِ الرِّيحُ يَذْهَبِ

وحدثني، أتجدُ في هذا الشعر لفظًا حوشيًّا أو مُبتذلًا؟ أتجد فيه معنى جافًّا أو سَخيفًا؟ ألستَ تُحِسُّ في لفظه جلالًا، وفي معناه رِقَّةً وَلينًا، وفي رُوحه ألمًا ولوعة؟ انظر إلى هذا الشاعر كان يحج، وما أَحْسَبُ أَنَّهُ كان يعرف لَيْلَى هذه أو يتعشقها من قبل، ولكنه ذهب يُؤدي الفريضة الدينية وفي نفسه ما تعلم مما وصفت لك من هذا الشوق إلى الجمال، والطموح إلى المثل الأعلى، والميل الذي أُسميه تَصوفًا؛ لأني لا أجد لفظًا آخر أطلقه عليه.

ذهب هذا الشاعِرُ إلى الحج، وكان المُجتمع بمنى، فرأى فيمن رأى هذه المرأة الجميلة التي خلبته، وصادفت هوى نفسه إلى الجمال وطموحها إلى الأُنس، ولكنه لم يستطع أن يَدْنُو مِنْهَا، ولا أن يتحدث إليها، ولا أن يتبين من أمرها شيئًا، ثم انصرف الناس فلم يبقَ في نفسه من هذه المرأة، أو قُل من هذا الأمل القوي الذي هز نفسه، إلا ذكرى أعقبته يأسًا ولوعة، وردته إلى ما كان فيه قبل أن يراها من غلة يتحرق لها دون أن يستطيع لها شفاء.

أليس هذا هو الذي تحسه في هذا الشعر؟ ألستَ تعجب معي بهذا القصد في اللفظ والمعنى؟ لم ير ليلى بعد موقف ساعة بمِنى حينَ كانت تَرْمي بالجمار، أو حين كانت حَركاتها الحُلوة الرَّقيقة المُحتشمة تعبث بنفسه، حين كان رميها الجمار يظهر أطراف أصابعها الحِسان، وقد طَمِعَ في هذه المرأة وطمحت نفسه إليها، ولكنها فاتته فليس له فيها أمل؛ فهو ينظر إليها كما ينظر إلى النجم يهوي آخر الليل، وليس من سبيل إلى إدراكه، وقد وقع من نفسه اليأس موقعًا شديدًا فسلَبَها قوَّتَها وثَبَاتَها وقُدْرَتَها على المُقاومة، فهي أداة تعبث بها الأهواء، وتتنازعها العواطف والميول:

أَلا إِنما غادَرْتِ يا أُمَّ مالِكٍ
صَدًى أَيْنَما تَذْهبْ بِهِ الرِّيحُ يذْهَبِ

وانظر معي إلى هذه الأبيات:

وخَبَّرَكِ الْوَاشُونَ أَنْ لَنْ أُحِبكُم
بَلَى وسُتورِ الله ذاتِ المَحَارِمِ
أَصدُّ ومَا الصَّدُّ الذي تَعْلمِينه
شِفَاءً لنا إِلَّا اجْتِراع الْعلاقِمِ
حيَاءً وبُقيًا أَن تَشِيع نَمِيمةٌ
بِنَا وبِكُمْ أُفٍّ لأَهلِ النَّمائِمِ

فما تقول في هذا اللفظ الجيد، وفي هذه العاطفة الصادقة، وفي هذا المَعْنَى الذي برئ من كل إِسْرَاف، وفي هذه الصَّرَاحَة التي برئت من كل نفاق؟

زعموا لك أَنَّنِي لا أُحبُّكِ لِأَنِّي لا أزورك ولا أصلك؛ كذبوا، وإنك لتعلمين أنهم كاذبون، وإنك لتعلمين أنِّي أَتَكَلَّفُ هذا الصد وأتجشم فيه الأهوال إبقاء عليك وعليَّ، وحِرْصًا على شَرفِك، فأُفٍّ لأهل النمائم.

مثل هذا الشعر لا يُمكن أن يوصف بالكذب، ولا أن يُعاب بالغموض أو الابتذال؛ ثم انظر إلى هذا الشاعر نفسه يمضي في قصيدته، تجد تصديق ما قدمت لك من أنَّ سُلطان المَرْأَةِ على نُفوس هؤلاء الأعراب كان قد انتهى إلى منزلة لا تَعْدِلها منزلة:

وَإِنَّ دمًا لَوْ تَعْلَمِينَ جنيْتِهِ
علَى الْحَي جانِي مِثْلِهِ غيْرُ سالِمِ
أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُكِ أَرْقَلَتْ
إِلَيْهِ القنا بِالرَّاعِفاتِ اللَّهازِمِ
ولكِنْ لَعمْرُ اللهِ ما كُلُّ مُسْلِمٍ
كَغُرِّ الثَّنايا واضِحَاتِ الْمَعاصِمِ
إِذا هُنَّ سَاقطْنَ الحديثَ لِذِي الهوَى
سِقاطَ حَصَى المرَجانِ مِن كفِّ ناظِمِ
رمَيْنَ فَأَقصَدْنَ الْقلوبَ فَلَمْ نجِدْ
دَمًا مائرًا إلا جَوًى في الحيازمِ

انظر إلى هذه الأبيات الثَّلاثة الأَخِيرَة التي يُقسم فيها الشاعِرُ ما أَهْدَر دِمَاء المُسلمين شيء كما يُهْدِرُها الحب.

وانظر إلى هذين البيتين الأخيرين اللذين يُمَثِّلان تَأثير حديث النساء في نفوس الفتيان؛ إذا تَحَدَّثن إلينا قتلننا بهذا الحديث الذي ينثرنه كما ينثر اللؤلؤ من العقد، قتلننا ولكن لم يسفكن دماءنا؛ فأنت لا ترى هذه الدِّماء تسيلُ، وإنما أيقظن جوى يضطرم بين الضلوع.

ولو أني أَرَدتُ أَنْ أضرب لك الأمثال التي تثبت جمال هذا الشعر وبهجته وروعته وصدقه لأطلت وأسرفت في الإطالة، على أني سأعود فأخصص له فصلًا أو فصولًا، وإنما ضربت ما ضربت من هذين المثلين لأُثبت إحدى هاتين الحقيقتين اللتين ذكرتهما ووصفتهما بالتناقض منذ حين.

قلتُ: إنَّ هذا الشعر العُذري جميلٌ جيد، ولكنَّ هناك حقيقة أخرى، وهي أنَّ أخبار العُذريين أو القصص التي نسجت حول أشعارهم ليست شيئًا يُذكر بالقياس إلى هذه الأشعار؛ فبينا تجد في هذه الأشعار من صدق اللَّهْجَةِ وحَرَارَة العَاطِفَة وحِدَّةِ الشُّعور ما يَمْلِكُ عليك نفسك، لا تجد في هذه الأخبار التي تروى حول هذا الشعر إلا تكلفًا وتصنعًا وإسرافًا في المُبالغة وانتهاء إلى السخف.

فكيف تستطيع أنْ تُفَسِّر هذا؟ كيف تستطيع أن تُلائم بين سخف هذه الأخبار وجودة هذا الشعر؟ وهل يُمكن أن تُلهم الحوادث السخيفة الفاترة شعرًا جيدًا حارًّا؟ كلا! … إنَّما أنْتَ مُضطر إلى أنْ تَذْهَبَ مَذْهَبي، وهو أنَّ هذا الشِّعر قد صَدَرَ صُدورًا طبيعيًّا عن قومٍ كانوا يشعرون ويألمون، ويصفون آلامهم ويمثلون شعورهم، وأنَّ هذه القصص قد أُنْشِئت فيما بعد، أنشأها رواة هادئون لم يكونوا يجدون في أنفسهم ما كان يجدُ هؤلاءِ الشُّعراء من لوعة وأسى، ومن ألم وحسرة على آمال يطمعون فيها ويطمحون إليها دون أن يظفروا منها بشيء.

وبعبارةٍ واضحة: كان شعر هؤلاء الغزلين يصف نفوسهم، وكانت أقاصيص هؤلاء الرُّواة لا تصف شيئًا إلا طمع أصحابها في إرضاء الجماهير؛ ومع ذلك فإنَّا نَجِدُ بين هذه القصص ضروبًا من الاختلاف وضروبًا من التشابه، لا بأس بالوقوف عندها حينًا؛ فقد نستفيد منها أشياء كثيرة.

وأُحِبُّ أنْ أُلاحظ قبل كل شيء أنَّ هذه القصص جميعًا تشترك في خصلة واحدة لا تمتاز بها عن غيرها من الأخبار، وهو هذا الجمال الفني اللفظي الذي تجده في القصص وفي سياق الرواية، ولستُ أغلو إنْ قُلْتُ إِنَّ قِطعًا من هذه الأَخْبَارِ تَصْلُح نَمَاذِجَ يَحْسُنُ أَنْ يتأثرها الكتاب الذين يحرصون على الإجادة، وسأروي لك من هذا أمثالًا. ولكني أعود فأقول: إن هذه ليست ميزة لهذا النوع من القصص، وإنما هي لغة الرُّواة في ذلك العصر، كان لها حظ من الصفاء والجودة والسذاجة البدوية والخلو من التكلف اللفظي قَلَّمَا تَجِدُه عند الكُتَّاب المُتَأَخِّرين.

وأحسبُ أَنَّ من خير ما ينبغي أن يقرأ الكتاب، الذين يحرصون على الإجادة، نثر هؤلاء الرواة في الأغاني وفي تاريخ الطبري وما يُشبههما من كتب الأدب والتاريخ.

لا أعرض في هذا السبيل إلا لِثَلاث من هذه القصص: قِصَّة المجنون، وقصة قيس بن ذُريح، وقصة جميل. وإذا أردت أن أحكم على هذه القصص فأنا مضطر إلى أن أسجل أن أشدها سخفًا وأكثرها غلوًّا وإحالة، وأخلاها من المغزى النافع أو المعنى المُفيد، قصة المجنون؛ فلستَ تجد في هذه القصة شيئًا يُبين لك شخصية هذا الرَّجل الذي اتُّخذ لها بطلًا، بل كل ما تجده ألوان من المُبالغات وضروبٌ من الإسراف.

•••

قيس بن الملوَّح رَجُلٌ أَحَبَّ لَيْلَى حينَ كَانا طِفْلين، أو أحبها حين كانا على حظ من الشباب، ولكنَّ هذا الحُبَّ يظهر دائمًا مظاهر غريبة غير مألوفة ولا مُلائمة للطبيعة الإنسانية حتى طبيعة العشاق المدلهين.

فلستُ أَعْرِفُ عَاشقًا أُغمي عليه كما أغمي على قيس بن الملوح؛ ولستُ أعرف عاشقًا شهق وزفر كما شَهِقَ قيس بن الملوح وكما زفر؛ كان يكفي أن تتحدث إليه ليلى بحديثٍ يُشعره أنَّها تُحِبُّه ليسقط على وجهه مغشيًّا عليه، وكان يكفي أن يذكر له شيء عن ليلى يدل على أنها تُحبه، أو يدل على أنها تعرضت لمكروه، ليسقط على وجهه مغشيًّا عليه؛ بل كان يكفي أن تتحدث إليه عن ليلى ليسقط على وجهه مغشيًّا عليه، كان يقضي حياته كلها أو أكثرها ساقطًا على وجهه مغشيًّا عليه، أو قُل إِنَّه كان يقضي حياته كلها إما ساقطًا على وجهه وإمَّا هَائِمًا على وجْهِهِ؛ فَهُو لم يَعْرِف أو لم يَكَدْ يعرف الحياة الهادئة العَاقلة، وإنَّما كانَتْ حياته كلها اضطرابًا، كانت حياته مقسمة بين إغماء وجنون.

هذه هي الصورة التي تستطيع أن تستخلصها من قصة المجنون، وإذا كان المجنون قد أنفق حياته بين الجنون والإغماء؛ فليس يسيرًا أن تتبين شخصيته ولون نفسه، ولا أن تتميز عواطفه وخصاله، فليست له عاطفة ولا خصلة، وإنما هو مَرِيضٌ، إِمَّا مَغْشِي عليه وإمَّا مَجْنُونٌ، أَو قُلْ: إِنَّ الجُنون والمرض هما اللونان اللذان يُميزان نفسه ويُحددان شخصيته.

مثل هذا الشخص لا يُمْكِنُ أنْ يَكون حقيقة، وإنْ كان حقيقة فلا يُمكن أن يصدر عنه شعر مُتقن كبعض هذا الشعر الذي نقرؤه، ولا يُمكن أن يكون بطلًا لقصة صادقة، وإِنَّما هو رَجُل خَليقٌ بالبيمارستان، بل هو لا يصلح بطلًا لقصة خيالية منحولة، فمن الخير أن يخترع الكاتب وأنْ يتخيل، ولكن من الحق عليه أن يجتهد في ألا يكون خياله سخفًا واختراعه محالًا، ذلك أنَّه يتعرض بهذا إلى أن يُكَذِّبه النَّاس ويسخروا منه ومِنْ خَيَالِهِ، وقَدْ سَخِرَ النَّاس من واضع قصة المجنون وكذبوه؛ فقد ذكرتُ لك في غير هذا الفصل أنَّ الثقات من الرواة يُنكرون وجود المجنون أو يشكون فيه أو يختلفون في أمره اختلافًا عظيمًا.

والغريب — أو المعقول — أنهم لا ينكرون قيس بن ذُريح ولا جميلًا ولا يَشُكُّون فيهما ولا يَكَادُون يختلفون في أمرهما؛ فَلِمَ هذا؟ لأنَّ قصة المجنون سخيفة ضعيفة مملوءة بالإحالة والمُبالغة، لا يستطيع الناسُ أنْ يُؤمنوا لها أو يطمئنوا إليها مَهْمَا يكن حظهم من السذاجة.

وكَيْفَ تُريدُني على أنْ أومن لهذا الخبر الذي يزعم أن المجنون وقف يتحدث إلى ليلى وفي يده نارٌ فأخذت النار تحرق برده حتى أتت عليه ونالت من جسمه وهو لا يشعر! ثم كيف تُريدني على أن أُصدق أن هذا الرجل جُنَّ وانتهى به الجنون لا إلى أن يهيم على وجهه، بل إلى أن يستأنس الوحش ويعيش معها كما كان يعيش مع الإنسان … أمَّا أن يؤثر هذا الوحش فقد نفهمه، ولكن من فيلسوف لا من مجنون! وأمَّا أن تؤثره الوحش وتأنس إليه فشيء يحسن أن نسأل عنه علماء الحيوان.

ومع هذا فأحب أنْ تَقْرَأ مِنْ أخبار هذا المجنون القصة التي يرويها رجلٌ من بني مُرَّة ويَصِفُ فيها موت المجنون وأثر موته في قومه؛ فستجد في هذه القصة لفظًا عذبًا وأسلوبًا متينًا، وتجدها في الجزء الثاني من الأغاني (صحيفة ١٤ جزء ثان طبعة بولاق).

•••

أما قصة جميل فلستُ أَدْري بم أصفها! فيها سخف كثيرٌ، وفيها إحالة كثيرة، وما أحسبها أصدق من المجنون؛ ولكنَّ جميلًا رجلٌ تاريخي وجد حقًّا وشعره واضح للدلالة على شخصيته، ولم يكن مجنونًا ولا مذهوبًا به، بل لم يكن ذاهلًا؛ ومِنْ هُنا خلت قصته من هذه الألوان التي نُنْكِرُها في قصة المجنون، خلت من هذه الألوان وامتلأت بألوان أخرى أقل ما توصف به أنها تناقض الحُبَّ العُذري، ولا تُلائم هذا الهوى الذي يحزن النَّفس ويملأ القلوب حسرة.

ولستُ أذكر لك من هذه الألوان إلا لونين اثنين؛ أحدهما: يدل على أن واضع القصة كان رجلًا مُتكلفًا ميالًا إلى المحاجاة؛ فإنك تجد في غير موضع من أخبار جميل ضروبًا من الرَّمز والإلغاز بين هذين العاشقين حين كانت تتصل بينهما الرسائل، وأرَى أنْ أروي لك أحد هذه الألغاز لتَشْعُر معي أنَّه مُتكلف من غير شك، ولتغنيني عن الاستدلال. تحدث كثير قال: «لقيني مَرَّة جَميلُ فقال لي: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قُلتُ: من عند أبي الحبيبة، أَعني بُثينة، فقال: وإلى أين تمضي؟ قلتُ إلى الحبيبة، أَعْني عَزَّة، فقالَ: لا بُدَّ من أن ترجع عودك على بدئك فتستجدي لي موعدًا من بُثينة، فقلتُ: عَهْدِي بِهَا السَّاعة، وأنا أستحيي أن أرجع! فقال: لا بُدَّ مِنْ ذَلكَ. فقلتُ له: فمتى عهدك ببُثينة؟ فقال: في أوَّل الصيد وقد وقعت سَحَابَةٌ بِأَسْفَل وَادي الدوم فخرجتْ وَمَعْهَا جَارِيةٌ لَهَا تَغْسِل ثِيَابَها، فَلمَّا أَبصرتني أنكرتني، فضربت بيديها إلى ثوب في الماء فالتحفت به، وعرفتني الجارية، فأعادت الثوب في الماء، وتحدثنا حتى غابت الشمس، وسألتها الموعد فقالت: أهلي سائرون، وما وجدتُ أحدًا آمنه فأرسله إليها. فقال له كُثَيِّر: فهل لكَ في أنْ آتي الحَيَّ فأنزع بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ أَذْكُر فيها هذه العَلامَةَ إِنْ لَمْ أقدر على الخلوة بها؟ فقال: ذلك الصواب، فأرسله إليها، فقال له: انتظرني. ثم خرج كثير حتى أناخ بهم، فقال له أبوها: ما ردك؟ قال: ثلاثة أبيات عرضت لي فأحببتُ أنْ أَعْرِضَها عَليك، قال: هاتها، قال كُثَيِّر: فَأَنْشدته وبثُينة تسمع:

فَقُلْتُ لها يا عَزُّ أُرْسِلُ صاحِبي
إِليْكِ رَسُولًا والمُوَكَّلُ مُرْسِلُ
بأَنْ تجْعَلِي بَيْنِي وبَيْنَكِ موْعِدًا
وأَنْ تَأْمُريني ما الذي فيهِ أَفْعَلُ
وآخِرُ عَهْدي مِنْكِ يومَ لَقِيتِني
بأَسْفَلِ وادي الدَّوْمِ والثَّوْبُ يُغْسَلُ

قال: فضربتْ بُثَيْنَةُ جَانِبَ خدرها، وقالتْ: اخسأ! اخسأ! فقال أبوها: مَهْيَمْ يا بُثينة؟ قالتْ: كلب يأَتينا إذا نوَّم النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الرَّابية! ثم قالت للجَارية: ابغينا من الدومات حطبًا لنذبح لكُثَيِّر شَاة ونَشْويها له، فقال كُثَيِّر: أنَا أَعْجَلُ من ذلك؛ فَرَاحَ إلى جميل فأخبره، فقال له جميلٌ: الموعد الدومات …» (الأغاني ص٨٦ جزء ٧ طبعة بولاق).

فما رأيك في هذه القصة، وفي هذه المُصادفة البديعة التي أتاحت لكُثَيِّرٍ أن يَنْصَرِفَ مِنْ عِنْدِ أَبِي حبيبة جميل إلى حبيبته هو، وأن يلقى جميلًا في هذه الساعة؟ ثم في هذه الأبيات السخيفة المُتكلفة؟ ثم في جواب بُثينة: «كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية …» جعلت صاحبها كلبًا، ثم في صمتْ أَبِي بُثينة وانخداعه إلى هذا الحد؟ أَظُنُّ أَنِّي لستُ في حاجة إلى أن أقولَ: إِنَّ هذه القِصَّة نوعٌ مِنْ هذه النوادر التي كان يندر بها الناس على الأعراب.

اللون الثاني: شيء مِنَ الغَدْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يصدر عن حبيب عذريٍّ كما نفهمه، ولا كما كان يفهمه القدماء؛ زعموا أنَّ أَهْلَ بُثينة أَذَاعُوا في الناس أن جميلًا لا ينسب بابنتهم، وإنما ينسب بأَمَةٍ لهم، فغَضِبَ جَمِيلٌ لِهَذِهِ القَالة وأراد أن يُكَذِّبَها، فواعد بُثَيْنَةَ والتقيا ذاتَ ليلة فتَحَدَّثا، ثُمَّ عَرَضَ عليها جميل أن تضجع، فمانعت ثم قبلت، فاضجعت وأخذها النَّومُ، فلما استوثق جميلٌ من ذلك نهض إلى راحلته فمضى، وأصبح الناس فرأوا بُثينة نائمة في غير بيتها، فلم يشكوا في أنها كانت مع جميل. وقال جميل في ذلك شعرًا.

أَتَظُنُّ أنَّ مثل هذا الخبر يُمكن أنْ يَكُون حقًّا، وأنَّ رَجُلًا كجميل كان يُحِبُّ بُثينة حبًّا كالذي نجده في شعره يستطيع أنْ يُعَرِّضها لمثل هذه الفضيحة!

وهناك لون آخر يحسن أن أُشير إليه، وهو أنَّ صانع هَذِه القِصَّةِ كان فيما يظهر مُتأثرًا بِشِعْرِ امرئ القيس من جهة، وعُمر بن أبي ربيعة من جهةٍ أُخرى؛ فأنْتَ تذكر قصيدة امرئ القيس التي أولها:

ألا عِمْ صَبَاحًا أَيُّهَا الطَّلَلُ الْبَالِي

وأنت تذكر أن امرأ القيس يُحدثنا في هذه القصيدة بقِصَّته مع صاحبته حين زارها فقضى معها الليل، وذكر زَوجها فسَخِرَ مِنْهُ واعتز بسيفه وسهامه فقال:

يَغِطُّ غَطِيطَ الْبَكرِ شُدَّ خِنَاقُهُ
لِيَقْتُلَنِي والمَرْءُ لَيْسَ بِقَتَّالِ
أَيَقتُلُني وَالمَشْرَفِيُّ مُضاجعي
ومسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغوَالِ

وأنت تذكر قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي أولها:

أَمِنْ آلِ نعْمٍ أَنْتَ غادٍ فَمُبكِرُ
غَداةَ غَدٍ أَم رائحٌ فَمُهجِّرُ

والتي ذكر لنا فيها قصته حين زار صاحِبته فقضى معها الليل، ثم أسفر الصبح وأراد أن ينصرف، فأشفقت عليه صاحبته من الحي فقال:

فَقُلْتُ أباديهم فإِما أَفُوتُهم
وإِما يَنال السَّيْفُ ثأْرا فيثْأَرُ

ولكنها أشفقت عليه وكرهت هذه المُخاطرة ودعتْ أُختها وتشاور القوم وانتهوا إلى أن اقتنع عمر وخرج بينهن كأنه إحداهن، وقال:

فكانَ مِجَنِّي دون ما كنْتُ أَتَّقِي
ثَلاثُ شُخُوص كاعِبانِ وَمُعْصِرُ

كان واضع هذه القصة مُتأثرًا بشعر هذين الرجلين؛ فهو يُمثل لنا جميلًا في أكثر الأحيان عِنْدَ بُثينة ليلًا، ثم يُسْفِرُ الصُّبح، أو يكاد، فتشفق بثينة وتأمر صَاحِبَها أنْ يَنْصَرِفَ خَوفًا عَلَيْهِ، فَيأبى مُعتزًّا بسيفه وَسِهَامِهِ، ولكن بُثينة تُلِحُّ عليه وتذكر أنها تخشى الفضيحة، وحينئذ ينصرف جميل.

والغريب أنَّ جميلًا مثل في هذه القصة ما ذكره عُمر بن أبي ربيعة، ولكن في صورة أشد إخجالًا وخزيًا مما ذكره عُمر؛ زَعموا أنَّه لَقِي حي بُثينة في بعض سفرهم، وكان الليلُ قد تقدم فرمى حصاة لينبه بُثينة، فأصابتْ الحصاةُ صَاحِبَة لها فاضطربت وجزعت وما شكت في أنه جِنِّيٌّ، وأَقَرَّتْهَا بُثينة على ذلك، وهي تَعْلَمُ أنَّ هذا الجني هو جميل.

فلما انصرفت هذه المرأة خلتْ بُثينة إلى جميل فتحدثا ليلهما؛ ثم اضطجعا فأخذهما النوم، وأسفر الصبحُ وأَقْبَلَ غُلام زَوْجِها يَحْمِلُ إليها صبوحها من اللبن فرآها مُضطجعة إلى جانب جميل؛ فانصرف مَذْعُورًا يُريد أن يُنبئ سيِّده، ولقيته صَاحِبَةُ لبُثينة فاستوقفته وعلمت علمه — وكانت صديقة لبُثينة شفيقة على حُبِّها — فاحتجزت الغلام وتَلطَّفَتْ في إرسال جارية لها لبثينة تحذرها، وفعلت الجارية، وأتمرت بثينة وجميل ماذا يصنعان.

فأمَّا جَمِيلٌ فَأَرَادَ أَنْ يلقى القوم واعتزَّ بسيفه وسهامه، وأمَّا بُثينة فأشفقت عليه من سيوف قومها وخافت على نفسها الفضيحة، وما زالت به حتى أقنعته فنام ووضعت عليه من الوسائد والأحمال ما أخفاه، ثم جاءت صاحبتها فاضطجعت إلى جانبها وأظهرتا النوم، وأقبل زوجها وأبوها وأخوها فلم يروا جَميلًا وإنَّما رأوا امرأتين مُضطجعتين؛ فانصرفوا خَجِلين، وقَضَى جميلٌ يومه مع بثينة.

وأخبارُ جميل من هذا النَّحو كَثِيرَةٌ، وهي لا تَدُلُّ إِلَّا على أن واضع هذه القصة كان مُقَلِّدًا قَلِيلَ البِضَاعة يلتمس أخباره حيث وجدها دون أن تكون له شخصية قوية.

وفي الحق أن قصة جميل تخلو خلوًّا تَامًّا من النَّفْعِ والفَائِدَة، أحب جميل بثينة وخطبها فأبَوْها عليه وزوجوها غيره، واشتد هيامه بها وهيامها به، فكانا يتواعدان ويلتقيان، وأمضى هو حياة يقول فيها الشعر، وبطبيعة الحال تدخلت الحُكومة في أمر جميل كما تدخلت في أمر هؤلاء العُشَّاق جميعًا، فأَهْدَرت دَمَه، فاضطر إلى أنْ يَضْرِبَ في الأَرْضِ، فَذَهَبَ إلى اليمن وذهب إلى الشام، وذهب إلى مصر وفيها مات.

والغريبُ من أمر جميل أن الرُّواة يَذْكُرون اتِّصَاله بالخُلفاء من بني أُمية، فيزعم بعضهم أنه اتصل بمروان بن الحَكم، ويَزْعُم آخرون أَنَّهُ اتصل بالوليد بن عبد الملك، ويقولُ: إِنَّ بُثينة نفسها دخلت على عبد الملك، وكان بينها وبينه مِزَاحٌ؛ فكيف مع هذه الصلات أهدَرَ السُّلطان دم جميل حتى اضطر إلى أن يهرب في أقطار الأرض ويموت غريبًا! …

كل هذه الأخبار مُتكلفة منحولة قد وُصِل بعضها ببعض تفسيرًا لشعر جميل وتلهية للناس، ولكنَّ هذه القصة كما قلتُ لا تَدُلُّ كقصة المجنون على براعة صاحبها أو أصحابها، وإنما هناك قصة أخرى هي خير هذه القصص. لها قيمتها، وليست هذه القيمة قليلة ولا ضئيلة.

وأَحْسَبُ أنَّ هذه القصة هي خير ما حُفِظَ لنا من القصص الغرامية أيام بني أُمية؛ أُريد بها قصَّة ابن ذريح، ولكنِّي لا أُحدثك عنها اليوم فرُبما احتاجت لفصلٍ خاص.

١  نُشرت بجريدة «السياسة» في ١٧ سبتمبر سنة ١٩٢٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤